النص: وسيلة تعرف غير خاضع لبرهان أو دليل بل هو تجربة تعكس فاعلية الكتابة أثناء التحامها بالأثر.
* كل الأحداث في النص هي اعتراف بدال الكهنة الذين أغفلوا صلابة الرقيم وتماسكه الأبدي، المدلول إذن واقع فعلي على اكتناز النسق لمثيرات الواقع.
ومن أجل إخصاب الحقيقة تواصل الألواح تشابهها بالنص والمؤلف بالناسخ وعامة الناس بالتلقي.
* من هنا تبدأ فصول كور بابل، أو بالأحرى فصول الألواح التي أنسجتها أسبارنيت من وحي عبارة ابنها نابو الحكيم الذي تفهم تعاليم نيسابا بأناة وروية واكتسى ثوبا واحدا وهم بحراسة الطين، يا هذا المدثر ببطن الرمل أعني.. (ما المقصود من العبارة.. هل كانت تعني مدى تحمل النسق عبء المعنى المتواري وراء الرباط المقدس أم العالم السفلي بمكوناته الغيبية والروحية أو ثمة قراءة حالمة تتجاوز الواقع وتخطط له؟).
تعريفات في خريطة المدونة
بالوكوباس: الاسم الأسطوري القديم لنهر الفرات.
حداقل: هوالنهر الثالث من أنهار جنات عدن كما ورد ذلك في سفرالخليقة والمقصود به نهر دجلة.
إيتانا: الراعي في الأسطورة الدينية العراقية الذي حمله أحد النسور وغالبا ما صور هذا المشهد على الأختام الأسطوانية.
استيساس: مؤرخ أغريقي زار بابل وكتب عن جنائنها المعلقة.
كور بابل: اسم لواحدة من بوابات كربلاء القديمة، وتعني قرب الآلهة والاسم منحوت من كروب،قرية تابعة لبابل والكربل اسم النبت الحامض الذي تشتهر به.
رامبرانت: فنان هولندي حجز الدائنون بيته قبل أن تباع إحدى لوحاته إثارة ـ الغزال والطائر الجريح ـ بأبهظ الأثمان.
فيدياس: نحات يوناني ولد في أثينا سنة 43 ق. م من أشهر لوحاته جوبتر الأولمبي وكائنات بلا جدوى.
غوبارو: ورد في الأخبار القديمة إنه لم يكن حبا لبابل وخصوصا منتصف ليلة عيد رأس السنة البابلية التي شهدت الحريق، حيث ثبت جرمه بعد أن أخفى المطافئ عن الأنظار.
ماركو بولو: رحالة شهير، كان مسكونا بمنافذ البحار المطلة على المدن، ألف كتابا مهما عن جنوا المدينة التي استوقفته فيها طبيعتها المدهشة.
اسبارنيت: ورد في إحدى المقابلات الإذاعية مع فراس سواح، إن هذه المرأة ـ الأم ـ التي امتزجت شخصيتهامابين الأسطورة والواقع والحلم بالحقيقة وخصوصا بعد أن كانت وراء أهم القرارات التي صدرت في عهد الملك الأكدي ـ نرام سين ـ وهو تشكيل مجلس الآلهة لتوحيد البلاد.
اللوحة الاولى
قراءة العنوان: رسم المتخيل في تقاطعات الجسد.. التجربة تبدأ من التمرين على صور الأحلام...
سياحة العبارة في حضرة الرقيم
التاريخ المجهول وقهقهة التراب |
استدراك اللحظة
وقبل أن أرفع رأسي، أخذتني رغبة في مناقشة أفكاري مع نهلة هذه المخلوقة التي وجدت فيٌ من يعجب بمتحفها الأسطوري الذي تتباهى في قراءة أبجديات مسالكه الغامضة كالطلاسم البوذية لتقول: منذ إن تأخر طائر نوح عن المجيء خلقت الأرض للأحلام.
قلت: وهل أنت فتاة حلمية؟
قالت: كما أراك.
ولكن للحقيقة رأيا آخر فهي تأبى أن نغادرها مثلما نريد أو نحيا ومثلما نشتهي ونتمنى، تقودنا ونحن في أوج رغبتنا المتألقة في ذلك الإحساس إلى ثقوبنا وعيوبنا، على أية حال هي ذي مكوناتنا وعلينا أن نتقبلها كالقدر الذي يتربص بنا على مدى أعمارنا من دون حواجز أو موانع تقينا منه، ألتفت إلى نهلة، وأنا أفهم ماعليها أو ماتريد مني، كان الزنجي يقف بقامته الطويلة الضخمة محاذاة شجرة الصفصاف قبالة نافذة القاعة، رفع خوذته قليلا فبدا وجهه الفاحم كرأس تمثال ثم تناسل الرأس في لحظة وامتدت ظلال الرؤوس على وجه خارطة الحكايات والأساطير والمنمنمات والوثائق والمخطوطات والمنحوتات ونصب السيراميك وتجتاح كائنة فيدياس المرعوبة من لفتات مونيكا الغارقة بهواجس السير على حافة البرج.
كانت النافذة تبرق رسائل الطرقات المغلقة وسرعة انتشار الأسلاك الشائكة وهي تغطي المسالك المؤدية إلى حوض المدينة.
ترجم أحدهم ماقاله الزنجي، لم تبال نهلة العساف بعبارات الواصف، ثم ألقت نظرة باهتة نحو مونيكا كما كانت تفعل أمامها كل مرة لقد تيقنت (حسب ظني) إن ما يدور لايعدو أن يكون بين أشباح وكائنات وهمية لاصلة لها بالواقع.
ثم بعد ذلك استدركت ما على، ولكن لم أنتبه لفوات الأوان وإن الوقت كان متأخرا واللحظة أسرع مما هو متوقع في تحذيرها وغابت من دون (مهلة) أستعين بها وأستعد لهذه المباغتة المجنونة حقا، فركنت كما أنا في إخفاق لايعزيه أحد على انكسار الحلم.
التأريخ المجهول وقهقهة التراب
* في الأمس القريب أخذتني نهلة إلى ناصية في منطقة (تل الحمام) وهو مكان يشرف على منخفض محاط ببساتين الحمضيات حيث قالت، من هذا المكان أعلن بيروس كاهن الآلهة الأعظم مردوخ وورد ما جاء على لسانه في المزامير.
إن بابل قد احترقت...
وفي هذا الحريق أصبحت بابل مثل غرناطة وأثينا لاتفرق فيها النيران بين الأخضر واليابس، لاشيء يبقي على سطوع جمالها الأخاذ، كلها تهاوت إلى ركام متناثر هنا وهناك، وإن المدينة بدت كأنها عادت إلى عصور ما قبل نيسابا العالم الجليل الذي هندس روعة المكان بخياله الجامح، ولذا لم يكن التحدي سهلا أمام تلميذه النابغة نابو، الذي كان يقول دائما: يا هذا المدثر ببطن الرمل أعني. ثم اسهبت في تلك القصة التي دفعت نابو بن اسبارنيت زوج الإله مردوخ أن يلفت الأنظار إلى مدونته الجديدة التي عثر عليها في أحد كهوف لكش، محطمة ومجزئة، إذ بعثرها جنود (اللبي) ببساطيلهم الإنجليزية دون مبالاة في أعقاب ثورة العشرين.
قلت لها: احذري يامجنونة من هذا التاريخ.
قالت: انتظر؟
قلت: ماذا؟
قالت: (بصوت دافىء) اعرف إنكم كتاب تحبون الخيال. فأدخلتني إلى عمق ثلاث أمتار تحت الأرض، ربما كان الظلال يحجب عني شكل الرجل الجالس وحيدا في ذلك الممرالموحش على أريكة تبدو بالية، نهض إلا انها لم تبال، كان الرجل ينظر إلينا بفضول... حين وقفت إلى جوار واحدة من الحجرات الممتدة على طول الرواق قالت لي: افتحها!
وقبل أن ألمس كرة الباب، سمعتها تقول، ها أنت ستدخل غرفة غريمتي مونيكا، إني مثل البنات (أغار) قالتها بتدله وعذوبة، المهم، دخلت وأول شيء خطر على بالي ملامحها، عينان واسعتان وصدر رجراج، رشيقة، ترتدي ثوبا تطرز أكمامه بالشذر اللاصف، تتوسل شمخة (راعية الأناشيد المعبدية) ملتمسة عطفها وحنانها بعد هروبها من الأب الذي وهبها لأحد كهنة ساسان وإنها تبغي أن تهبها لحظة يتنسم فيها الجسد البض عطر الفتيات المنتشيات بحوض العذارى أو اللواتي يصطففن بقوامهن الممشوق كأنساق الورد، مرددات الألحان المعبدية أو العزف على المزامير الشجية.
نهلة لم تتكلم بعد ذلك ولا حدثتني عن أنانا التي كانت مونيكا تضع لها مساحيق الوجه الذي تعلمته في بلادها البعيدة وكيفية صناعته وتركيبه بعد استخلاصه من الأعشاب بدقة متناهية.
نهلة تركت أنفاسي تذوب في هذا العالم حتى بدأت أشك في نفسي من أني في حلم أو يقظة.
لا أدري أيهما أصح، كلاهما يتشابه عندما تثقل حياتنا بالشبهات.
وقبل أن ترتفع الشمس منتصبة على جبل (ق) الذي لايشبه جبل إيفريست في ضبابيته وغيومه وجليده أوجبال الهملايا أو حصاروست أورانيا أو مخمور التي أودعت حلمها لأجيال التزحلق وماراثون الجليد مأوى يقي الأعمار المأزومة حروب الردة، وقبل فوات الأوان على عجوز كانت من الغابرين قالت: ياويلنا لم نصبر فأكل حظنا بعضنا لنكون باختلاف التوقع موهومين...
رأيت صحف الصباح بعد اختفاء نهلة مع دخان البارود الملوث الذي عتم قاعة المتحف، غير مكترثة بتصريحات نابو الحكيم، من إنه لم يزل متمسكا بموطنه العتيد ومواطنته المثالية في تحري الحقيقة إزاء ما تروجه دور النشر من مصطلحات غريبة تحاول أن تمسخ مجسات الوجدان للشعور الفطري وإثارة مقتطفات من العناوين البارزة بوجه قراء الباعة المتجولين الذين أغضبتهم مقاهي الانترنيت وتوسعها وانتشارها المفاجئ والمباغت واستبدلت النظارات الزجاجية بلوحة مفاتيح ليزرية يمكن أن تكشف ومن دون عناء أو تعب أو إرهاق ماذا يحدث لي الآن بعد غياب نهلة التي تحولت بلحظة الى كيس رماد، هذا الكيس سوف لا يكون رؤيا عابرة، أدرك مدى ضعفي حياله وأن منظره أمامي سيوقد مفاتيح الأحاسيس والمشاعر ومع ذلك سيظل قلادة في عنقي من دون أن يراها أحد.
قرأت مرة إن أجمل اللحظات منسوجة من حلم البشر التي لولاها ما عاش أمل د نقل ومحمد دحبور وسيد مكاوي وجميلة بوحيرد ومنديلا والزعفراني ومحمد شكري وكيراساوا وجيفارا وما يكل مورو وغيرهم.
خطط الحروب السرية تبدأ مثل مزاعم الأسطورة لا تشعرنا بوجودها إلا بعد أن تكوينا العذابات حرقة ومرارة، نسيت، مشهدا شعريا يعكس خوف الطفولة/ خطأي إنني استنفرت طفولتي على لاشيء، ذلك المجهول الذي وضع نابو حذره فيه.. إن انحراف الكلم عن موضعه يشكل سابقة خطيرة يخترق فيها الجمل سم الخياط ويختلط الحابل بالنابل والأسود بالأبيض فيضيع المعنى بين الهامش والمتن ولا ندري عما يبحثه ـ استيسياس ـ في الشبه، هل كانت قبائل زهرات النوار هي الهنود الكشميريين المتمرسين على جذف القوارب أم إن الدم الأخضر ليس له كروموسومات الدم الأزرق في خريطة الدم وجغرافيته وسكان مدينة (فلنيت) على ساحل خليج المكسيك هم من نخبة هاليبرتن أو مايكروسوفت وربما يفكر المندوب السامي لجمعية مواطنين بلا حدود (بالهيباكوشا) من هم.. وكيف أختصرهم العالم عن بقية خلق الله وخصهم بالمحظوظين، يا ترى على أي شيء حالفهم الحظ، وكيف؟ ومن؟ السحر أم المعوذات تنعم على أهل البشر ساعة النحس والاستلاب والشر والأضرار الجسيمة التي تحدث بلا إذن وتستبيح بلا قرار وإن لم يؤثر أي منهما مفعوله أو فاعليته ماذا يكون؟
أعاد الأثري بهنام أبو الصوف ترتيب حكايته من جديد حين أستفزه (نيتشه) بأرض الجن والشياطين وإن ما هو ظاهر لم يكن في الحقيقة سوى الإرادة الحالمة التي تسبقنا إليها الصورة، فالتقديس والتقنع والتماهي توحي أحيانا بمعاني الأسرار والغوامض التي تبيح لنا أن نتعرف على إن آدم في الأسطورة الإغريقية هو برميثيوس وإن التوحيد لم يسرق من المصريين بل من تعاليم هاكانا وإن انحراف الطوفان كما يدعي توما الأكويني انحراف جنسي واسم نوح جاء من البكاء، ونوحي من الموحى إليه من وراء حجاب،وبنات الأغيار هن بنات الشر والخطيئة وسبب البلاء وانتشار الغلاء.
هل تذكرين مما قلته عن قصيدة ـ أنيل والعاصفة؟ ورد اسم الغوييم ونوح فهل نوح من حنو أم (الغوييم) من الأغراء؟
وفي إثر ذلك عليك أن تختار ميزان التواصل الذي تجره الجياد إلى سريرها.
التاريخ المجهول وقهقهة التراب يتأهبان مثل النار.. على من؟
وقتها لم أكن أعرف أن الغيوم تطرح تنوعا لانهائيا من الشكل واللون، ومن دون تمييز الشاباك عن السافاك والثراء عن الرثاء ومحكمة الحراشف عن محكمة لاهاي والخمير الحمر عن الهنود الحمر وسفينة تايتنك عن سفينة هايدبور وساحة طرف الأغر عن ساحة الفردوس وطريق دوفوركر سوير عن طريق المطار، وإن وقوع أشهر الرحالة على سطح البحار بفخ متعة الاكتشاف تعطي دليلا قاطعا بأن ماركو بولو لم يكن يدرك إن خرائط البحار تحوي على غوامض برمودا.
أتذكر مرة قلت: أن نابو شبه أفكار النساخ برفيف أجنحة الطيور التي تعيش في الحلم والتأمل والرغبة وإن الحياة من غير تناغمها مع الأشياء سجن في ضميرها السري بلا أدنى شك.
