يتناول الشاعر السوري المسار الشعري في بلده بالنقد، ويحاول رصد تعكزاته الحداثية في القرن الفائت، وتقلبات حراكه وانشطاراته مابعد الحداثيّة، إضافة لاسبيان تطوراته الشكلية والأنساق الشعرية المتلامحة من بنيان قصائده.

الشعر السوري الجديد

نديم الوزة

وفق رؤية نقدية مابعد حداثوية قد يبدو الشاعر السوري أورخان ميسّر على قلة أعماله ومحدوديتها رائد القصيدة العربية الجديدة، بأصالة نتاجه شكلاً ودلالة، وربما لا تبدو القصيدة العربية بعد هذا الشاعر سوى تراكمات أفقية، وتنويعات شكلية لرؤيته المتبصرة في ماضي اللغة العربية وحلمها بالانعتاق ومجاراة العصر، ولكن بلا ادعاء يذكر بهذا المعنى لم يعمل رواد الحداثة (أستخدم التوصيف الخاطئ لشيوعه) سوى على وصْلِ ما انقطع أو رتق ما انفتق من ذاكرة هذه اللغة، علّها تستطيع مجارة اللغة الحديثة بمحمولها الشكلي على الأقل، وربما من هذا المنطلق على المرء أن يشكر شعراء مثل بدر شاكر السياب ومحمد الماغوط وأدونيس وبلند الحيدري لتمثلهم منطلقات الرومانسية والرمزية الغربية باندفاعاتها الشكلية، وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا لتمثلهما الدادية والسريالية كذلك. وعلى هذا النحو يمكن للمرء أن يستذكر مجهودات عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور في تمثل الواقعية الوصفية أو الطبيعية وربما برز نزار قباني ومن بعد أحمد مطر بالتهكمات الشعبوية، وما أضاف ذلك على صعيد مقاربة اللغة الموروثة من الحراك المستقبلي حتى في قصيدة البحور التقليدية.

