في هذا النص المشدود بين الشهادة والبحث عن الزمن الضائع وقد تبدد تحت وقع معاول الزمن الردئ، يكشف لنا الروائي المصري برصد دقيق وتأملات عميقة عن المراحل الأولى لتفتح وعيه على عالم الأفلام السينمائية ودور عرضها المختلفة التي تمثل أمكنة تشكل فيها خياله وانطلق.

أحلام يقظة معاشة

عادل عصمت

في صباح الأحد، يحمل رجل قصير القامة، سلما كبيرا، وعلبة ممتلئة بالغراء. يعبر ميدان الساعة، ويتوقف في مدخل شارع القنطرة. يسند السلم على الحائط المواجه لبنك الأسكندرية، ويصعد الدرجات الخشبية، يحمل على كتفه أفرخا من الورق مطوية على ظهرها الأبيض. يضعها على حافة السلم ويعلق علبة الغراء في جنش من الحديد، يبرز من الدرجة الأخيرة. يقف في أعلى السلم، تظهر على ملابسه آثار الغراء. يدهن الوجوه القديمة لشخصيات فيلم الأسبوع الماضي، فتغيب تحت الطبقة اللامعة. يبدأ في لصق الصور، قطعة قطعة. تتكون صورة ملونة للفيلم الجديد والسينما التي سيعرض فيها. على الرصيف يتجمع بعض الصبية العائدين في الظهيرة من المدارس. يقفون بصبر منتظرين أن تكتمل الصورة المجزأة. يهبط الرجل، ودون أن يلقي نظرة على عمله، يحمل عدته ويمشى دون أن يشعر بهم. ينتقل من ناصية إلى أخرى، حتى تتغطي جدران المدينة (المخصصة للإعلان) المقسمة بين دور السينما الأربعة (أمير ومصر وريفولي والجمهورية) بالأفيشات الكبيرة والصغيرة لأفلام ستعرض الأسبوع القادم.

كل أسبوع يفاجؤك الفيلم الجديد على حائط، في مراكز مهمة في المدينة. عشاق السينما من الشباب والفتية يتجولون على دور العرض ليشاهدوا الصور الفوتوغرافية المقتطعة من الأفلام. تكتمل الدائرة الإعلانية للأفلام الجديدة بالنقل الشفاهي، ويتم نشر الخبر: فيلم "سانجام" سيعرض في سينما ريفولي. فيلم "العسكرى الأزرق" في سينما أمير. من لهم حظ دخول الفيلم، في الحفلات الأولى، يحكون قصته، بعضا من مشاهده تثير ترقب المستمع. يساهم الإعلان في تغذية الطقس، فهو ليس مجرد "خبر عن" بل صورة بصرية تنقل واقعة من الفيلم يتم تركيبها لتُظهر أبطال الفيلم ومشهدا يوحي بالمناخ والموضوع، إنها صورة مجتزأة تعمل فعل الزخارف، لتهيئ الجو، ميل يتخطى به الإعلان غرضه الرئيسي ليصل إلى إثارة الخيال. المناخ الذي يمكن عيشه من خلال صور الأفيشات يبعث على الترقب ومحاولة تخمين الحكاية السينمائية، هذا الترقب إذا أثير يدفع إلى التعلق بالسينما، ليس ارتياد السينما فحسب، بل التعلق بها. ظهور رجل الإعلانات في الشوارع في نهاية يوم السبت وبداية يوم الأحد حدث متميز في المدينة، إنه على هامش حياة الناس، لكنه يشكل باعثا للخيال، متجولا بسلم وعلبة من الغرا، كأنه من جنس العالم الذي يلصق صوره على الجدران.

