من يعرف هذي اللوعة، من ذاق مرارة أن يولد من رحم الفجيعة ميتاً ليعاود الارتقاء فوق منصات البوح، ويعلن بصوت مذبوح عن جل مراثيه الفائتات، وينسج فضاءاً مسرحياً فواجعياً، يتحدث فيه عن الذي كان، والذي سيكون، ليعتلي صهوة ذلك الألم المأساوي القاتل الذي راح يصلب الأحلام فوق مقاصل التاريخ، وعلى مأساة ومذابح الحروب، ويردُ سهام الغدر النائية المغروسة في نحر مكامنه القصية العتيقة، بكفوف مقطوعة، وجثامين متهرئة الأوصال، وذوات محبطة ميتة، وجلود سُلخت قبل الذبح، وأرواح محلقة نحو ذاك الاتقاد المرير لهوس تجربة الحياة القاتمة المريرة، والتي لا تنتظر من بون ملهاتها المقيتة تلك، سوى الترقب الحذر صوب تشظي أفكارها اليومية الحالمة الفائتة التي صادرتها أزمنة الحروب والفواجع وقهر الأيام السود، وخفوت بصيص الضوء المنبعث من ملامحها المذبوحة بسكين سلطوي أعمى، رغم كل هذه المرارة القاتمة فهي بذات اللحظة تعيش أمتع أزمنة التداعي والتناص الحي لذلك العشق الأزلي الذي يغلف ملامحها الطيبة المتجذرة فيها، رغم أن كينونتها الأخاذة يلتحفها قبر مركونٌ منسي.
دارت "المأساة المطرودية" "رثاء الفجر" ببطليها الزوج والزوجة والشخصيات والأصوات المحاذية الناشطة الأخرى داخل مقبرة كبيرة، أراد قاسم مطرود إحالة هذه الأجواء بماهياتها الدلائليّة ورفعها لمصاف الحياة المعاشة ذاتها، حين نسمع صوت الزوجة وهي تدلف لهذا الخراب الجميل المقبرة وهي تحدث نفسها في المشهد الاستهلالي:
- الزوجة: بسم الله الرحمن الرحيم يا الله، بسمك أتوكل وبسمك أدخل.
إذن هي مزمعة على الدخول إلى عالمٍ مغلفٍ بالنقاء والصفاء، عالم أرحب من عالمنا هذا الذي نعيشه، لأننا لا نستأذن الذات العليا حينما نلج إلى خطايانا وقت اقترافها، أو نستأذن لارتكاب أبشع الجرائم داخل الأقبية السرية وحجر التحقيق المدلهمة، أو حينما نشعل فتيل الحروب الطاحنة لمجرد حالة غضب طارئة، أو لتفريغ شحنة نزق عابرة، لنزهق فيها الأرواح بالجملة.
لقد نسج لنا مطرود عبر خطابه المسرحي هذا البناء الدرامي الذي تبناه، والذي يؤكد فيه على فاعلية البوح المعلن الصريح من أي مكان وفي أي زمان يتخيله الكاتب المسرحي ليكون منصة درامية ملائمة لذلك المدّ الإنساني والتواصلي ما بين الخطاب المسرحي باعتباره جهداً فنياً درامياً غنياً، وبين التلقي أو الاستقراء باعتباره منطقة التفسير الجمالي لذات الخطاب، وفي رأينا إن هذه المنطقة الدرامية التي ذهب إليها مطرود في شكلنة، وبناء ثيمته الأصيلة في نصه المسرحي "رثاء الفجر" تتبلور على شكل سؤال موضوعي حداثوي صريح النزعة، وربما يتجاوز ذلك ليخاطب فيه ملامح ما بعد الحداثة وهذا السؤال مفاده:
