الراوي في قصة القاص الليبي ومن خلال نظرة الطفلة التي يراها دائما ولا تفارقه، يرتحل في نصه الذي يريد كتابته أو الوصول إليه. وتعمقه في تلك النظرة تبعث فيه الكثير من الذكريات والرؤى في طبيعة الإنسان في مراحله العمرية المختلفة، كما تصير سندا له ورفيقة في رحلته على أرض الوقع في تايلاندا.

نـظــرة

محمد الأصفر

طفلة طازجة تنظر إلي بعمق، لا أفعل شيئا حيالها سوى مبادلتها النظرة بالمثل، عمر نظرتي تجاوز الخمسين عاما، عمر نظرتها عامان وربع فقط، من فمها يتقاطر الحليب واللعاب  والابتسامات والأحلام، من فمي تتقاطر الكلمات المعسولة المغسولة.. رغوة البيرة.. عواطف الحرباء.. الأحلام..  الصرخات.. الآهات. أحلامها ممكنة التحقق، أحلامي أشك أنها ستتحقق، الأحلام أمل كبير، أمل أصيل، نحلم وننتظر، لكننا لا ننتظر ونحلم أبدا، فالانتظار لا ينتج حلما  ولا يعني ذلك أن العُجالة تنتجه.

ها أنذا لا أنتظر، ها أنذا لا أحلم، ها هي الطفلة تحلم، وأحلامها تصعد إلي، تتحقق بسهولة، أحلامي تهبط إلى أسفل وشبه استحالة أن تتحقق، لن أغرس عشب الأحلام في تراب الزمن، سأغرسه في تراب السماء وأتقلب عليه، وأنام عليه، وأحلم أثناء نومي بأحلام عشوائية لا أختارها، هي التي تختار كائني لتمارس في سباته ألعابها الكابوسية، سأصحو بعد كل غفوة لأغتسل من عفن الأحلام وأنطلق راكضا إلى الشمس أو إلى القمر وإن لم أجدهما فلن أجد أمامي إلا هذه الطفلة التي تنظر إلي بعمق وأبادلها النظرة ذاتها وأشعر بالسعادة التي أصنعها بنفسي وألعب بها وأحطمها عند الملل منها، نظرتها العميقة غير مملة، إذن لن أمل منها ولن أحطمها وسأسعد بها أبدا.

الأطفال لا يتسببون في الملل لأحد، خيالهم متجدد، روحهم متجددة، يرتقون ولا يضمحلون، سأنظر إلى هذه الطفلة بكلي وعندما أشعر بالتعب ارتاح قليلا وأعود للنظر إليها، ستكون دائما أمامي حتى في الغياب، نظرتها العميقة صارت نقشا في ذاكرتي، نقشا مضيئا مشرقا بازغا بصورة طرية كفجر أو كأي شيء يجلب السرور إلى أنفسنا.

الكلمات التي سأكتبها عن الطفلة ستأتي جميلة بمذاق نفسي والتي عن نفسي أشك في جمالها رغم الجهد المدعوم ببعض الموهبة و الخبرة وأدوات الكتابة والأدب.

لكل زمن ظروفه، فالأحلام ثابتة، لكن فعل تحققها من عدمه هو المتغير، البكاء واحد لكن أسبابه متغيرة، الرغوة واحدة لكنها في اللبن تختلف عن البيرة وفي الشاي تختلف عن البحر، أقصد زبد البحر، الطفلة إنسان و أنا إنسان، لكن زمننا ـ على الرغم من أنه زمن واحد ـ متغير ومختلف، العمق واحد لكن منتجاته متغيرة ومختلفة، فالطفلة تنظر إلي بعمق وأنا أفعل أيضا، لكن ما يعتمل في رأسها بعد النظر يختلف عن ما يعتمل في رأسي.. لقد تصدع رأسي من الشرح، لقد شرحت لنفسي الآن درسا في الثابت والمتغيّر وما ينتج التغير من نتائج مؤثرة في الثابتين والمتغيرين وفي كل شيء، إنني أضيْع الوقت، كتابتي سيئة، لم أعرف كيف أدخل إلى موضوع الرواية بعد، لن أتوقف وسأكرر المحاولة من زاوية أخرى، الآن أنظر إلى أذنها بإمعان،  في أذن الطفلة قرط ذهبي صغير، في أذني ثقب أيضا لكن أقفله دهن الزمن، آه من الزمن وآه من طفلة طازجة تنظر إلي بعمق وماذا أفعل حيال نظرتها إلا أن أغسل نفسي في صفائها؟!.. صفاؤها الذي يسحرني الآن، و يمنحني هدوءا وصبرا وسكينة، سأتركها تنظر إلي بعمقها الصغير، العمق الذي لم يترهل بعد، أحتاج إلى هذا العمق الصغير الطازج الآن، سطحي مخدوش، مخدد، مسمّر على حصير وسط ظهيرة صحراوية صيفية، الملح الذي ينز ممتزجا بعرقي يشربه الهواء لتكون وجبة نسيمه بمذاق البحر، آه سجّل: الإنسان بحر، والبحر مالح.