وأن مونيكا راودتها صورة الحكيم نابو أثناء دخولها إلى الدهليز ذي الجدران المطلية بالكلس وقادت الدرجات الصلبة في السلم الحجري ذي الدرابزين النحاسي إلى لحظة اللقاء الخفي في مكان ينأى بحرارته ورطوبته عن سطح الأرض.
ثم تساءلت بغموض:
لماذا تخيلت تلك اللحظة التي تمر من خلالها إلى العشيق وأن ترسم ملامح نابو على قياس البشر المحكومين بسلسلة دوافع لاشعورية كالحب والغيرة والخير والشر والكراهية والحقد والغضب والخوف وربما السادية وهذه الصفات تحيا حياة الطفيليات في أي كائن مهما حاول الالتفاف عليها.
قلت لها بعفوية مطلقة:
لأنها تقف على عرش الجمال الذي تتمتع بمفاصله الأنوثة الجذابة وتتنسم في أجوائه بتدله لا يعكر صفوته غير ثقوب وصفتها لأنآنا بسخرية (السيرة الحكيمة) التي دخلت مصادفة مضاجع غوبارو لتوقظنا من رقدتنا وتجعلنا على يقين بأن ثمة ما يحصل في الأروقة، مثير ويستفز الأعصاب
قالت باهتمام واضح: تقصد نبوغ نابو المتنامي في مجمع الحكمة.
قلت لها: هذا ماكان يراودها بالتأكيد، ولكن بالنسبة لي كنت دائما أتصورها في وحدتها لاتتخيل سوى لمسته المشحونة بعاطفة اللقاء المتألق بشهد الرضاب وعسل الملكات وعطور الأحلام التي ترى من خلالها عشبا يتسامق كالجنون على المدن المفتوحة، أنهار وتماثيل ولوحات لرامبرانت وفيدياس والكاهن بيروس وهرمس والسيدة أثينا وأسبارنيت و (كي شن) لا يفصل بينهما سوى تدفق الخمر المعتق..التواء الماء من الفم الفاغر وانسكابه على الأطراف يأتي إيقاعه كتسريحة ناعمة تتموج على سطحها رغوة الليل بأوهامه وأحلامه.. وتنتشي المشاعر والأحاسيس بلحظة السحر والجمال من دون أن يستعبد أحدهما الآخر أو يشيخ أو يزول، تراهما على مفاصل الجسد بمعيار مفاتنها يستمرآن خيالها الذي قد يظل طويلا ينعم بلذة الحياة الأبدية، ثم أخبرتها بمقترحي في مشاركة القاريء.
سحبت نظرها من لوحة رامبرانت وقالت: أي قاريء؟
قلت: لا أجزم إنك فقط بل كل من لديه القدرة على صنع الخيال، ألم تكن فكرة الأداء والحركة وطريقة التعبير عن الغنج المثالي للأنثى قد برعت بها مونيكا.
ـ الغنج المثالي!
ـ ربما هو نوع من المكر.
قالت دعنا من المكر وفكر بهذا الغزال، وأشارت إلى اللوحة.
كان الغزال يبدو متحركا على إيقاع ألوانه الجذابة والهادئة، بينما الطائر تخفي الغيوم الكثيفة لوعته من الجرح كما نرى في مشهد الجناح الداكن وعندما التقطت نهلة بكامرتها صورة للوحة رامبرانت (الغزال والطائر الجريح) قالت لي بميوعة لذيذة: تحدث لي عنها ياشهريار؟
قلت بتصابي: أمر مولاتي شهرزاد.
ان هذه اللوحة كانت محظوظة جدا، إنها أغلى لوحة ابتاعت في عصرها ويزداد سعرها كل ما أكتشف فيها لمسة فنية جديدة، فهي تأخذ منحى الترف بدل الفقر الذي أدمى حياة رامبرانت الذي أستلهم من رقرقة مياه (حد أقل) فكرة الخيال، الخيال الذي نتحسسه دائما أطول من أعمارنا، يستعبدنا بأي شكل من الأشكال بصوره الوهمية والحلمية على أية حقيقة نكاد نلامس فيها الواقع.
ثم استطردت قائلا: سأخبرك عن شيء آخر، هو ماذكره أندريه جيد بخصوص رامبرانت عبقري الأوهام، لقد استأجرته امرأة من الفيوم، ذكية، كشفت إن للفقر مزايا غير ظاهرة محددة بطوابير من الأماني التي لم تجد لها منفذا للعبور إلى السطح، استوطنته بالقرب من أهرام الجيزة وبدت تستنفر حواسه الملهمة في صنع التماثيل للسواح أو المصطافين باسم مستعار قبل أن يغادرها مفلسا إلى أرض الله الواسعة تاركا وراءه خيبة الرجال بالوعود الكرستالية التي تفلح بتنقيتها وتنمقها النساء.
ولذا ظل واهما بالحقيقة التي تخيل فيها أسطورته على مبدأ ـ فريزر ـ (التماهي في الواقع قناع لهذا النعيم الذي لا نمسك به إلا في أعلى درجات الوهم).
هذه الأوهام لها قدرة عجيبة في اختراق المألوف وتسلطها الغريب على مفاصل الأشياء التي تدور في أذهاننا، ولو افترضنا إن ما يكتب بلا وهم أو إن الحقيقة التي نراها الآن ونعيشها باستمرار وجودنا هي بلا أوهام أيضا فكيف إذن سنهدئ أوجاعنا التي أسماها كونديرا بمأساة الثقل، فأنشتاين أنجز نسبيته قياسا إلى اقليدس وفيثاغورس اللذين ذكراه بالبعد الرابع ومع ذلك يشعر إن طروحاته لم تستكمل دورتها أو تستوفي شروطها في تحدي الممكنات وهذا ما جعله افتراضيا واحتماليا في مشاريعه إلى الحد الذي يشعرنا فيه بالوهم، والشيء ذاته ينطبق على رامبرانت في لوحة (الغزال والطائر الجريح) إذ يعتقد إنها سوف تضاهي لوحة (العيد السنوي) لمارك شاغال وما قد لا يكون إلا استعارة أو رمزا تقيده إلى الاحتمالات: هل الحب في ذهن الفنان صورة متوارية وراء توهج العبارة، مادمنا نتوقع الممكن فإذن كل شيء وارد وبلا أدنى شك قد نكتشف إن باقات الزهور والشمعدان والكهنة والسحرة والساعة بأجنحة أو بدون أجنحة كلها مقلوبة وعلى أهبة الانفصال عن الجسد المرتجف، فالزمن لحظة فيها عشرات الصور المتداخلة، متحفها الوحيد يتنقل في الذهن أكثر مما نراه في الطبيعة.
هذا الإحساس وضع رامبرانت موضع التساؤل من حب الطبيعة، فمقطع الجناح المتهالك في ضباب اللوحة تبهرك فيه تناغماته وأنسجته التي تتصاعد من دون بهرجة، ألوانه تتدفق بوهج غامض (الاحتيال على الواقع قناع وتماه.. فالشعور الدائم باختلاف التوقع هو من حسن حظنا لولا إنه يتكرر معنا لنظرنا إلى الوجود من زاوية محددة وثابتة).
ومن جراء فاعلية الوهم في تصوراتنا نبيح لأنفسنا أن نحشد تلك الطاقة أو نستعيرها لحظة الغموض والانتقال بها إلى لحظة الزمن، وهي لحظة الحلم في رحيق التذكر تتجمع فيها الأخيلة والتصورات وتأخذنا إلى أبعد من ذلك، إنها ترسم أحيانا أسئلة صارخة بلون الاغتراب في خوض المجهول وعلى من يدرك قيمتها أن ينتظر لعبتها الحقيقية في التضليل على حواسنا وعلى هذا الأساس وجدت إن الاختيارات أمامي لا تنفصل عن رغبة أي منا في استنطاق التنكر الذي تبديه نصوص الألواح بسؤال ينتظم مع حساسية القول والاقتراب من المدلول في أقانيم الكتابة، وبعد فترة صمت قليلة قلت: من يدعي إن الألواح التي دونت فيها حادثة غوبارو بأنها نسخت بأيد أمينة؟
انفجرت احاسيسها فجأة وكأن هذا السؤال قد لسع خبرتها في فحص الآثار، قائلة بنفور لم أعهده فيها:
ـ وماذا تقصد؟
ـ الموضوع.
ـ تعني المعلومة؟
ـ صحيح.
ـ الألواح غير معنية بما يثيره الأدب من شك أو تساؤل، تعكس لغة الأقدمين طباعهم، عاداتهم، طقوسهم، وما إلى ذلك.
تذكرت في الحال النهر، الذي صار سفر المدينة الخالد، جفت عروقه ولم يبق منه سوى أثر ربما يمحى في يوم ما، كان اسما لم يكن مثلما نحمله عابرا لتولد منه مدينة كونت سحرها من أديم نهر صغير عرف أسمه بـ (العلق مي) وعرفته المدينة بمجرى الدم، سيل لا ينقطع من التصورات تواجه زائريها القدامى والجدد وتمنحهم مكانا لا يستثني فيه الزمان حكايته كبقية المدن التي لديها الاستعداد بأية لحظة للانسلاخ عن ماضيها وارتداء أقنعة التبدل فالصورة هنا تختلف، إن مرآة هذه المدينة تعكس كل قديمها وحديثها في آن، كأنك تعرفها أو سبرت أغوارها، أزقتها، قبابها، مآذنها، أسواقها، مراثيها، شواهدها، دفوفها، صنوجها، رسومها على الحيطان، ابتهالاتها، أناشيدها، مراقصها السرية، غناء بواديها، نواحها، قبورها، قصورها، بساتينها، غربائها، ليلها النهري الذي يتنفس فيه القمر أغنيات الشاعر المسافر إلى موطن استباحة القصائد. وإن عدت (كور بابل) المدينة الأصلية (خميرة الماضي) فأن الحكاية اللاحقة تحفزنا على الرحلة المعكوسة إلى الرحم الأول لترينا مدى استعداد الأثر على التشاكل ذهنيا في رسم الصفات المتداخلة في عمق المسافات البعيدة.
فأن تعددت أسماء الكور وأعقبتها أسماء أخرى لم تختلف تلك الطقوس أو تتغير على أرض الواقع، تلك الطقوس التي نتخيلها أبعد من محدوديتها التي قد تضيق بساكنيها وحدة تشكيل الأحداث، فهي تتخلق في تواصل عمق الروح بجسد المدينة أفكارا وتسميات وحكايات أوسع من السفر وأقرب إلى الحلم.
وحتى لا تظل الأحلام بلا سفر.. تدور الحروف في فلك الكتابة بإيقاع وسحر جذاب من اللوح إلى الليزر على حد قول محمد خضير.
وحتى لا نشطح عن الموضوع نعود إلى لب الحكاية، أي على ما تجسده الألواح من رؤى التي هي تختلف عما تنسجه الأوهام والأحلام والتخيلات في صنع غرائبها وأشباحها ومن قبل أساطيرها وخرافاتها.. إن الألواح كما تزعمين تعيش عالمها الأسطوري والتاريخي وإن الشك والتساؤل هو لصيق بالأدب وحده ولكن الحقيقة ترينا أبعد من ذلك، عندما يفتح سجل المدن الطوطمية.
فماذا يمكن للنص أن يقول: في كتب الأقدمين التي نبهتنا إلى شيء مختلف عما جاء في الألواح المعبدية التي تؤكد أن حادثة غوبارو ومونيكا قد حدثت قبل الصدمة الكبرى التي وجهها يهوه الابن (المدلل) للإله مردوخ وأن اصطحابه للطائر ـ زو ـ كان وسيلة ابتزازلأبيه... لا أريد أن أعرج لك على مؤهلات هذا الطائر الفريد فهي الحقيقة المروية، بأنه بلغ ذروة (ألسيمرغ) العظيمة وحاز اسم (الحيرة) والفناء ووزنه لم يتجاوز البيضة، ولهذا الطائر شكل جميل ففي كل ناحية من جسمه فتنة لا تضاهيها في طائر آخر والأهم من ذلك إصرار بعضهم على وجود هذا الطائر حر طليق بيننا وبإمكانه إعادة الأحداث أو السيطرة عليها وتحريك الساكن وخلق بؤر للصراع في أي مكان يشاء، وعلى هذه الشاكلة تتغير تعريفاته وتسمياته وأحداثه لأنه يتلون دائما ويتبدل مع الظروف... وبعد فترة صمت سادت بيننا، سحبت نظرها من لوحة مركونة عند مدخل الصالة وقالت ساخرة:
استدرجتني يابن الأبال...... وبخفة حركة الرأس تطاير الشعر الأسود المرسل الى الخلف، فبدا تحت سطوع الألوان كأنه أمواج لاصفة، ثم تغيرت نبرة صوتها عندما حدثتني عن (جدتها) المتفننة بقص غرائب الحكايات بسحر كما تقول يداعب الذهن في تشكلات صوره الغريبة، فهي تسمي هذا الطاثر (بز) كما شيع عنه، له نعيق البوم، فأذا سمعه الناس تشاءموا وأصابهم الكدر والخوف والقلق وهرع الصبيان بدون إستئذان من أولياء أمورهم نحو شواطىء الأنهار يلقون فيها ماشاءوا من بقايا الأشجار اليابسة التي أضرموا فيها النيران، بينما الأمهات والفتيات يحملن شموع (الخضر) ويستغرقن بها في الطواف بين المزارات التي كانت الوحيدة مشرعة الأبواب بعد أن اغلقت الدكاكين والأسواق حتى إن بعضهم كان في ذلك اليوم العابس لم يتطرق لهمومه ومشاغله ويتفرغ بكمد... وقلب خاشع لتجاوز المحنة.
وثمة شيء حاولت أن أضيفه، إلا أن...
ن
ه
ل
ة
ماتزال تغري تحليق الطائر الجريح في ظلال يتماهى فيه كل شيء حتى لون الرماد.
اللوحة الثانية
ما جاء في منمنمة عابر السبيل عن وقائع النسيان
يقول العراف، ليس لي بحر لكي أخون الصحارى.
وتقول الناس أين ذاكرة الرمل من ذاكرة المشهد؟
أشاع الكهنة نهاية المطاف أن لا مساس في أصل ـ المعرفة السرية ـ
إذن لم يبق لي إلا أن أصف الصورة لكي أدحض ما ينسب إلي.