- هل من الممكن أن تتجلى الرؤى الدرامية، لتخلق لنفسها مساحات واسعة من الإبهار الشكلي غير المألوف أولاً، ومن ثم لهدم ذلك الجدار الذي يفصل ما بين المتلقي (القارئ) وبين ذات النص الذي ينقلنا لمتاهات وأماكن وأشكال مسرحية غير معهودة للبوح من خلالها ثانياً، وأخيراً ليخلد إلى الإفصاح عبر شخصياته (الميتة – الحية) عن مأساتها الفائتة وهي تتعايش مع بعضها، داخل قبر، لتضعنا أمام برهة تحريضية فاعلة ومتفاعلة إزاء تلك الفواجع التاريخية، المتأتية أولا، من تسلط الأيديولوجيات على جملة الأفكار الإنسانية السامية الأخرى التي ينعم بها الأفراد والجماعات على المستوى الوعيوي الناهض، وثانياً الآتية من مخاضات الحروب المتوالية، لتنهش بخرابها المأزوم جلّ الأماني والأحلام المؤجلة من بين مآقينا عنوة، ليجبرنا مطرود عبر خطابه المسرحي، على اتخاذ موقف قصدي فاعل صوب مناخات التغيير، باعتبارنا نحن المتلقين جزء لا يتجزأ من صراعات ذات اللعبة المسرحية "المطرودية" داخل الحياة المعاشة بتكويناتها النفعية، وخارجها داخل القبر بملامحنا اللعبية التي بدت عند مطرود أكثر إشراقا من الحياة ذاتها، عبر إفصاح الزوج في هذه الحوارية:
- الزوج: لم نعرف الأعياد منذ زمن.. ففي الدنيا...
- الزوجة: كان العوز يمنعنا من الفرح.
- الزوجة: وفي المقبرة، يحرك البكاء تراب الموتى ويستفز سكينتهم.
وجاء البكاء هنا ليس تعبيراً على رثاء للموتى، بل كان وجعاً ثانياً ينأون تحته، لأنهم أرادوا لقبورهم أن تكون أكثر غبطة لا يكدر صفاءها البكاء أو العويل القادم من خارجها.
- الزوجة: وطلبت منه أن يكون قبري أقل ارتفاعا من قبرك لأنني لا أطولك ولا أشبهك وأنا تعففت بك وجعلت أنفاسي تصعد إلى السماء لتلاقي روحي السحب والنور.
- الزوج: أنا فخور بك...
- الزوج: لا بد لقبركِ أن يكون أكثر بهاءاً.
أن تكون الزوجة بهذه الشاعرية العالية وذلك السمو الإنساني وهذا العشق الأزلي المجبول بالطيبة، والتي تتمنى معه أن يكون قبرها أدنى من قبر زوجها حتى لا تطاوله حتى في ميتتها، وأن يتمنى الزوج لقبرها أن يكون أكثر بهاءاً، يجيء هذا التحاور التراتبي المتواشج بالإشراق من خارج وداخل القبر ليكون مرتكزاً درامياً، وإبهاراً في البنية الشكلية بتكويناتها الأجوائية المأساوية المرة القاسية للنص المسرحي "رثاء الفجر" الذي سطر مأساته الدرامية الكاتب العراقي المبدع قاسم مطرود بقلم يتقاطر نزيفاً بلون الدم، وهو يحاكي ملامح حياتنا الفائتة بخرائب فواجعها النائيات في محاضن ذلك الألم، وجملة الأحلام المؤجلة، التي راحت تحتضر أمام الأعين، حتى دفنت حية، داخل مقابر بلون كدنا ونكدنا ويأسنا اليومي، حين راحت شخوصه تترجم تلك الفواجع عبر ذلك التحضير النبيل الآتي من ذواتها الميتة الحية، بذات اللحظة المتقدة من حالات الاستحضار الإنساني الوجداني المسرحي.
ولو ألقينا نظرة مختبريه موضوعية جادة على ذلك الخزين الفواجعي الحقيقي الذي يمكث داخل ثنايا "مطرود" باعتباره نتاجاً لكل ذلك الخراب المفجع الذي كان جزءاً منه، بل يبدو من خلال حواراته المتعاقبة وكأنه هو (البطل) الذي ينهض من قبره ليحكي لنا كل تلك المأساة التي كان شاهد عيان عليها.
- الزوجة: حقا.. هل تعذبت؟!
- الزوج: كلا لأنني مت في حرب مجهولة!