* * *

صفوف المراجيح وأكشاك النشان وعربات بيع الأطعمة ولعب الأطفال، تنتشر في العيد على ناصية شارع حسن رضوان بشارع الحلو. لم يكن هناك ما يميز هذا التقاطع عن أي تقاطع آخر في المدينة. لم يكن هناك مقام لولي من أولياء الله ولا هو منطقة تجمع، شعبية، في الميدان محل بريد وترزي ومحلات بقالة وجزارة ومكتبة. لم يكن هناك سبب يجعل من هذا المكان منطقة لإقامة العيد. لكنه كان هناك، لم انتبه إليه، إلا عندما حدثني أحد سكان الحي القدامى، بأن هذا التجمع، كان يحيط على الدوام بسينما "جندولا". في مكان العمارة العالية التي يحتل طابقها الأرضي الآن، مقر استخراج بطاقة الرقم القومي، كانت توجد سينما جندولا، التي هدمت في بداية السبعينيات، وبقي الجو الاحتفالي المحيط بها، شاهدا على تلك النكهة الشعبية لتلك السينما، لكنه بدل أن يكون حفلا قائما كل يوم، تقلص ليظهر وقت الأعياد. غالبا ما تحيط بدور السينما تلك الأجواء الاحتفالية، محلات العصائر والأطعمة وأكشاك الكتب القديمة. السينما تصنع مناخا حولها، ينتشر فيه نوع من الثقافة تغذي فتنة السينما. على جدران المحلات أو الأكشاك تعلق صور الممثلين بجوار صور الزعماء السياسيين، وتباع مجلات مثل "الشبكة" و "الكواكب" و "الموعد"، التي تخلق نوعا من الثقافة تساعد في تفهم الخلفيات الحقيقة للعالم الخيالي التي تقدمه السينما، تعرض الأسرار والعلاقات الخاصة في حياة جماعة الممثلين، تعرضهم في ضوء النهار، متخلصين من أدوارهم التي يعيشون بها في أذهان المشاهدين، تلقى عليهم ضوءا، تجعلهم أناسا من لحم ودم، وتخفف قليلا من خياليتهم، لكنها في الحقيقة، تخلق لهم أساطير واقعية، ربما أكثر تأثيرا من الأفلام، فمشاهدة الأفلام تتم فوق إدراك خفي بأنها خيال، إلا أن حياة الممثلين تعد أسطورة واقعية، فحياتهم العجيبة المتحررة تلوح كجزء من فيلم حقيقي يمارسونه يوميا. اختلاف نظام حياتهم (كما تصورها تلك المجلات) يجعلها مختلفة عن حياة الناس، سهولة الزواج والطلاق والسفر والحفلات ـ وهو ما يعاينه الناس في حياتهم كأمور كونية ـ تمارس هنا ببساطة وتحرر وخفة كأنها فيلم. في تلك الأجواء المصاحبة للسينما يبدأ التعلق بنجم أو نجمة، ويبدأ شاب أو فتاة في شق طريقه لأن يكون واحدا من النجوم. مازالت آثار حياة أحد الممثلين المشهورين الآن، تُحكي في المدينة من أصدقائه وزملائه. يشيرون إليه قائلين كان معنا في مدرسة سعيد العريان الإعدادية. حبه للسينما ولأبطالها بدأ في ذلك الوقت المبكر. في نهاية السبعينيات أعجب بـ "جون ترافولتا". حفظ حوار أحد أفلامه الشهيرة في ذلك الوقت. في الأفراح والحفلات يرقص رقصته ويقلده في طريقة المشي والملبس، واعيا منذ ذلك الوقت المبكر بأهمية اللياقة البدينة على الطريقة الأمريكية، فكان يذهب إلى الاستاد الرياضي في مواعيد ثابتة. تعلقه بالسينما لم يكن يشبه التعلق السلبي لبعض الشباب الذين تهبهم السينما الخيال فقط، بل كان تعلقا إيجابيا. رغبته الصادقة في أن يكون أحد الذين يظهرون على الشاشة، جعلت حياته في طنطا مجرد إقامة مؤقتة. إنها مسألة زمن وسوف تشيرون إلى قائلين لقد كان معنا هنا، (كان يقول لأصدقائه). صدّق أغلبهم أنه سيفعلها، رغم أن الشك يحيط بتلك الطموحات الكبيرة التي تحول دونها مصاعب هائلة. لكنه كان يعرف كيف يصعد بدون دراسة متخصصة. كان ذكيا كي يفهم أن المناخ الاجتماعي لا يهتم إلا بنوع معين من المؤهلات. لم يهتم بالتعليم، حصل على الإعدادية بمجموع صغير، ودخل المعهد الأزهرى، ولم يأخذ شهادة الثانوية منه، وظل متهربا من الجيش حتى تعدي الثلاثين. جسده وذكاؤه ومهارته في الصعود، هي المؤهلات التي استعملها في الوصول إلى أن يتحول إلى صورة على الشاشة. عندما اصطحب بعض أصدقائه لحضور تصوير أول أدوراه في السينما، كان ذلك ـ بالنسبة لبعضهم ـ كحدوث معجزة، فقد اخترق حاجز الحياة الواقعية وانطلق إلى سماء النجوم.

