يتوقف الناقد المغربي عند رواية الكاتب المصري المرموق، مستقرءا دلالات الماء وحكاياته المتعددة الدلالات في علاقته بالمكان والإنسان. في نص يتداخل فيه الأسطوري واليومي، المتخيل والواقعي، نص يبدأ بالماء ولا ينتهي به.

حكاية الماء في علاقته بالمكان والإنسان

عبدالرحيم مؤدن

وجد المكان أولا، ثم جاء الإنسان ليعيد تشكيل المكان الخاضع لحركة الماء مدا وجزرا. والقارئ للنص، يكتشف منذ الصفحة الأولى، شساعة المكان الذي يقترب من الكون أحيانا، كما أن هذا المكان يأخذ، أحيانا أخرى، حجم نقطة مهمشة من هذا الكون الواسع. ولعل هذا هو الدافع الذي انطلق منه السارد «العليم بكل شيء» بهدف تحقيق معادلة صعبة تجمع بين «الأسطوري» و«اليومي». فـ«الأسطرة» تتجلى في حركية الماء، ترعة وبحرا وبحيرة، المنتجة للحياة والموت، الوجود والعدم، الصبا والشيخوخة، الدورة الإنسانية، تبدأ بين اللقاء الأول بين الصياد العجوز، المقطوع من شجرة، والأرملة بطفليها الصغيرين الملتصقين بها ليل نهار. اثنان لا ثالث لهما إلا الماء. الماء يأتي بالرزق اليومي، وبكائنات ما وراء البحيرة القادمة مع رياح العواصف الموسمية، أو المناسبة ـ من ناحية أخرى ـ مع حركة الماء العادية في اللحظات الهادئة أو الطبيعية.

الماء يشكل تضاريس المكان، والأمزجة، والحسابات الكبيرة (هجوم الإسمنت المسلح) والأطماع الصغيرة (صراع الشخصيات حول ما يقذفه البحر). تلك هي بعض صور اليومي «اليومي»، الذي قد لا يبقى حبيس الأفعال البسيطة للأفراد، بل يرتفع الفعل على مستويات نمطية ـ بالمعنى الإيجابي ـ لتصبح دالة على الفعل الإنساني مستوحية تجارب الإنسان تجاه هذا الكون ـ البحر ـ الزاخر بمختلف الدلالات(2). وفي كثير من الأحيان تداخل الأسطوري مع اليومي، وتحول هذا الأخير إلى «أسطوري»، و«الأسطوري» إلى يومي. إننا نعيش بالماء وحده، بل نعيش بكل ما يحمله هذا الماء بتاريخه الطويل منذ بداية تشكل العالم إلى الآن، وإصرار الموج على حركته، هو إصرار هذه «اللغة البحرية» على التذكير بحكايات كل الذين مروا بالماء، أو مر بهم الماء يوما ما، الذي غير المصائر والأوضاع.

1 ـ حرث البحر: يقوم النص على بنية رباعية: صياد عجوز/ «نوة»/ براري/ ورحلوا.

يحكي القسم الأول عن علاقة الصيد بالأرملة، وهي علاقة خضعت للضرورة والرغبة ـ في آن واحد ـ في تأليف المكان الموحش أسرة مكونة من أربعة أفراد ـ الولدان ينتسبان إلى الأرملة ـ تواجه البحر كل لحظة وحين في حالات الغضب أو الهدوء. أما القسم الثاني فيقدم لنا «جمعة» وزوجته من جهة، والعاصفة (النوة) البحرية التي تجتاح البحيرة من جهة ثانية. وإذا كانت العاصفة تدمر كل الأشياء القائمة (المقهى، الحانوت الوحيد... الخ)، فإنها منجم لا ينضب بالنسبة للزوجين، فالبحر «قد لا يعطي السمك» ولكنه يمنح الأعاجيب من ألبسة وأحذية وتحف غريبة وحلي.. الخ. و«النوة» آتية لا ريب فيها، ولذلك لا مدعاة للعجلة من أجل الحصول على فردة حذاء، أو قرط اتحد الأذنين، فالبحر يحس بالإنسان، وغضبه (النوة) يكشف عن معدنه الثمين. في القسم الثالث حكاية الصديقين المتجاورين: صاحب المقهى (كراوية)، وصاحب الحانوت (عفيفي). مناوشاتهما لا تهدأ، ولكن لا غنى لأحدهما عن الآخر، خاصة عندما تعصف العاصفة بكل شيء، جارفة معها تلك الكائنات الهلامية الآتية من جزر بعيدة، خلف البحيرة، والمتعطشة للزيت و «الجاز» والحلوى الرخيصة عند «عفيفي»، ولأنفاس الجوزة بمقهى «كراوية». في القسم الأخير الذي لا يتعدى ورقة ونصف الورقة نجد حكاية الأرملة، من جديد، التي تعود، رفقة ولديها اليافعيين، لتسترجع رفات الصياد الشيخ الذي توسدت عظامه الصندوق.

في القسم الأول نجد صندوق الصياد المشار إليه آنفا، وفي القسم الثاني نجد صندوق «جمعة» الذي يرسل المقاطع الغنائية العجيبة والأصوات الغريبة. وفي القسم الثالث الصناديق (الفوارغ) الكارت ونية الصغيرة الطافية فوق الماء بعد أن التهمت الكائنات القادمة من ما وراء البحيرة، الحلوى الرخيصة.

