وستظل ثورة الخامس والعشرين من يناير، ملهمة للمبدعين، بما حملته من تغيرات حادة، من الأمل إلى الرجاء، إلى ما بعدها، لتتسع لكل التجارب التى تستوعب كل تلك المراحل. وتقف القصة القصيرة لتؤدى دورها، فتتخير الكاتبة أن تصف ما كان عليه الشعب من رغبة فى التغيير، وطموح نحو الأفضل، متخيرة المرأة لتكون البطلة، وكأننا نعيش تلك الفترة التى كان للمرأة فيها دور غير منكور.

راسلوني على العام

هايـدى فاروق

 

لو أن أحدا صارحنى بما سيحدث، لم أكن لاصدقه. فلم أكن يوما أتخيل أن يتم التغيير بهذه الصورة.

أنزل الثوّار الأعلام، نظّفوا الميدان، فقد انتهت المهمة.

البلاد ـ كما قيل ـ باتت في أيدٍ أمينة.

كانت تجلس في مقهى قريب، تدخن سيجارتها بين رشفات قهوة مُرّة. حولها تجمع شباب يوزعون الأوراق ويتحدثون بحماس عمّا بعد التنحي. كانت تبتسم بسخرية خفيفة؛ معلوماتها ضحلة عن الثورات، لكنها تعرف جيدًا أن البداية وحدها تكفي. وكانت ـ دائمًا ـ بارعة في البدايات.

جميلة، ناعمة الملامح، واسعة العينين، يكفي أن يغرق الناظر فيهما ليفقد وعيه.

سحبت نفسًا عميقًا من سيجارتها، ثم رشفة قهوة أخرى، وغامت عيناها.

تذكرت أن عليها العودة إلى المصلحة التي جاءت منها، إلى المكاتب البالية، الدفاتر المتربة، ورائحة إفطار الصباح المتخمة بالبصل والثوم. تذكرت السيجارة التي تخفيها في حمام المبنى خوفًا من افتضاح أمرها.

هي موظفة بسيطة في أرشيف إحدى قطاعات وزارة الثقافة، منذ ما يقارب العشر سنوات. لم ترَ مثقفًا حقيقيًا في حياتها، بل لم تعرف سوى عيّنة مثل «البدري سليم»؛ الكاتب المغمور الذي لا يزال يرتدي بدلة صوف بخطوط موضة السبعينيات. كان «البدري» يزورهم أسبوعيًا، يجلس مع الموظفين بالساعات، يتصيد خبرا عن كاتب آخر، يشاركهم صلاة الجماعة، يسير أمامها ببنطاله المرفوع وخفه المتآكل والمياه تنقط من وجهه ويديه.

ولأن البدري حُرم من نعمة الذكاء، فقد استمر عامًا كاملًا يأتي كل أسبوع بحثًا عن أخبار، دون أن يدرك أنهم موظفو أرشيف، لا تصلهم أخبار المثقفين الذين يبحث عنهم. وفي نهاية السنة، أفصح لها البدري عن عشقه لها وأهداها قصيدة شعرية ركيكة، أصر على إلقائها بنفسه. لكن رائحة أنفاسه كانت كافية لتلعن اليوم الذي ولدت فيه، فمزقت القصيدة في وجهه وصرخت بأفظع الشتائم، فذهب ولم يعد.

بعد نزول الميدان، رأت نوعية أخرى من المثقفين. رحبوا بها بحرارة؛ فهي الثورجية الجديدة.

احتفوا بأفكارها الطفولية، فتخيلت أنها أصبحت واحدة منهم.

السيدة المتفجرة الأنوثة التي يمكن اصطحابها إلى بارات وسط البلد بلا اعتراض، حيث تشتعل الحوارات، وتهدأ وتثور مع تأثير الكحول. السكارى يرون في تفاهتها ما يثيرهم ... لا يريدون أن يغضبوها، وإن أغضبوها امتطوها ليلًا.

أطفأت سيجارتها وهمّت بالانصراف، قبل أن تطمئنها إحدى فتيات الجامعة بأن الثورة مستمرة، وأنها واحدة منهن الآن.