* * *

كانت سينما جندولا أرخص سينما في ذلك الوقت وأفقرها، وأقربها ربما إلى الزوال. تذكرة الترسو ب 9 مليم، والصالة 3.5 قرش، كان المرء يقطع تذكرة الترسو ويأخذ بمبوناية، ثم توقف البومبوني واعتبروا القرش هو أجر السينما. كانت هذه السينما بعيدة عن باقي السينمات في مركز المدينة. في هذا الجو الشعبي الصاخب، يمكن للمرء أن يشرب كوبا ساخنا من حمص الشام بالشطة، ويشترى عسلية ويركب المراجيح ويدخل السينما.

"سينما مصر" أعرق دور السينما وأكثرها فخامة، وهي مميزة ببنائها، وبخاصية فريدة: لها سقف يفتح في الصيف، فهي سينما شتوي وصيفي في نفس الوقت. يظل أمر السقف الذي يُفتح غامضا، وغير مُصدّق، حتى يأتي يوم من أيام الصيف وتراه ينزاح كأنه سحابة تتلاشى، وتظهر السماء بعيدة صامتة. لم يكن المهم هو السماء بل السقف الذي كان يحجب السماء. تحتل سينما أمير الطابق الأرضي لأحد العمارات الحديثة التي بنيت في منتصف الخمسينات، وكانت بداية للطابع المعماري الحديث الذي تخطت به المدينة طابعها القديم الذي يشبه وسط القاهرة. يطل مدخل السينما على ميدان الساعة. عدة درجات من سلم واسع يجتازه الرواد ويدخلون إلى شباك التذاكر وصالة السينما. دائما ما يشاهد المرء صبية وشباب يقفون على ذلك الدرج يتأملون الصور الفوتوغرافية المقتطعة من الأفلام. باب الترسو يفتح في حارة جانبية يأخذ سطحها في الارتفاع حتى يصل إلى ميدان السيد البدوي، كان بابا من الحديد الصدئ، ضيقا، لا يسع لدخول فردين معا. أمام ذلك الباب الحديد يشعر المرء بأنه قد هبط إلى مناخ آخر، مختلف عن مناخ المدخل الذي يفتح في الميدان. وجود تلك السينما في مركز المدينة جعلها أكثر دور السينما في المدينة ارتيادا من الريفيين أثناء الموالد والأعياد.

تبتعد سينما ريفولي والجمهورية عن مركز المدينة وهي دور سينما فقيرة، لها طابع الأحياء التي تحيطها. كانت صالة الترسو في سينما ريفولي واسعة وفضاء لخناقات صاخبة، يتم فيها إيقاف الفيلم، وترك السينما في ذلك الظلام الذي يعض بالصفير، والخوف من أن تنتقل الخناقة إلى الصالة واللوج، حتى يأتي البوليس أو تتوقف الخناقة من تلقاء نفسها، ويعاد تشغيل الفيلم. سينما الجمهورية فقيرة وروادها دائما أقل من رواد دور السينما الأخرى، فهي لا تعرض إلا الأفلام الأجنبية، ونادرا ما تعرض الأفلام العربية الجديدة.