عابر سبيل |
عامل المقهى لم يجبني عن سؤالي بالتحديد، ها...ا، وعلي أن أعيد المنوال حتى لو عرف إن أسبارنيت هي أمي لم تستقم الصورة في ذهنه، ثم أخذت أبحث في المكان ذاته/ أي مكان أو بالأحرى أي إنسان تراه أو تصادفه تدرك مدى فداحة اللحظة القاسية التي يمر بها عبر هذا النفق الذي وصلته توا، قد يلومني أحد على إنه ليس نفقا، هذا صحيح، ولكن هذا ما رأيته حين تخلى الشارع عن سير المركبات وانضم لحركة السابلة، السبل تتقاطع في مهرجان الواقيات والقفازات وأشرطة الخوذ المحصورة على الوجوه الملونة وهدير المسرفات التي تعج خلف المتاريس وعلى امتداد النقاط المرورية، لا علامة دالة تستطيع أن تقاوم ضعضعة الطرق، تحددت لها أشكال لم تخطر على بال أحد، ومسالك جديدة لم تكن في الحسبان، وفي تلك الأثناء سمعته ينبهني من وسط الحشد ويشير لي بإصبعه، تبعته، أجري وأنا أقول لنفسي تذكرني أخيرا، قال: (لم أسمع شيئا، الناس محشوة في الممر إلى حد الالتصاق) صعد على تلة ترابية (اصطناعية) وحين زجره صوت من الخلف أخفض قامته واندس مرة أخرى بين الصفوف مترامية الأطراف، وتطلعت في الوجوه لحظة، سمعتهم يقولون لا تقف، واصلت إخفاقي وأنا متذمر، تدهس عذاباتي خيبة اللاجدوى، هل ألقاه، من..؟ هو.. أنا، أنت أل، لا.. الله يخلق من الشبه أربعين،خشيت أن لا يكون أحد قد رأيته أو أومأ لي.. أو صاح خلفي أو ثمة من ينتظرني.. أو، أو، من يصدق ذلك؟ الممر شيئا فشيئا يعكس شراسة الخطوات/ اختلطت رائحة التراب بعادم المحركات، الرماد الزاحف نحونا ببطء يخلق هواء فاسدا وثقيلا/ تتشابه الوجوه التي يضاعف شدة الزحام ملامحها الصارمة، وتساءلت في سرعة التحامي بالرتل، إن كنت ابنا للصدفة أم ابنا لهذا القدر العجيب، أشك بوجود خيار لي بينهما.. تسألني؟ لا.. أسأل نفسي.. الموكب العفوي يزداد أو يقل حجمه في بضعة ثواني، الوجوه المتقابلة، الأذرع الطويلة، الفتيات، الصبيان في لغط دائم يختلط مع أصوات من خارج الممر/ الشمس في بلادي أجمل من سواها/ من يتذكر الشمس في عصية الموانع والكتل الكونكريتية والأسلاك الشائكة على الخرق، ومن يحلم بلقاء أسبارنيت في غمامة الشدة والضيق، ويمني النفس بسفر ساحر ومبهر في عوالم لم نرها إلا على الوسادة/ أين ومتى نغتنم لأحوالنا مالنا من نعم الله... لم تبق من الأمواج البشرية إلا العدو في هذا الممر الآمن، أقصر المسافات لتنأى بجلدك عن المحظور، كيف لا والناس هنا على مختلف طوائفهم ومللهم يدخلون قوقعة الرمال صاغرين، أعبر؟ مستحيل أن تخترق الصف، ضوابط المنع أقسى من أن تغدو لاعبا ماهرا في اجتياز العتبة، خذ القصاصة التي نسيتها في يدي أول النهار، أردت أن أقول، ولكن أسرار الروح هي للروح ولا موطن لها سواه ومع ذلك سبقني وقال: عسى أن تعثر عليه قبل أن يداهمك الوقت، وعلى مساحة ما استبدلته الخرائط على أرض الواقع لم تعد ذاكرتي تتحمل رقم الصفر، عندما تتلاشى الأشياء وتغيب في مثل هذه الأوضاع المزرية والمنحوسة، يتساءل المرء.. هل من فرصة.. هل من قشة أعلق عليها أمل في النجاة.. هل من سبيل أم لاسبيل لعابر مثلي يبتغي السبيل، كشفت نهاية الممر عن وجه القصاصة/ الرصيف المقابل أكثر تعرضا للنظر/ القصاصة لا تحتمل الخطأ إلا أن المكان المقصود لا يسمح بالاتصال مادامت الحاويات الكبيرة تقطع الطرق والأسلاك الشائكة تحاصر الزحام وأكياس الرمال تشهق فوق القامات على اختلاف أشكالها وألوانها، لماذا التأخر، توقعتك../ (...)، أذهب إلى هناك وأسأل، رجل خارج لمضات لافتة الإسعاف أشار إلى حارس المدرسة، قال لفتاة لها عينان خضراوان أن تنتبه إلى نفسها من العجلات/ من الذي أتى بك في هذا الظرف، مالي والظروف، أنتظر، ثم أحضر حمارا وقال: أركب، لم أتسلق بعمري جدارا واطئا ومع ذلك فعلتها، في الطريق قال كثيرون الذين يسألون عن سيد أرزوقي وأنت لست أخرهم، قلت وأنا أحاول استمالة عواطفه أو استدراجه قدر الإمكان إلى ما أنا فيه، أتعتقد إنه سيلبي دعوتي، قال يتوقف ذلك على قناعا ته يا بني.. ثم أردف بعد صمت قليل، ماذا تريد منه؟، أريده أن يحضر روح أمي أسبارنيت، قال بعد إن رأيت قبضته الشديدة تطبق على وثاق الحمار (من كم سنه توفاها الله) قلت وأنا أشعر بأن المسافة أبعد مما أتصور (منذ آلاف السنين).
أنا لا أدري ربما قلت له إنك تعود بي إلى آلاف السنين وربما لم أقل شيئا في ذلك الركوب المضني أو إني أفكر بعظمة الحمار الهزيل التي تحتك بعظمة مؤخرتي فأكبت ألمها في نفسي على مضض من دون أن أدعه يشعر بلحظات الاستياء الملعونة وهي تحاول أن تسلب تلك الإرادة مني، وأنا لا أريد أن أكون في موقف ضعيف على الأقل في هذه الساعة، صبرت وتمهلت وتحملت وتحاملت على بعضي من شدة عسر الحال وضيق البلوى وكرب النفس وأنا أرى تذمر الناس في كل منعطف وشارع وممر وزقاق وهم بلا أدنى شك يقيمون فداحة هذا النهار، من أجاز للسحر أن يغير لون الرماد ومن يدع خلية الشياطين أن تستأنف قراءة الكف أو من قرر إن البحر امتداد للظمأ، لا يهمني أن أرى الأشياء تتغير والشمس تبتعد مدة من الزمن عن مغازلة الرمل الذي تكتب عليه النساء أدعيتها الخاصة.
إن الألوان تأتي من ثوان قد لا ندركها، فمن الذي يتحسسها إذن؟
خلف تضور الأمكنة من عبث الجنود المنبوذين، عاد من لحظة غارقة بالقهوة المرة والسجائر (من يضع نفسه بين رهان الصح والخطأ) في تلك الأثناء قرأت مساحة الزقاق الذي يثيره سأم دم الضحايا، حدثني عن سحرة مجهولين شككوا بمقدرة (ابن العلقمي) ثم اختفوا في أبخرة المقابر والأضرحة والأولياء الصالحين، يخشون ماقد قالوه قبل أن يأذن لهم وهم يدركون إن ما يجمعه الريح تحصده العاصفة، هؤلاء لا ينفون ما توقعوه.. ولذا كانوا يتحسسون وطأة الليل، لا نوم يأتي، الأفكار تنأى بدورانها عن الحلم، يصفونها غير محددة الأفق.. كل ذلك يحدث لهم لأنهم قالوا في النبوءة مالم يقال، أحاديث النبوءة من الأشياء التي يلجأ إليها القديسين في مواسم المعادلات، في إرسال إشارة إلى نكبة البرامكة ليتهيأ أصحاب المدينة تحت مظلة الخوف إلى بناء سور الزعفراني وإعادة تشكيل حرمة الأولياء من الأدعياء.
ثم قال المتحدث بعد نشرة أخبار المساء، ستراه يخرج من ولادة جديدة، حافلة بصور الذاكرة (أشك أن يفترض راكب الحمار إن الدرب أو الطريق لا يتقاطع أبدا مع الشائعات).
إن الشائعات التي كنا نسمعها في الحرب كانت تحل إشكالات الهوس الجنسي وإننا سوف ننام على أسرة من حرير وإستبرق ونأكل المن والسلوى ولا نجوع بعدها أبدا وتبقى حياتنا في المسرات والأفراح تغمرها السهرات والاحتفالات البهية في المرابع الخضر المزدانة بالسواقي والشواطئ الخلابة التي تصطاف على رعشاتها الساحرة حور العين ويتمددن على الرمال بسيقان كالبلور والولدان المخلدون يطوفون حولنا بكؤوس كان مزاجها زنجبيلا.
وإننا سوف نكون على أعتاب أشجار السنديان (الإشارة تختزن في طياتها ما يتوقعه الماس من الرماد).
وكثيرا ما جرى مابين البرق والسحاب الثقال من سجال، كنا نسمعها ونشك بقدرتنا على مواجهة الصواعق الخارجة عن سيطرتنا من حدوث شئ ما.
قال الذي له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه: مالكم تخشون حصوة الملح، فاعتقدنا حقا وكنا هكذا دائما حينما يظهر أسمه على الشاشة.
ومن أجل الدعاية يقول غوبلر، مادمنا لم نكن رسلا أو ملائكة تمشي على الأرض فماذا يتوقع منا الآخر.
للأسف كنا نتوقع إن امتداد البحر يستوعب أحلامنا الطرية والهادئة وإن بالإمكان كتابة الشعر مثل أراغون ودانتي واليوت وطاغور ومن ثم إهداء أغنيات العشق إلى حبيباتنا الولهات بتخيلات ملامحنا المتناثرة وراء أغلفة دفاترهن المدرسية.
بينما كنا نواصل التعلم في أبجدية (طبلة الرمل) لكي نحطم من خلالها أسطورة جيمس بوند ورامبو في تصوراتهن الغضة (هل رسمت ملامح البطولة أثرها في الولادة الجديدة) كنا لا نشك لحظة في انحناء الريح لا لشيء غير أن تهدي الدليل.
حينما ننسلخ من الواقع تحلق أحلامنا وأمنياتنا ورغباتنا المؤجلة في الوهم الكاذب والمقنع، مجرد انتقال اللحظة تثري سعادتنا، أي التحام يتناغم مع المشاعر يمنحنا فرصة مثالية للتأمل، في ظروف الحرب كنا نتصفح كتاب الاشتياق ونستكين تحت ضغط رسائل أمهاتنا الآتية من خارج خيوط اللهب.
لم تكن تلك الرسائل بالتأكيد مثل رسائل الرمال التي صيرتنا أشباحا في مهرجان العناقيد الكاشفة عن وجه الظلام (الأدق مصابيح الأرض الحرام).
ولكن بين رسائل الأمهات ورسائل الرمال حدث مالم يكن بالحسبان (تحريف مسقط الرأس، غياب الأصل، قلب الأماكن رأسا على عقب، اغتيال الذاكرة.. فمن أين يأتي الفرج).
تؤكد الشائعات، إن الفئران ستشن حربا لا هوادة فيها على آلياتنا وعرباتنا وبساطيلنا وغرف نومنا (مواضعنا) ونوافذها (تحات أنبوبية ضيقة متصلة من الخارج إلى الداخل) وتغير على أثاثنا (صناديق تحتوي على مدخراتنا الشخصية) وسوف نصحو أو نفهم مدى هشاشتنا أمام هذا الزاحف من بطن التراب كأنما الأرض تمد كفها له ليقرأها الرمل.
يقول النيسابوري، أضعف المواقف أن ترى مالا يراه غيرك ولا تقوى على الرد (ماذا لو كان عبدك بالأمس يسوقك إلى سوق النخاسين).
الخراف المهضومة لا تنسى أبدا مطامعها الدنيئة في البقاء، في عش الظلام أباطيل تسري على كتف البلاد (خذ مثلا أن يبتسم التمثال، وهل إن ابتسامة موناليزا دافنشي تفسر حضور ابتسامة أسبارنيت).
في عز ملامح الصورة اكتشفت أن ابتسامتي أيضا لها مذاق خاص وإلا كيف نفسر الابتسامة وسط هالة من الغموض إن لها مقدرة على تشكل اللغز الذي يشبهه الأمام الغزالي بلغز الماء الذي أختفي في النبع.
مرة وأنا على قمة الراقم (دانوب) المشحون بالضباب والثلج ناداني عريف حضيرة (الإسطبل) أن أفتح النار على دبة تتربص بنقطة الحراسة، في تلك اللحظة توقعتها شرسة، عنيدة، عنيفة ولذا تهيأت تماما لمواجهة أي طارئ وعلى بضعة أمتار خرج الهاجس من نفسي وبدلا من سحب الأقسام سحبت نفسا عميقا وقلت يا أسبارنيت توقعوك دبة في هذا الفضاء الثلجي.
قالت (تعال)
قلت (إلى أين)
قالت (أنت هنا تنتظرني ولا تنتظر أحد سواي)
وحين تجاسرت على الأوامر ورحت مع المياه تحت أمطار الشتات أكتشف العريف إنها محاولة مضللة، لم تكن أسبارنيت كما أزعم وإنما رسالة مستعجلة وصلت للتو من أمي تحثني فيها على المجيء قبل فوات الأوان.
ولما ماتت غفر الله لها ولكم وبقيت أنا مطعونا بشتيمة التأخير والانتظار ومتأثرا بلذعة الوحشة قلت في نفسي (أما الآن وقد صدقت رؤيا أسبارنيت) وعلىَ أن أتحرى بعضي (مادامت الحرب سوف تتبعني بلا نبيذ بلا أسوار بلا أحد...).
كان وقت التحري متأخر كما أشار إلى ذلك صاحب المقهى.
قلت: أرشدني
قال: أو إنه لم يقل بل (برطم) وتركني أغيب تحت طاولة الليل يحدو بي أمل العثور في عصي الظرف على سيد أرزوقي.
يا سيد أرزوقي لم أرك يوما ولم التقي بك أو أبوح لك دخيلتي كما أبوح لنفسي.. وفرج بكراماتك سؤالي.. وأن تعيد لي لحظة صورة امي.. لتخبرني عما جرى لوجه هذه المدينة التي تاهت أزقتها وشوارعها عن سطوع مآذنها الشاهقة..
وغربة منزلنا القديم.
ألا تفرج يا......؟
اللوحة الثالثة
نبوءة حلم
في مساحة المدن أفق يضيء... قد نحسبه إيقاعا لمشاعرنا أو نتأمله كالحلم في داخلنا أو نراه وهجا يسطع على مدى الإحساس الذي يحفز فينا الأنشداد إلى سرائرها وأسرارها.