لكن هذه الدائرة أحادية الأقطاب اصطدمت بفشل رؤيتها المستعارة وعدم مقدرتها على استيعاب الحراك الجدلي بين الذات والآخر، وبدت حركة الترجمة أكثر إلحاحاً لتقديم التجربة الغربية كما هي وليست عبر وسيط تثاقفي كما جرى في مجلة شعر وفي أعمال الأسماء المذكورة وأشباهها لولا أن الأزمة ازدادت تفاقماً مع ظهور القصيدة الهيجينة التي حاولت تمثل تجربة الحداثة مجتمعة بكل أقطابها وظهر في سورية كما في غيرها من البلدان العربية شعراء أكثر اضطراباً في معرفة ما ينبغي قوله، ولولا الاستقطاب السياسي وربما الـ لا أدري كيف لشعراء من أمثال ممدوح عدوان وفايز خضور ونزيه أبو عفش ومحمد عمران الاستمرار في الكتابة ليتمكنوا في النهاية من صياغة شيء ما يحفظ ماء شهرتهم وتسويقهم. غير أنه مع نهاية الستينيات كان شيئاً ما يلوح في الأفق وأخذ كثير من الغبار والضباب بالتبدد مع شعراء من أمثال سعدي يوسف من العراق ومحمود درويش من فلسطين وبول شاوول من لبنان وسليم بركات من سورية فاستشعر من تبقى من الرواد خطورة تنحيهم فاستجمع أدونيس وأنسي الحاج ما تبقى لديهما من طاقة لترميم تجربتهما ولكن مع تقدم الأول إلى قصيدة النثر وتراجع الثاني إلى الشعر الحر، وبذلك انفتحت الدائرة على مصراعيها، وساعد على اتساعها في سوريا على الأقل، ولاسيما مع الدور الإيجابي لاتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة آنذاك، في بداية السبعينيات تحديداً، بروز عدد من التجارب الجديدة في دمشق بعيداً عن المركز بيروت، وأخذت قصائد منذر مصري والفتى المتمرد عبد الهادي الوزه (هادي دانيال) بالظهور في دوريات اتحاد الكتاب العرب وغيرها من الصحف والدوريات السورية، وبالفعل تلقف هذه التجربة بندر عبد الحميد بالرعاية ومن ثمة الكتابة على منوالها مع شعراء آخرين كنزيه أبو عفش، وظهر في سوريا مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات ما يشبه التكتل الضمني من الشعراء يرفعون أمام القضايا السائدة راية الحياة المعيشية في تفاصيلها وأحلامها المنسية منطلقاً لرؤيتهم، وكما صار معروفاً كان على رأس هؤلاء الشعراء رياض الصالح الحسين بمحاولاته التي لم تكتمل لإبداع قصيدة بسيطة وآنية ولكن ذات دلالات معنوية مستمرة الإفادة والتأثير والدهشة. لصغر هذا التكتل وبسبب وفاة رياض المبكر، تشتت الشعر السوري الجديد، وأخذ شعراء القصيدة الهجينة باستعادة نفوذهم ولاسيما بعد تنقية قصائدهم واستفادتها من كل التجارب التي طرأت وعملت على تطوير القصيدة السورية برفدها بأحبار جديدة، هذا ما حصل مع محمد عمران في قصائده الأخيرة وممدوح عدوان أيضاً قبل وفاتيهما بسنوات قليلة، لولا أنه في هذه الفترة ذاتها حاول حكم البابا فعل شيء ما، لكن بسبب عدم جدية مشروعه الشعري، ورغبته بالشهرة السريعة، تخلى بسرعة عن الشعر للعمل بالصحافة والتلفاز وفي أي مجال يكون ذا مردود مالي ودعائي كما سيحصل مع معظم شعراء هذا الجيل، وربما لذات الأسباب التحق عدد من المواهب الصغيرة بالقصيدة السياحية في بيروت ولاسيما للتعيش والعمل في صحافتها، لكن، وفي المقابل ينبغي للمرء أن يحتفي بتحولات شعرية أساسية، وإن كانت لأسماء شعرية من الجيل السابق، إذ بدأ هادي دانيال بكتابة قصيدة نثر متميزة وفريدة، وبدا نوري الجراح أكثر كثافة وحدة تعبير في قصائده التصويرية، وكذلك لينا الطيبي على الرغم من ثرثرتها الوصفية، بينما استمرت هالة محمد في لعبتها القديمة التي تشبه مفارقات مرام المصري الأنثوية وإن على استحياء. وربما من الجيد الإشارة إلى تحول قصيدة محمد عضيمة في هذه المرحلة من هذيان اللغة إلى هذيان الواقع والمعيش وذلك التحاقاً بتطور القصيدة السورية وحساسيتها الجديدة.