سينما أوبرا تحتل مدخل شارع البحر في التقائه بشارع الجلاء. بناء قديم، تواجه مسرح البلدية، وهي سينما قديمة، لا تفتح أبوابها إلا في الصيف. رأيت فيها بصحبة اشرف ميشيل فيلم الفراشة الذي كان اسمه بالعربي الهروب من الجحيم، ورأينا فيلم "هيير" الذي كان يعرض ثورة الهيبز في أمريكا. بعد أن أغلقت تلك السينما عدة سنوات نظرا لحاجتها للترميم، كان أشرف ميشيل يذكرني بتلك الأفلام، كأننا لم نرها، كأنها كانت أحد أحلامنا.

* * *

سيظل تشكل الصورة على الشاشة سرا، مهما عرف المرء تقنيته، سيظل محاطا بدهشة طفولية. كيف تنطبع الصورة على الشاشة؟ كيف يتحول السائل المشع الذي يخترق فضاء السينما منسكبا من فتحة صغيرة تطير فيه ذرات غبار كأنه حزمة من أشعة الشمس إلى حياة بكامل حركتها وجسامتها عندما يصل إلى الشاشة البيضاء؟ تستمد أعمال الخيال ـ الرواية والمسرح والسينما ـ جاذبيتها من أنها تكشف سرا لا نعرفه عن أناس لا نعرفهم. جزء من جاذبية السرد يكمن في هذا الميل إلى التلصص على حياة آخرين، لا يدركون أنهم مراقبون، فيكشفون بسهولة عن أسرارهم. اختلاس النظر من ثقب الباب مقلوب في السينما، فالمرء لا ينظر من ثقب الباب بل يتم إذابة الحياة وتحويلها إلى نوع من الأشعة تنسال من أعلى صالة العرض وتتحول مرة أخرى إلى حياة معاشة فوق سطح الشاشة. يبدأ عامل تشغيل بكرة الفيلم في الحضور عندما يقطع على المشاهدين متعة المتابعة، عندما تنحرف الصورة، أو يختل التتابع، عندما يشغل بكرة مكان بكرة، عندها يبدأ الصفير في الترسو. في الأوقات التي تتعدى الأمور حدودها يبدأ الهتاف الشهير "سيما أونطه، هاتوا فلوسنا". أحيانا يتوقف العرض، وتظلم السينما، وتقوم مشادة بين الرواد والقائمين عليها. في تلك اللحظات يبدأ الساحر، الذي لا يراه أحد، في الحضور، يظهر كأنه مفتاح كل شيء. أحيانا يستمر إيقاف العرض طويلا، حتى يهدأ الرواد، ويبدأ في تشغيل الفيلم من جديد. في كثير من الأحيان لا يعبأ مشغل الفيلم بصفير الصبية والشباب في الترسو ويستمر إيقاف العرض، كأنه غير موجود، كائن بعيد لا يتأثر بما يحدث في صالات العرض. لفترة طويلة ظل مشغل الفيلم يحيرني. حافظ على وجوده في خيالي ككائن أثيري. لم أتأكد بشكل عيني من وجوده، إلا عندما ذهبت لمشاهدة عروض نادي السينما في قصر ثقافة طنطا، في منتصف السبعينات. لم أكن، حتى ذلك الوقت، قد عرفت شيئا عن تشغيل بكرة الفيلم، ولا عن ماكينة السينما.

يوم السبت يتجمع في القاعة الكبيرة للقصر عدد من الشباب ومن القاهرة يأتي بعض النقاد. تنتصب ماكينة العرض في خلفية الصالة. يبدأ عم "مصطفى صالح" بشعره الناعم الفضي في تركيب الفيلم أمامنا. كل شيء معروض كأنك تشاهد التركيب الداخلي لجسم الإنسان. لا أسرار ولا خيالات، حقيقة آلية لا سحر فيها. رغم ذلك لم ينه "عم مصطفي" بالكامل أسطورة رجل العرض، فقد بدا بصمته وعزلته وشعره الناعم الأبيض كأنه يحمل سرا، في صنعته شيء من التميز والندرة، يملك شيئا لا يمكن النفاذ إليه. لم يكن "عم مصطفي" يعرض في القصر فقط، بل كانت تحمله عربة الثقافة الجماهيرية ليعرض في القرى، في ساحات واسعة يتجمع فيها مئات من الفلاحين يشاهدون الفيلم وقوفا، ويظل "عم مصطفي" صامتا خلف آلة العرض، كأنه من صَنع كل هذا الخيال.