الموت في حرب مجهولة!! هو ملاذ صريح تمكن مطرود من خلاله من استخلاص الفحوى الانتهائية من مجهوزية ثيمة نصه الذي استطاع من خلاله الإفصاح عن جل الخبايا المستترة في أعماق شخوصه.
- الزوج: هذا صديقي مات بعد موتي بعام ظل وحيداً في الدنيا بعـد أن ماتت زوجته التي حزن عليها كثيراً فمرض وهزل، جاءوا به إلى هنا ضيفته، صرنا أصدقاء نجوب المقبرة ليلاً نتذكر ونتذكر، حتى ينتهي اليوم، ثم يجيء اليوم الآخر فنتذكر أيضاً، ولا نحسن شيئاً سوى الذكرى.
لقد تكوّر الزمان والمكان عند قاسم مطرود فـي "رثاء الفجر" حتى استحال إلى ومضات أكثر إشراقاً من الحياة فوق وجه الأرض، فأحال مناطق بوحه وأشكاله المسرحية الراقية إلى مناخات أكثر اتساع ورغبة في الحياة، فراح ينسج ملامح مرثيته الشعرية النبيلة داخل القبر، حتى خلنا بأن هذه الفضاءات "المطرودية" هي ملاذ أرحب وأرقى وأكثر ترفاً للعيش الآدمي، بعيداً عن ضجيج وآلام الحياة العادية المقرفة، فوق سطح الأرض، وهي بالتالي أكثر نبلاً لتكون منطقة لاستحضار دفة التاريخ ثانية، ووضعها أمام محاكمة استقرائية عادلة، تبرر لنا مأساة حياة شخوص مطرود الفائتة أولاً، ومن ثم ليحيلها هو ثانية إلى صرخة مدوية في فضاءات الأزمنة والأمكنة اللاحقة ليصيرها إلى سؤالٍ أزلي ربما عاش طويلاً في دواخل ذواتنا البشرية التي لا تعرف الحقائق إلا عندما يحولها البطش السلطوي الآثم إلى أشلاء متناثرة داخل قبر تعشش بداخله الذكريات الهرمة الموزعة بشكل خرب مليء بالأسى، أو مشرق تحتويه غبطة مؤقتة، على ملامح جدرانه المتآكلة، وبما إننا قد تعرضنا لتفسير السؤال في الاجتهاد "المطرودي" في استحداث الشكل الدرامي لخطابه المسرحي فمن الضروري الالتفات والتعرض إلى السؤال الفلسفي الذي طرحه مطرود في خطابه المسرحي والذي مفاده:
- هل من الممكن أن تحيا الأجساد الميتة داخل القبور، لتفصح لنا عن مأساتها الفائتة، عبر أرواحها الحية المحلقة في دواخلنا الحاضرة في زمن التلقي أو الاستقراء أو حتى أثناء "الفرجة الجمالية"، لتحيل نوازعنا الآدمية لحواضر الاعتراض أولاً ومن ثم لإحالتها لمناخيات التغيير المجتمعية المعاشة برمتها ثانياً؟!
هكذا صاغ برأينا مطرود سؤاله الفلسفي الذي طالما أرق فطرتنا التي جبلنا بها، وهو ذات السؤال الذي شوه بنتائجه المأساوية عذرية وجودنا الآدمي، واجتاح مفازات دواخلنا القاحلة المترنحة المعلقة بين الموت والحياة ليجبرها على إقامة ذلك النسق المأساوي لطرفي المعادلة القائمة على برهنة استحضارية درامية في تأكيد فرضية جدلية الحياة داخل القبر، والتنفيس من خلال جدرانه الصدئة، والأجساد التي نخرها دود الأرض، والتي حولتها مأساتها إلى أشلاء متناثرة يجمع شتاتها الملحمي قبر من طين مجبول بماء الأرض الذي تلون بلون الدم، وهي تفصح عن جل ما تحمله شخصيات رثاءه من مأساة وأحلام وذكريات وآلام ولحظات قهر وجوع وتشظي للذات، وكد وتعذيب ونزف حروب طاحنة تملأ الفضاء عتمة، وإحباط، ولحظات حب، وهمس يكاد يخنق الذاكرة الحية والميتة على حد سواء.
