(إلى سعيد يقطين ومحمد معتصم)
"إن الطيور التي لم أر من قبل
هي التي سحرتني على الدوام"
رسول حمزاتوف
يجوز لنا، منذ الوهلة الأولى، إذا ما كنا من الأنصار اﻷشاوس للتحليل البراغماتي المتحصن خلف الزجاج السميك للدقة والموضوعية والقابلية للقياس، أن نغلق بإحكام باب النقاش بصدد سؤال مستقبل القصة بصفتها جنساً أدبياً، بذريعة عدم حيازتنا لصلاحية أو شرعية الحديث عن موضوع استشرافي وغفل كهذا يصعب فيه إرشاد التأويل إلى كماله، ويستعصي فيه على المعنى الاستحواذ على ضلالة الشكل، في ظل الغياب الفادح لعلم مستقبل الأدب عن مرجعياتنا الثقافية وأسانيدنا الفكرية.
إذ سنغدو كمن يبسط يده في عتمة مطبقة لا يدري على ماذا سيقبض أو مثل من يحاول بتحديقة عوليس أن يكتشف قارة سادسة لم تسطرها الخرائط بعد. وبالتأكيد، لن يمتلك، عندئذ، هذا الحديث أدنى صلابة نظرية أو وجاهة معرفية عند محاولة تمحيص واستقراء اﻹستخطاطات والمآلات والحدوس واﻷداءات البعدية، سواء في منحاها الأفقي/ الداخلي الذي له ارتباط وطيد بالقواعد الفنية للجنس الأدبي، أم في منحاها العمودي/ الخارجي الذي يقرن بين الجنس الأدبي والشرائط البرانيّة لإنتاجه ضمن سياقات التاريخ الاجتماعي للأدب.
فهل يجدر بنا تصحيف الراهن ليصير مضارعاً، الثناء على المجهول الذي لا اقتدار للعقل على توليد معلومه، الاستنجاد ببراعة الممكنات المستورة في خيال المصادفات، أو الذهاب بلا اتفاق مع المواعيد المضبوطة للأقدار؟
وهل تجدي مهارات الكهانة والعرافة والفراسة والرؤيا والنبوءة والتنبؤ والحلم والتخمين واليوتوبيا والرجم بالغيب في مقام مخاتل من هذا الطراز نجازف بأن نظفر منه إلا بما تمسكه الغرابيل من الماء؟
لكن، وحتى لا تتحول هذه الذريعة إلى عائق موجب للصمت، يمكن توسلاً بقاعدة استخلاص اللامتعين على هدى مقادير المتعين، أن نتقدم خطوات ضمنية في الرمال المتحركة لهذا النقاش بالقول بأن مستقبل القصة كامن في حاضرها. على اعتبار أن حاضر هذا الجنس الأدبي هو الزمن الذي انتهى إليه ماضي منجزه، وسوف ينطلق منه مستقبل ما سيكون عليه. فإذا كان الأمس هو خطأ اليوم، فإن اليوم هو بلا غرو كفارة الغد. والآني كان على الدوام مدخلاً رئيساً لاستبصار المقبل.
وبصدد هذا الآني، يمكن التصريح بأن كل شيء يوحي بأن ثمة موتاً مبرمجاً للقصة. وﺇليكم القرائن التالية التي تحتمل الصواب كما قد تستتبع الخطأ:
أولاً: ضعف طرائق الحكامة والتدبير القصصيين، التي أدت على امتداد عقود من الشتات والعشوائية والارتجال إلى غياب التنمية المستدامة لهذا الجنس الأدبي. والعين الحصيفة لن تخطئ من دون ريب ما تتخبط فيه مؤسسة القصة من الناحيتين الهيكلية واللوجستيكية الصرفين على صعد الإطارات والملتقيات والإصدارات والمواكبة النقدية والبحث الأكاديمي و سياسة الترجمة والمسابقات والمجلات المحكمة ذات الاختصاص. ولعل هذا التخبط يمكن عده ﺃحد الأسباب الجوهرية لانتفاء الإخلاص والتلاشي الروحي لعقيدة القصة لدى معتنقيها، وهجرتهم الجماعية صوب أجناس أدبية أخرى من أبرزها الرواية. وهكذا توزعت دماء القصة بين قبائل إمبراطورية الأجناس الأدبية.