ولو كان الإنسان عذبا للثمه النحل ولتحصلنا على توليفة جديدة من أنواع العسل: عسل ربيع الإنسان.. عسل خريف الإنسان.. عسل صيف وشتاء الإنسان ولكلٍ بالطبع فوائده، لكن الإنسان يطرد النحل ولا يحتمل لسعاته إلا على مضض ولغرض الاستشفاء، أحتاج إلى هذا العمق الصغير الطازج الآن، سطحي مضـبـب متـقـرّح مسمّر على حصير وووو إلخ، العمق الصغير الطازج لم يفسد بعد، مازال محتفظا بهيأة البراءة التي خلق عليها، لم ينتج ذنوبا، لم يتلوث بالأخطاء المقصودة، لقد كسرت هذه الطفلة نظارتي، جذبتها فجأة ــ وأنا فاتح فمي أتمتع بجمال عارضة أزياء تايلندية تعرض رشاقتها اللابسة على شاشة التلفازــ ورمتها بشدة طفولية على حافة السرير، هل غارت الطفلة من تجاهلي القصير لها؟، صارت نظارتي عوراء، فركنتها في درج الذكريات، وواصلت القراءة كما ذي قبل من دون نظارة، الحروف الصغيرة تكبر لي كي أراها والكبيرة فوق الحد تتواضع قليلا وتصير متوسطة الحجم، نظرتي هي نظرتي، لا تكبر أو تصغر مع الحروف، لكن مع هذه الطفلة ذات العامين وربع جربت أن تصغر، هبطت من سلم الخمسين للأربعين، للثلاثين، ووجدت الجو حلوا ولذيذا فواصلت الهبوط للعشرين ثم العشرة والثمانية والخمسة فالأربعة، ولولا نظرة الطفلة التي حذرت نظرتي كي لا تنجرف أكثر إلى تحت فتتجاوز الواحد وتكون صفرا وأرقاما عدة تحت الصفر العمري لكانت نظرتي قد تجاوزت في هبوطها العام الأول من عمري وربما والله أعلم أكون قد ضعت في عوالم المضغ والعلق والأصلاب و الترائب والظلمات وما قبلها، عوالم مجهولة صعب تخيلها لأنني لم أعشها والحلم بتصور لها لا يكفي، عندما كانت نظرتي تنجرف بسرعة سعيدة إلى أسفل دون انتباه للمحطة المقصودة الواجب التوقف عندها  تلقتني الطفلة براحتيها الطريتين الغضتين لأكون معها في هذا العمر، عامين وربع، تنظر إلي بعمق، أنظر إليها بعمق، الحقيقة صرت في هذا العمر الصغير لا أفهم كلمة عمق، وسألت الطفلة فأجابتني أنها أيضا لا تفهم، لكنها فيما بعد أخرجتني من ملكوتها الزمني، لم تذكر لي السبب، لكن فهمت أني انجرفت إلى أسفل وفي رأسي كل همومي وإرثي الذي جمعته في رحلة نموي في الحياة، كان لزاما في بادئ الأمر أن اغتسل أولا من ركام ومرارة الخمسين عاما وأكثر، وأنجرف إلى تحت بهدوء حتى أصل إلى هذه الطفلة، وفي لحظة الانجراف أرمي لكل عقد عشته من الزمن  وجبات همومه  وعلومه وخبراته وعُهدته التي أتحفني بها، كان لزاما ولزاما و لزاما وأنا أهبط أن أقذف بمكتسباتي إلى كل يوم عشته سابقا، حتى أصل إلى العامين وربع بمتطلبات واحتياجات وشجون العامين وربع فقط.. لكن لم يحدث ذلك، وعلى الرغم من ذلك تمتعت كفاية  رغم ثقل رأسي الذي هبطت به، وأنا أهبط شعرت أنني أخف وأشف، وأنا مع هذه الطفلة صغيرا شعرت بسعادة، بحثت عن أمي لأرضعها فلم أجدها، ناولتني الطفلة إصبعها فامتصصته وكدت أعضه من فرط الحلاوة، وفعلا كنت طفلا على سجيتي وعضضته، والطفلة صرخت، فجاءت أمها من المطبخ تجري، ضمتها إلى صدرها وعلى الرغم من فطامها أخرجت لها ثديها وألقمتها حلمتها ونامت الطفلة، ونمت إلى جانبها، لا داريا  بالزمن وهو يمر.. لقد تجاوزت الساعة الآن ميقات عمري، نظرة الطفلة مازالت تثيرني، عمقها مازال يتعمق في روحي، لقد وصل إلى الماء وتجاوزه وإلى النفط وتجاوزه وإلى العصب والعظم والنخاع  وتجاوزها، لقد تعمق في عمقي حتى اخترقني وصرت عبر هذا العمق مخترقا من نظرة طفلة، إنْ كَبُـرَتْ وكبِرتُ أنا فلن نلتقي، وإن هبطت إليها وكَبُرتْ هي أيضا لن نلتقي، وكيف هو اللقاء إذن؟، هي على الورقة الآن، في أعلى الورقة، في أسفلها، بين السطور، ممتزجة في البياض في الحبر، الطفلة عندما هبطت إليها أخرجتني من ملكوتها، لديها لا وعي يعمل، جعلتني أشك في براءة الطفولة وفطرتها، جعلتني أشعر أن في كل طفل شيطان وملاك، يتشاجران ويختلفان وأيضا يتفقان ليقوم كل واحد منهما بعمله المكلف به من قبل الإله، لا أدري هل الملاك قبل بهبوطي والشيطان قرر إخراجي أم العكس؟، أنا حزين جدا، الطفلة طردتني وعدت إلى حقيقتي  الزمنية، عدت إلى موقعي فوق الخمسين، يائسا بائسا وسعيدا أيضا، لأني وجدت شرابا روحيا في الثلاجة فتأملته بنظرة عميقة جدا ولعنت الجميع، و عدت إلى جهاز الحاسوب، وضعت صورة الطفلة على شاشته وبدأت أتأملها وهي تتأملني، لا أتكلم، هي تتكلم، بأصابعي أنقر مشاعري نحوها، وأمتص مشاعرها نحوي، الحروف سعيدة، تنطبع على الشاشة ببشاشة وبسرعة، الطفلة تتأملني، في نظرتها عتاب ما، تحاول أن توصلني رسالة، آه من ذكاء الأطفال،  آه من بريدهم الساطع صادق الحدس، لا أستطيع خداع طفل وبإمكاني خداع العالم.. لو أضفنا جملة ـــ كما تخدعها الشعارات بأنواعها ــ ستكون الجملة تقريرية، لكن لا بأس من هذه التقريرية عندما تأتي في مكانها أو محلها.

