مسارات الكتابة الروائية في تجربة عزت القمحاوي
ورشة الكاتب داخل فضاء ثقافي محاط بالكتب ووسط جمهور من المثقفين عموما ومن قراء وأصدقاء الرواية بكل تجاربها ولغاتها خصوصا.. انطلقت أشغال اللقاء الثقافي الذي نظمه مختبر السرديات بالتنسيق مع نادي القلم المغربي والجمعية البيضاوية للكتبيين يوم 24 مارس 2007 في محور (ورشة الكاتب: قراءات في سرود عزت القمحاوي). حيث افتتح شريشي لمعاشي (باحث ورئيس نادي القلم المغربي) هذا اللقاء بمدخل عن التنوع الفني في الرواية العربية وان النقد من مهامه متابعة التجارب المجددة والواعدة. ويجئ هذا اللقاء بعد لقاءات حول تجارب روائية مغربيةK والرغبة في مقاربة تجارب عربية ذات تميز. لهذا فإن أي تصور لمنجز المبدع عزت القمحاوي القصصي والروائي ـ يضيف الشريشي ـ يجعلنا نقف على تجربة موسومة بالفرادة والخصوصية، سواء على مستوى التفكير في الصيغة، أو المادة المراد ترجمتها تخييلا إلى نص إبداعي قائم الذات. إن القمحاوي يعمل على التقاط الحالة، وبالتالي استجلاء نفسية الفاعلين، في نزوع إلى التكثيف، حيث المعنى المصاغ والمنتج، تجلوه وتعكسه الصورة المفارقة بين أكثر من حالة واحدة .. على أن مرجعيته الأساس، وليدة انشغاله بالصحافة الثقافية، حيث دقة المتابعة، إلى قوة العلاقات الثقافية والتجارب العالمية الثرية بآفاقها الرحبة. وختم تقديمه بالتأكيدعلى أن هذا اللقاء يروم من بين ما يروم التعرف على تجربة عزت القمحاوي وقراءة آثارها قراءة نقدية موضوعية تهدف الإحاطة بها من جانب وتقديمها للقارئ المغربي والعربي على السواء.ثم أعطى الكلمة ليوسف بورة لينتقل الى المداخلات. بنيات الصدى والتخييل ورقة شعيب حليفي جاءت بعنوان ( تخييل الصدى في مدينة اللذة) مهد لها بالحديث عن أهمية التجارب الروائية الجديدة في القطر المصري، مذكرا ببعض من أسمائها... خيري عبد الجواد، يوسف أبو رية، منتصر القفاش، منصورة عز الدين، سعد القرش وعزت القمحاوي... وغيرهم. وما يميزخصوصيات هذه التجارب المسنودة بوعيها الروائي والثقافي وكذلك المنجز السردي المصري بكل تياراته ونسيجه المتنوع، مما يسمح لهذه التجارب أن تساهم في خلق مسارات أخرى وتحققات جديدة في الرواية المصرية والعربية عموما. ثم انتقل شعيب بعد ذلك إلى الحديث عن تجربة عزت القمحاوي من خلال روايته الأولى (مدينة اللذة ) والصادرة سنة1997. متحدثا عنها باعتبارها نصا يعكس وعيا فنيا ورؤية ثقافية مرتبطة بالنسق العام الذي ينتج أهم ملامح هذه الثقاف. خصوصا في تشكل مفاهيم تتعلق بالتخييل الروائي وبالوعي اللغوي والذات والتاريخ والمجتمع. في تحليله للرواية قارب الباحث ثلاثة عناصر اعتبرها محركة لدينامية الحكي في هذا النص..وهي الأثر والحكاية والصدى..أو ما اسماه بالتصدية. بخصوص المحور الأول : الأثر أشار الى تأثير النفس القصصي والتجريب في هذا النص مع الوعي بكتابة رواية لا تنتمي للروايات السابقة وإنما تبحث عن مشروعها الخاص. وألمح أيضا إلى كون (مدينة اللذة) كتبت كما لو أنها طرس تعددت بداخله كتابات متعددة المصادر والمرجعيات وامحت فلم تترك غير آثار وملامح وعي سردي بالتراثي والديني والعجائبي والأسطوري..كل ذلك تؤطره رؤية جمالية متنامية. في المحور الثاني قارب الباحث الحكاية في دلالاتها الظاهرة بدءا من الصيغة وبناء الحكي على ضمير المخاطب في السرد والوصف والتعليق..