يوماً بعد يوم، صارت من الوجوه المألوفة في الميدان. التنحي لم يكن نهاية، بل بداية أخرى لمسيرات واعتصامات وحوارات تلفزيونية. أصبحت ابنة الميدان البارة، تحوز صكّ الثورة بلا منازع. ومع ذلك، كانت تعرف الحقيقة، تختبئ بها بين طيات نفسها. فالواقع أن أول نزولها إلى الميدان كان صدفة بحتة.

كانت تسخر من الدعاوى الصبيانية التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي. "ثورة مثل تونس؟ وما علاقتنا بتونس؟" اكتفت بتقديم الشاي والكيك لشباب المنطقة في اللجان الشعبية، وعندما أعجبت بأحدهم، نزلت معه إلى الميدان. وهناك، رأت دنيا مختلفة عن دنيتها الضيقة ... رجال من كل شكل وسن، وأحاديث متناثرة، وهي تدوّن كل ما يقال أمامها دون ترتيب، وتردده بلا وعي. الزوجة المنبوذة، الموظفة البسيطة، تتحدث ويصغي لها الآخرون. لم تحظَ يومًا بما حظيت به في الميدان. انتهت الأيام، وأصبحت امرأة جديدة، تفتحت عيناها على عالم لم تعرفه من قبل. لم تعد تلك التي تطارد الطلاق في أروقة المحاكم، أصبحت ثورجية تتحدث في كل الموضوعات، تحمل بين عقلها وفخذيها قاذورات المثقفين والسياسيين.

تجلس مع أصدقائها من الساسة الجدد في مقاهي وسط البلد، تدخن وتأكل، ينحرف فكرها عن الإخوان، ويتلاشى اسم مرشح الميدان، وتنحصر الاختيارات فتُبطل صوتها الانتخابي. تتعري فتاة في مظاهرة، فتشارك في "مسيرة ست البنات"، تدافع عن حرية المرأة. تخلع حجابها تماشيًا مع الموضة؛ فقد ارتدته أصلًا خوفًا من زوجها. الآن تسير في إجراءات الطلاق، ومصر تمضي للأمام. تحضر ندوة فتلفت نظرها امرأة كبيرة بشعر فضي تحوطها الفتيات. تسأل بدلال الشاب الجالس بجوارها فيجيبها بدهشة:

كيف لا تعرفينها؟ إنها نصيرة المرأة منذ أكثر من ربع قرن! تنتفض، تمسك بهاتفها ترجوه أن يصورها معها. تغيّر صورتها على "فيسبوك"، تضع صورتها بجوار نصيرة المرأة، وتنهال عليها التعليقات.

يشبهها البعض بها، والبعض الآخر يدعوها لتكملة المسيرة. تتفتح الفكرة في ذهن المثقف الكبير، السبعيني الدائم في مقاهي وسط البلد: لماذا لا تنضمين لحزب سياسي؟

يمكنك لاحقًا الترشح في الانتخابات! أنتِ تملكين كل المقومات! الدنيا الآن دنيا جديدة. .. دنيا المرأة.

تدور الفكرة في ذهنها، ترى نفسها محظوظة. الكل يساندها، فواتيرها مدفوعة من أصدقائها الفنانين والسياسيين. تنضم لحزب سياسي معروف، يبرز دورها في أمانة المرأة، وتلف المحافظات مدافعة عن حقوق المرأة، وتتعرف على شخصيات جديدة، تتسع دائرتها. لا تهجر أحدًا. يضاجعها المثقف، والسياسي، والمخرج، والإعلامي. تخوض الانتخابات مرشحة "حصالة" لتجميع الأصوات. المرأة العصامية تحلم بقبة البرلمان. عنوان ساخن يتصدر بعض الجرائد. صفحتها الشخصية تتخطى آلاف المتابعين. تصبح أيقونة للمثابرة والنجاح. لا ترد إلا على العام، فالخاص ممنوع. لا تخفي شيئًا.

تذيّل منشوراتها دائمًا بجملة: "الخاص ممنوع ... من يريد مناقشة شئون البلاد وموقفي السياسي فليراسلني على العام."