أحتاج إلى طفلة غبية كي لا أحترق من عمق نظرتها، هل الغباء برودة أم خرطوم مطافئ يبخبخ على ضياعي؟،  ربما يكون الغباء أشد وطأة على النفس من الذكاء، لكن قد يأتي هذا الغباء على صورة بساطة صدق شفافية تلقائية فطرة وسذاجة فيكوي مشاعري أكثر ويشعل آلامي ويُكئِبها، سأنظر إلى الطفلة كما تنظر إلي، نظرة عمق عادية، تسعد دواخلي وتبهج ظواهري، الأطفال يجعلوني ابتسم حتى وهم نائمون في مُهدهم، الفكاهات والطُرف وكل كوميديا ألوان الطيف غير قادرة على جعلي ابتسم، أحيانا أضحك لموقف طريف فـُجائي يحدث أمامي، أضحك من دون أن أبدأ الضحكة بابتسامة، أضحك فجأة وأبتلع الضحك فجأة، ولا أسجل في ذاكرتي هذا الموقف، الذي لم أبدأه بصورة طبيعية، أي بابتسامة تتسع تدريجيا، تحرث اللسان، تبذر اللهب،  تشرح النفس،  ثم  تعزف على أوتار الحنجرة ألحان ضحكتها.

الطفلة كسرت نظارتي، فرحتُ لذلك كثيرا، الحروف التي أقرأها فرحت هي الأخرى، كانت حزينة بسبب هذا الحاجز الزجاجي، الآن تتواصل مع دموعي مباشرة، تتواصل مع نور بصيرتي مباشرة، لقد أنهكها العازل الزجاجي الذي وقف حجر عثرة أمام إتمام خصوبتها، لقد شج كيانها وأدماها، عبث بها بالتكبير والتصغير، أي التقعير والتحديب  و زدْ الاستواء، لكن بواسطة هذه الطفلة استطاعت  الحروف أن تضع حدا لهذا العبث، فأعادت الزجاج إلى حظيرته المعروفة:

 في كؤوس المطبخ

في الأطباق

في القوارير

في المرايا وآه من المرايا 

في الأبواب والنوافذ

في قصور سليمان وبلقيس وغيرهما.