توقفت أعمال تلك الأندية وركنت ماكينة السينما في مخازن القصر، وغاب "عم مصطفي". بعد سنوات طويلة سألت أحد العاملين عنه فعرفت أنه أحيل إلى المعاش وفتح محلا للنجارة في قرية قريبة من طنطا. لكن موظف آخر (كان يتردد عليه بعد المعاش ويسميه عم مصطفي النجار) أخبرني بأنه قد مات من فترة طويلة.

* * *

في منتصف السبعينيات، كان الذهاب إلى السينما يتم الإعداد له، ويغص بالطابع الاحتفالي، عندما اشتهر فيلم "خلي بالك من زوزو" وغيره من الأفلام التي كانت تجذب أعداد كبيرة من الناس. كان يمكن أن تشاهد تجمعا كبيرا من الشباب والبنات والنساء على رصيف سينما أمير أو في المدخل الواسع لسينما مصر. بعضهم يفضل حفلة "السوارية" والبعض يفضل "الماتينيه". تلك الألفاظ الأجنبية التي جاءت مع آلات السينما عبر البحار ارتبطت بجو السينما، وأعطت حسا مختلفا للوقت. فلا يعود الماتينية هو فترة المغرب ولا يعود السوارية هو السهرة، بل أوقاتا لها طابع الحفل، تمتلئ بالترقب وتصحبها ترتيبات مبهجة. احتفظت تلك الألفاظ بمناخ قديم، كأنها تشير إلى زمن انقضى، إلى بنات مسدلات الشعور، تقفن مبتهجات تفوح منهن رائحة العطر، يحيط بهن سياج غير مرئي من رعاية أب يرتدي ملابسه الكاملة، وأم تراقب حركات وسكنات البنات، اللاتي لا تكف عن اختلاس النظر إلى شباب يبالغون في المزاح. مساء كل خميس يتكون هذا الصخب البناتي المحاط بالرعاية العائلية، ويظهر ذلك الشوق السري إلى حياة من الخفة والمرح والأحلام، إلى قصص حب مماثلة لتلك التي تعرضها الأفلام، قصص حب خفيفة بلا مسئوليات، خالية من ثقل الواجبات اليومية، شوق غامض إلى الحياة الموجودة في أغاني عبد الحليم حافظ.

تلك الحفلات المسائية بأسمائها الفرنسية، ظلت علامة على زمن لم يعد موجودا، لكن حتى الآن، عندما أرى فتاة تمشي على مهل وهي تمسك علبة الببسي وتقف مترقبة في مدخل دور السينما الحديثة، لا يفارقني الإحساس بأنها تعيش رموز عالمها، كما كانت الفتيات في السبعينيات تقلدن النماذج. لا يخفي على المرء ما في هذا الوقفة من تمثيل، إنها تعيش الحياة ممزوجة بأطياف أبطال الإعلانات والمغنيين الشباب. جعلت السينما وغيرها من الوسائل المرئية حياة فئات من الناس ممزوجة بظل من التمثيل غير المدرك، إعادة عيش لحالة الأبطال في الأغاني والإعلانات، حالة وجدانية تغذي ميلهم لأن يكونوا مرئيين، فالبنت عندما تمسك علبة الببسي تعيش النسخة الثانية من حياة هي نفسها قطعة مؤلفة من خيال مؤلف الإعلان أو الأغاني أو كاتب الفيلم. يتم أعادة تجسيم الحياة الخيالية، في السلوك الواقعي، كوسيلة للمرور عبر واقع يومي خال من البهجة. عندما تؤدي الفتاة هذا المشهد فإنها فهي تدرك بشكل ما بأنها مراقبة من رفاقها، وتشعر أيضا بالتقييم للدور الذي قامت به. أصبح هذا جزء من نسيج السلوك اليومي وكأن الحياة بالتدريج أصبحت هي شكل الحياة.