- الزوج: انفجرت عيني كالبركان وانفطر قلبي ومنه خرجت حمم لما سمعته يئن ويرتجف تحت لحافه.
- الزوجة: ماذا أقول أنا، لقد واجهت موته وحدي، كان بلا جسد ولا روح...
- الزوج: وتلألأت الدمعة في عيني...
- الزوجة: أنت الجبل الذي لا يهتز.
- الزوج: انهار ساعتها.
انهار ذلك الجبل لأنه وزوجته وولده دفعوا ضريبة الفجيعة في زمنٍ لا يعرفون مجاهل مدياته، بل عدواً أرقاماً هامشية تضاف لضحايا أتون الحروب، التي لا تعرف الرحمة.
راح مطرود يختزل جلّ فصول فواجعنا الفائتة، في فصل مأساوي واحد، ليقربنا من ملامح الذاكرة الجمعية التي رزخت تحت بون ذلك الارتهان النمطي للأفكار والوعي الاشتغالي اليومي، بل وحتى على مستوى طريقة وكيفية التفكير التي فرضت على مساحة واسعة من النماذج الإنسانية التي دفنت بإسرارها وهي حية داخل متاهات قبر راح يلملم أشلاءها المتناثرة التي مزقته ابتدءا قبل الموت أفكار الإيديولوجيات المتسلطة، ومنعتها من البوح وهي التي لا تنعم بالهمس، حتى راحت تصرخ وتعري الأشكال والأشياء من حولها وهي داخل مفاتن قبورها التي جعلها مطرود فصل البوح الجليل الوحيد الذي تستطيع فيه الذوات، الإفصاح عن مكامنها وخلجاتها، لتحقق إنسانيتها المستلبة بماهيات وأشكال وطرائق تدوين تنتمي لكل عتم المرارة والقسوة، وربما هذا ما راح يؤكده المسرحي الفرنسي أنطوان آرتو في تنظيرات مسرحه "مسرح القسوة" والذي أوجد تلك العلاقة ما بين المسرح كمؤسسة فرجوية جمالية وبين الفلسفة باعتبارها اختزال للمسافات الجمالية، والإفصاح عنها بطرائق الحكمة المتعالية، وهي ذات العلاقة المختلفة بشكل جذري وعميق عن تلك العلاقة التي أقامها الفلاسفة قبل وبعد آرتو أمثال سارتر حيث كانت علاقة سارتر بالمسرح علاقة أدائية استخدم المسرح فيها لتنفيذ مهمة محددة هي حمل جانب من أفكاره الوجودية ونشرها بطريقة تختلف عند أدائه التنظيري المدون في كتابه "الوجود والعدم" لذا فإن المناخ الفلسفي لدى سارتر كان سابقاً عنده على وظيفة المسرح.
لكن مطرود في نصه "رثاء الفجر" أسس ابتدءا لمنطقة اشتغال لازمت الفحوى الممنهجة في طرح سؤاله الفلسفي ومن ثم راح يؤسس لها نمطا جديدا من أنماط الشكل الدرامي من خلال خلق ثيمة مأساوية استطاع النفاذ من خلالها إلى ساحة البوح الأوسع (المسرح).
حيث استطاع أن يؤسس لهذا المنهج من بداية المشهد الاستهلالي حين جعل باحة المسرح عبارة عن قبر كبير تحيطه شبابيك وأبواب وروائح منبعثه منه ونوافذ وشموع وفوانيس وكتب وبخور وصمون وصحون، يحيطه ضجيج خارجي وحركة دؤوبة، ليحيل الدنيا برمتها إلى قبر كبير تطلع من بين ثناياه المدلهمة، حياة ثانية، ليفصح مطرود من خلالها عن مكنوناته الدرامية والفلسفية الناهضة.