لقد أبعدته الحروف الشجاعة نهائيا عن عتبات المآقي، كي يتاح لها رؤية العيون مباشرة، كي تحس العيون بدفء الكلمات و نبضها، وتحس الكلمات بحنان العيون وبريقها و ردود فعلها و حتى بللها المالح.

ربما الحرف ذكر 

ربما الحبر أنثى

ربما النظرة أنثى والعيون ذكر

ربما العيون أرحام والحروف أجـنـّـة 

ربما تموت الحروف في مذابح أو عبر موت طبيعي

ربما تموت فجأة من دون سابق إنذار

ربما الطفلة تنظر الآن بطزاجة وتبتسم 

ربما الآن قد أنجبت بالسلامة 

ربما لم تمت هي ولا الحروف أبناؤها

ربما الحروف تبكي ثم يغلبها النعاس

ربما ترضع الحليب

ربما تنمو و تكبر

ربما تشق طريقها في الحياة

ربما أنها تعيش الآن عبر شعب كامل مضطهد أو حر داخل كتاب

ربما تتجدد مع الزمن

ربما تنتقل من طبعة إلى طبعة

ربما تتحول إلى هيأة إلكترونية

ربما يعيش بعضها في صدور العالمين إلى الأبد

ربما تنتقل من صدر إلى آخر

ربما إنْ مات القارئ تحولت على قبره إلى أزهار بألوان الطيف

ربما لأن غذاء الأزهار هو النور وليس الماء

ربما لأن لا أزهار تعيش في الظلام..

ربما لأن في الظلام لا نرى الأزهار..

ربما نشم أحلامها فقط فنشرع  النوافذ.

    

حكاية " ربما " هذه حلت لي المشكلة، أدخلتني إلى الصفحة الرابعة من هذا العمل بسهولة، أحيانا ألجأ إلى كتابة شبيهة بالشعر، ليس رغبة في إبداع الشعر، لكن كي أتقدم أكثر في العمل، الطفلة قالت لي صح، أنا أيضا أفعل ذلك، كيف تفعل ذلك؟ لا أدري، لكن أحس أنها صادقة، لكل عمر قصائده، وقصائد الأطفال هي الأجمل، لقد نسيت العديد من القصائد التي قرأتها ودرستها في المدرسة ولم انس فلنقل ابتسامة طفلة صغيرة.. لا.. لا.. سبق أن حكينا هذا الموضوع.. ولنقل إذن  ولم ننس أغاني الأطفال التي استمعنا إليها عبر مسلسلات بداية المساء في التلفاز الليبي أو التي يتغنى بها الأطفال في الشارع والمدرسة وفي المناسبات الدينية مثل:

طلعت يا محلى نورها.. شمس الشموسة

شارعنا القديم.. شارعنا زمان

ياما العبنا فيه مع أولاد الجيران

بإمكان كل كائن أن يتذكر الأغاني التي سمعها وعاشها في الطفولة وأن يتغنى بها وحيدا أو برفقة أو يترنم بها في صمت فسيشعر بالسعادة وراحة البال  وإني جربت ذلك في لحظة حزن وكآبة وقد شعرت بتلك السعادة الوجدانية، فقبل أن أبدأ كتابة هذا النص سقط مني أو سرق مني كل المبلغ الذي حضرت به إلى تايلند وهو 800 دولار وعندما اكتشفت ذلك شعرت بالحزن والكآبة وكل شيء يزعج النفس، لكن تداركت المأزق سريعا و قلت النقود لا تريدني ماذا أفعل لها، فلتذهب بعيدا عني، لن أتركها تفسد هدفي من الرحلة وهو الكتابة، سأتجاوز الأمر، سأقلب صفحة الضياع، سأعوّض المال الضائع سريعا، سأكتب نصا لا يقدر بثمن، لا يضيع من جيبي أو يتم نشله أو سرقته  أو نسيانه، أجرة الفندق كنت قد سددتها في الوطن لوكالة السياحة مقدما، والطعام رخيص في تايلند خاصة في الجزر البعيدة عن العاصمة، إذن يمكنني تدبر أموري بقليل جدا من المال، سأفطر مجانا جيدا في الفندق وسأضحي بوجبة الغداء كرجيم إجباري وفي المساء أتعشى في مطعم رصيف، سأنسى الأمر , و أركز على الكتابة فقط ولن أشرب بيرة مجددا مهما كانت مثلجة ومكلل زجاج  كأسها أو قارورتها بالقطرات الرائعة، لن أشرب أي مشروبات أخرى تذهب العقل باستثناء الماء والعصائر الطبيعية الخالية من الكحول، فالحرام ليس لدي فيه حظ ما إن ارتكبه حتى تحدث لي كارثة.