فهل لنا بمثل هذا الشعور أن نرسم الصورة بالخطوة؟ |
في إحدى الألواح التي اكتشفها كريمر ذكرت لي نهلة أنه يدور حول حلم اسبارنيت كانت قد روته إلى أبيها الكاهن كيشن يتعلق بتمثال شاهق وبديع مصنوع من مادة القرميد النقي لبطل الطوفان كلكامش وجده أوتونابشتم لأنهما زرعا بذرة طيبة في رحلة الخلود، جاءت به السيدة أثينا برفقة إبنتها الجميلة الإلياذة وحشد من الفلكيين والمنجمين وعلى رأسهم الكاهن هرمس الحكيم وإن نابو لم يخرج في ذلك اليوم البهي الذي لم يشهد في تاريخ المعابد أن يحصل مثله على الإطلاق وأن تعترف أثينا بنسبها المشهور إلى العمارة والحكمة بما وطدته بذرة الطوفان (هي البذرة التي من دونها ما خلقتنا الآلهة بهذه الصورة ولادعتنا إلى هذا الرباط المقدس) وفجرت طاقة بروميثيوس الروحية لدحر قوة زيوس الذي قرر تدمير الحياة على وجه الأرض (يعتقد إنها المحاولة الأولى لقلب المعادلة بالقوة) ومن دون أن ينفصل هذا التأثير على مناخ مرتادي المعابد في ظل مواجهة مفتوحة لا ينبغي لعاقل أن يقع فيها، حصل شيء غير مألوف، رسالة مجهولة تصل إلى الإلياذة تحذر من عواقب وخيمة لهذه الزيارة، لايعرف مصدرها بالتحديد، ولا يدرك أحد من لديه القدرة على هذا الأختراق الفضيع في لحظة تتوجه فيها الأنظار جميعا لهذا الحدث غير المسبوق في عالم المعابد.
هي تروي وأبيها الكاهن يصغي ولكنه استدرك رغبتها في التواصل ليقول: (هذا الجزء غير واضح) ولكن أرجح ماذكرته نهلة بخصوص تأكيدات سابقة كان ينوه بها عن تنبؤات نابو مثلا كان يقول:
(زيوسودرا عندما وضع يده على العمر المديد لم يحفل بحياة سرمدية مطلقا). إخناتون لا يفرق بين ارتفاع قبور الأموات وانخفاض الأجنة في الأرحام (الخيبة سلاح ذو حدين فأن نتج عنها المتمرد والاحتجاجي والمنفر والتهكمي لا داعي للمزيد).
وعلى خطى الحلم يقولون إن الخطيئة تدنو من حافة القيامة، الخوف من القدر المحتوم مثلا غير من معالم الخنثيين في معابد افرويد وفينوس وشاعت أنوثة الأمومة وأخذت تشع في برونزيات العائلة كما وصفتها مخيلة هنري مور (وهى جزء من تحد لثلاثية النار والخمر والجسد للفنان رامبرانت التي أهداها الملك لويس السادس إلى اللوفر ثم حٌرف عنوانها الأصلي ثورة العاطفة نقاد متحمسون لفنه رأوا في تشكيلات حركة الجسد عجينة الأنوثة الخصب رعشة مقموعة).
وتلافيا لعيوب النساء ذكرت ـ فيرجينا وولف ـ قبل الانتحار إن زوجها الناقد الإنكليزي ـ ليوناردو ـ قد وضعها خارج قائمة ـ الفوضى الخلاقة ـ في خرق واضح للقاعدة الزوجية وهذا الأمر أدى إلى نسف قواعد اللعبة كما يقول طه باقر لكي تستفيد منها مونيكا فيما بعد في إخلال التوازن وإشاعة الفوضى مما أدى إلى انتقال الطائر زو من حديقة حيوانات الواقع إلى حديقة حيوانات الأساطير التي يتحد فيها الفرس بالمعلف والثور بالحظيرة والكلب بالتشرد والذئب بالتربص والثعبان بالفحيح والأسد بالمراوغة والثعلب بالمكر (إذا اختلط النور بالظلام والواقع بالذهول يفترش الملدوغون بتاريخ النكسات جدران المراحيض أسرة لأحلام الكتابة، فتبدو الحيطان أكثر استعدادا لتقليص الرغبات والأماني وأقل وضوحا من صوت الديك الذي يظن إن الفجر لا ينبثق إلا نزولا عند قوة أوتاره الصوتية).
نابولايجهل ما يحصل ولكن يبدو يراقب أثر الحجر الذي حمله نداء السؤال، ثم هل يحرك الإصغاء لون العزلة؟ لا أحد يعلم متى تضيء المنحوتة، عندما تقرأ عكس ما هو مدون تعجزعن فهم الصانع وغايته ولذا قلت لنفسي في خطوات المؤلفين قناع يجيء ليجس نبض الفطنة من السذاجة وعليٌ بلا تردد أن أعود إلى السؤال: من يعرف ربة الحكمة؟ السيدة زينب أو السيدة هند وهما (بالطبع) غير السيدة أثينا وأسبارنيت ولكن إذا ما حاولت معرفة ذلك إن كانت نبتة طيبة أو بذرة تتوقع ثمارها فترسم صورتها وهى في جوف الطين، فيراودك الشعور بتجلي الأشياء، حين تأخذ رونقها من طبيعتها حيث تخرج من الحيز الهيولي إلى حيز الوجود لتمنحك فرصة التعرف على خصائصها البعيدة على الأقل في الحلم (ثمة أشياء ندركها ولا نلمسها، نستطيع أن نتخيل قصة الأمزونيات لما حدث لهن بعد الطوفان مع بوسيدون من دون أن نضع لها إطارا تاريخيا وزمنيا ربما ينتهك تصوراتنا).
بوسيدون في الأفلام يختلف عما وصفه فيدياس في لوحة (جوبتر الأولمبي) مقاتل صحراوي لا يميز بين الخصب والإنجاب يتمتع بقوة حيوانية هائلة في الاستجابة لغرائزه الهائجة، الافتراس، الروح العدوانية، الاستحواذ، البطش، القسوة، الإنكار الخرافي لحياة أسطورية يمارسها ليلا ونهارا، سرا وجهارا، لا أحد يعرف من أين جاء؟ وكيف أستوطن الأقاصي التي كانت مسرى القوافل ودبيب الرحالة وديدان صيادي الغزلان الملكية قبل أن تنشئ فيها أثينا خرائطها على الماء، قفراء موحشة ومتاهة لا ظل لها في عمق تواصل الأشباح الذين بدأوا يهددون مملكة الأمزونيات اللواتي يسكن حافتها ونهاياتها (فريزر في الغصن الذهبي قد وضع ملامح بوسدون إلى جانب القوة الغامضة التي يتمتع بها يهوه على العكس من المجرى مرسيا إلياد الذي قرب إلينا فصول حكاية الأنثى وقدرتها على تجاوز سحرها الجسدي وعلاماته المثيرة لتغير من مشكلة السيادة المطلقة لعالم الذكورة الأبدي...).
أسبارنيت لم تفكر إطلاقا بإرسال أنانا في رحلتها المعروفة إلى العالم السري إلا بعد إن حاولت أن تحطم المقولة التي تعشش في أذهاننا من أن الذكورة فحولة التاريخ الذي كتب ولادة الأسياد والسلاطين والأمراء والملوك والخلفاء والولاة والمماليك والأعمدة، فمن يفند هذا الادعاء أو يدحضه (عندما انتهكت الأساطير سيرتنا البوهيمية في مشارق الأرض ومغاربها وأمتد ضلالها يكوى وجودنا ومصائرنا أخذنا لا نفرق بين الأسباط والأقباط والسامي عن الآري ومع ذلك نتقبلها ونروج لها بمحض إرادتنا) لا شئ يمنع فرويد من تحليل العتبة التي حملت ذهن ما يكل إنجلو إلى الاعتقاد بأن إسكبرت جدارية ربة الحكمة مخطط في غاية الحنكة والذكاء يبحث عن إجابة، ألم تكن المهارات الاستثنائية في واقع الحال من الممكن أن تشيد تقنيتها بنوع من أنواع المكر الذي يحتاجه الفنان تجاه ثقوب هذا العالم وفزاعته كي يمنحنا الغربة نفسها التي تعطينا مصدر الحيرة (هذه الحيرة تنسجها مخيلتنا فكلما يشتد بنا الضعف نشعر إزاءها بالتهديد يقترب من ملمح توقعاتنا التي لم نستطع أن نحيا بدونها)..
بقيت المعرفة عند فرويد كما هو الفن في مخيلة ما يكل تبحث دائما عن أسرار مجهولة ومتوارية في فضاء هذا العالم، إذ نراه يؤكد دائما، من إن الفنان يكابد من أجل الروح الخالدة، الروح التي تصعد إلى السماء بعكس الجسد الهزيل الذي ينزل إلي الأسفل تماما كما فعلت أسبارنيت عندما استأذنت السادن كيشن في رواية السفر الخالد، المهم امرأة جميلة قاومت الغزاة مرة تدعي ماجدة سبأ وليس بلقيس كما يعرف ومرة زنوبيا تدمر ومرة الخنساء أو هند أو زرقاء اليمامة مهما تكن فهي تندفع كي يصبح الجمال ورقة رابحة في إذلال العدو، لما شعرت بتعرض جنسها للانهيار على يد بوسيدون ثأرت بهذه الروح وهى تدرك بأن جمالها الأخاذ المنسوج برقة إلهية نادرة يسبح في ظلاله قوامها الممشوق وشعرها المرسل ووجهها المفتون وعينيها الساحرتين وصدرها النابض بحلمتين ورديتين يستقران وينتصبان على قمة نهدين يبرزان من وراء ثوبها اللاصق كأنهما يفوران برائحة الجسد البض أنوثة صارخة، هذه الأوصاف الساحرة التي انتقاها السادن كيشن لأبنته لم تأت كما هو متعارف إلا تكريسا لرغبة الأنثى في احتواء الجمال، جميلة ياحبيبتى.. شفتاك مصنوعتان من القرمز وفمك يقطر شهدا ولسانك عسلا ولبنا ورائحة ثيابك كرائحة ألبان يتيه فيها عطر المطر الذي يحيي نبات الأرض فتورق السنابل تحت وهج الشمس/ نضارة الأرض وبهاء الخلق، صورة رائعة أن يحيا الإنسان بفطرته على ملكوت الجمال وأن يكتب بإحساسه سيمفونية متناغمة المشاعر تنزل من حيث الشفق كمنظر خلاب اندس في خفايا الروح سحر لا يعطله الزوال (زوال الشفق) فتسمع تغريدة الحب وصل لا ينقطع وإيقاع لا يتغير وقصيدة تسبح في فضاء مفتوح بلا نهايات تمتد كالإلهام والهيام في تصورات الحالم فتتخيل لمسات بيتهوفن وهو يجسد المدى المنسوج في (خماسية القارة السابعة) من الربى والوديان والصحارى مكونات مصنوعة من السيقان العارية والخصر النحيف والصدر الرجراج والفم المفتوح، ألم تكن فم الأنهار حكاية طبعت على جبين السواقي مجرى التراسل والتناسل والتخاطب والتخاطر كما حملها نهر (العلق مي) عبر العصور رسائل لم تجف بعد صورتها عن الأذهان وهى تعيد لكور بابل أسطورة الأنهار في عمق استجابتها للشمس بطقس أزلي يتوج فيه الماء شاهدا أبديا.
لم تعرف حكايته ولا من يسأل عنه قد أستكمل مشواره طول المسافة على امتداد الزمان والمكان ولا من وضع خرائط الأنهار عرف كيف يصوغ لهذا النهر عنوانا بالون أو بالكلمات المشفرة التي يمكن أن تسهم في حل لغزه؟ إنه ظل يتيما بين الأنهار معزولا عن عالمها أو إنه خلق ليؤسس عالما بذاته، فمن يدري ربما نختلف حتى تعيش على هذا الاختلاف صوره المتماهية في طبوغرافيا الأمكنة التي نحسها اقرب إلينا من حبل الوريد، حينما نتخيل دوران المدن من حولنا ولا نتذكر ملامح أسبارنيت وأنانا والسيدة أثينا وهرمس الحكيم ونابو والكاهن بيروس وماركو بولو وفيدياس ورامبرانت والزعفراني وكيشن ومن دون أن نكسب ود الساحرات نتوقع إن الجدل بين الأبيض والأسود وبين النهر والشطآن والقمر ولحظة الكسوف والنسغ النازل مع النسغ الصاعد والنبات السحري الذي يتباهى على النبات الطبيعي لم يفض بنا إلى حل شاف ومقنع حول من الذي فرق بين بذرتيهما وأعطاهما صفتين متباينتين تبيح لإحداهما أن ترجح على الأخرى (الواقع يدفعنا إلى الخيال أم بخيالنا الذي يسبق وجود الأشياء)
ومع ذلك ظل النهر مسكنا يتسع لكثير من الحكايات وراويا أزليا يبهرنا بقصصه المنسوجة على منوال حكايات السحرة والجن التي ما فتأت تلقي بظلالها على طبيعتنا المدهشة في الإصغاء
وإذا ما أصغينا إلى اندلاق الماء فوق الحجر نتحسس حلم أسبارنيت أوبالأمكان أن يمنحنا كيشن فرصة التعرف، فصفوة الحجر تحت رعشة المياه كما تقول نهلة ليس لغتها مختصة بالجمال وحده وإنما يتعدى ذلك على أن يحثنا على توليد مكونات مخلوقاتنا التي نرعاها بأنفسنا، ومن هذه الإشارة، نجد إن كيشن لم يفرق أبدا بين قراءة الحلم والنبوءة الناقصة ولذا توقعت نهلة إن نابولم يكن سعيدا في حياته حتى يتأخر عن فرصته في التعرف عن كثب على فتاة العصر الإلياذة ولكن قد شغله التحوط من سرقة الألواح بعد اكتشافه المفاجيء لارتفاع أثمانها في الأسواق العالمية.
قلت لنهلة ربما ذلك، لأن أغلب خبراء النصوص المحليون قالوا اكتشفنا إن الألواح لم تسرق كلها، وخوفا من تكرار محاولة اللصوص فعلتهم الشنيعة فضلت البلدية أن تبني عليها مكتبة كبيرة.
ولذا ضاع من بين أيدينا أهم تهمة يمكن أن نوجهها لمن ألقى الرسالة المجهولة أو بالقليل ماكان يتوقعه كيشن في ضوء حلم ابنته الوحيدة.
لحظتها مرت نسمة عليلة غطت جسمي قبل أن تلوح الحجر الذي بدا تحت الماء مثل سمكة تغري من نظر إليها وهي تنزل إلى القاع لتترك فراغ لا يملئه سواها.
اللوحة الرابعة
لخوذة الثلج وجوه وأقنعة
إن شبح الحرب مثل ملكوت سري يراقبنا ويحذرنا دوما من مغبة النسيان، لذا علينا أن نعيش من أجل التعبير عن معرفتنا التي يحددها وعينا |
كان الثلج يغطي كل الأسئلة والاحتمالات، حين أصر عريف الفصيل على تنظيف الممر من فضلات الغيم، ساعتها كنت وحيدا في ذلك الموضع... البقية منصرفون إلى سد الثقوب من الخارج.
