جلس على أحد مقاعد طاولة الطعام في مطبخ البيت المتاخم للشارع يتدبر من النافذة وجه المدينة الخضل وهو يتلاشى وراء السواد.
المساء يتثاءب بالظلام، والباعة منشغلون بإدخال بضائعهم المتاجر، الأزقة حذرة وهي تودع آخر المتسوقين، سواد الليل يزخرف الخوف في عمق الدرابين الضيقة، بقايا نساء يهرولن وراء صبيتهن لضمهم في البيوت الصغيرة، الظلام وكأنه شبح ضال يهاجم المدينة لينتزع أمانها.
يمر الوقت وهو يجالس صمته المشيج بدخان السيجار يتأمل مستقبل أبنائه في بلد تجوب سماءه المسيرات كل يوم وكأنها تنقب عن الأرواح.
مضت الساعات وهو ينقل أنظاره بين أشرطة التلفاز المكثفة بإخبار حاملة الطائرات في الخليج، ووعيد الحرب التي ستغير شكل الشرق.
ما زال صمت الليل منسكبا في ظلمته والهدوء يمني النفس ببعض غرورها، منظر الدخان التالف وهو يتوارد من منفضة السكائر الفائضة بالرماد يذكره بحال بلده بمكوناته المختلفة "، كرده وسنته وشيعته" فهم بمسافة واحدة من قلب النار، وكأنهم أبنائه الثلاثة المتطامنين توا في فراش النوم.
أوقد سيكارته الأخيرة قبل النوم وراح يرشف دخانها بأناة، متأملا طولها المتناقص باطراد، طولها الذي يشبه عمر الإنسان المتقاضي بفعل الزمن.
صوت خارج المنزل يكسر صمت الليل، كأنه وقع حصى يرشق الشرفة، صوت مثير ويتكرر ويُحدث بداخله الاضطراب.
زوجته: إنه صوت التمر المتساقط على المسقفة من نخلة الجيران.
هو: لكن التمر لم ينضج بعد وهو سابق لموسم التساقط!
هي: إنها قوة الريح
هو: الهواء هذه المرة مريب، وكأنه ينتزع الأشياء في غير أوانها.
ينظر الى سيكارته التي تتآكل بفعل النار، يمُجها وهو يرفع رأسه نحو السقف، بينما الدخان يتوزع على الجدران ويستقر في الزوايا البعيدة من البيت.
الزوجة تشعر بالإختناق، وكأن الأوكسجين ينفد من المكان، تزيح الستائر عن النوافذ.
سيارات أطفاء تفزع المدينة بصفيرها المتواصل، ألسنة نار تلهب أسطح منازل الجيران، شوشرة وضوضاء، فزع وأصوات موتى تتهافت مع الدخان الأسود وهو يخترق نوافذ الدار ليختلط مع دخان السيكار، الأم تنشغل بالاطمئنان على أبنائها الثلاثة خوفا من أن تصلهم النار، فتجد الابن الأكبر غادر مضجعه وهو يعبث بين ألسنة النيران التي تحرق الجار الشرقي. والأصغر ما زال مستغرقا في نومه العميق، الأبن الاوسط مستيقظ وكأنه ينتظر وصول النار الى الدار.
الام تصرخ وتستغيث، والأب مازال منشغلا بالسيكار.