عدت إلى الفندق راجلا وفي الطريق كنت أغني أغنية أطفال، كان يعرضها التلفاز الليبي عندما كنت طالبا في المدرسة تقول:

هات الشنطة تعال ورّيني.... أيش خذيت اليوم يا حسين

عارفك شاطر و تهنيني..... ديمة مذاكر درسك زين.

ركزت على كلمة درس في الأغنية وذاكرته في دماغي جيدا.

بالنسبة لي تضيع مني نقود لا أتأثر أكثر من نصف ساعة ولو كان المبلغ مليون، جربت هذا الأمر مرارا ولم أعد أشعر بمرارة حدوثه، لقد ضاعت مني أشياء ثمينة أهم من المال مثل أخي الوحيد ومستقبلي المهني و ترابط عائلتي  وتكيفت مع الأمر، إنها الحياة وقوانينها التي لا نملك لها دفعا مهما زعمنا أننا أذكياء، لا  تعنيني ضياع الأشياء المادية إطلاقا، لكن عندما تضيع مني كلمة أحب أن أكتبها أموت عدة مرات، وأقلب العالم حتى أجدها، أمسك دائما كتابا ضخما لأقرأه وفي البداية أقول يا أنا يا هو أي لابد أن أكمل قراءته ولا أتركه يهزمني، من العار والمخجل أن يهزمك يا أنت  كتاب، وأواصل القراءة حتى أنتهي منه في أقرب وقت ممكن لأن الكتب المنتظرة من أجل القراءة طابور طويل لا ينتهي، زحام شديد بينها،  تنافس مجنون محموم بينها، كل كتاب يبحث عن قارئ، يدوس من يجد في طريقه من كتب، لا يوجد في الأدب كتاب نبيل، لديه إيثار، يسمح بالعبور لكتب أخرى غيره أو ليست من أرومته، أعتقد أنه لا يوجد  كتاب نبيل إلا كتاب واحد وهو ( القرآن الكريم ) الذي لا يزاحم أحدا  ولا يدوس أحدا ولا ينتهز فرصا ولا يمارس الأنانية.. فعلا كتاب مقدس جليل..  لكنه دائما يهزمني.. سأقول أن ذلك بسبب الشيطان.. لكن سأقول أيضا أنا أيضا مشارك في المسألة.. ينبغي أن أقرأ في هذا الكتاب العظيم يوميا لأتطور روحيا ولغويا وحياتيا ولأعرف الله بعمق.

الطفلة الطازجة الناظرة إلي بعمق هي أيضا ستتذكر أغان غنتها لها أمها وهي حامل بها أو وهي في نصف عامها الأول أو شهورها الأولى وستشعر بالسعادة، هي الآن تنظر إلي بعمق مكلل بابتسامة، هي أغمضت عينيها الآن وعادت إلى الوراء، إلى عمر طفل أصغر يتأملها بعمق كما تأملتني بالضبط، يوقفها في الوقت المناسب قبل أن تنحدر إلى السديم، يتلقاها براحتيه الصغيرتين اللتين أخرجهما بشقاوة من ثنايا طرف القمّاط، كانت الطفلة تنظر إلى قرص القمر الفارض نوره رغم ما يحيطه من كثبان السحاب، ربما يكون قد شعر بالغيرة فجذب قرطها بعفوية عنيفة فصرخت عاليا فجاءت أمها تجري، لقد شرم الطفل أذنها، بكت الأم وبكت الطفلة  وبكى الرضيع المشاكس أيضا الذي سكت فورا بعد أن ألقمته أم الطفلة حلمة ثديها.