وحين الرجوع لمنابع تلك الثورة الفلسفية الاوربية نكتشف بأن مردها إلى الفيلسوف نيتشه حين أطاح بعرش الأداء الشكلاني للفلسفة والمتمثل بصرامة أدائها النظري، وبمنطقيتها المتعالية وهيبة خطابها المغلق على نوعه الصارم المعرفي، عبر اللجوء إلى أساليب أدبية ومعرفية عبر بيانات وملهمات تخييلية للتعبير والإفصاح عما هو فلسفي في جوهره، وتصنيفه الفلسفي.
ومن خلال هذا الفهم الفلسفي، وعلى صعيد إخضاعه لمنهجية العمل المسرحي التنفيذي اتجه آرتو إلى سياق آخر للفلسفة وإخضاعها إلى ديمومة المحاكاة في المسرح حيث اعتبر المسرح أو المحاكاة أو الفن بالعموم هو:
- ليس محاكاة للحياة، بل إن الحياة هي محاكاة لمبدأ متعال يضعنا الفن في تواصل معه.
ويقودنا هذا التأكيد الآرتوي على القول بأن الفن عموماً، والمسرح بالخصوص هو منفعة فلسفية درامية ترتقي على الحياة في محاكاتها المباشرة، لتبحث المحاكاة لنفسها على مكان آخر متعال لضمان إيجاد ذلك المناخ التواصلي المؤثر للحصول على أعلى درجة من الاستقبالية الاستجاباتية في رحم الذوات الجمعية المتفاعلة والفاعلة في جسد الفرجة الجمالية بأنماطها المختلفة ابتدءا من الخطاب المسرحي وانتهاءاً بالعرض الفرجوي.
ومما يستحق الوقوف عنده في نص "رثاء الفجر" لـ قاسم مطرود هو قدرة هذا الكاتب المسرحي الفائقة والجريئة، في تأسيس منطقة فلسفية ودرامية عالية، عبر استخلاص النتائج التنظرية ما بين طروحات نيتشه وسارتر وآرتو والإيغال في استثمار المديات التخيلية والملكات الدرامية المهارية وتدعيم طروحاته من خلال لغته الشعرية التي تبعث على الأسى والأمل بذات اللحظة التي يتلذذ فيها بحطام وخراب شخوصه وهي تفصح عن آمالها وآلامها ومرارتها وأحلامها داخل مفازات تلك اللوعة ومذابح الفجيعة وهو يفصح لنا عن رؤيته الفلسفية تلك ذات القوام الإبداعي المحاكاتي الممسرح، حين يذهب برأينا إلى الإفصاح عن مسلمة افتراضية مفادها، أن بإمكان الدراما باعتبارها "فعل نبيل تام" أن تتخذ لها أشكالاً قاسية مؤلمة مرئية وغير مرئية تغيب عنها سلطة الفرد، وسلطة الأفكار المؤدلجة والسلطة الإلهية، وربما سلطة الكاتب أيضا، لتفصح عن جل ما يجول في ذواتها المتحولة بفعل خارجي قاهر، إلى ذوات خربة محبطة منزوعة الإرادة التي جبلت بها فلاذ بها مطرود إلى أمكنة أكثر فسحة وإخصاب من ذات الحياة، فهيئ لها مناخاً درامياً ومكاناً وشكلاً متاحاً تعبيرياً أكثر رأفة وأكثر جمالاً وإمتاعاً والفضاء الأخصب لإقامة ذلك القداس البوحي، واعتلاء منصة ذلك المنبر المسرحي لإفصاحاته، وكان لاختياره القبر وقعا أكثر دهشة وسحراً، حيث شكل هذا المكان عند مطرود رواقاً أكثر ضوءا في ملاذاته الداخلية البوحية، لأنه أراد لشخوصه التنفيس عن رغباتهم وأحلامهم وآلامهم دون رقيب، لا من قلمه ابتدءا ولا من المتلقي، ولا من السلطات، ولا حتى من التأويلات الدينية.