ثانياً: استنكاف مؤسسات القرار بمختلف تلاوينها عن تبني القصة كخيار ثقافي وطني في السياسة والتربية والإعلام، وكذا الانحسار المؤلم والاندحار المظفر لجماهيرية جنس القصة ضمن محفل التلقي الواسع في الشارع والمدرسة والجامعة. فاليوم، لا ﺃحد يقرﺃ القصة أو يكثرت بها. فقط القصاصون يقرﺃون لبعضهم البعض لمقاومة هذا الزحف الرهيب والمطرد والكثيف للصمت واللامعنى، الذي يطال الجنس ويهدد في نهاية المطاف بوصول التصحر الشامل إلى بيت القصة. وبيت القصة لا رب ليحميه.
ثالثاً: ضحالة وضآلة المساهمة العربية في السلم القيمي لمنجز القصة الكونية على مستوى التقنيات القابلة للاحتذاء والنظائر العليا للكتابة ضمن ﺃحيزة هذا الجنس. الشيء الذي يسوغ لربما لماذا نحن خارج الحركية التاريخية للقصة التي تغير مواطنها ومواقعها وطبائعها جغرافياً كل ردح من زمن؟
لماذا لم نضع بعد الحجر الأساس لمدرسة قصصية عربية قائمة الذات والصفات ذات جماليات نوعية خاصة بها؟
لماذا لا نتوفر على قاص عالمي واحد على الرغم من وجود كتاب كبار لهذا الجنس الأدبي، وقلة نصوص القصة العربية التي ترد بين تضاعيف المختارات واﻷنطولوجيات التي تطلقها في سماء النشر الدور الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية وآسيا؟
رابعاً: الحداثة القصصية العربية الفصامية، الموزعة بين فكي جدليتي النكوص والأصالة والتقدم والمعاصرة، والتي غالباً ما ترجح فيها كفة حملة لواء "استعدوا ". الشيء الذي أفضى إلى الهيمنة الكاسحة لصنف من اﻷصولية! فالماضي قادم بالقصصية ذات الطابع السلطوي، اليقيني، الطهراني، المحافظ، والماضوي، التي تتصدي لأية اقتصاديات نصية جديدة أو لأدنى محاولة لتحسين جودة النسل القصصي
(ولنا في القصة القصيرة جداً والقصة الرقمية على سبيل المثال أسوة حسنة). الغالبية تمجد القاعدة والحس المشترك والنموذج وتكرار المتماثل. المحدث والتجريبي والمختلف الذي يروم ﺇعمار الأراضي الفارغة للقصة يعتبر نشاراً وصلفاً وتمييعاً ويتعرض فوراً للوم والتقريع والبطش الرمزي من لدن الحرس العتيق لمعبد القصة. الكل يعيد صياغة نفس نمط الإنتاج القصصي المؤسس على الحكاية الخطية التي ما هي في العمق إلا أطروحة ﺃدلوجية مغلقة وتشميلية تتطلب الإجماع والتجمع. الذرائعيون يدعون الجميع للامتثال لمقتضيات دفتر تحملات الجنس الأدبي. ومتممو مكارم أخلاق القصص ومقاصدها يرفضون رفضاً باتاً كسر قيود الوعي السردي السائد وإحلال ذوق بديل للذوق الجماعي المهيمن.