الحليب يواسي الصراخ، والدم النازف من الأذن أيضا واساه الحليب، لقد حلبت الأم على الأذن ثلاث دفقات كي يتطهر الجرح الذي سببه الجذب والذهب  وربما رغبة النهب، بعدها ألقمت طفلتها ثديها، فصار الطفلان أخوين بالرضاعة و صارت الطفلة تكبر والرضيع يكبر خلفها، وفرق عام واحد غير مؤثر إطلاقا، سنتخيّل أنهما في المستقبل أحبّا بعضهما البعض ثم بعد كر وفر اجتماعي وديني تزوجا، وجدا شيخا فضائيا أفتى بصحة الزواج، لأن كميّة الحليب  قليلة جدا وربما كانت بدون قصد إرضاعه إنما إسكاته فقط في لحظة فزع رأى فيها الطفل دم ينهمر من أذن إنسان غيره هو من تسبب فيه، استدعى له مشهد قطع الحبل السُّـري الذي استقبلت به الحياة صرخاته البكر ومشهد طبيب الختان الذي ختنه في يوم أسبوعه مسببا له ألما مبرحا لا يحتمله الكبار أصحاب العزم فما بالك برضيع هش في بداية نموه.

توقفت عن الكتابة الآن.. أحتاج لبعض التدليك والراحة، أيضا إفطار الفندق المجاني سينتهي الساعة العاشرة والآن التاسعة والنصف صباحا من يوم الجمعة 9ـ7ـ 2010 م، سأتغذى اليوم وجبة كسكسو تونسي في منطقة سوكومفيت التجارية، صاحب المطعم تونسي متزوج بتايلندية يعد وجبة الكسكسو بنفسه كل يوم جمعة، بعد صلاة الجمعة بنصف ساعة يكون الكسكاس قد خلى من كل حبيبات الكسكسو، تتأخر يفوتك الكسكسو، ويوم جمعة بدون كسكسو لا أشعر به، لو غيرنا أسماء أيام الأسبوع بأسماء وجبات سيكون الكسكسو من نصيب يوم الجمعة، يعني ممكن نقول:

الجمعة كسكسو أكلة مغاربية

السبت حرايمي أكلة يهودية

الأحد سباقيتي أكلة فاتيكانية أوروبية

الاثنين بازين  أكلة ليبية

الثلاثاء أرز  أكلة أسيوية

الأربعاء مقلوبة  أكلة شرق أوسطية

الخميس باميا و ملوخية  أكلة فرعونية أو مصرية

أي تظل أيام الأسبوع تنعت كالتالي:

 كسكسو

حرايمي

سباقيتي

بازين 

أرز 

مقلوبة 

باميا و ملوخية 

 وبإمكاننا  تغيير الأكلات في كل الأيام إلا الجمعة الذي سيختص به الكسكسو لعدة اعتبارات ليس هنا مجال ذكرها، بالعربي لا أعرف هذه الاعتبارات، لقد جاءني مقترح الكسكسو عبر الإلهام، عندما أكون قد درست الأمر أكاديميا سأفصل وأحلل لكم الاعتبارات العديدة لاختصاص الجمعة بالكسكسو، لكن جماعة الإلهام مرفوع عنهم القلم، وبإمكان المعترضين محاكمة الموهبة، أو اعتراضها حتى لا تسكن إلا في ملكات دارسي الأدب في المدارس والجامعات وورش النقد الأكاديمية، بعدها أشرب شاي في مقهى لبناني أو قهوة اسبريسو في مقهى أوروبي، بعدها أدخل إلى مقهى نت لأرى بريدي وهل من شيء يفيدني فيه ثم أتابع جديد العالم في الثقافة والفن والرياضة فمن خلال هذه الثلاثية الإبداعية  سأفهم سياسة العالم ومجريات أحداثه وأقرر كيف أتعامل معه لهذا اليوم بطريقة هجومية أم دفاعية أم فنية أم أدبية أم غيرها من طرق التعايش السلمي أو الحربي مع مجتمع الحياة القاسي قسوة الكآبة، بعدها أعود للفندق وأجلس مجددا للكتابة، أضع صورة الطفلة أمامي وأنطلق كما تقول الميديا الإعلامية العربية قـُـدُمـــاً.