وفي رأينا النقدي أن الذهاب إلى مشاعية هذا القصد الشكلي الترميمي في استثمار مناخ القبر، وصياغته كمهمة استدلالية، وقيمة فضائية، لم يكن جديداً ربما استخدمه الشعراء وكتاب القصة والرواية والمسرح، لكنهم لم يتناولوا هذا القصد الفلسفي الذي باعتقادنا هو مناخ غير متاح، إلا لمن أناخ برحله في ملاذات الإجادة الرؤيوية الدرامية الناهضة، التي تسكن داخل عقل مسرحي مجيد وتتلظى بنار لغته الشعرية المنداحة بهوس الرثاء الذي ينتظر الفجر عبر شخوصه، كما صاغ ملاحق مشاهدها الدرامية المبهرة، الكاتب المسرحي العراقي المبدع قاسم مطرود.
ومن أجل دعم وترصين ما ذهبنا إليه في إنشاء النظرة النقدية المتوخاة لملامح هذا النص "رثاء الفجر" علينا التعريج بشيء من الإيجاز على محاولة توغل النقد الموضوعي ابتدءا بالانفتاح على المرحلة الرومانسية التأسيسية للخطاب، ثم تنامي هذا الاتجاه من الناحية الجمالية والمعرفية لدى مارسيل بروست وجل المحاولات التي تلته التي ركزت على الوعي في تأمل علاقة الذات المنبهرة بكينونتها الآنوية العليا، مع الكون المحيط بها، وضمن التصورات المتخلية الزمكانية وداخل أيقونة تفاعل الأسباب والمسببات، داخل الملامح البيئية لتلك الدلاليتين الواقعيتين في حيز (الزمان – المكان) واعتنت أيما اعتناء بالتنظير لتلك النظرة الثاقبة في المعاينة الدقيقة، لدعم المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي Phenomenologi) والتي اشتغلت وفق انتظام مقام نقد وضع الجوهر (Essences) في الوجود الذي أطلقُ عليه أيضا مسمى "نقد الخيال" أو "نقد الوعي" الذي اهتم به، وجهد في أغناء ملامحه الأصلية وإبراز مظاهر مناهجه التأسيسية ومناطق توهجه النقدي غاستون باشلار الذي اهتم اهتماماً بالغاً بذات الدلالة المتوازنة التواقعية بـ (الفاعل) فقد وسع باشلار منهجياته تلك التي اشتغلت على هذه المواطن النصية الخطابية، لتشمل المعرفة العلمية، وتواصلها بين مدركات الوعي ومناخات ورؤى وملاذات اللاوعي بتداخلية مفرطة، مع أحلام اليقظة، وأزمة الخيال، والمديات المتعلقة بالتحليل النفسي، مع ظواهرية تحسس الصور، في مدى انطلاق الصورة داخل ماهيات ومناخات الوعي أولاً، واللاوعي ثانياً، للانتهاء أو الوصول لمعنى واحد، يستبق صيرورة الظاهرة ليؤسس لها إعلاناً لاحقاً، عبر مرحلة استقراء المنتج المخيلاتي التصويري في ذات الخطاب النصي والاشتغالات النقدية المحاذية له.
كما وركز الفرنسي جان بيير ريشار على عالم التخييل، لفهم الموضوع بشكل رمزي، بمعنى أنه يقوم بإحالة المعنى الأصيل إلى الـ لا معنى أو العكس، حسب قواعد التواصل التطبيقي لملازمة الاتجاه النقدي بالموضوع والقصدية الفاعلة في متن المعنى الحسي، ومجسات الخيال، ومن ثم لإيجاد علاقة واضحة بين الدال والمدلول في ظاهرة التخيل وضبط تلك المشروعية الغائصة في بون اللغة الطبيعية اللامتناهية، والإيضاح الملزم بين الجدولة القصدية الواعية، وبين ذات الموضوع أو الخطاب النصي، والذي يعتبر أهم منصة من منصات تصنيفات المعنى، وصولاً لتوضيح شكل البنية العميقة للموضوع، وتنشيط السبيل الغرضي الجمالي القصدي في عملية نمو العلاقة داخل ملامح الخيال، ومن ثم هي في رأينا، محاولة لترميم علاقة الخيال بالمدركات الحسية وهنا علينا توضيح مهمة الجدوى من هذا الترابط بين الحس بالمعنى من جهة، وبين المعنى في متن الموضوع، من جهة أخرى، لنفضي إلى رحبة تكوين العلاقة المتماسكة إلى معنى المعنى وهذا التقصي الحقيقي الاستنباطي لـ الظاهراتية التي ستدلنا إلى معنى جدلي آخر تبوح به لنا بتوءدة تنظيرية تبدو هي مصدر الإشكالية الكبرى، في فهم هذا النمط من أنماط المناهج النقدية الحديثة، وهو معنى المعاني، الذي يقودنا بالخلاص النهائي إلى المعنى الذي تستخرجه أو تستنبطه عملية النقد من مجمل المعاني، لتعيدها تارة أخرى وبقصدية مشاعة لظاهرة النقد إلى كل المعاني، بمعنى استخلاصي موجز، أن جوهر المعنى يقود النقد إلى جل الاتجاهات، وبذات اللحظة القريبة من درجة صفاء النقد الموضوعي، والاتجاه يقودنا إلى كل المعاني داخل الخطاب النصي.