مع بداية التسعينيات استعاد من تبقى من شعراء الثمانينيات حيويتهم وأخذت أعمالهم الجديدة والمخبأة بالظهور تباعاً، وبرزت مجموعة من الأسماء ذات المنطلقات والتوجهات المختلفة، ويمكن للمرء أن يذكر بشيء من الارتياح أسماء مثل عبد اللطيف خطاب ولقمان ديركي ومحمد فؤاد وفراس سليمان محمد وأسماء أخرى جديدة ظهرت في التسعينيات كفارس البحرة وأكرم قطريب وعابد اسماعيل ورشا عمران، وكذلك يمكن الحديث عن أسماء ظهرت مع بداية الألفية الثانية وإن بشيء من الحذر وإن كان ينتظر الكثير من محمد دريوس وجولان حاجي وهنادي زريقة... لم يكن المرور السريع على حركة الشعر السوري بشكله السابق إلا محاولة أولية للنظر بالرؤية النقدية التي أرخت لهذا الشعر، وللأسف لم يكن ذلك من خلال قراءة قصائده ونصوصه الإبداعية وإنما كان ذلك من خلال تحميله رؤى نقدية جاهزة، ولكنها غير قادرة بأدواتها الصارمة على الاستجابة لخصوصية هذه التجارب وحتى لو كانت قصائدها تنطلق بدورها من تجارب أخرى. وبهذا الصدد ربما ينبغي التوقف قليلاً أمام أكثر المحاولات استجابة للشعر السوري الجديد وأبكرها وأكثرها التباساً ولاسيما أنّ كثيراً من النقاد، أو القراء بالأحرى، يتخذونها منطلقاً لمقاربة الشعر السوري وربما العربي فيما بعد. وأقصد بذلك محاولة الكاتب السوري محمد جمال باروت الذي يرى أن تجربة الشعر العربي وربما أي شعر إنما ينطلق أو يفترق إلى مسارين اثنين هما: القصيدة الرؤيا والقصيدة الشفوية أو الرؤية، ويلزم كل مسار بمتطلبات وسائطية تعرّف به. لكن هذه الرغبة المابعد حداثوية سوف تصطدم بحقيقة التجارب التي لمّا تتعرف على مابعد الحداثة بعد، وإنما هي في صراعها الفكري والإبداعي تتلمس السبل لترسيخ ما يشبه الحداثة في نهضتها الأولى، وربما أكثر من أوقع محمد جمال باروت، في اضطرابه هذا، كان التماسه لمقاربات أدونيس النقدية لمفهوم الرؤيا الرامبوية والسريالية وهي مقاربة يمكن وصفها بالصحيحة من حيث النقل عن الثقافة الغربية ولكن المرتكسة في شعر أدونيس إلى ما يشبه الإحيائية الجديدة للغة العربية وفق تصور رمزي وعام للكتابة، سوف يتطور ويصبح أقرب إلى القصيدة الجديدة بتفاعله مع ظهور شعراء جدد كنت قد ذكرتهم آنفاً، وعلى هذا الأساس من الفهم قد يكون لدينا حتى الآن شعراء رؤيا رمزية أو سريالية أو واقعية اشتراكية وليس شعراء رؤيا بالمطلق، وبالمنظور ذاته يمكن ملاحظة أن ثمة بلاغة جديدة أخذت تتشكل لمقاربة الواقع بدأها محمد الماغوط وشوقي أبي شقرا انطلاقاً من الشعر الفرنسي وصقلها سليم بركات بخطابية غنائية عربية ولكن لتكون أكثر التصاقاً بحركة الواقع وجزئياته، هذا المنظور الواقعي هو ما حاول محمد جمال باروت نعته بالشفوية على الرغم من أنه متوافر في بعض قصائد ممدوح عدوان وقصائد هادي دانيال المبكرة ذات الإيقاعات التفعيلية أكثر من توافره في قصيدة شعراء السبعينيات النثرية.

القصيدة الجديدة المرحلة الأولى:

في الحقيقة إن مفهوم السبعينيات أو مفهمته هو مجرد حالة نقدية قد لا تكون دقيقة، طالما أنّ الذين يعتبرون من ممثليها كانوا قد نشروا معظم نتاجهم الشعري في بداية الثمانينيات، لولا أنه من المؤكد أن قصائد بارزة قد نشرت كما أسلفت لكل من هادي دانيال ومنذر مصري في هذه المرحلة، بل إن الأول كان قد نشر كراساً من عدة قصائد عام 1973 حين وصوله إلى بيروت، بما يؤكد على أنّ ملامح هذه المرحلة قد صاغها نتاج هذين الشاعرين وبما يعني أنّ تناول تجربتهما قد يكون كافياً وحده لإبراز التوجهات الأساسية للقصيدة الجديدة في سورية، وربما من البديهي أن تقرأ هذه التوجهات من خلال هذا النتاج لمعرفة دلائله المرحلية وماذا يمكن أن تستمر به عبر مسيرتها الإبداعية المستقبلية، ولاسيما أن كلاهما ينطلق من رؤية واحدة ترى أنّ الشعر هو كشف معرفي لإدراك العالم من حولنا وليس بحثاً ميتافيزقياً لاكتشاف المجهول لكن مع فارق أساسي بين الشاعرين يتمثل في طبيعة التجربة الذاتية لكلّ منهما، وربما كان هادي دانيال أكثر اندفاعاً للمشروع الحضاري العربي وتحدياته الكبرى في مقاومة الهيمنة والإلغاء من الآخر الغربي والعبري وأزلامهما من العرب، لذلك تماهى لديه الذاتي بالعام وبدت تجربته حفراً ومعماراً لبناء وجودي يحمل هوية عربية متحررة ومحررة في آن، وهي لذلك ربما استطاعت أن تقارب مقولات ما بعد الحداثة بعفوية وأصالة دون الحاجة لمزيد من التماهي بالآخر وادعاء إنجازاته بمحاكاة باهتة ربما وجد فيها منذر مصري ما يلبي رغباته الغنائية في الاستقراء والتمثل بالآخر إلى حدّ الانكشاف به، بمعنى آخر قد لا يبدو منذر مصري سليل المثقافين العرب وأشعارهم المضطربة بين أصالة مواهبهم ورغبتها بالانعتاق والتي تمثلت بأبهى تجلياتها في قصائد محمد الماغوط وأنسي الحاج وإنما ارتضت أن تكون انعكاساًً لما هو مترجم من أية إضافة ولذلك بدت قصائد منذر مفكَّر بها وليست نتاج ذات شاعرة متفاعلة وجودياً بالذي تقوله. وربما لذلك قد يكون محمد جمال باوروت قد وجد في هذه القصائد ما يسوّغ مقولاته ولكن ليجحفها حقها بعد ذلك حين عممها على تجارب أقل شأناً، تجارب أكثر ما يمكن القول عنها: إنها انعكاس لترجمة ما هو مترجم.