درجة الحرارة معتدلة.. الرطوبة معتدلة لا تسبب في سواد ياقة القميص.. الوقت عشية وضاحية نانا والسوكومفيت  ببانكوك مكتظة بالخليجيين والأفارقة وقليل من اليابانيين والأوروبيين الشرقيين، العاهرات كالعادة يقفن صفا طويلا عند مدخل بوابة فندق جريس.. وعند نواصي الشوارع القريبة، عاهرات أسيويات وأفريقيات، الصبايا والفتيات الخليجيات يتمخطرن بعباءاتهن السوداء، معظمهن أجسامهن رشيقة وشابات وذوات أنوف طويلة نوعا ما، أكفهن وأقدامهن محناة بطريقة النقش، العجائز القليلات بينهن يضعن خمارا معدنيا يحجب الأنف والفم، البقية متزينات على خفيف وسافرات الوجه  ويلكن اللبان، الشعر مغطى بأوشحة ملونة شفافة قليلا، بعض الخصلات المتمردة يطللن من تحت الوشاح ويرسمن على الصدغين أو الجبين خيوطا بديعة جالبة للبهجة، الخليجيات يتجولن ويتسوقن من الدكاكين الكثيرة التي يديرها ويملكها هنود وتايلنديون وأفارقة وصينيون وعندما تثقل أيديهن بالأكياس يوقفن توكتوك يأخذهن إلى الفندق لتفريغ ما اقتنن من مشتريات وبعد راحة قصيرة يعدن مجددا فيدخل بعضهن لتناول الطعام في مطعم شهر زاد المصري و باقي المجموعة تواصل سياحتها بين الدكاكين، أراهن كل يوم يتجولن لوحدهن دون إخوتهن أو أزواجهن، الحقيقة أن المنطقة آمنة، ولا توجد أي معاكسات للأسر وللنساء، والكل يحترم نفسه، لأن في هذه البلاد لا شيء ممنوع، كل شيء متوفر بكثرة خاصة الفتيات، فالتحرش والمعاكسة الوقحة قليلة الحدوث، النظر فقط في جمال ربي مباح وإن خفت أن تحدث مشكلة مع خليجية عندما تنظر إليها بطريقة الالتهام فضع نظارة، لكن يا خسارة، نظارتي كسرتها الطفلة.

لا تمر خليجية دون أن أنظر إليها لا شعوريا، أنظر في عينيها مباشرة، وأهمس لها هلا بالطيب الغالي،  عيونهن شيء غير محتمل، عيونهن واسعة كعيون الظباء وكحيلة وسوداء ومثيرة، أشعر دائما أن نظراتهن جميلة لكن ليست عميقة كفاية، كنظرة الطفلة التي كسرت نظارتي، لم أتبادل الحديث معهن، لكي يحدث ذلك لابد أن تحوز خليجية بمفردها، وهن مجتمعات يتعذر ذلك، كل واحدة متحفظة وخائفة من الأخرى، وكل واحدة منهن لها همومها السرية وسبب زيارتها إلى تايلند: بحيرة التماسيح.. غابة الأفيال.. سوق عائم.. صفقة تجارية..  جنس.. ترقيع بكارة..  تخسيس.. جلب بخور كمبودي.. تدليك وتجميل.. تقويم  أسنان وعلاج لثة.. جلب مستلزمات عرس والخ.