مقترحا أن البناء على المخاطب، بما له من دلالات مرآوية، فان إمكانات الانفتاح على ضمائر أخرى قد يجعلها مشروعا دائما لرواية متجددة..غير مكتملة أو مغلقة. وفي نفس المحور قارب بنية الحكاية من خلال بناء المتاهة فليست هناك حقيقة واحدة خصوصا وان الرواية هي حكي لحكايات حول إنشاء المدينة والقصر ومحكيات صغري تتعدد وترد بصياغات أخرى..وقد تمكن القمحاوي من إجادة اللعب في إخفاء الحقيقة المتعارف عليها في سبيل الإيهام بإيجاد حقائق أخرى( الفصل الأخير جاء ممثلا، بشكل متفوق، لهذا الأسلوب). في المحور الأخير من ورقة شعيب حليفي المتولد عن المحورين السابقين وهو تصدية الحكاية بالتأسيس لتناوبات بين خلق الوهم والمحتمل بديلا عن الحقائق أو البديهيات...كيف يمكن التفكير في رواية مدينة اللذة من هذا المنظور في كونها تحكي عن اللذة ومساراتها العجيبة في مدينة غريبة على غرار الليالي ومدينة النحاس وقصص الأنبياء - وان كان في سياق آخر وبأسلوب ووعي مختلفين- ليخلص الباحث الى ان الامر هو بحث عن الصدى المخالف لما يبدو أصلا وهو البعد التأويلي في قراءة الرواية باعتبارها احتجاجا على كبت عام وعلى أشكال العجز والزيف والصمت والفساد وتغييب الحقائق وختم الباحث نتائجه بتحليل فقرة بأبعادها الجمالية والايديولوجية. استهل الناقد صدوق نورالدين ورقته النقدية الموسومة ب : "بنية التجاور في غرفة ترى النيل" بالإشارة إلى كون التجربة الروائية ل " عزت القمحاوي " من التجارب التي لفتت إليها الاهتمام..و ذلك منذ إصداره روايته الأولى : "مدينة اللذة".. خاصة و أن القمحاوي يوازي بين كتابة الرواية و القصة القصيرة و المقالة الصحافية الثقافية. وانتقل بعد ذلك لاستكشاف بنية الرواية : "غرفة ترى النيل"، حيث رأى بأنها مقسمة إلى فصول لا تحمل عناوين و مرقمة من : 1 و إلى 23. و يتميز النص: بالمكتوب بالخط المائل، و المشكل لوحدة حكائية مستقلة حيث هيمن ضمير المتكلم، و المقصود به الصحافي عيسى المريض بالسرطان، و الراقد في: "غرفة ترى النيل" و الحالم بكتاب رواية: "سأكتب كل هذا في رواية " ( ص / 93 ) علما بأن الغرفة، و هي مفارقة ساخرة و سوداء: "أبواب الشرفات مسنكرة في غرفة المرضى، هذه تعليمات أمان.." (ص / 53) والخط العادي، حيث هيمن ضمير الغائب، العائد على صديق عيسى: رفعت. و هو روائي "أنت روائي، أليس كذلك؟" (ص / 155) إن عيسى هو في الجوهر صورة عن رفعت. ذلك لأنهما ينتميان معا ل :" جبهة الصمود ".. و كلاهما يعاني من المرض، إلى كونه كاتبا و مثقفا.. إنه نوع من التمرئي الإبداعي. وأضاف، بأن الوحدتين هما الرواية..و بالتالي تشكلان بنية تجاور وتفاعل..بنية تثور من خلالها أسئلة الكتابة و الإبداع و اللغة و المرجعية: "من يكتب بعد هؤلاء يكتب فقط بما يملك من صفاقة.." (ص / 50 )- " ليست الكتابة فقط ما تصنع هذه المفاجآت، الحياة أيضا تفعلها.." (ص / 120) - و دعا صدوق نورالدين إلى تأمل هذا التعليق بعد قراءة : " مائة عام من العزلة ": "لقد أنهى الموضوع، أنهى الموضوع تماما، و لكن لن تكتبوا بعد يا أولاد الهرمة إن كان عندكم شيء من الحياء " ( ص / 122 ) ف "غرفة ترى النيل" كتابة انتقادية في جانب للحياة الاجتماعية، ليس كخلفية مقصودة، , وإنما المقصود كتابة الإنساني في محنته: "ـ لابد أن هناك موكبا من