خامساً: طموح جنس القصة نفسه في أن يكون فردياً ومتواضعاً ومهمشاً ومغموراً بضراوة. ليس لديه أدنى توق لتأسيس مجتمع للقصة أو التحول إلى مؤسسة أدبية مكتملة ذات لوائح مضبوطة ومحددة. يريد أن يحوز وضعاً نخبوياً أو ﺃرستقراطياً وفي الآن ذاته أن يبقى على الدوام صنفاً انقلابياً من المحكيات. هذا دون أن نغفل الفلسفة المؤطرة لهذا الطموح، أي فلسفة القاص الذي ينظر إلى نفسه باعتباره كاتباً لاشرعياً، بلا سيادة، ينتمي إلى الأقلية المقصية، ومجللاً باستمرار برمزية المنفى القصي. فإذا كان الروائي مقاولاً رأسمالياً يطمح لبناء صروح عظيمة، والشاعر حالماً نرجسياً يتطلع لأن يصير نجمة مضيئة في قبة السماء، فان أقصى طموح القاص لا يتجاوز الرغبة في أن يكون بستانياً يسقي الأصص قطرة فقطرة ولأن يحتجز العالم ذات محاولة في ذرة تراب واحدة.
طبعاً، وكي نخرج سريعاً من سياق التبرير إلى سياق الكشف، من الموائم القول بأن هذا التشخيص السوداوي إلى حد بعيد لواقع القصة في ديارنا، ليس نوعاً من الولع المازوشي بسلخ الذات أو ترويجاً مجانياً لخطاب الميتات والنهايات والأفول، الذي شهد ضمن السياق العولمي تداولاً واسعاً منذ مطلع الألفية الثالثة، وإنما فحسب إشارة بأصابع مستقيمة جداً إلى مكامن الخلل التي تهدد مصير القصة وتشكل عقبة كؤود بين هذا الجنس الأدبي النبيل وطفرته المأمولة. الطفرة ذاتها، التي يمكن أن نراهن على حدوثها في القادم من الأيام إذا ما تخطينا المكامن الملمع إليها سالفاً، وكذا إذا ما واظبنا على الاستثمار في المستقبل عن طريق الزج بمنظومة القصة ككل ضمن "مغامرة اللايقين" بمعناها البودرياري، التي سيكون المقصد والمناط منها مزدوجاً:
أولاً: السعي الدؤوب لإحداث تعديلات وراثية جذرية على جينوم الجنس الأدبي خدمة للتطور السلالي للقصة عن طريق تبني التجريب كخيار جمالي وﺃنطولوجي في الإبداع والتخييل، وتطبيق سياسة التخصيب والحدود اﻷجناسية المفتوحة، والتمرد على عروض القصة الذي ينضبط لقواعد السماع والقياس السرديين. فمن يمّم، اليوم، وجهه شطر القصة بتوقعات سابقة وبأنماط راسخة، لن يعثر على ذاته، بل سيصاب بخيبات وخذلانات متعاقبة، لأن ما كان المثال والقدوة والدرس الذي لا يأتيه الباطل، فقد مبررات هيمنته وأضحى مقترحا بين وفرة من المقترحات التي لاتني عن إلغاء وتفكيك خطاباتها وتصوراتها وتخريجاتها.
ثانياً: تحويل القصة إلى مجال حيوي لكتابة دقيقة يمكن أن تخضع لمقاييس "الباراديم" كما هو شأن النماذج العلمية. وهي دعوة للرفع من الكفاءة التقنوية لمنتج القصص وللاشتغال الموضعي المركز على الأجزاء الصغرى للسرد، لأنه لم يعد مسموحاً أن يزاول القاص حرفته دون فقه للقصة يتمتع بالحد اﻷدني للانضباطية الفكرية والنظرية العالية، التي تجافي أي ارتهان للفطرة أو الاعتباطية أو العفوية.
وختاماً، اسمحوا لي كي أتنصل مما اقترفته في حقكم من ذنوب شاهقة للنصيحة وجرائر غير محمودة للتنطع. وهما معاً يصبان في صلب المعيار، سوى أن ﺃستغفر بالمقتبسة التالية للكاتب الغواتيمالي ﺃغوسطو مونطروسو: "لا ﺃحد يعرف كيف يجب أن تكتب القصة. إن الكاتب الذي يعرف ذلك هو قصاص سيء بالتأكيد".
)نص الشهادة التي أعدها الكاتب لأشغال ملتقى عمان للقصة العربية الذي احتضنه مركز الحسين الثقافي في الفترة الممتدة بين 8 و13 غشت 2009(