 أخيرا في مقهى أوروبي بديكور زيتوني وأسود  اسمه ستار باكس ملاصق لمبنى سوق أرض الطعام ( food land  ) حُزنا غزال القارة الذي بالطبع سود أنظاره كما يصفونه شعراء البادية الليبية، كانت جالسة تلعق من كوب طويل مملوء بالآيس كريم، عيناها واسعتان، كفاها وقدماها محنتان، ترتدي عباية زرقاء غامقة تميل إلى السواد وعلى رأسها وشاح لازوردي شفاف بلون صندلها  يظهر خصلات شعر جامحة كثيرة على صدغيها وعلى جبينها،  شعرها من الخلف مجموع في كعكة صنعت بروزا ضخما للوشاح مما يعني أن شعرها طويل يضرب حتى وركيها، لكنها، لكنها، لكنها بطة، أي سمينة، لا بأس من كونها سمينة، فالسمينات رغم تهدل أثدائهن يظل دمهن خفيفا وأهم شيء في العلاقات الإنسانية التي قد تتطور سريعا إلى الارتباط الدائم هو خفة الدم التي ستنتج عبر الزمن خفة الروح، حييتها بابتسامة فتجاهلتني وواصلت بمكر لعق كتلة آيس كريم بلون المشمش، بالطبع لابد أن يكون وجهي باردا أي وقحا فلا استسلم، حييتها مجددا بابتسامة أوسع فردت علي بابتسامة أبانت أسنانها البيضاء المختلطة بمياه الآيس كريم الملونة، صافحتها فلم تمانع هذه المرّة وصافحتني، لم تكن ترتدي قفازا أسود يعزل اللمس المباشر، راحتها دافئة وناعمة ولا تتمنى رفع يدك عنها، وأنا أتمتع بشم رائحة بخورها الكمبودي الأصيل سألتها هل  هنا لوحدك أم معك رفيق أو رفيقة، قالت لي تفضل أجلس  أولا وأزاحت حقيبتها المنتفخة من على الكرسي الذي بجانبها و ركنتها إلى جانب قائم الطاولة، عرفت أنه يرافقها أخوها وهو ذاهب إلى البنك القريب لتصريف بعض العملة بعملة تايلندية، وسيعود قريبا، واصلت رشف آيس كريمها ورشفت أنا أيضا من فنجان قهوتي السوداء المرّة، لا أدري هل شعرت أني راغب في التعرف إليها أم أنها رأتني أني أحتاج إلى مقعد فقدمته لي؟، خاصة أن معظم الطاولات عامرة بالزبائن، فتحت باب الثرثرة معها وعرفت أنها خليجية لكن أمها مصرية لذلك أنا يا صديقي سمينة قليلا، قالتها لي وهي تبتسم بعفوية، وجاءت إلى تايلند من أجل التخسيس، لكن تعليمات الطبيب عاجزة عن تطبيقها خاصة في التقليل من تناول الآيس كريم والحلويات والفواكه الحلوة، قلت لها ممكن أحبك فأسبب لك الهموم والشقاء فينقص وزنك سريعا، فضحكت كثيرا وقالت الحب العربي لا يسبب في نقص الوزن ولا في زيادته، يسبب في نفخ البطن فقط وضحكت أنا أيضا لمزحتها، وعاد أخوها الذي فاجئنا ونحن في وابل ضحك مشترك لنكتة قالتها هي فشاركنا الضحك وصافحني بحرارة وأخته قدمتني له كصديق جديد التقته للتو صدفة في هذا المقهى، لم أر أمارات انزعاج على وجه أخيها وواصلنا الحديث ثلاثتنا في شؤون الحياة والعالم، كانت الطفلة ذات النظرة العميقة معي، في مذاق قهوتي، في ترانيم ضحكاتي، كانت تتعمق بنظرتها في مكنونات نفسي إلى أبعد حد، كانت تخترقني، أشعر أنها تقودني، تعرف أن هذا المشهد من ضرورات الرواية ولم يحدث فعلا، أشعر بغيرتها القاتلة، إنها تضع في أنفي وفمي لجاما لا فكاك منه، تملأ ذاكرتي بتناسخاتها، مرت نصف ساعة وأنا  في جو جميل مع الخليجية الدُبّة ذات رائحة البخور وأخيها المتحرر المتسامح، نواصل التخيّل أو الكذب، مرت ربع ساعة أخرى، استلطفتها واستلطفتني، لن تردني لو كان المكان ملائما لتبادل القبلات، ما تبقى من قهوتي برد وما تبقى من كوب أيس كريمها الطويل ذاب وتحول إلى ماء خاثر ملون، أخوها استأذن أن يغادر لموعد مبرمج سلفا مع صديق، قال لها خذي راحتك، نلتقي بعد ساعة في الفندق ثم غادر، قلت لها هل تسمحين أن ارتشف ما تبقى من آيس كريمك الذائب في كوبك؟، قالت لي هل تسمح أن ارتشف ما تبقى في فنجانك من قهوة مرّة؟، رفعت كوبها الزجاجي وهي بدورها رفعت فنجان قهوتي الفخاري، ورطمنا زجاج الكوب بفخار الفنجان على هيأة في صحتك، لحن جميل عزفه  فعل الرطم، شربتُ بقية كوبها، شربتْ بقية فنجاني، ثم تأملت قارئة في قاعه الخالي من الحثالة لأنه قهوة أسبريسو معصورة وليست قهوة تركية أو عربية راسبها ثقيل لا يغادر القاع فما بالك إن طفح على القمّة.

 تبادلنا أرقام الهواتف، وتواعدنا أن نلتقي في أقرب فرصة ممكنة، قالت سأرن عليك بهاتفي حالما أجد وقتا مناسبا، آه قهوتك  في لساني مرّة لكنها في روحي حلوة.. ابتسمت وقلت لها لن أخبرك عن مذاق آيس كريمك الذي رشفته لآخر قطرة للتو، فلا أحب قراءة قاع الأشياء الحلوة لأن ذلك.....، لم أكمل الجملة ونظرت بعمق في عينيها، فأقفلتهما وفتحتهما بعد برهة لأراهما أكثر بريقا وبللا، لقد كان فراقا صعبا، وكانت مصافحة الوداع أطول من مصافحة اللقاء، لقد وضعت راحتي اليسرى هذه المرّة فوق راحتها وهي تصافحني،  كانت بشرتها ناعمة جدا، كبشرة طفلة طازجة طرية غضة،  قلت لها وهي تهم بالمغادرة أكيد سنلتقي، قالت لي أكيد، وهل غادرتك أنا أصلا؟!.

 

تايلاندا – صيف 2010