ولدى البحث والاستقصاء في المناخات الجمالية المعرفية داخل مناهج النقد الظاهراتي حيث وظف مجمل الماهيات والاتجاهات والإيعازات الجمالية المتلاحقة بالمواشجة المعرفية عند جماعة النقاد في مدرسة جنيف والتي ضمت تحت جنباتها التنظيرية أهم الأسماء النقدية أمثال مارسيل ريمون وجان روسيه وجورج بولي وقد خلصت هذه الجماعة في تحليلاتها معتبرة المنطق، هو مجمل الأعمال التدوينة بتصنيفها هي محض عالم خيالي يحتاج إلى منظومة استقرائية ثانية تعتمد على الأصالة، لأنها تجول بمصنفاتها المختلفة خارج العالم المعاش اليومي الذي يحسبه وفق الخيال الذي يسكن ذهن المدون أي الكاتب الذي هو بالأصل التشكيلة المعمارية لمخاض وعيه، من خلال التواجد الآني أو التجوالي في مهام الانشغال المعرفي البحت، بشاعريته وفضاء تأسيساته المُتخيلة.
ومن خلال هذا الفهم النقدي الذي ذهبنا إليه والذي يجيز للكاتب باعتباره التشكيلة المعمارية الأصيلة لمخاض وعيه الخاص، وهو بالتالي صاحب الامتياز في النفاذ من خلال خياله ومخيتله واعتبار أن المنطق لديه، هو محض خيال استدراكي توقعي لمهام التوصيل الاستدعائي للشخصيات ولثيمته النصية، ومحاولة إضفاء جملة من الاستدلالات الحالمة المتواشجة بقسوة عالية مؤلمة لإظهار ميزة ذلك التطهير والتحريض الآني عبر الخطاب المسرحي.
لذا وفي رأينا إن مطرود قد استدعى جل مخاصبه التخيلية التدوينية في تأسيس هذا الفضاء التدويني الدرامي والفلسفي الذي جهدنا في استقراءه في المنهج الباشرلي في قصديته الفاعلة في تأسيس متن المعنى الحسي، ومجسات الخيال، ومن ثم لإيجاد علاقة واضحة بين شكل المشهد والبناء الدرامي، وبين فلسفة القصد الثيمي في ظاهرة التخيل، وتطوير منهجياته تلك التي اشتغلت على هذه المواطن النصية الخطابية، لتشمل المعرفة الدرامية والفلسفية المسبقة وتواصلها بين مدركات الوعي ومناخات ورؤى وملاذات اللاوعي بتداخلية رحبة، مع محاولة إجهاض أحلام اليقظة المؤجلة لدى شخوصه داخل القبر في نصه "رثاء الفجر" وترميم معمارية أزمة الخيال، والمديات المتعلقة بالتحليل النفسي، مع ظواهرية تحسس الصور، وفي مدى انطلاق الصورة في محتضن شكل المشهد المسرحي وبمهارته في استخدام الدال والمدلول داخل لغة النص وخارجها.
