أنكراي للكاتب الجزائري صابر بقور رواية تجمع بين دراما الحدث وشاعرية السرد وتداخل الأنواع، فالرواية وكأنها عملان متضافران أحدهما رواية سردية في إطارها الخارجي، والآخر سيناريو تؤلفه البطلة لتحوز به جائزة تحقق أحلامها في عودة الأمان المفقود لأسرتها وشفاء أخيها من مرضه العضال. الكتاب، الصادر حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن (2025)، في 186 صفحة من القطع المتوسط، نجح فيه بقور في أن يقنع القراء أن كاتبة السيناريو هي أنثى من لحم ودم، حتى أن المتأمل يظل يعاوده السؤال: كيف نجح الكاتب في استحضار مشاعر الأنثى في الحب إلى هذا الحد؟ وأرى أنه يفسر شيئا من غموض هذا اللغز حين يهدي روايته إلى أخته التي يراها بطلته الحقيقية، بالطبع مرافقة الأنثى تكشف للرجل كثيرا من غموض شخصيتها؛ ذلك الغموض الذي لا يعيبها ولكنه سمت أساسي في تركيبتها النفسية خلقت به الأنثى منذ أم البشر حواء.
يرسم الكاتب مشاعر بطلة الرواية “هبة” وصمودها أمام المجتمع الذكوري الذي عانت أمها بسببه، فيقول صابر بقور “قررت أن أقطع دابر القهر، وألا يكون ميراثي من الاحتقار والإذعان كأمّي وجدتي وكل نساء جيلهن وما قبله، خصوصا بعدما نقلنا أخي إلى المدينة بعد تقلده منصب ضابط في الشرطة، متخليا عن أحلامه ودراساته العليا ومسلما نفسه لهذا السلك الذي لم يرغب فيه يوما، فقط ليعيلنا ويتحمل أعباءنا. أخي الذي لم يتوان يوما عن خوض الحروب ودعمي في مواجهة استبداد أبي وقبيلته بدءا بدراستي الجامعية للفنون، حيث كنت الحفيدة الأولى التي تدخل الجامعة وسط بنات عمومتي وعائلاتهم الذين ظلوا يسخرون من أبي حتى يضطرم حنقه أكثر.”
يضفر الكاتب روايته مع السيناريو الذي تؤلفه البطلة لقصتها الخاصة مع تلك العيون التي أسرتها، فيصنع مفارقة الحب الذي لا يكتمل طرفاه أبدا، فدائما ما يكون المحب محبوبا من طرف آخر، وتظل المعادلة غير محلولة إلى ما لا نهاية، فكل شخص محب هو محبوب من آخر، والآخر محبوب من ثالث، ودائرة مفرغة لا تكتمل سوى بشخصين محظوظين يتبادلان الحب على نحو حقيقي.
يقول صابر بقور على لسان بطلة الرواية “هبة” في الفصل الثاني “سفر الحريق”: “قال لي الدكتور يوسف في آخر جلسة: لا تكتبي في السيناريو أنك التقيته ولا أنه يحبك، ولا تدوّني نهاية سعيدة تتحول إلى فيلم سيعذبك طوال حياتك، لقد نصحني بأن أتوقف عن الكتابة في هذا الموضوع من الأساس، بدأ الخوف والقلق ينبعثان من عيون الطبيب، لم تعد نظراته تعبّر عن المعالج، بل أخذت ملامحه الأولى في التلاشي تدريجيا، فقد اختفى الطبيب وظهر المعجب، أهداني الدكتور يوسف رواية ‘الملاك المعذب‘ في عيد ميلادي وكتب ورقة ووضعها في منتصف الرواية، عندما يعترف البطل للبطلة بالحب، كتب عليها ‘أحبك يا ملاكي فلا تعذبيني بعذابك‘. يا للعجب كل من أحبوني يدسون اعترافاتهم في الدفاتر.”
وقرب النهاية في الفصل الثالث سفر الحقيقة يقرر بقور مصير البطلة، ناقلا إياها من حال إلى حال، فيقول على لسان هبة، المتأملة للحظة الآنية “هناك نقطة في المطارات تنتهي فيها كل اللقاءات وترفع كل أيادي الوداع، إنها المحطة التي تمضي فيها وحيدا، تعبر فيها بوابات عديدة حتى تنغلق عليك تلك المؤدية إلى السماء، غادرت الجزائر بفراشات يوسف وأحلامي المتقدة المولعة بالنور، جرى كل شيء على أحسن ما يرام، ووقّعنا العقد أنا وفاطمة مع شركة الإنتاج؛ أنا مؤلفة وهي مخرجة.” ودائما ما تحل معظم العقد قرب النهاية، فقد وجدت هبة حلولا سحرية لبعض مآسيها، ولكن.. تراها وجدت حلا لقضيتها الرئيسية؛ جوهر القصة؟ هذا ما يتكشف في الصفحات الأخيرة من رواية “أنكراي”.
ولا يفوت القارئ أن يلاحظ الشبه الكبير في نظرة بطلي الرواية للحياة، وإن صح التعبير فكلاهما شخصية تأملية تنظر إلى الحياة نظرة فلسفية أقرب إلى المثالية، لا تخلو من بحث وراء المعنى، وتأمّل لجميع ردود الأفعال من حولها. يقول صابر بقور على لسان “أنور” بطل الرواية “أكره الأعراف والعادات الاجتماعية، أمقت زيفها ونفاقها وضجيجها الذي لا ينتهي، منذ طفولتي أتهرب من الأفراح والمآتم على حد سواء. حيث يمثل لي انفرادي ببزقي في غرفتي المغلقة أفضل المباهج على الإطلاق، لم أكن أفهم معنى تجمع الناس على جثة الميت ولا أسئلتهم المقيتة التي يتحملها أهله المكلومون على شاكلة: كيف مات؟ هل كان مريضا؟ وغيرها من الحماقات البغيضة، أيعقل؟”. “قمر أنقرة”، أو “أنكراي” رواية واقعية فلسفية تداعب أوتار القلب والعقل معا، وتسبح بالقارئ في بحور من التساؤلات، يجد لبعضها جوابا شافيا ويبقى بعضها الآخر معلقا بلا جواب.