* * *

حفلات النهار "العاشرة والنصف والثانية والنصف"، معظم روادها من الطلبة الهاربين من المدارس وصبية الورش. تلك الحفلات تشكل انفلاتا من الواجبات الاجتماعية، وهي جذابة لروادها لكونها مكانا للهرب أثناء النهار، إقامة مؤقتة في جو من الظلام تُعرض فيه قصص، فتغيب الحياة قليلا. الحياة المسروقة التي تمارس في تلك الحفلات لها مذاق الهوامش الحارات والخرابات ودورات المياة. أجواء مشبعة بجو طيني، لا يمكن إدراك قوة أثره، إلا بعدما يفارق الصبية والشباب ظلام السينما، ويرون ضوء الشوارع وصخبها، عندها تظهر عتبة السينما كحد فاصل بين عالمين. الدهشة التي يقابل بها المرء حركة المرور في شارع المديرية وميدان الساعة، دهشة حزينة، يظهر فيها الفرق بين العالم القائم في الميدان وذلك الذي كان قائما في السينما. لحظة متوترة وتساؤل لا يدوم غير برهة: أيهما العالم الحقيقي؟ ثم تغلب العادة، ثقل المسئوليات والأكاذيب التي يعدها كل واحد عن تبرير غيابة عن الورشة أو البيت أو المدرسة، فتجعل من العالم في الميدان هو العالم المسيطر، لا يعني بالضرورة أنه غدا الحقيقي، بل هو المسيطر فحسب، لأن تلك العتبة التي قامت بين العالمين، تجعل النزاع بينهما يستمر طويلا في فترة الصبا ويتحول إلى صراع أخلاقي بين المتعة والواجب، بين العالم الحقيقي وبين العالم الخيالي، بين ذلك الذي يجد فيه المرء نفسه والآخر الذي عليه أن يؤدي فيه أعمالا لا يحبها، ويعيش بطريقة لا يحبها.

في ظلمات السينما تقوم الحياة التي يرغب المرء فيها، هناك يتلاشى الجزء المرئي ويظهر الجزء غير المرئي، شهوة للعيش في قصص الأفلام المعروضة. السينما حلم يقظة يوصد أبوابه أمام الحياة الحقيقية، باعتبارها غير قابلة لأن يعيشها المرء طول الوقت، فلا يجب أن يعيش في غبار من الأسمنت. الهواء الخيالي المزيف للسينما هو الهواء الصالح لأن يعيش فيه المرء طويلا.

* * *

الترسو البلكون واللوج، كلمات فرنسية ظلت باقية ترسم الحدود الفاصلة بين الطبقات الاجتماعية في معمار السينما، وأعطت الانطباع ـ غالبا ـ بأنها تشير إلى أماكن أخلاقية أكثر مما تشير إلى حدود مكانية أو طبقية. عندما تكون السينما خالية فإنها تصبح فضاء مباحا، يمكن للمرء أن يتنقل من مكان إلى آخر. الحدود الكائنة بين أقسام السينما لا يبررها إلا وجود الرواد، وعندما تخلو القاعات، فإن الأقسام الأرقى تصبح مثل بيوت تركها أصحابها، بلا صاحب، والسينما تصبح مكانا سهلا للحرية. يمكن للمرء أن يتنقل من درجة إلى أخرى بحرية. في تلك الحفلات الخالية يجرب الكثير من رواد الترسو العيش في مراتب أعلى، في غياب الرقابة، وتسمع أصواتهم الفرحة بالكشف الجديد، بالجلوس على الكراسي المنجدة في البلكون، بدلا من الدكك الخشبية التي تمتد بطول منطقة الترسو، يجربون شيئا محرما، وجديدا ومرغوبا. حكي لي أحد أصدقائي، عن أغرب مشهد عاشه في الحفلات النهارية للسينما. كان وحده في لوج أمامي يطل على فضاء السينما بالكامل، يتابع، دون انتباه، بعض الشباب يتخطون الحاجز الفاصل بين الترسو والصالة، ثم يشعر بحركتهم هناك في المقاعد الخلفية للبكلون. يرى واحد ينزل والآخر يصعد. فضل أن يستمر في متابعة الفيلم. بعد فترة سمع صوتا أنثويا خافتا، تلاشى في الحال. قبل نهاية الفيلم اقترب منه طيف فتاة ترتدي جلبابا ريفيا، وسألته بصوت خافت: "مش عاوز حاجة أنت كمان؟" قال مرتبكا: "حاجة إيه؟" قالت الفتاة: "حاجة!!" نظر إليها بدهشة اكتشاف ما كان يحدث وراءه طول الوقت، كأنه فيلم على هامش الفيلم.