وعبر هذا التأسيس النقدي نجد إن مطرود قد قام بإفساح الفرصة لذهنه التخييلي المسرحي الخصب في تأثيث ثيمة نصه المتقد الذي استقى حبكته من خلال اندياح انثيالاته في تأكيد واقعة تنشيط الوعي الحاضر واللاوعي الحاضر، داخل مناشط فضاءاته المأساوية، باشتراط فلسفي آخر يؤدي إلى استحضار الوعي الغائب واللاوعي الغائب إزاء تراتيب معالجاته الدرامية في نصه "رثاء الفجر" الذي اجتاز فيه بمهارة فائقة كل تلك المراحل المضنية في تأسيس نص مسرحي منصف، يروي ثيمته من خلال المجد الأكبر للبشرية القبر الذي استحضر مطرود شخصياته من خلال سديمه الذي رأيته شخصيا سديماً جميلاً مغلفاً بالإبهار الصوري المرئي المُتخيل عبر النص، أو عبر شاعرية لغته الناهضة، معتبراً إياه نصاً يُرثي جل المآسي الإنسانية الفائتة، وبذات الوقت الذي اعتبره مطرود الملاذ والمنصة الأكبر للبوح الإنساني المأساوي، الذي لا يحاذيه أي رقيب، من أي نوع كان.
- الزوجة: أين تطوف روحه الطيبة الآن.
- الزوج: يتفقد أصحابه ممن شاركوه الحياة، أحدهم مات بعد موته بعام لكنه بقي في أرض الحرام حتى تفسخ جسده...
يا للمأساة.. فالجسد البشري المتفسخ بقي في أرض الحرام!!
إذن لا سلطة رقابية على البوح وقول الحقيقة غير سلطة ضمير ذات الشخصية، وأن فكرة الاستماع لصوت البوح القادم من أعماق القبر النائية القصية وعلى لسان أجساد نخرتها المأساة وخرابات الحروب وهي حية تعيش على وجه الأرض، وفطرت قلوبها ذات المأساة وهي عظام نخره، يلتحفها قبر مغلفا بالألم والقسوة والحب والانتظار، ليحقق مطرود من خلال هذا الفضاء المسرحي الملحمي تلك المعادلة الناهضة التي تستدعي برأينا أن نقف ملياً أولاً في حضرة (الموتى – الأحياء) منصتين لأنينهم وآلامهم وربما لغبطتهم، وان نجعلها ثانية، وصية استقرائية تحريضية يومية، لكي لا نسمح لأحدٍ في هذا الوجود أن يسرق من مخيلتنا الإنسانية الأخاذه أحلامنا المؤجلة البتة، حتى لا نبقى مجرد كينونات (حية - ميتة) تتحرك بلوعة متوجسة داخل قبرنا الرحب الكبير الحياة ذاتها، ولكي لا تعاد الكرة علينا ثانية لنعيش حياة شخصيات مطرود في نصه المسرحي المحكم "رثاء الفجر" ونحكي لأجيالنا القادمة ملهاة مأساتنا ومراثينا الفائتة من خلال القبور.
- الزوج: لنختفِ سيقتحمنا ضوء الصباح.
- الزوجة: (وهي تدخل القبر) سيلفنا العيد الصبح.
- الزوج: (وهو يدخل القبر أيضاً) ونكون معا نوراً أبدياً.
- الزوجة: (وقد اختفت) أسمع أصوات.
- الزوج: (وقد اختفى) هل تسمعين صوتي في باطن الأرض.
ترى هل من أحدٍ هناك سيسمع أصواتنا التي اختفت للتو مع إسدال الستار على تلك "المأساة المطرودية" القاسية ونحن نغوص داخل قبورنا التي سننشئها بأيدينا مستقبلاً، محاولين أن ننسج ذلك الفضاء القاتم من رحم ذات الفجيعة، لكننا حينما نكون منتظرين فجر صباح يوم جديد يطل على هول مأساتانا ونحن داخل قبورنا، سوف لن نجد كاتباً مسرحياً كـ قاسم مطرود لكي يدون لنا ثيمتها الفلسفية العالية ويحكم بنائها الدرامي المبهر، بمثل هذه الشاعرية الناهضة، ويُصيغ لنا حبكتها بمثل هذه المَلكة المسرحية الفائقة.
كاتب وناقد مسرحي
saadiabdalkareem@yahoo.com