ولفداحة الظرف المحيط بهذا الأمر، تماسكت أو تمددت كما يتمدد بعضهم في لحظات القيلولة أو الاسترخاء، واضعا في حسابي تصورات الموضع المهدد من الأعلى والأسفل.
.. ضبط الأشياء غير المنظورة احتمال يزول بتغير مفهوم التوقع.. بينما الحال شئ من المحال أن لا تسمع من يهتف عبر مكبر الصوت، ربما يأتي تحت مظلة الضباب واهنا ضعيفا (أنا لم أسمع كل الأخبار ولكن أتحسس بعضها) وهذا ما حصل حقا حينما تيقنت إننا مهددون وإن الاختراق سوف يتواصل من كل اتجاه.
حقيقة العريف بمثابة وصية، إن عقوق الوالدين تفضح نيات إبليس، إذا أنكرنا وجود الشيطان (كيف يتم قياس الحادث بالسالف).
نظرت إليه أو بالأحرى أصغيت.. فهو لم يزل يلمح إلى قصة قديمة رويتها له عن أمي وتعلقها بخيوط أجدادها الذين لم ترهم سعداء في حياتهم، ومن شدة وطأة هذا الإحساس عليها كانت تقودني إلى أرض مهجورة (الهيابي) التي حفرت ونبشت فيها معاول التنقيب ولم تخف أو تهدأ دورتها الهائجة تلك وإن تقطعت أوصالها وانفصلت عن بعضها بسواتر من التراب.
قالت مرة بأسى وحسرة، يابني منازل الآخرة صارت مطمورة مثل رغباتنا وأمانينا، لم يبق منها سوانا، كل شئ تحول من بين أيدينا كالسراب: تحت الشمس تداعت المعالم واندرست وأضحى المكان في صورة المتخيل لوحة جففت أحبارها تداعيات الاستذكار.
ولكن...
ظل وتر أنفاسها يلم بي الحنين إلى رؤية هؤلاء الأجداد العنيدين على البقاء أحياء في ذاكرتها.
ولكي أبقى وريثا شرعيا لتلك الذاكرة تعذر على أبي وأخوتي وأصدقائي ما كان يدفع بي إلى ذلك الحوض أو المكان الذي فيه كنت أستنشق عبق الرائحة المحملة بملامح تفوق تصوراتي التي أرسمها في (الوحدة) عن أمي.
لم تغرني السنون أو تثنيني عن البوح عما أراه أو أفكر به (هي رغبة في التواصل لا غير) فالبعض يعتقد إن ما حصل في رجب يحصده العجب/ العجائب التي تدهشني قد تكون مجرد هذيان وهلوسات تسيطر على الأحاسيس والمشاعر في نوبات الكآبة والضجر والإفلاس (قد تكون موضع شك لمن ينتظر الخبر) أما بعضهم الأخر ينصح أو يلوح بشكل غامض، تصوروني مسحورا وما يخرج عني هو بتأثير السحر، الحيرة، على من أميل وإلى أي كفة أنحاز، كان انتظاري بينهما يطول وإصغائي إلى بعضهما لا ينقطع.
ولذا بدأت أشعر بالخوف وللحقيقة إن لا نجهل مخاوفنا من دون حذر (كيف؟) إن مجرد زرع الشكوك أو لحالة تشبه تبييت النيات (أحذر عدوك مرة وص د ي ق ك...) إذن كيف يتسنى لمثلي معالجة خلل التصويب مادام الانحراف لا يعني الخطأ/ إن الخطر يأتي دائما من تصوراتنا عن الانحراف.
وبرغم كل شيء، أقول من دون تحفظ (لاشيء يشغل مكان خلوتي.. حتى الصورة التي كانت من قبل تراودني بدأت تتأثر وتهتز) ثمة سر عجيب يتملكني ويحثني على مواصلة حساب الأنساب، (هذا ليس سر كما أدعي) في ظل تداعيات الحوض الذي بقي لي على امتداد الأظهر التي أزعم أنها شكلت عالمي من جيناتها (لا غرابة في شطحات مندل) هل حقا أنا وريث شرعي وبدون أي منازع لتلك الملامح التي حولت بذرتها أمي من الذاكرة إلى مسك الختام.
(على أن يكونوا أنا... وأكون هم)
كيف يتحدد ذلك؟
في نصوص (طبلة الرمل) يهب الناموس الأعراف كما تهب الجمال أنفاسها للصحاري.
الولد على سر أبيه، الزيت على النار، قلب النار محو الكائن في زمن احتراق الكتاب، الكرنفالات الشعبية امتداد لسيرة علي بابا و (...) وأبو زيد الهلالي، الرفق بالحيوان تفسير مختلف وتصورات متطرفة في هجائية المنطق، التجربة التاريخية... تاريخية التجربة، البرهان ما حدث في ماء الحوائب قبل أن تهب الجمال خطواتها على رقعة مخرومة من دومة الجندل، الجنس قراءة سيمانطيقية في التراكم الأبدي لفحولة معطوبة، النص المهاجر توقعه حراس النيات ساترا ترابيا يحتوي على الفلزات، مات ما كسب عاش ما خلى/ بين المنفى والفردوس يتجلى الضحك والنسيان في فنتازيا الطرش، في أهوال لقمة العيش ومحنتها جرى تعديل على مفردة الوارش واستبدالها بالراشن كما ورد في قاموس (لوجاركا)، سي آي أيه/ اقترحت على الملأ أن لا يقبلوا أقل مما تقدمه لهم مطاعم مكي موس.
يقول المواطن لم أتذكر متى ضاع مني الخف في القش ولكن حين غرزت قدماي في الطين اختلط الحابل بالنابل وقلت لنفسي (زاد الطين بلة): العثور على الوطن في تغريبة المسافر، رحلة في حدود المنفى.
حملت تلك العبارة إلى رؤياي أوجها عديدة عن احتدام الكائن والمكنون، الخفايا سر الأسرار متعتها ولذتها الوحيدة أن تبقى مترسبة في قاع الذاكرة، البوح باب اللحظة التي يتوجس منها الصفر، وعبر فضاءات هذه الصور كانت ثلاثة احتمالات تواجهني وبأوضاع مختلفة: أمي وهي تضم بملاءتها جسمي الغض وتطوف بي حول أزمنتها المتآكلة.
أسباريت على مدى الذاكرة أحسها تستجيب لخططي أثناء النزول في طبقات كور بابل ومدنها المغمورة تحت حراسة أبيها الكاهن كيشن. (كانت الخوذة مقوسة مثل عبارة نهلة العساف تحت الصورة الملتقطة من الجو.. تظهر أطراف الوادي الذي انفجرت منه ينابيع النهر لترسم بمياهه عبارتنا الأزلية، أشرب الماء وأذكر عطش...) نهلة تعيد بكتابتها سفر الألواح على ورق الروح وتستشيرني عن عواصف الثلج التي تلقي بآثارها على عمودي الفقري (علة) ومتى ما رأت الخوذة تستفزني: في الحلم... أو في الحقيقة (الخوذة تتدحرج على السفح) حين رأيتها تملكني الشك، خوذة من طراز خاص (أسبشل)...
(أوصافها موثقة في كشوفات المنقبين منذ كتابة قصائد الحجر، مكسوة بورق التوت من دون أن يغطي الطمي صورتها أو ملامحها عنا... نحن رهط الجبل، كنا ننظر إلى حافتها السفلى وقد وضعت دائرتان سوداوان تبدوان كأنهما نظًارة الرجل الأسطوري في أفلام هوليوود) وقبل أن أعثر على تفاصيل أخرى تذكرت إن اسبارنيت قد نبهتني من مغبة الأسرار والمفاجآت على سطح هذا الجبل ولكن حجم الذهول تضاعف لدي أثناء قراءة الحدث، وهذه الأحداث لا تأتي جزافا، حتى لو قررت الصمت أو الانزواء أو الانعزال فأنك لا تنجو من الاحتكاك أو المماحكة التي يدور غبارها باستمرار على وجوهنا.
سادية التصرف (تشعرنا باختفاء الإرادة أو سلبها) نحرت طقوسنا على إيقاع هتك الخوذ، متى تشعر بالضعف؟ فتش عن مزاعم السيادة.
التماهي في فضاء التوجس جدلية في خوض الزبد في البحر..
العريف ينتحل إشارة يتغاضى عنها الحاضرون، وربما لا تعني أحدا غيري في هذا المكان، من أسرار المجهول أن تظل معلقا بالوهم مثل (أو ليس) حتى تستطيع إعادة ترتيب الأشياء ولذا وضعت في حسابي أن للخوذة مغامرة جديدة تدور في فلك الأسرار والغوامض التي لاتصارحنا أبدا ولا تستأذننا.
وأمام إصرارها... رأيت (في الحقيقة كانت تدور في ذهني ثمة ملامح غريبة):
هكذا توضع الخوذة في الحرب
هكذا توضع الخوذة في المتاحف
هكذا توضع الخوذة في اللوحة
هكذا توضع الخوذة في سباق الخيل
ثم أنسل صوت نهلة العساف من بريق لمعان تلكم الصور يسألني:
(هل أعجبتك؟)
ولكن كنت ما أزال من بين اختضاض الملامح كأني أسمع دوي المعركة التي ينقصها العريف الذي يتوقعه بعضهم حيا يرزق، يبحث عني في الحجابات (كان بالإمكان أن يراني) ومع ذلك بقيت إلى آخر لحظة أفتش عن بقية الحكاية وأقول هل من تتمة؟.
تقول نهلة إن المحذوف من الحادث هو اللغز الذي حيرنا/ إن تمثال الشمع يتجول على سطح أمنيات الثلج.
هل بالإمكان تفسير بياض الثلج بخوذة العريف؟
لا شبه يلغي اتهامها لي بالتواطؤ مع المجهول لإخفاء شبح الحرب.
أنا أدرك إن قراءتها العصرية للوجه الشاحب الذي يدخل توا منعطف القرية الكونية يصعب عليه إخفاء علاقة الشهوة بالكيد وانتصاب الشمس عن انحراف السير ولذا بدأت أخفف من حدة ما كان يقوله العريف، إن موضعك لا يستوعب، مخلوقات غريبة، وإن السؤال عن العلة في ظرف مجهول هل يأتي المجهول بدون العلة ومع ذلك واصلت حديثي معها بشأن الإناء المقدس، أصل الخصب، الذي أصبح رمزا لطقوس الجنود اللاهثين وراء المقطورة في العراء (كيف تتعرى واقعة النصوص أمام واقعة الضحايا الذين أهلكتهم قصة الغرانيق) وكواقع حال قالت: تعرضت أغلب نصوصنا إلى التلاعب، فمن يدري.. قد يستهلكنا هذا التمايز وبدون استثناء كل ما قرأناه وحفظناه وتعلمناه وربما يصل بنا المطاف إلى الحد الذي نرى فيه إن الزيف لا يتحالف مع تخيلاتنا فقط من أجل إقصاء الحقيقة ونكران الواقع بل إن الواقع ينقلب في قبضته إلى حقيقة مموهة.
ثم أشارت بعد إن مسحت بنظراتها لقطات (مشهد الخوذ) إلى مسألة التحوير والتحويل في دوافع النسق التي روجتها مكائن الطباعة أو (بالأحرى فضائيات هذا العصر):
سقوط خط بارليف، الخمير الحمر، الترويكا، رون أراد، شين فين، الباشتون، سباق الجمال المهجنة، التايميل، لوجاركا، القبضة الفولاذية، لورنس العرب، الطواسين، شيطان في الجنة، بريجستون، كراديس باستا (لم تزل تفتش عن عظام الهيكل)، الثورة البلشفية، أفول الأصنام، صخرة سيزيف، مرآة العقول، ولاية الفقيه، سنن الترمذي، نقرة السلمان، جدار برلين، في المطلسن الكتابة الثانية فاتحة المتعة كما يقول علي بن محمد الطلقاني، لم تقم ثورة الزنج لولا أن يفترض فوكوياما واقعته المشهورة في نهاية التاريخ..
من حدد هذه الأشكال..ومن أطلق التصريحات بشأنها.. لاأحد يفطن إلى أسس الانحراف في ظل تحول الروح إلى مادة والوسيلة إلى غاية واللهب إلى رماد.. فكيف لي إذن أن أدخل الروح إلى ذاكرتي..
ماذا قلت؟
السؤال هل يعني مثال؟
أكدت (نهلة) قبل عام إن الصورة (هي في الواقع مخطط ألتقط بالأشعة فوق البنفسجية لأعماق المدينة.. كما يقال) أسهمت على استئناف الصحف التي كانت معطلة إلى ممارسة نشاطها وصار بالإمكان مطالعة الأحداث عن كثب.
كل يوم جرائد..
كل يوم نبأ..
وكثرت الأحاديث والأقاويل بشأنها، قال ابن يعقوب لما وضعوا الكيل في رحالي اتهموني ومثله قال مدير البلدية، إن تشجير الساحات جاء للتمويه على هذه الصورة وبعضهم رأى إن الانتصار الحقيقي على حمامات النساء مسبوق بتوهم بلقيس أثناء السير على بلاط أنيق مغلف بالقوارير حسبته لجة، وأخطر ما جاء في هذه الأحاديث قلنسوة الفارس التي وضعها على الحجر (استراحة المحارب).
هدنة الحرب مثل فم الخوذة، متى ما توضع على الرأس يظهر نصف الوجه أسفل السفح، ولإفساح المجال لتأملات نهلة أخذت القوى الخفية تنتحي بي جانبا، تريد أن تعرف موقفي من هذه التجربة:
تجربة الدم في علاقة المبصر، والنجم الثاقب، بعضهم على مساطب الانتظار يسألون،لماذا نحن هنا؟، أياد ملطخة بنقض ماء الفرات فتلون الحديث وأغشيت الأبصار، مابين السرفة وحوافر الخيل (أثر بعد عين)، لا علاقة للتجربة بخرق الطائر زو حلم أسبارنيت لأن البحث عن الفرق قائم في طاقة الاحتمال، الاحتمال الذي أشارت له نهله يختلف هنا عما كونته تصوراتي عن الخوذة التي تماهى بداخلها وجه العريف.