* * *

سأظل أذكر بشيء من الحب فيلم د. زيفاجو، في شتاء عام 1976، عندما هرب ياسين من مدرسة طنطا الثانوية وذهب لرؤية الفيلم. كان أخوه الكبير من شباب الحركة الطلابية، والفيلم يعرض جوا من الثلج والحب والثورة، وقد حفظه مشهدا مشهدا. كان الجو الغريب يشده إلى أقصى حد، الثلج والضباب والمعاطف الروسية التي تتناثر ندف الثلج على أكتافها، واعتبرها علامات على جو شعري عليه ترسيبه في وجدانه. أذكر وقفته شاردا على الرصيف المقابل للمدرسة في شارع البحر، وهو يفكر في رؤية الفيلم للمرة الخامسة في أسبوع واحد. كان العرض في سينما أمير، والدنيا بها ذلك الضباب الشتوي الذي ساعد على بزوغ الشعر. أخذ قراره بالذهاب إلى السينما. في الحفلات النهارية لفيلم د. زيفاجو، دخن "ياسين" أول سجائره، وارتبط التدخين أيضا بالشعر، وبتلك الأجواء البعيدة التي لم يعشها المرء.

نفس الشيء حدث، ربما في ذلك الوقت، مع فيلم "عودة الابن الضال"، الذي كان يصور شبابا في عمرنا، وظلت أغنية "ماجدة الرومي": "أدي اللي كان/ وأدي القدر/ وأدي المصير/ نبص قدامنا/ على شمس أحلامنا/ نلقاها بتشق السحاب الغميق". ظلت تلك الكلمات محفزا، بها لمسة من سحر يجب علينا مطاردة وجوده في الحياة. يجب علينا البحث عنه في تفاصيل حياة جافة مملة، تقدم نفسها باعتبارها حياة حقيقية. لقد كان الجميل والشعري هو الحقيقي، والحياة اليومية بأنظمتها الراسخة وبعاديتها، ومسئولياتها لم يكن بها أي شبه بالشاعرية الموجودة في الأفلام والصور. لابد أن ننتج حياة مطابقة لهذا الحلم الذي سكننا في ظلمات السينما ونحن نشاهد د. زيفاجو، وعودة الابن الضال. كان البحث في تلك الفترة واثقا، في أنه يمكن أن نحصل من تراب الحياة على الذهب المعروض في الأفلام، لكن بعد مرور السنين، لم يكن هناك أي ذهب. كانت الحياة ترابا خالصا، كما قال ياسين بعد ذلك بفترة طويلة، عندما عاش طويلا ـ بدافع من البحث عن البريق ـ يدخن المخدرات، ثم تزوج من فتاة مسيحية وتعرض لكل ما يمكن أن يتعرض له شخص يتخطى الحدود، وفي النهاية طلقها وعاد ليرعى حياته العائلية القديمة، في ثلاجة الموز المملوكة لأسرته، مقتنعا بأنها خالية من اللمعان المزيف لتلك المعاني التي كانت موجودة في الأفلام والكتب.