المرحلة الثانية:

(1)

تتبدى أهمية شعراء الثمانينيات في تحسّسها لهذا الاضطراب في الرؤى الحداثوية بمختلف توجهاتها الإيديولوجية، وهي إن انحازت في معظمها للإنسان الفقير الذي يبحث عن فرصة للعيش البسيط لتحقيق وجوده المعرفي والفني إلا أنها لم تخلُ من محاولات وجودية، نقدية ومحلية. وعلى أية حال قد يرى المتأمّل في تجربة رياض الصالح الحسين انعكاساً لاضطراب القصيدة السبعينية في البداية ولكنه مسكَّن أو لأقل مدارى بهذه النفحة العفوية بقول المترجَم وتهجين المستغرب، وكأنه يقال لأول مرّة لولا أنّ ذلك قد لا يخفى على الذات العارفة أو القارئة، وربما لذلك وقع أكثر مريدي رياض الصالح الحسين من الشعراء في تعثر بداياته ومنهم من حاول تنقيتها كفارس البحرة أو استنساخها كحكم البابا، وربما لم ينتبها إلى ما كان لرياض الصالح من توجهات أخرى أخذت تتبدى شيئاً فشيئاً في قصائده الأخيرة، وربما من أهم سماتها أنها لا تستجدي الواقع أو الحياة، أو حتى الفكرة بقدر ما تأخذ كلّ ذلك مجتمعاً إلى بساطتها وعفويتها ودهشتها، وربما الأهم من ذلك أنها كانت معنية بأن توجه رسالة تعني ما هو مكتوب فيها:

يا سورية الجميلة السعيدة

كمدفأة في كانون

يا سورية التعيسة

كعظمة بين أسنان كلب

يا سورية القاسية

كمشرط في يد جرَّاح

نحن أبناؤك الطيِّبون

الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك

أبدًا سنقودك إلى الينابيع

أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء

ودموعك بشفاهنا اليابسة

أبدًا سنشقّ أمامك الدروب

ولن نتركك تضيعين يا سورية

كأغنية في صحراء

رغبة رياض الحسين في استحواذ الحياة والمطالبة بها وفقاً لنظرة أقرب إلى الليبرالية في براءتها القديمة، هي ما وفّرت لقصيدته هذه السمات من الوضوح والطزاجة في صورها وابتكارها أحياناً، غير أنّ الموت لم يمهل الشاعر ليستحوذ على ما أراده، فبقيت قصائده الأصيلة قليلة بل وقصيرة كحياته.