تلك التي تسمم حياتنا كل يوم." (ص / 35) " تذكر رفعت ما قرأه أمس في صحيفة معارضة عن احتجاجات الفلاحين ملاك جزيرة الذهب على محاولة الحكومة نزع ملكيات أراضيهم لإقامة مشروعات سياحية عليها، كما قرأ وصف وزير الإسكان لاحتجاجاتهم بأنه بلطجة.." (ص / 36) واللافت أن الرواية تنفتح على اليوميات التي تجلو صورة عن الكتابة الذاتية و التي نتعرف من خلالها على جوانب معتمة في بنية الرواية بخصوص حياة " عيسى ".. و خلص الناقد صدوق نورالدين في الختم إلى الإشارة بأن الرواية : 1 / تعمل على كتابة الإنساني بما هو المر ض و المعاناة و الموت.. 2 / إثارة أسئلة الكتابة من داخل الكتابة.. 3 / النزوع إلى التكثيف القوي و الاقتصار على قول ما يجدر قوله فقط.. 4 / التمثل القوي للمرجعيات الإبداعية العالمية.. 5 / و هي بالتالي الرواية الساخرة من السائد و المتداول، و المنتقدة له. بالنسبة للمداخلة الأخيرة لبوشعيب الساوري (ابتهاج الجسد واحتفاؤه في مجموعة مواقيت البهجة) فقد انطلقت من عنوان المجموعة مواقيت البهجة، باعتباره يتضمن محتوى تمثيليا يقرب من عوالم النص ويثير الإدهاش. مع التأكيد على كونه يجمع بين كلمتين شبه متباعدتين سياقيا وتداوليا؛ فالمواقيت تتضمن حمولة دينية تعبدية. وتدل كلمة البهجة على الجمال والنضارة وتحيل على معاني الابتهاج والسرور الذي يعتري الروح، قد نعتقد للوهلة الأولى أن الأمر بمواقيت لبهجة الروح، لكن القراءة تؤكد لما أن البهجة مرتبطة بالجسد. وتبعا لذلك انزاح القاص بمكوني العنوان عن دلالتهما المتداولة، لتصير المواقيت بحمولتها الدينية الطقوسية مرتبطة بالجسد المبتهج المنفعل بجسد آخر. يتعلق الأمر بمواقيت لابتهاج الجسد واستمتاعه وانفعاله. ويتجلى ذلك نصيا من خلال هيمنة الانفعالات وردود الأفعال بدل الفعل على شخصيات المجموعة، مع تغييب كلي لما هو روحي أو عقلي مقابل إفساح المجال للجسد المبتهج المستمتع من خلال لحظات منفلتة يحاول القاص التقاطها والإمساك بها عبر القص وبلغة قصصية ينسجها الجسد. ثم بعد ذلك انتقل الباحث إلى نقطة أخرى وهي أن كينونة شخصيات المجموعة تتحقق عبر الجسد، فكل الأحاسيس والمشاعر تنقل عبره،. كما يحضر الجسد في مجموعة مواقيت البهجة بكل جزئياته(العين، اليد، الساق، الذراع، الشفة...). وهو ما يؤكد احتفاء المجموعة بالجسد وبكل أعضائه، وخصوصا الجوارح المرتبطة بالحواس التي تعد معابر للذة الحسية والجسدية، وبالأخص الوجه، لتتحول هذه الأعضاء إلى شخصيات فاعلة داخل النصوص القصصية للمجموعة. أكثر من ذلك يتوج هذا الاحتفاء في أ ن ينسج الجسد لغته الخاصة، انطلاقا من إمكاناته الخاصة.. إنها لغة الإيماءات والإشارات المثيرة أحيانا. وأكد الباحث على أن عزت القمحاوي يحقق في مجموعته مواقيت البهجة وجود الجسد وفعله من خلال استخدام الشخصيات لجسدها كوسيلة لإيصال ونقل المشاعر والأحاسيس، يتعلق الأمر بلغة تتجاوز اللغة الطبيعية وتزيحها، بل تعطلها، وتصبح دون جدوى، وتتفوق عليها في التعبير والتواصل بين شخصيات المجموعة، وتغدو بديلا عنها. كما أشار الباحث الساوري في نقطة أخرى إلى حضور الصور التخييلية كالحلم والاستعارة مع هيمنة لفعل التمثيل الذي يطلع بعدة أدوار داخل المجموعة، وقد لخصها في ثلاث نقط: - إبراز قوة التأثير التي تمارس على الجسد من قبل جسد آخر. - تحويل أعضاء