اللوحة الخامسة
قراءة في حلم النص
بعد أن نلت من قصاص الجبل ما توالد من أضغاث أحلام حملتني دهرا في سرها وعلمتني إن لهذا السرسحرا لايمكن عبوره دونما تخيل الصحراء والعطش والكهوف والخوف والتعاويذ على انها كائنات اختارتني أن أكون حكاية لها، فهل أستحق أنا ابن المدينة الأعزل أن أرسم إرتحالاتي إلى الأبد على ظن أجدادي المتوارث عن طفولتي التي تكتنفها روح متمردة. |
على عتبة المدينة أوصتنا اسبارنيت أن نتنكر بزي مختلف لنكون أكثر إيحاء، وطلبت منا أن ننتظر إلى جوار جسر القنطرة الخبر، ثم أعطت كل واحد منا بضع حبات من التمر ملفوفة بالرغيف وقبل أن تودعنا ذكرتنا:
إذا حدث لكما إن غادرتما المكان، سوف تنصتان إلى الرمال حتى يتخضب جساداكما بلون الأرض (متاهة) اعرفا كيف تنتبهان إلى ريح البراءة العذبة عند هؤلاء السقاة، فسقاية البر تختلف عن سقاية الأحياء حيث ينهل السكان من منبع مشترك، أقرأ/ مسبار المتاهة في عين ذلك السقاء، قد تجدا في ذاكرته عنوان السؤال المحظور.
أقرأ/ كتاب الأمواج وإزاء ما تريان سيأتي الحلم من السحر، أذهبا معه لترفعا صخرة القبر، قبر ولي صالح تحته تجدان مفاتيح الإشارات الملغزة.
قدما ما شئتما إلى ذريته من قرابين، ضحيا بشاة أو بعير، تستطيعا فيما بعد التخلص من توجس مرهق أقترفه الخطأ في مشهد الخطايا والنسيان/ وعلى الرمل ذاته ستأتي أنانا من عمق الأقاصي، من أفق الشمس (دلالة على جبل النور وهو يشبه التلة أو الناصية مزروع في قلب المدينة) لتعلمكما ماذا دار في غياب الطائر زو وإثم أخيها يهوه الذي أغتصبه طمعا بخلية الرمل الممزوجة بتعويذة مطهرة رصعت جبهة الصيوان المقدس (إشارة إلى الحجر الزيتوني) بعد ذلك ستجدان إن المدينة المفتوحة كيف تنصهر في الغيم لتشكل من أجراسه المطر.
وبعد وصايا عدة من هذا القبيل شعرنا أنا ونهلة باقترابنا حقا من الناصية التي ستتسع لأطلالة أنانا، فأخذت ملامحها ترسم لنا التصورات التي كانت تراودنا عنها، فتنة ورقة وعذوبة، جمال أخاذ يتجسد في لوحة، أوصاف في منتهى الدقة تلهم الحواس على استدراكها وقد تكون خلاف ما نتوقع... فمن يدري ربما هذه الملامح التي تخصنا أو بالقليل التي تعيننا على بناء رؤيا قد تكون فيها رائحة ولون آخر.
(المهم) أمام فرصة اللقاء المرتقب كان الانتظار يترك لنا فسحة التحرك والتجوال في الخلائق التي تمخضت عنها صورة أنانا: أنانا/ تعشق ثيران الشمس، وقد كشفت في إحدى المرات عن نيتها ورغبتها واستعدادها لفك طلاسم نص المدينة، حين أطلق جيفارا على أسم المرأة الضفدعة التي كانت تأتي إليه بأخبار الثائرين من المناطق الموبوءة والنائية/ نونا.. في سفر النون تتحول الكلمات إلى ميناء للذاكرة، وطن لملتقى الأحلام والغائبين والمنفيين الذين جابوا الأرض من دون مرشد بحثا عن أسطورة ستحل في موكب المهرجان، مهرجان يشكل فيه البحر ملاذا للكلمات...
فتظاهرت الأمواج بالإنصات
والسحاب
والغيم
والكل كان في أحلك الظروف ينتظر، لا أمان بدون أمل ولاسبيل ينقطع براكبي النجمة، على هداها تضيء مفاوز اسراب النمل على قراءة أخرى.
قراءة قد تجسدها معشوقته أنانا (المرأة الضفدعة) روحا خرافية على البقاء حيا وسط الأدغال.
لم تشر مذكراته صراحة لهذه النقطة ولكنه استعان بخيال النص على تواري بعض الحقاتق.
خذ مثلا:
حين غابت الشمس أثناء لعبة الأبراج وأستيقظ الحوت، توارى بلوم ـ جويس ـ أملا بالعثور على عوليس الذي أغوى الشقراء ـ زو ـ متجاهلا تحذيرات هرقل من لعنة جنية البحر التي روعته
في مخاض أعماقها قبل أن يشتريه صاحب سيرك رديء ليتظاهر بالرياء في أعقاب سقوط البطل (كيف يتم فحص الشفرة)
ولكن في أتون تقلبات أمزجة المؤلفين كانت عفة أنانا مصانة بنص الكور الذي كنا نقرأ فيه حكايات المرأة العجيبة التي رسبت لهيبا فوق الأمواج.
1812 في هذا التاريخ وجدها الغزاة على الرصيف فذكرتهم بما قالته قبل ألفى عام للبرابرة عن سر مجيئهم إلى كور بابل فأخرجوا (...) و ب ا ل و ا.
فيحكى أن في ذلك اليوم دخلت إلى محراب الكاهن كيشن، وإلى جوار تأملاته الغارقة في فضاء الصورة/ شعرت بما يأتي للنائم، رأت دم البراءة يظهر على وجه الصخرة والكل يهتف نريد التطهر من الإثم (إشارة لحكاية الصخرة في مدينة الزعفران).
لكن ذلك اليوم بقي أطول مما توقع الأعداء زحفهم بطيئا وبعيدا وكأنهم بدأوا يدركون أن الرياح ستهب والقدر المراوغ سوف يلوي أعناق المنجمين والعرافين الذين طلبوا منهم أن لا يبوحوا لأحد بمشروع الحرب.
وفي الظهيرة ذاتها رأوا جبن التاريخ حين خذلهم على أسوار المدينة، منبوذين، لا يقايضهم أحد على الهزيمة (...) العيون الماكرة على مدى الأزمان تتمرن على العنف.
أنانا ما تزال تحذر من شظايا الغدر.. الفجر لا ينبثق من البحر والسموم لا تغير الرمل والذكرى ليست هي الرؤيا والخيانة لا تغسلها سواحل المحيط.
في فصل النون من إبحار ماركو بولو على ظهر السفن الشراعية والبدائية آنذاك بحثا عن اللقى الثمينة المعزولة تماما بفضائها ومياهها، أشبه بمدن الرعب التي نوه عنها فرناد ليجيه في لوحة وداعا نيورك وإن المغريات مهما كانت ساحرة ومبهرة مجرد أن يشعر الإنسان أي إنسان إنها تخفي وراءها سرا خفيا (مقيتا) تهتز قيمتها الجمالية ويرتبك الإحساس إزاء الحلم والسعادة... قبالة سواحل جنوا قبل أن ينفى إليها قال: تململ البحارة وضجروا وتهافتوا على ريح الخيانة في عرض البحر وكل واحد منهم كان يحمل لغزا بداخله ويتنكر، فكنت على مرمى من الحقيقة الدنيئة التي راودتهم بلا أدنى شك، تمهلت، وترويت ولكن لست مجنونا حتى لا أكترث بما يدور حولي، على كل حال، أشرت لهم أن روح أنانا قد وهبت لي أن أسمع وأرى ما لايسمعون أو يرون، فظنوا أن ثقب جسدي وربطه إلى لوح السفينة لمغامر مثلي سيحررهم من الموت الغريب الذي يتراءى لهم عن اعتقاد سيئ بأن جنيات البحر جنود مسخرة لملكوت سحري في داخلي وهي تنفذ مآربي ضد أية خصومة محتملة أو طارئة قد تحصل لي.
قالت نهلة: ما هذا؟
قلت: حكاية.
قالت: لكن الذي فعل ذلك عوليس في الالياذة وليس ماركو كما نعلم.
قلت: ربما هذا صحيح، لأنه ينبع من تمجيدنا لنص واحد أوحين لا نسمح لتخيلاتنا أن تنسج غير تلك الملامح التي تكونت عن النص ولكن حينما ندرك أن للنص المعقب أقنعة تتوارى فيها مكونات مخلوقاته نحس إزاء هذه الحركة بشيء مختلف حتى لو كان فيه ما يوحي بهذا التشابه الذي أشرت إليه.
ثم في إستدراك عفوي سألتها: هل تعتقدين إننا وحدنا في هذا المكان ننتظر أنانا، ربما ستشعرين في هذا السؤال نوعا من الغرابة ولكني أؤكد لا بل أجزم إن الأوهام والأحلام لا تنفصل عن استشعارنا بأنا متواطئون أبديون مع الخيال فلم إذن لا نصدق بأن الذين رأوا جنية البحر هم شركاء في هذه الرحلة
تتولى أمرهم وتصرف شؤونهم ماداموا قد رأوهن في ثياب الموج تحت أغلال الشمس يفرشن سيقان البلور على الساحل/
هل ساحل الرمال مطابق للنص؟
يقول فلليلني، علمتني روما إن رماد الأشياء يتخلق منها طائر الفينيق وعلمتني أيضا إن المدينة التي لم تتعدد حكاياتها وأساطيرها وخرافاتها وعرافوها ومنجموها لم يكن لسحرتها (يقصد المؤلفين الممسوسين بداء النص وجنيات البحر) هؤلاء لم يكن لهم أي تأثير وجداني ونفسي وحميمي (إيعاز للتطابق والنفور) ولذا تلونت أفلامي بسحر هذا الجنون كله بإحساس مرهف لم يدع لي مجالا للشك إني أحمل في حياتي سر المدينة الخفي.
وفي ضوء هذا الاعتقاد يكتشف (فلليلني) المفتون بخفايا المكان ثمة أسرار هي أبعد ما تكون عن تصوراتنا أو قد تكون خارج حدود تفسيرنا ولذا ظل الخفاء في توقعاته هوالسر المراوغ الذي يتماهى كلما دنوت منه، عصي على معرفتنا بلوغه أو احتواؤه، إذن هو نقطة إفتراض مجهولة نعزز وجودها بأوهامنا وتخيلاتنا كي يبقى لأعمارنا أمل نحياه، وبهذا الأفتراض أيضا كنت أشعربأني أقترب ولو قليلا من سر تقلب أنانا بين الجسد والعقل، انظري (نهلة) إلى من يقوم بتصويرها لنا على مر الظروف والتواريخ والأزمان لا يقف أحدهم عند لون معين ثابت وغير متغير وكأن ما فيها يتحدى نمطية الأشياء المستقرة والجامدة، حياتها لم تكن قصيرة ولكنها ملفتة ففي فيلم (بوسيدون) رسم منها رينيه المخرج الفرنسي شخصية المرأة الفيتنامية التي تساعد على الكشف عن الوجه الحقيقي لسفاكي دماء الشعب،ووجد فيها أراكون ملاكا يتحدى في سحره لغة النظم والأسفار والرحلات وكشفت لدانتي قريته المستوحشة في الكوميديا وهي تهب للطبيعة الخلابة موتها المتأرجح وألهمت بيتهوفن معنى آخر لتناسق الجسد فجسد المفاصل الفاتنة على إيقاع خرير المياه فتظهر الصورة الرقراقة صورة لا قرار فيها تتموج، تتماهى كأن في أوصاف تلك الموجة مدنا قصية لاتستوعبها غير القارة السابعة عنوانا لتك الجمرة المخبأة في المتناهي وقد تكون ذاتها أوحت للسياب إنها تخرج كل مساء من جيكور وتتزين مثل (إقبال) فيحاصرها النهر قبل أن تغرق في متاهات القصيدة وعالمها المسكون بالتصورات. والآن نعود إلى مخيلة رينيه في الفيلم (كيف؟).
أنانا ظهرت ـ لهوشي منه ـ من وجه الأعاصير بلا نهدين، صورتها لم تكن مجرد مخلوق من العالم الآخر ولم تكن هي كذلك، وجه بابلي بزي فلاحة جبلية (إيتانا) أتى لتوه من حقول سفوح الماشية، شابة حقيقية متواضعة وفقيرة تحلم في سقاية العصافير التي هجرت أعشاشها بلا أستئذان من ماء النبع وإذا لم تعثر على شيء، لم تعد خائبة، ترمي الماء على غصون الأشجار ليظل عالقا كالندى على أوراقه فيقول ـ هوشي منه ـ كنت أحتفل بذلك الندى الذي علمني إن لأخر الرمق حياة.
بوسدون في النص الأسطوري لا يختلف جوهريا عما يطرحه الفيلم، كل الذي تغير إننا إزاء مشاهد تستثمر استمرار الفكرة برؤية تجتاز الحدود الإقليمية لبنائها المثالي الذي تأطرت فيه، فحينما نصغي إلى الأسطورة، لا نشك لحظة في أهمية ما يحصل، الجنون، السادية، القوة، الطغيان، السطوة والبطش، العتاة، الشزفرينون الذين يخفون أعراض الداء عن الإعلان، إعلان التجربة قبل الاستعمال، تحرش جنسي، إغراء، جرم نباتي لاينفع، الحقنة أنجع وأسرع من الكبسولة، المفعول يختلف وإن درجة الحرارة لا تساوي درجة الرطوبة، وصايا الإعلان تطلب التأكد من أكس باير/ الصلاحية، قيلولة ونقاهة/ إذا لم يكونوا فوق الحصير وسيقانهم مضمومة لا يمكن قراءة الانبهار لبعض السواح (كما ورد في إحدى حكم لاتوز في فلسفة التاو التي لا تجهل أبدا تعاليم كونفوشيوس في إحياء
دوران الجسد على الطاولة، بساطة وعفوية وجمال روحي ينبع من العشب بأثر الشمس، فتقوى السيقان على سحب توهجها إلى الذروة البسيدونية، مقطع من نشرة تحث على العلاج العشبي).
بوسيدون ولد في سنة الثور الأعمى وأستقر حسب ما جاء في كتب الأولين على رأس أرنب/ في كتاب لغز الكائن، تفسير للقدر المجهول.. والغيب الذي يتلبسنا في ظل الأشياء.
وفي الكتاب نفسه/
كانت صبايا بوسيدون تعلقن لوحا صغيرا على صدورهن الناتئة، في هذا اللوح تظهر ابتسامته الغامضة على شكل هلال يحيط بطائر يخرج لتوه من أصابع شبه منحنية.
الدلائل تشير إلى إن الطائر تنطبق عليه أوصاف (زو) وأما الأصابع فهي ليهوه الذي وجد في موطن الصبايا مرتعا لأحلام الذكورة التي تشب على الطوق أملا في وأد الأبوة.
ولاستمرار الأسطورة نلاحظ شيئا ما يحدث، طيورا غريبة بجناح واحد تهب دفعة واحدة من مكان ما، هذه الطيور فزعت حركة الصبايا وغمزت لأحاسيسهن بالخوف وهن يداعبن في خوض أحلام الماء الذي يصب على أجسادهن البضة نشوة الخيال.
وبصوت عال..
خارج الحلم/
نزل المحظور وكشف المستور/ من الذي ترك لهن نهدا واحدا في مواجهة طبيعتهن الأنثوية (توقعات بيكاسو في لوحة آنسات من آفنيون).