لعب الموت في هذه المرحلة لعبته مع شاعر آخر قد لا يقلّ أهمية إذ لم يكن أقوى نفاذاً إلى الشعرية الجديدة من خلال ما تركه من قصائد معدودة، هي بأشكالها المكتملة سوف تؤرخ لبداية جديدة للقصيدة السورية بعد إرهاصات السبعينيات وبداية الثمانينيات، أولاً من حيث مهارة شاعرها عبد اللطيف خطاب في بناء نصوصه، وثانياً بخصوصية هذه النصوص ونأيها عن محاكاة أية نصوص أخرى، وإن كانت بالنتيجة تعترف – ما قامت به – بمشروعية إنجازات سابقة اتخذت من السرد الخطابي فسحة للتعبير والبوح الذاتي بما يحمله من غنائية ساخرة، سوداوية، بل وفجائعية. وعلى أية حال ربما يكون عبد اللطيف خطاب من الشعراء القلائل الذين يتركون لدى المرء انطباعاً آسراً من القراءة الأولى، وهذا إنما يعود إلى شيء أساسي ليس سوى مقدرته الشعرية ونفاذ بصيرتها إلى ما هو راهن وينبغي قوله، وربما أكثر ما أهّل تلقائيته في فعل ذلك كان إنصاته العميق لبيئته، استقراء وفهماً وشفافية من غير ادعاء ولا مبالغة أو مواربة كلامية إلا في حال كون المواربة سمة لهذه البيئة وليست تنصّلاً منها. وربما استطاع بذلك أن ينأى بقصيدته عن مواطنه سليم بركات شبيهه ومنافسه على الوجود المكاني، على ما في ذلك من مفارقة مأساوية لكليهما، وكأنما بركات هو البدوي المتشبع بالعربية وبلاغتها، وعبد اللطيف هو الكرديّ البدوي الذي يتلعثم بالقول ولا يخشى أن يخطئ به ويمكن بهذا المعنى الحديث عن شفوية القول وامتلائه ببيئته الهامشية بمفرداتها وحكاياتها وخرافاتها، بل إنّ عبد اللطيف خطاب يذهب أبعد من ذلك حين يجعل من الهامشيّ مركزاً ويحاكم العالم من خلاله، ربما لأنّ طبيعة العالم الذي يحاكمه هو هامشي بدوره وثالث، وربما لأنّ ما يستحضره أدعياء التمدن فيه لا يتعدى قوله: "ونضاجع حيواناتنا كما نفعل في القرى يوم كنا صغاراً، وكما يضاجع المتمدنون كلابهم الأنيقة"

وعلى هذا لا غرابة أن يبدو التاريخ حاضراً كوهم والإيديولوجيات كذلك، ولأنهما كذلك قد لا يكون ذنب الشاعر أن يكون حضورهما هشّاً ويدعو للسخرية والعبث الدائمين، ولا سيما حين استحضارهما في الوعي الحداثوي ومقولاته وأعلامه، حتى يبدو هذا الوعي غائباًً ويمضي للانكفاء بدوره. هكذا يتقدم عبد اللطيف في تجاوزه مفككاً، وناقداً، ومهلوساً، ولكنه عاقلاً فيما يدور به وحوله، وعالقاً بما يمكن قوله، وعلى هذا المنوال يتعرف على مقولات الحداثة لكي يعْبر إلى ما بعدها ربما بلا دراية وبلا تفكّر نظريّ، وربما بلا ملامح واضحة، لكنه استطاع على الأقل أن يفي القصيدة الجديدة غرضها وأن يفي الحياة التي خذلته حقّها.

(2)

سوف تلقى آراء محمد جمال باروت أثراً إيجابياً في النصف الثاني هذه المرحلة يكاد يشبه الأثر الذي خلفته في تجربة نوري الجراح، ولكن بعد تشذيبها بمهارة الشاعر وموهبته، فالاعتماد على الواقع ومشاهده المفارقة، وصوره الدالة، هاهو يتكرر مع شاعر آخر لا يشبه نوري الجراح وحسب بل يمكن القول إنّ محمد فؤاد يكتب ما فات الأول أن يلاحظه أو يعيشه، وإذا كان محمد فؤاد ما يزال عالقاً بأفكار منذر مصري، وفانتازيا رياض الحسين، ورغبته بالانعتاق منهما، فلربما لصعوبة التقاط الشعر من الواقع كما هو، ولربما لقناعته بما يتركه له هذا الواقع جانباً:

على طرف الخيط الواهي بيننا

تركتُ حياتي معلقةً،

وها أنذا،من ظلمة إلى أخرى،

أقفز كغراب

كأنما أمامكِ فقط

كان عليّ أن أدعي الحكمة

بينما حماقاتي

شرائط ملونة

ألوح بها من شباك البوسطة

التي تخض على الطريق

ربما بمكره، مكر الشاعر وحيطته، أدرك لقمان ديركي أنّه لا يمكن الذهاب بعيداً بشخوص ممالك ليست زائلة وحسب وإنما هي في واقعها الإبداعي لا تبدو تحت إمرته كذلك، ولاسيما أنّ شاعراً مثل سليم بركات سوف يمثل دائماً في طريقه، أولاً لأنّ شخوص لقمان خرجت من أحد أكمام معطف بركات وثانياً، وهذا هو الأهم، لأنها لن تستطيع أن تجد ما ترتديه من حياكة لقمان وأدواته، لذلك ابتعدت عنه تاركة إياه لحياته الشخصية وتفاصيلها، ليغرق فيما يشبه ثرثرة المستوحد عن كل شاردة وواردة يعيشها، على أن تفضي إلى مفارقة، أو دعابة سوداء، أحياناً يمكن اعتبارها طالما هي على هذه الأهمية في حياتنا جميعاً:

أيها الشخص الذي طرق بابي خطأً

دع لي عنوانك

كي آتي يوماً

وأطرق بابك

فربما يرقص قلبك فرحاً

وتعود روحك إليك

ربما تستفيق من أساك ووحشتك

وأنت تجلس وحيداً وحزيناً

ربما يدخل الأمل إلى قلبك

ولو للحظات

المرحلة الثالثة:

بعيداً عن هذه الاستجابة للواقع والغرق في تفاصيله، أخذ مفهوم الكتابة بعداً آخراً في تجارب فئة لا بأس بها من شعراء هذه المرحلة، بل يمكن الملاحظة أنّ فراس سليمان محمد يؤسس لمرحلة جديدة من الانحدار يكاد الشعر فيها يفقد رؤيته العفوية لصالح كتابة قد تقترب من الشعر ولكنها لن تقوله. هذا ما حصل مع محمد عضيمة في قصْدية التقاط المفارق والفكاهي مستفيداً من تقنيات الهايكو بعد تسطيحها كعادته في كل ما يكتبه وبعد تجربته السابقة مع أصداء من القصيدة الصوتية الفرنسية. هذا ما سيحصل، وإن بطريقة أخرى، مع أكرم قطريب وخضر الآغا في توسل انزياحات لغوية كان أدونيس ومريدوه من شعراء الستينات والسبعينيات قد استهلكوها إلى هذا الحد الذي جعل من خضر يجتهد في هذا المسعى الانتقائي للتأكيد على ما هو متجاوز من شعرية الصورة وتوليف الجملة استجابة للرؤية الانزياحية الغربية فهدر وقته ووقتنا بما تمت قراءته وتبويبه في أجندة الذاكرة، وربما لم يجد أكرم قطريب ما يفعله بعد استنفاده لقراءة أدونيس سوى أن يسارع للالتحاق بأمريكا فراس محمد وهلوساتها ولكن بإيجابيات بنائية ربما تنبه لها من عابد إسماعيل علّه يجاريهما بهذه المناكدة اللغوية للواقع ولكن بمفاراقات وتوريات إنشائية وبلاغية ربما كانت مستساغة في بدايات منذر مصري لكنها قد لا تصمد طويلاً أمام شعرية لاحقة هي أنضر لغة ودلالة. هكذا بدأ عابد إسماعيل وكأنه خارج السياق، مدججاً بلغته الإنكليزية وحساسيته العالية بتمثل كل ما قرأه من خلالها، ولاسيما بمهارته الواضحة في بناء القصيدة وانتقاء صورها، وربما لولا اطلاع المرء على ما هو مترجم من الشعر الأمريكي والغربي عموماً، لبقي مبهوراً باستعاراته المستقاة من أكثر من شاعر وتجربة وربما هذا ما يفسر تعدد أساليبه وانقلاباته السريعة بين قصيدة وأخرى وإن كانت شعرية غنسبرغ أكثرها حضوراً وحيوية، وربما فعل التمثل هذا هو ما جعل قصيدته تنكفئ إلى نوع من الكتابة الإنشائية في مقاربة الواقع وتفاصيله ولاسيما أنها لم تكن غائبة عن قصائده الأولى على أية حال:

لصناعة قصيدة ما

يلزم الكثير من الضوء المشتول

والديكة المنحوتة

يلزم إزميل لحروف العلّة

ومبرد لأدوات التعجب

جارور لألوان الطيف

وممحاة لأحلام اليقظة

هذه الصناعة قد تعجب أحد ما بشرط ألاّ يكون قد قرأ شيئاً مماثلاً، مترجماً وأصلياً من قبل؟

أخيراً قد يكون من أهم إنجازات قصيدة التسعينيات في سوريا اتساع مساحة الحضور الأنثوي وفاعليته الإبداعية، بعد أن كان مكتفياً بما هو أنثوي حقاً، بالمعنى الضعيف للأنثى المحاباة والمدلّلة، فعلى الرغم من هذا الاحتفاء الملحوظ بمفارقات مرام مصري ومبالغاتها الشفوية إلا أنها لم تعد تستهوي الجيل الجديد من الشاعرات اللواتي أخذن مهمة الشعر على محمل من الجدية الإبداعية على الأقل، بل إنّ جهدهن قد تميز بهذا المسعى اللغوي لإنشاء جملة شعرية تكاد تكون مفتقدة لدى مرام وهالة محمد ورولا حسن... وربما هذا التميّز في بناء الجملة وسرد القصيدة هو ما عزّز من شأن محاولات رشا عمران أكثر من أي شيء آخر، طالما أنها ما زالت تدور في ذات المنحى الأنثوي للقصيدة السورية وربما لا تختلف مياسة دع، على الرغم من نضوج تجربتها، إلا بهذا الانزياح البلاغي لاستقصاء دواخل منسية كادت أن تفرض دهشتها الأصيلة لولا أنها تضيع، بدورها، في متاهات إنشاءاتها المتكلفة والمصطنعة.

البداية الجديدة:

وحدها هنادي زرقة تستطيع بفورتها الأنثوية مع بداية الألفية الثالثة أن تمنح بقصيدتها الما بعد حداثوية، هذه الاندفاعة الحرّة والمتحررة للمرأة السورية، لتمنح بذلك قصيدتها أبعادها الجمالية المحتملة وربما غير المستكشفة بعد، وربما لأول مرة أجد نفسي أمام مغامرة إبداعية على هذا النحو من التماسك والأصالة والتحقّق في الآن ذاته. ليس لأنّ المرأة المنتظرة، الخائفة، المستجدية، التي لا ترى العالم إلا من خلال ادعائها وكذبها واستعطافها للرجل، قد تلاشت بظلالها الممجوجة أمام سطوع قصيدة هنادي وحرقتها المضيئة وحسب وإنما لأنّ هذه القصيدة تستطيع كصاحبتها أن تنتصب بقامتها الإنسانية بحضور الرجل أو غيابه، وبالطبع ليس لانتقاص أو مزايدة وإنما لأن للمرأة دوراً مساوياً في الحياة، ليس في القول وحسب وإنما في كيفيته، وربما لذلك كله سوف تبقى قصيدة زرقة أنثوية بكافة المعايير ولاسيما الجميلة منها.

لكن أن تبدو قصيدة هنادي زرقة على قدها، وفي طور الوعد، على الرغم من تفوقها على من سبقها من شاعرات بل وشعراء كنّ وكانوا يدورون حول ذات اللعبة التي تحاول بعثها بمهارتها وعفويتها ومقدرتها اللغوية أولاً، إلا أنّ شاعراً من جيلها قد يبدو مستعجلاً في اللعب مع الكبار، وإن كان يخشى من شيخوخته المبكرة، ولاسيما أنّه في استعراضاته المبكرة يكاد يحاكي تجربة عابد إسماعيل لولا أنه، لحسن الحظ لم يهدر شبابه في أمريكا أو غيرها من الدول الأوربية، أو على الأقل لم يبن عليه ذلك، وربما يستطيع جولان حاجي من تفاصيل حياته وذاكرته أن يوسع مساحة الضوء التي تلمع بين الحين والآخر في سردياته التي تستنفر جماليات سليم بركات وعبد اللطيف خطاب وأعتقد أنّ لديه من الثقافة والجرأة ما يمكنانه من تجاوز ذلك.