وفي القسم الأخير يحمل صندوق الصياد، مرفقا بعظامه، من قبل الأرملة وابنيها واختفى الكل خلف الأمواج.

والصندوق في هذه الحالات الأربع مغلق على أسراره، وفي حالة انفتاحه، أو فتحه، لا يكشف عن سره، فصندوق الصياد الشيخ يحوي ملابس داخلية وأوراق مختومة وحبات مسبحة ناقصة. وصندوق جمعة غريب الموسيقى واللسان الذي عجز عن ترجمته أستاذة اللغات بالمديرية. وصناديق الحلوى الصغيرة الفارغة لا تكشف عن سر هذا الوله بالصناديق فارغة أو مملوءة. وبالرغم من اختلاف الصناديق، من حيث محتواها، فإنها تظل حاملة لدلالة الموت والحياة، فالصندوق الأول بمثابة تابوت يحمله الصياد الشيخ، في حله وترحاله، في انتظار لحظة الموت ـ الصندوق الثاني يحمل لغات الأموات الأحياء المصحوبة بإيقاع موسيقي غريب أما فوارغ الحلوى الرخيصة فهي وسيلة لدفع غائلة الجوع أو الموت في لحظات العاصفة. يبقى صندوق المقطع الأخير الذي يحمل دلالته الصريحة دلالة التابوت.

كائنات برية وأخرى بحرية: لعل البحيرة، حتى في حالة غضبها، قد لا تشكل خطرا على ساكنيها، وبالرغم من كون العاصفة الموسمية" النوة" تقذف الغرائب والعجائب، فإن الكائنات البحرية الغريبة التي تسترها أسمال الشباك لا تشكل هجمتها تقويضا لنظام البحيرة. إنها دورة موسمية لحركة المد والجزر، أما الخطر الحقيقي فيكمن في الكائنات البرية المسلحة بالمراكب السريعة والمستنبتة لأعمدة الخرسانة بعد أن عاثت الجرافات فسادا في منطقة المضيق الفاصلة بين البحيرة والبحر. هنا أقيم السد «فيحل المضيق وركدت مياهه، وتعرى جانباه بما فيهما من فجوات كثيرة وشقوق وأحجار سوداء، تفوح منه رائحة عطر، وتملأه طحالب تقذفها البحيرة إليه من حين لآخر»(3).

إنه الحكم الأخير على البحيرة، وأهلها، بالموت أو العدم. ولم تجد الأرملة العائدة مفرا من العودة بعد استرجاع رفات زوجها الصياد العجوز وصندوقه. فهو لم يعرف إلا البحيرة، وقاربه ـ بالرغم من زواجه منها. كان لا يغادره في اليقضة أو النوم أما أن تصبح البحيرة ميدانا فسيحا للمضاربات العقارية فالارتحال يسمح بالإبقاء على ذكرى الشيخ الطيب. و«التفتت المرأة قبل أن تصعد القرب وأشارت بعصاها نحو البيوت. ونظر الرجلان حيث تشير. وانطلق القارب إلى عرض البحيرة»(4).

يبدأ هذا النص الممتع بالماء وينتهي بالماء، وكأنه صياغة لتشكلات الكون بمفردات الواقع اليومي، واقع علم مهمش لا يحسن إلا لغة الماء. ولعل زاوية الرؤية التي اتخذها سارد يقظ الحواس، ذو عدسة عميقة، تسهم في نصاعة الصور المتلاحقة، هذه الزاوية التي ـ كما فعل يوسف إدريس.. مع عمال التراحيل في روايته «الحرام» تعيد الاعتبار لفعل الإنسان الدؤوب لإعطاء وجود معنى معين(5). وليس من الضروري أن تكون وجودا فلسفيا مجردا، بل إن حماية أرملة بولدين يتيمين في مكان معزول عن الدنيا، يعد في حد ذاته، دلالة على بطولة الماء قبل بطولة الإنسان. هكذا تتحول البحيرة إلى أم رؤوم أو أب قاس صديق يضعف أمام ضغط اليومي أو حكيم يحكي في سر الأزل؟ المكان يصبح تجربة حضارية تداخلت فيها أصوات الماضي والحاضر... والمستقبل، وإصرار الموج على مخاطبة الشاطئ دلالة على أن الصخب، صخب البحيرة. لم يهدأ، في يوم من الأيام، بالرغم من الهجوم الخرساني على المكان.

كاتب وناقد من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ محمد البساطي: صخب البحيرة. شرقيات ط 1، 1994.
(2) ـ انظر طبيعة العلاقة بين ساكني البحيرة و "النوة" أو العاصفة الموسمية.
(3) ـ الرواية ص 139
(4) ـ الرواية ص 140
(5) ـ والدلالات الفلسفية العميقة تنبع من بساطة الفعل الإنساني في علاقته بكون، خاصة البحر، مركب من لغات وحضارات وتجارب وحكم. البحر لغات عديدة تواجهها اللغة الإنسانية الواحدة. انظر على سبيل المثال: هيمنجواي: "العجوزوالبحر"/ ملفيل: موبيديك.