صرخة الأنثى مثيرة للرثاء (بابلو نيرودا)
حافيات ونصف عاريات/ غارقات في تيه اللحظة (من سلب عن صدورهن علامة الطير).
بوسيدون يجتاح نبوءة العرافة التي دعته إلى التخلي عن رجس الخيانة، ويتهمها بالعهر/
فدعا الطير فلم يستجب.
ودعا النهر فتوارت مياهه بين الشطآن وغاب في الطمي اللازب وانتقلت كائنات الروح (النبع في هذيانه صور لم تتوقف) ولما غابت المياه/ بسطت الصبايا أخاديد النهر/ سيقان على الطين تنحت ذاكرة مفتوحة وترسم على الشاشة البيضاء شهوة ما تزال ممكنة/ الصبايا في لوحة مايكل انجلو/ سراب..
الصبايا في لوحة الإنسان وصفهن القس جون ماكوري
بالخطايا...
نابو في الألواح أعطى تبريرا لتصورات رينيه في الفيلم وإن ما من أحد يستطيع أن يحدد طريقة بوسدون على أرض الواقع، فالروح التي تلبست جنونه روح غير عادية وخصوصا بعد استهزائه بما قالته عرافة بابل (إشارة إلى عبارة إسبارنيت الشهيرة...).
ماذا؟
(لم يكن محور الفيلم فكرة بعينها).
ولكن من المتوقع أن يكون مشهد الممرضات اللواتي أٌسعدن بحظوة عقار بوسدون الذي بمقدوره أن يمحو دورة الطمث لديهن قد ألب لديهن الشعور بمكائد العرافين الذين يتنبأ ون بالأجيال الباسلة.
هذا الاحتمال أيضا لم يستنتج من الفيلم بل من تلك الرحلة التي استغرقت كتابتها النصوص.
نص الرؤيا/ انحراف الشاهد عن بنية النسق...
نهر الدانوب ليس بأزرق ولكن موسيقى شتراوس خلقت زرقته. (شعور خاص صعب إقصاؤه ناهيك عن خسارة تجاهله) فوكو
استحالة الأشياء خلقت عند رينيه مكونات بديلة، فنرى رحلة
أنانا إلى العالم السفلي تحمل أكثر من وجه، مركبة ومتغيرة، المحتوى الداخلي وجوده تكويني وبعده مقاصد، الهدف الجوهري في مثل هذه الحالات ينتظرنا دائما.
الفيلم لم ينته، كالسفر بالنسبة لنا، نعتقد إنه هروب ولكن في هذا الهروب نكتشف فيه ضالتنا.
الخيط الرفيع الذي لا ندعه يفلت من أيدينا هو الشيء الذي لا نراه، خفي يتمظهر لأحاسيسنا ومشاعرنا، مراوغ حتى في معرفتنا له.. آه يا نهلة لو تعرفين مدى عشقي لنص لا أرى فيه هذا الواقع , أريد أن أندس وسط المعاني بين السطور متواريا عن فداحة الخسارة التي تدفعها فاتورة أعمارنا.
قالت وهي ترسم على الرمل صوتي/ هي لم تنبس ببنت شفه، مجرد إيماءة فيها نوع من المشاعر إزاء لحظة الاعتراف.
رموز المقاطع الصوتية، على متن الأرض طلاسم متى ما تغسلها الشمس يلحسها اللسان/ الطاهر بن جلون
وهل ذاكرتي في الجبل يستطيع أن يلحسها الثلج؟
في تجمعات (الرهط) هموم متبادلة وسعادتنا أن تهرب تلك الهموم من أرض الواقع، فكان جبل الثلج لا يشكل سوى الموضع الرمزي، تؤثثه سرائرنا وأسرارنا التي تستمرئنا على البقاء صبورين أمام تضاعيف الجبل ذي الكهوف المحيرة كالألغاز،والتي حجبت عنها الشمس كما كنا نتوقع أو هكذا كان يقال لنا، إنه جبل مشاكس لفصول الطبيعة ومتمرد عليها وكنا نحس بذلك بلا أدنى شك ولذا نقتات على ذاكرتنا ونبش محتوياتها لإيقاف حسابات اليأس وإحباطاته التي تدهم خفايانا بصمت مطبق.
هو الصمت نفسه الذي أغرق أمي في الوحدة قبل أن تحملني إليها الرسائل.
أمي طيلة حياتها لم تشته عسل الموز بل عاشت على حبة بلوط وخبز الشعير ولبن الدواب وهمس التذكر، أمي وحيدة يأتيها الغروب كترنيمة دعاء، سحره عنفوان الذاكرة، أمي كباقي الأمهات اللواتي لم تنصفهن مخاضات الغياب على فلذة الأكباد الفارين من المسرات، فتستعين ببقايا الحلم على استرداد الصورة، (تقول) حين ترسم لي وجوه الحسناوات بقلم الرصاص، ملامحهن في ذهني كأني أراهن فيك، ماذا أفعل؟ مكتوب علي أن أسأل النهر عن طيب خاطر إلى متى تظل عيني شاخصة إلى محطة الجرار أمام المجرى، ومن دون انتظار كانت صفحة النهر تعيد إلي لوحات قلم الرصاص،كما لو أن وجوههن المائية هي نفسها التي تحاصرني فتأتي إلي رائحتهن فأشم بها عبق الماء وأتذكر نفسي، هل أنا أنت أم أنت أنا..؟
أنا في غياب الظل أحلم بمجيئه: قبل أن يأتي تحتفل العبارة، الحدس في إطار النص لحظة، فمن يضمن زمنها على النضوج.
كانت أمي دائما تقول، أكمل يابني،حدثني، قل لي ما شئت..
قلنا الفيلم كالسفر، السفر الذي وضعنا في هودج بعيره أمنياتنا، وسار بنا تحت أنظار أنانا، كانت الريح تعبر إلينا من قناة النهر كأنها تصرح من غير تردد أنتما في ضيافة الكور فوهبت لنا مالم نحلم إن كنا في ثراء أم نعيم أم هي أضغاث أحلام ما تنسجه الكتب والنصوص والأفلام والألواح والنساخ والأوراق والأقلام؟ ولكن سعادتنا كانت لاتوصف ونحن نرى صبيانا وفتيانا يرتدون الإستبرق والحرير وهم يهتفون بسلامة الوصول وينشرون الورود والزهور على موكبنا الصغير،وأثناءالجري كنا نتأمل صورا زيتية ومائية وبرونزية وخزفية تزين الطرق والساحات التي يمر منها الموكب، أضواء المشاعل الزيتية المنبعثة من النهر انعكاسها يتراقص على السطح المتموج فننظر إلى المياه الرقراقة متباهية في المجرى تحت المصابيح المشعة بأنوارها المتلألئة، منظر خلاب يرافق موكبنا، براءة في كل ما نراه ولا نصدق إنه قائم قبل أن نأتي أو معد سلفا لنا، ولكن من الملاحظ إن طبيعتهم تتصرف هنا على سجيتها من دون تعقيد يذكر أو تكليف مصطنع، صعد رجل ملتح على عربة تجاورنا هامسا في أذني أن أحقق رغبته في سبق صحفي، امرأة في عنفوان شبابها، صدرها مطرز بالنياشين يقال إنها أرملة أحد الشهداء نهرت الرجل وأبعدته عن موكبنا الحافل بالأمنيات، رأيت أحد الأشخاص لم يقو على السير يرفع علما صغيرا حسبته لتحيتنا ولكن أتضح إنها الراية المصبوغة بأديم الأرض ومسقط الرأس التي سوف تظل ترفرف بين يديه حتى ظهور الحجر الزيتوني المقدس.
تساءلت حينها، ماعلاقة الحجر بالأنتظار؟.. هذا ما حدث لي في يوم ما: عند مقربة من أحد الأحواض كما يسميه المنقبون مع شخص يلقبونه الرجل الأحمر، (بينما كنت أراه واديا محاصرا بالكهوف ليس إلا) بعد أن أخذ منا الإعياء في ذلك المكان وضعا مزريا إزاء التواصل والتحقق (الحقيقة هم بعثة تنقيب وأنا رافقتهم في تلك الرحلة لإشباع رغبتي وفضولي) يا ترى كيف كانت تنظر نهلة لهذا الهوس الذي كشفته يتحرك في داخلي منذ نعومة أظفاري، هل كان بحب، بعطف، بحنان.. إلا إنها أيضا كانت شغوفة بهذا العالم، العالم الذي لا يدع وريثه يستقر بلا حلم، بلا أمنيات، بلا رغبة وبهذا الاحتمال كنا نرعى أحلامنا أيضا داخل بناية المديرية الصغيرة، البناية التي مازلت أطالع من خلال سجلاتها المتهرئة مواقع المدينة المفتوحة برموزها وعلاماتها وإشاراتها التي لا تنتهي.. وهذا ما كنت أعنيه من تلك المصادفة التي قادتني فيها نهلة إلى ذلك الموقع عبر هذا الطاقم،إن أغلب الكهوف مسجلة على الخرائط، خرائط عليها إشارات أجنبية بيد الرجل الأحمر وأخرى بطبعة محلية تفترشها نهلة عند كل موضع، الحركة لم تتغير، الجميع يحاول أن يجد حلولا لهذه الخسوفات المشلولة على سطح الأرض، لاعهد ولاضمان يمكن أن تمنحه هذه الخرائط، التجارب المريرة غنية بمثل هذه المخادعة التي يتوارى فيها الخيط الأبيض عن الخيط الأسود وأنا لم أر على الوجوه الغامقة التي تشبه وجوه المحاصرين أي ملامح غير صارمة، منهكة، مشحونة بإشارات الرمال (ما الجدوى؟).. التنقيب يقول، إن موجة الحجر تخرج من صخرة الكهف، فعلينا أن نتتبع خيط الذاكرة من ضواحي المدينة التي زعمت بعض النصوص إنه فقد أثناء لحظة (الانشقاق) ومادامت اللحظة قد سبقت الانشقاق يعني هناك وقت متأرجح وهذا ما يدفعنا لضبطه قبل أن يهجرنا إلى دروب أخرى، (ما هي الدروب).. قلت لنفسي لا داعي الخوض بها الآن، الجوع ينبش في أحشائي التعب والأرق يشغلاني بلا حدود، ويكتنفان سبيلي ليس إلى الراحة وهذا شيء مؤكد أن تحدث مثل هذه الأمور فورتها في تغير السلوك أو تغير صفوة المزاج أو تنتقل به من حال إلى حال ومن وضع إلى آخر وأنا على هذه الحال لا أدري كيف أخذتني (صفنة) طويلة لم أسمع من خللها أي شيء، كان إحساسي بليدا ومذاقي بالأشياء يتضاءل ورغبتي لم تعد تلك الرغبة الشغوف لسبر أغوار الماضي ولكن لم تكن على درجة قاسية من ذلك الإحباط، ومع ذلك كل ما أردت تكوينه في تلك (الصفنة) أحس إنها متعلقة بسر فتوة نهلة وأنا أرى شحناتها المتفاعلة تتصاعد عكسي تماما، تعيد تشكيل الخريطة، تعيد تأشير العلامات، حتى تساءلت مع نفسي: هل كان حقا يشغلها هذا الحجر أو يشكل هاجسا لتفكيرها، ربما الأسرار وحدها هي التي تجيب، أنا لا أخفي أن تكون ثمة أزمة أسطورية، خرافية، سحرية قد زحفت على هذا الموقع تبغي منه أن يكون بيتا للحكايات، يحكى أن موقعا قديما حاصر (كريمر) ألآثاري المعروف، مدة لا يستهان بها على البقاء حيا، أنهكت قدراته الإبداعية على خوض تجربة مماثلة معللا ذلك على أحاطته بقوة خارقة ليس لها شكل أو لون، تتمتع بسطوة فولاذية لا مثيل لها أحالت دون مواجهة القبو، الحيطان من الداخل تهتز، أصوات تنحسر وتتقاطع مع الخارج، نصف المكان معلق أو هكذا يبدو، نصف التفكير مشلول، طاقة التحدي في حالة من التراجع والتخاذل والإحباط، كل ما يمكن فهمه، هو لا يفهم ما يدور من حوله، يقول: كيف نجوت وتحررت أوإنعتقت من هذا المكان لا أدري فقط أحسب نفسي محظوظ تلك الساعة التي لفظتني إلى الخارج كما يلفظ الجنين بعد مخاض عسير،وهنا أوشكت أن أرسم الصورة نفسها وبالطريقة ذاتها التي آلت على كريمر لنهلة وهذا ما جعلني أتوقع وأنتظر بأعصاب مشدودة ما يمكن أن تسفر عنه هذه المغامرة، نعم أسميها مغامرة إزاء افتراضات قائمة على تحدي شيء مجهول لم نره إلا في أذهاننا أو نشك بوجود لغز كما يقال بين السطور.. وماهي إلا لحظات حتى سمعت كلاما غريبا، مالم يكن بالحسبان أصلا، تعديل عملية التنقيب عن الحجر المقدس، الرجل الأحمر وبشكل غير مسبوق يقترح جلب كلاب مدربة، وبما أن للكلاب فيرمونات تخرج من البول، رائحتها مميزة/ تقول لجنسها هنا يسكن ـ الأبقع أوالسلوقي وووو ـ بحيث تتجنب بقية الكلاب الحدود الإقليمية غير المرئية وبهذه الصفة يحاول الرجل الأحمر أن يستقطب الآراء حول ذكاء الكلب وإمكانية إنجازه بسرعة متناهية ماعجز عن تحقيقه الفريق حتى الآن.. لا أنكر أبدا في الوهلة الأولى إنه أثار دهشتي وإعجابي بما قد تسفر عنه هذه الفكرة، ولكن هذا الأعجاب واجه إستياء نهلة واستهجانها لهذا السلوك الذي لا يكترث بذاكرة الآخرين أو طبيعتهم أو سجاياهم، الناس هنا ببساطة طبيعتهم جهنمية إزاء ما يثير الشعور وأي تفسير خاطىء سوف يجلب الغم، وقتها لاينفع الندم، أدار رأسه ولم أعد أفهم ما قال.. ولكن من الواضح إنه كان مستاءً أيضا ومتأففاً، لم ترق له العبارة ولا طريقة إبداء النصح أو أي شيء من هذا القبيل وأتذكر حينها ترك الخرائط وأنفرد عنا وسط رطانة ليس فيها إيقاع متجانس أو صورة محددة سوى أن تشم فيها رائحة التذمر، وأتذكر في تلك اللحظة إني طمعت ببوصلة راقية تركها على طاولة أوراق وقطع هندسية مصنوعة من المعدن الفضي وغاب عن الأنظار ولم يعد له وجود يذكر بعد ذلك طوال مدة الحفريات الباقية، الحقيقة كنت أتذكره ليس بسبب البوصلة وإنما لحادث آخر إذ في ذلك اليوم تعرضت إلى عضة كلب كلفتني وشما على فخذي الأيمن، أثر لصيق لا أستطيع أن أقول له ما تفعل هنا..