الجسد إلى شخصيات فاعلة، - تشذير النص وتحويله إلى طبقات نصية. وفي الختام انتهى بوشعيب الساوري إلى خلاصة "أن الجسد هو مدار القص في مجموعة عزت القمحاوي، ولكن الجسد المستمتع، المبتهج، المحتفى به، سواء على المستوى الكلي أو بأعضائه مجزأة، والذي يغدو بطلا فاعلا ينسج لغته الخاصة التي تزيح اللغة الطبيعية وتلغيها، لغة قوامها الإمكانات الطبيعية للجسد، لغة تشخص وتقول الفرح والابتهاج." في مديح اللعب في ختام هذا اللقاء قرأ عبد اللطيف محفوظ شهادة الكاتب عزت القمحاوي مبديا قبل ذلك مجموعة من الملاحظات حولها باعتبارها خطابا مقدماتيا للوعي السردي عند عزت: شهادة القمحاوي: في البداية أشكر من ابتدعوا فكرة هذه الورشة النقدية، وأشكركم على تشريفي بوضع أعمالي في ميزانكم اليوم. وأشكركم ثالثاً لأنكم تعملون عملكم من دون وجود الكاتب. وهذا الوضع ـ علاوة على أنه يناسبني تماماً، حيث أخشى الحديث في جمع خشية الجبناء للقتال المتلاحم ـ يحقق للنقد احترامه بوصفه عملاً مستقلاُ، ويرتفع به فوق مفهوم "الحفلة" أو المناسبة الاجتماعية. وبعد الشكر تأتي الحيرة، حيرة حقيقية من حالي وحال من يقدمون على هذا العمل، الذي نعرف أنه أوقع في صفوف البشرية من الضحايا أكثر مما أوقعت الحروب، فالإخفاق فيه كله ألم، والنجاح معظمه ألم كذلك. لماذا نكتب؟ وكيف نكتب؟ لا أحد يعرف، لكن بوسع كل كاتب أن يقدم حدسه الخاص، وبإمكانه ألا يفعل على الإطلاق؛ فالكتابة كالحب، سر غامض. وكما يستطيع العشاق أن ينخرطوا في تجاربهم من دون الحاجة إلى تأمل إن كانوا يكررون ما سبق أن عاشه غيرهم أم لا، يستطيع الكاتب أن يتغاضى عن تقديم إجابته الخاصة للغز: ما الكتابة؟ السؤال صعب. والقراء لا يقدمون العون؛ فعبر تاريخ الكتابة عرفت كل الآداب تقريبا كيف تتشكك في أصالة الكتب الأكثر مبيعا التي لا تلبث أن تخلد مع كُتَّابها إلى النسيان.. الكتابة العربية ليست استثناء في هذا الأمر، وقد تكفل عقدان ـ لا يمثلان شيئاً في التاريخ ـ بطمس أسماء كانت الأكثر مبيعاً خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. لكن الوضع اختلف اليوم، حيث تشترك الكتب الجيدة مع الرديئة في قلة التوزيع. ولا أعرف إن كان هذا بالأمر السيئ أم الحسن، فقد جعلت ظاهرة "موت القاريء " الكاتب أكثر حرية ولكنه أصبح أكثر مسئولية أيضا، لأن عليه أن يجد طريقه في الظلام التام، ليس هذا فقط، بل عليه أن يتفادى العمى الذي يمكن أن تسببه أضواء النقد القادمة من الاتجاه المعاكس. ولا يمكن لنا إلا أن نستشعر نوعا من الريبة تجاه كثرة من الكتابات النقدية تحاول أن تشد الكتابة بعيدا عن الكتابة؛ إذ تقفز على جماليات الإبداع وتصنع منه بديلا لنشرة الأخبار، عندما تتخذ من حجم المعلومات التي تتضمنها رواية أو مجموعة قصصية عن مكان معين أو جماعة بشرية معينة معيارا للجودة. في إحدى ليالي الأرق وجدتني العب هذه اللعبة: استخدمت محرك البحث google باحثا على شبكة الإنترنت عن الفعل والفاعل: "تكشف الرواية" فأعطاني 1880 نتيجة، و"تفضح الرواية" 215 نتيجة وكان من الطبيعي في مجتمع محتشم أن تكون نتيجة "تُعري الرواية" 62 نتيجة، بينما وضعت كلمة "المهمشين" أمامي 838 نتيجة! ولنا أن نتخيل كم الكتابات النقدية التي تحتفي بـ "الكشف" و"التعرية" و"الفضح" إذا ما وضعنا في اعتبارنا حداثة شبكة الانترنت