هذا الأثر وكما وصفته أو مثلما أرى ينسجم مع الرأي القائل إن النصوص مهما اختلفت تظل هي مصدرا للتذكر، (طبعا للتشبيه وليس للمقارنة) لأن النصوص في كل فصولها ومنذ القدم، أنساقها تتجول في دفاتر الروح وتنتقل معها من مكان إلى آخر، كما تفعل معنا الآن، كأنها تدور في فلك هذا الموكب الصغير، نحس بها ونشعر إزاء حضورها إننا لم نكن وحيدين أو إننا غرباء مقطوعين أو مفصولين أو معزولين في أسوار مغلقة، وعلى هذا المنوال تتحرك ذاكرتنا، أحلامنا، تخيلاتنا أو تصير كلها حياتنا ونحن نختفي بداخلها، نتبعها ولا تتبعنا نراها ولا ترانا، وإذا شئنا أن نسمي هذه الحالة فلا يسعني إلا أن أسميها ـ استدراك ـ وبهذا الاستدراك أيضا استوقفتني لحظة تاريخية تمر من أبواب ومداخل الكور، الحرس القديم يستبدل بالحرس الجديد، نقطة مرور، انتبه لا تفعل شيئا، الموكب في طريقه إلى عبور الشارع، أنتظر من فضلك، حافظوا على نظافة مدينتكم، الادخار ضمان لمستقبل أطفالكم، علموا أولادكم.. الأم والمدرسة لاستار بينهما يفصل الطيب عن الأعراق..ونحن في ذلك الحال دخلنا ساحة يقال لها (الأكيتو) تؤدي إلى شارع سماه لي رجل أعمى مر من جانبنا (الموكب) في ذلك المكان توقف موكبنا ولكن لم نترجل بعد من العربة الملكية التي تحملنا، لماذا توقفنا هذا لا يهم، ما يهمنا إننا في أجواء تجليات اللحظة التي تتنفس فيها عبق رائحة المكان، إنه يذكرني بطاق الزعفراني الأقواس، الريازة، النقش والحفر والزخرفة متشاكلة بمسافاتها على واجهة الحيطان وبمهارة قل نظيرها في التناسق والتعبير والإيحاء، معالمها تتحدث ونحن نصغي، هي تبوح لضيوفها أن يدشنوا حل عقدة أسرارها بلا خداع أو مواربة (كيف) من منا يستطيع أن يتجاوز برتوكول الزيارة إنه النظام الصارم المقيد بالتعليمات، كم تمنينا لو كنا مجردين من هذا التقييد الملزم لنا كضيوف.. لنرى ما يمكن أن نراه على حقيقته ومع ذلك كنا صبورين لا نتعجل أمرنا قبل أن تسفر الرحلة عن مكونات عوالمها الخبيئة وما تريد أن تمنحنا إياه وأعتقد إن صبرنا كان متبادلاً في هذه الحركة... فالأشياء أحيانا لاتسمي ولكن تعكس بدون تردد رغبتنا في السؤال أمام تغير الأشياء، متنكرون يمرقون على ظهور خيل مطهمة كما تمرق السعفة في البادية مسرعين غير خائفين أو وجلين إنهم مبتهجون،الأفراح والمسرات ماضية على قدم وساق، ضرب الدفوف والصنوج ومظاهر الزينة تحتشد بالأهازيج واللافتات والصور وكل ألوان التعبير مسموح وجائز لأن الناس ببساطة يتحدثون عن خصائص هذا المكان الذي أصبح مستحيلا أن تطأ أرضه الهزائم أو الانكسارات وإن ابتلى بالأحزان، فقلت لنفسي هل نحن في الفردوس أوعلى مقربة من جنة عدن.. ومن غير أن أذهب بعيدا في الوصف والتشبيه كانت ملامح المكان تغري موطن الكتابة، مشاهد لايمكن إلا أن تكوٌن أخيلة كل رؤية فيها مفتاح لرؤى متعددة قد تفلت من قبضة النص أو تتماهى في قناع معين بعيد أو قريب، صور تمكن إعادة ترتيبها، وأمام تشكيل الأنساق كانت أمنياتنا توحي لنا بطفولتها المتمردة (أن لا يجلس اللاشيء إلا بيننا) وعند خروجنا من المهرجان تلك اللحظة اكتشفنا في عتبة النص بوابة المدينة، من أين ندخل إليك أيتها المدينة الحبيبة وقد دخلنا باسمك المحروس، المحفور في مرايا العارفين، كم كنت واسعة على اللحظات، عطش ثم عطش فلا الرياح تنام عنك، ولا النسيان، تعبرين علامات السؤال وتديرين الأفلاك كما لو كنت تشتهين حلما لانهائيا يسطع مثل الماء، صبي يرتدي ملابس العشب ويحمل الجرة، يفتح فوهتها لشهية الظمأ فتروي الكتابات مآثر الشمس وهو واقف ينتظر متى يورث النبع قال أنا ابن عين الماء وسليلها وابن قمرها وشمسها ورياحها وروحها التي تصعد بالرؤى والأحلام إلى حلم القراءة قراءة تبحث عن المسك في ليل الفوانيس ثم كرر ما قاله عن متاهة أحلامنا (متى يورث النبع).
وقبل أن يتحرك الموكب، طلبت منا شابة ممشوقة القوام، جميلة، ترتدي بدلة خاصة بقائدي الاوركسترا أن نحيي حفلتها البابلية ونصغي لتراتيل الأوتار الذهبية التي تصدح بها قيثارتها كل مساء، ولكن لضيق الوقت على ما يبدو لم يكن ثمة تأخير في برنامج الزيارة ولذا واصلنا السير كما يقال لنا إلى برج الأبراج الذي لم نعرف عنه شيئا ولم نسمع به من قبل ولا ندري بأي حقل من حقول الأفلاك ندور في هذا العالم: بينما كان إيقاع أغنية فيروز ياأنا... ياأنا أنا وياك مغرورا بالشفق المسفوح على وجه القصيدة.
أخذت الكتابات تشرق من مشاعرنا فتولد لنا إحساسا ممزوجا بالمتعة فكنا نرى تشكلاتها على الرمال يتلذذ الصبيان تمارين استنفارهم بتصاميم ماكرة/ من لوحة عصافير الرمل الجريح/ مخطوطة نزهت سليم بقلم الرصاص.
وكنا نرى أبعد من ذلك إذ كانت أمانينا تغرينا يالدخول إلى مدينة الحجرات وهي واحدة من قلاع برج الأبراج التي قالوا عنها تابعة لأرض الآباء والأجداد والأفذاذ والأبناء البررة التي تنتظر أحفادها جيلا بعد جيل (وفي النص حجرات الزيتون صيغ الأسم من الحجر الزيتوني المقدس التي بناها الإله مردوخ خصيصا لإبنته أنانا).
قالت نهلة: أنظر!
قلت: ماذا؟
كانت الأبواب تحيطنا من كل مكان، متقاطعة، متداخلة، متشابكة الفضاء، بحيث لا يمكن التميز أو التفريق بينها فأحترنا بالتشابه أو بالأحرى أي الأبواب سوف يفضي بنا إلى الداخل، وقبل أن نكتشف هذا اللغز بهرتنا أنانا بطلتها البهية وهي تقف على منصة من الرخام الأبيض المرصعة بتعابير الحكماء والكهنة، ألتفاتتها توحي بسحر الكلام، فأخذنا نصغي لأنا كنا مأخوذين بروعة هذا اللقاء ومتلهفين له منذ إن ألمحت اسبارنيت إلى هذه اللحظة:
مدينتي ضاحية من الرمال كتب على أديمها كل مسافر ورحال وقاص ودان ومقبل ومدبر مشاهداته من لحظة انفجار الحلم إلى صخرة الموج المتكسرة تحت وهج الشمس.
لتهب الظهيرة من حمى تلفظها/ رسالتها المفتوحة إلى مواسمها التي لا تنقطع... فتعثرا بعد ذلك على الرقيم (الكتابة التي غسلت فيها الشمس آثامها).
مدينتي/ ستأتي أنا متأكدة من ذلك..
تصورا...
إن المعبد حافل ببركات السحر على حمامة رفرفت بجناحيها على ـ تل الزينبية ـ مورد النسل في بياض الكلمات.. آخر امرأة صرخت منذ إن تحول النهر وتغير الموج وتراجع الأمل.
يقول الفقهاء/
(إن إمرأة كريمة أذكت في نفوسنا حكمة الانتظار)
وأكد أبن خلدون إن سر معجزة هذه التلة إنها شهدت أول عشب دافئ تضع فيه أم مردوخ جنينها الإلهي، تقول إسبارنيت إن الأخضرار هو الحلم الذي وطد الأمل في العودة إلى الكتابة/ الكتابة التي غسلت عن وجه الكون حروفه المنسية:
كتب نابو في إحدى قصائده، إن أمي أوصتني بمراقبة ليلة الكسوف (التي لم تحدث وقتها) وأن أرتدي كفناً أبيض وأن أسير بمحاذاة النهر وأنشر على صفحته عطور الياسمين وأن أقرأ في ظل الغيب صلاة الشعراء والعرافين والكهنة وأن أرمي سبع حصيات خلف أول نعش يصادفني (تعويذة الحرائق في أسفار البقاع المقدسة).
أبي مردوخ وصف الحجر الزيتوني بروح البحر وبهائه ونقاوته وصفائه بعد إن أوفى وعوده للطين وانتصب سحره أعلى البرج الحافل بالمعجزات. (وهي اشارة لوضع حجر الأساس لمدينة كوربابل).
الأرض أجدبت والعشب على ظهرها يبس وتكسر وتاهت الماشية وراء سراب الظهيرة، صفقات من الوهم تهتف بها البراري والرؤوس مرفوعة في الغيب لعل الطين يخفق آخر المطاف.
مدينتي من وسط هذا البلاء كانت تمايز وجوه الجمر، ترتدي حلتها البهية وتومض في ليل يتنفس انتظاره، وتتلفظ كما الدعوات من قبة أسرار الروح لعطش يروي وزهرة تغافل الريح وحقل يعيد ترتيب إيقاع الماء على السواقي (المنافي دروب حاكت متاهاته حروف الخرافة) في المجرى (وصايا) والضيوف ببطن الصحن شموع وأحلام ومرايا تمنح الموج سحر النجمة وألقها في غابة الروح.
مدينتي لؤلؤة في خرائط المدى، صمتها روح وروحها عشب يتسامق بالخضرة في أعماق الخلايا، وحروفها ماء يكتب ما عصرته سواقيه لغة الحلم الذي استلهم منه رامبرانت ألوان تحفته في ـ الغزال والطائر الجريح ـ حينما شبه الماء إكسير الحياة برفيف أجنحة الطائر بينما التحليق لامس مغيب الشمس فتناثرت الألوان على مساحة النصب متماهية كألوان ماء (حداقل) صورة الضفاف وقت الغروب.
حداقل أمسافر أنت قبل الموج أم إن حقائبك على موعد مع الساعة؟ إن نبع بالاكوباس يتمرغ بالطين الحر وذاكرته لم تهاجر الكور تدافع عن ماء العين التي بقيت وحيدة تشفق على السقاة أمنيتهم أن يطوفوا بقرٌبهم بين المزارات، كل قطرة تروي حرفا في عالم الجسد الذاوي تحت لظى الهجير والعطش.
يقول النساخ عندما صرخت الريح ألهبت الصحاري روابينا ولم نعد نرى خضرتها كما كانت تطمئن مشاعرنا أصفرت كل أوراقها وهوت كمهب لا قرار له.
(الذاكرة المقدسة وهبت لنا أن نتذكر ذلك ونتخيل عمق الجراح الذي بلغته).
قلت لنهلة إننا في قلب المدينة إذن، قالت ليست لي طاقة على حمل كل ما فاض به كرم أنانا لنا من عطايا وهدايا، قلت انتظري هودج إسبارنيت سوف يأتي من هنا، إنها وعدتني منذ أيام جبل الثلج أن تحل عقدة النحول والخمول وضعف البدن وقلة الحيلة وتدبير الأمور وتصريف الشؤون ومالي غيرها هي وسيلتي وغايتي انتظريها مثلي وكما قلت لك إننا لم نكن وحدنا أبدا، استغربت جوابي، قبل أن تنحدر الشمس إلى مغربها حملت بضاعتنا وجهزنا أنفسا ورحلنا مع الهودج وأثناء المسير كانت تسألني عن نفسي إن كنت كالسابق أشكو من وجع الفقرات أو وجع الحروب أو آهات الأمهات أو أي شيء من هذا القبيل بينما يأخذني شيء آخر، شيء لايفرغه إلا المرحاض فقلت لها سأنزوي لبعض الوقت ففهمت ما علي وتركتني لحالي وانصرفت أتخفى أو أحاول أن أنزوي لقضاء حاجتي سمعت من مكاني (أيتها العير إنكم لسارقون) توقف الهودج، يبدو لست الوحيد الذي أصيخ السمع من مكاني، إن من كان في الهودج ومن كان يسير بنعلين أو حافي القدمين أو من كان يحدو بنا هم شركائي في هذه اللحظة التي لم تدع شيئا للتفكير، وأنا متسمر في تلك الوحدة كنت أرى الدخان الأبيض يتصاعد ثم يتلون بسرعة جنونية بلون الرمال، لاحراك، لايتنفس الرحيل بعد الآن سوى التوجيهات العنيفة، على أثرها تغير الوضع وأنا لم أزل محاصرا ومتخاذلا ودون خجل كانت أزراري تحت الحزام مفتوحة، بقيت أنتظر مايدور حولي، وفي هلع هذا الانتظار ووساوسه واضطراباته استوقفني صوت نهلة (إحميني) أزيز الرصاص يزداد شراسة ويشق السكون بشكل عشوائي مما يضطرنا إلى الاختباء أو إلى تغير المكان وأنا في نوبات حيرة مريبة سمعتها تقول، ألم تسعفك عسكريتك السابقة في إنقاذنا من هذا الموقف، كان الأزيز يتوسع من جهة الغرب إلى ميدان حقيقي ونيران لم يسبق لي إن رأيتها من قبل حمم تنزل وأخرى تصعد، كتل من البراكين على الأقل أتحسسها توشك على ابتلاعنا والذي عقد الموقف أكثر، إننا بدأنا لانميز بين الطبيعة المحترقة والتي سوف تحرثها النار، ترى ما الذي حدث، لماذا يحصل كل هذا؟
وحين تكشف لي ضلع من ذلك الخفاء لم أصدق إني وجها لوجه أمام الإله
ي
ه
و
ه
وهو يستعيد لي صورتي المتخفية وراء إحدى كهوف جبل الثلج.