وعدم اتصال محرك البحث بنصف قرن من الكتابة النقدية قبل الإنترنت وبالكثير من الكتابات التي تصدر إلى اليوم في كتب أو دوريات لا تمتلك مواقع إلكترونية أو ما يكتب خصيصا من أجل الندوات! حتما الكتابة في مكان آخر، لأن إلقاء الضوء على حياة مجموعة بشرية أو كشف ممارسات اجتماعية أو سياسية أمر يقوم به التحقيق الصحفي بشكل أفضل مما تستطيع رواية، بينما يستطيع التحقيق التليفزيوني أن يقدم ذلك موثقا بالصوت والصورة. ولا يمكننا أن نتهم بسهولة النقد بمعاداة الكتابة، ولكن "النقد الصديق" مثل " النيران الصديقة" في الحروب، بوسعه أن يوقع القتلى في صفوف الحلفاء. هل يمكن أن نتلمس العون لدى الكتاب المجيدين؟ ربما يهتدي الكاتب إلى نوع من الحدس الخاص، من خلال محاولة البحث عن أسباب البقاء في المبُدَعات الإنسانية الكبرى: ألف ليلة وليلة، دون كيشوت، البحث عن الزمن المفقود، الأخوة كرامازوف، مائة عام من العزلة، الطبل الصفيح وغيرها. مع ذلك يبقى الكاتب محكوما بقدره الخاص. ولا تضمن مراقبة كل الكتابات الجيدة إنقاذ من قرر منذ البداية أن يكتب بشكل سيء، مثلما لا يمنع وجود أعداد كبيرة من الأولياء والقديسين ميلاد مذنبين جدداً. ما الكتابة؟ يؤرقني السؤال كلما تذكرت بإشفاق ـ مثل دكتاتور طيب ـ سجنائي؛ أنصاف روايات وقصص قصيرة مكتملة لا أعرف سر التحول الذي أفسد علاقتي بكل منها، وأوصلنا إلى هذا الشقاق. ومن دون التوصل إلى إجابة ستبقى أبواب زنازيني مواربة، ليس للإفراج عن المسجونين السابقين، بل لاستقبال النزلاء الجدد، فكثيرا ما أجد نفسي في مرحلة ما من الكتابة مدفوعا إلى التوقف والانصراف عن عمل بدأته، من غير أن أملك القدرة على القتل تمزيقا وحذفاً، فالجأ إلى الحل الوسط: أتركه سجينا في ذاكرة الكمبيوتر، على أمل إما أن يتهذب وينصلح فأستكمله، وإما أن تتدمر ذاكرة الكمبيوتر فيموت في حادث عارض بلا أدنى مسئولية مني. هكذا صار عندي عدد كبير من المحاولات السرية وخمس علنية، لماذا أفلتت هذه الخمس؟ هل كانت هذه المحاولات الناجية محظوظة لأنها وجدت من عطف الأصدقاء الذين أجازوا مخطوطاتها ما جعلها تنجو من مصير التجارب الأخرى؟ ربما، لكن عطف الأصدقاء ـ رغم أنني أعول عليه كثيرا ـ لا يأتي إلا عندما أستنفد كل جهودي وأسير باتجاههم بمخطوط كامل ليقرأوا ويضعوا بأنفسهم حداً لمخاوفي فيصدر الكتاب. مع ذلك، ما من ضمانة على أن المنشور هو الأكمل، مثلما لا يضمن أي دكتاتور أن يكون بعضا من أقرب ندمائه أشد خطراً عليه من أشرس مسجونيه. وهكذا، يزداد اللغز صعوبة يوماً بعد يوم، ويتضاعف شكي في جدوى ما أفعل، ولكنني وجدت أخيرا طريقة للتوازن: إن معرفة أوديب لحل اللغز لم تنقذه من المصير المحتوم! لتبق الكتابة سرا، ولكن بوسعي أن أتلمس خيطها الهش والرفيع، كما في الحب، من سعادتي الشخصية.. أتأمل محاولاتي في الكتابة، واكتشف أن سعادتي تتجلى في روح اللعب. وأن هذه الروح كانت منذ البداية ـ من غير أن أدرك ـ القيمة العليا والشرط الوحيد الذي يحدد نوع ما أكتبه رواية أو قصة أو نصا، وهي أيضا ما يحدد إذا كنت سأصل بهذه المحاولة أو تلك إلى النهاية أم أتخلى عنها في منتصف الطريق و أحتفظ بها سراً من أسراري الشخصية. وأخيراً يسعدني أن أفشي إليكم سر الإفراج عن محاولة جديدة في نوع الرواية بعنوان "الحارس" دفعت بها إلى النشر مؤخراً.