لا يمكن الحديث عن التجربة الروائية الأردنية، دون الوقوف عند واحد من أبرز أصواتها المكرسة؛ الروائي جمال ناجي، الذي يحيلك في كتابته إلى قواعد الصنعة الأولى، بقدر ما يؤسس لتجربة فتية، متجددة، قادرة على إعادة اختبار أدواتها في كل عمل، مجرباً في المعمار السردي الممتد رأسياً وأفقياً. في روايته الأخيرة "عندما تشيخ الذئاب"، الصادرة عن وزارة الثقافة في الأردن ضمن مشروع التفرغ الإبداعي للكتاب الأردنيين، يعود ناجي إلى صنعته الأحب إلى قلبه: هدم المدينة، بمكوناتها ومقوماتها، وإعادة بنائها وتركيبها ونحت شخوصها بإزميل يدقّ في خيال مطواع، يحفزه بحث نفسي واجتماعي وفلسفي دؤوب، وإعادة قراءة وتشريح لغرائبية الواقع.
على مدى ثلاثة عقود، قدم جمال ناجي للمكتبة العربية ست روايات، من بينها "وقت" و"الحياة على ذمة الموت" و"ليلة الريش"، إلى جانب ثلاث مجموعات قصصية ("رجل خالي الذهن" و"رجل بلا تفاصيل" و"ما جرى يوم الخميس.")
في حواره معنا، يتوقف ناجي عند عمله الروائي الأخير "عندما تشيخ الذئاب"، حيث المدينة التي "يخلقها" ويعيد توزيع مزاجها الصاخب تفصح عن نفسها عبر شخوصها التي تجولت في وعيها، وحيث يلتقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي في سياق هذا الإفصاح، غير هياب من كشف الحجاب الرقيق الفاصل بين الشهوة المكبوتة والكبت الاجتماعي الذي تظلله سلطة الدين.
في ما يلي نص الحوار:
v تأتي روايتك "عندما تشيخ الذئاب" إضافة نوعية لمنجزك الروائي، عبر الاتكاء على عالم سردي غني، عالم يستقرئ حالات المدينة وتحوّلاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فما هو البحث النفسي، على صعيد الحالة الفردية وعلى صعيد الحالة الجماعية، الكامن وراء العمل؟
- ثمة ما يمكن تسميته بالكثافة النفسية التي وقفت وراء السلوك الفردي للشخوص، ووراء التحولات الجمعية التي ظهرت في الرواية بأشكال مختلفة، لقد تشكلت هذه الكثافة في سياق العلاقة الجدلية بين أطراف متعددة: الشخصيات والأشياء والشوارع والساحات والبيوت والمزارع، وهو ما أنتج التحولات التي شهدتها المدينة. وكان لا بدّ لهذه المدينة من أن تفصح عن نفسها عبر شخوصها التي تجولت في وعيها، ومن الطبيعي أن يلتقي السياسي بالاجتماعي بالاقتصادي في سياق هذا الإفصاح الذي كشف الكثير مما هو مسكوت عنه في حياتها. هنا لا بدّ لي من الإقرار بالضيق الذي سببته لي تلك الكثافة أثناء الكتابة، فحين توالدت الأحداث توالدت معها مواقف جديدة أدّت إلى تمرد الشخصيات على ما هو مرسوم لها من أدوار، يبهجني هذا التمرد الآن، لكنه أربكني أثناء الكتابة، لأن الشخصيات قادتني إلى مصائر لم تكن في واردي عندما بدأت الكتابة. أمر آخر حري بالذكر هنا، وهو أن الواقع يمثل مشروع رؤية لبعض شخصيات الرواية؛ فعلى سبيل المثال، ترى إحدى الشخصيات أن الغواية فتنة، والفتنة ملعونة، في حين ترى شخصية أخرى بأن الغواية موهبة ومن الحماقة أن يفرط الإنسان بما وهبه الله.
v هل تتفق مع القول بأن رواية "عندما تشيخ الذئاب" تقارب تلك العلاقة الشائكة بين قاع المدينة ونخبتها الحاكمة الموجهة، واحتمالات التأثير المتبادل بينهما؟
- التأثّر والتأثير قائمان في الرواية، لكنهما ليسا متكافئين، ربما طغى الثاني على الأول بحكم سطوته وجبروته. لقد تحولت المدينة – في الرواية – إلى ساحة للصراع، ليس بين الشخوص وحسب، إنما أيضا بين النخب الحاكمة وبين القيعان المحكومة، ذئاب الرواية إذا صحّت التسمية كانوا يتحركون في الشوارع والحواري كأنها خالية وكأنما هم يمتلكون تلك الحواري والشوارع والمؤسسات، ويرون أنهم هم أصحاب الحق في فعل ما يريدون، طبعاً هنالك قانون لكن القانون يمسك بالذباب ويفلت الدبابير مثلما يقولون. بالنسبة لي، لم أحاول تنسيق تلك الفوضى ولا ترتيبها، ربما كنت معنياً بكشف الوجه الحقيقي لها، أتحدث هنا عن فوضى التأثير المتبادل الذي لم يكن متكافئاً كما ذكرت.
صحيح أن علاقة قاع المدينة بنخبها الحاكمة شائكة وربما مقنعة، لكن أحداث الرواية شهدت نزعاً متبادلاً للأقنعة عن الوجوه، واهتراء تدريجياً لتلك الأقنعة بفعل عوامل التعرية والاحتكاك. كما أن الفضائل التي نعرفها تراجعت وتحولت إلى سلع نموذجية للاستهلاك لا للتمثل، أما القيم التي استغرق إنتاجها قروناً طويلة من عمر البشرية فقد تهتّكت وشاخت أيضاً، ولم يعد للفضيلة من موقع بعد تشريدها والاكتفاء بالحديث الفاتر عن مناقبها ، بدلاً من ممارستها.
v في جل أعمالك، هناك اللمسة "الناجية" الواضحة لجهة العناية الفائقة في بناء الشخصيات، و"خلقها" من لحم وشحم وروح قادرة على الحياة خارج الورق وما وراء حدود الكلمات. إلى أي حد تشكل الشخصية لحمة العمل الروائي؟
- ربما كان اختيار نوع التقنية هو الأكثر صعوبة لدي، ففي كل رواية أكتبها أجرب أكثر من تقنية خصوصاً في ظروف الإقلاع في العمل الروائي - البدايات - وكثيراً ما أتخلى عما كتبته في الصفحات الأولى بتقنية معينة حينما أكتشف أنها لا تليق بالشخصيات ولا تقوى على التعبير عنها. عادة ما تُتعبني مرحلة الإقلاع في الرواية، الصفحات العشرين الأولى في الرواية تتطلب تركيزاً عالياً جداً، لأن الكاتب يضع فيها الركائز الفنية والحكائية لعمله، وهي بالمناسبة، المرحلة التي يتعرف خلالها الكاتب على شخوصه الروائية وقدراتها وإمكاناتها وأمزجتها أيضا. الشخصية في العمل الروائي هي محور البناء ولبناته، وهي ليست مجرد حضور مكمل يتحقق بمجرد الوصف السريع للشخصية؛ تاريخها وصفاتها النفسية والبيولوجية والسلوكية، وهي في الرواية كائن يتنفس ويتحرك وينمو ويتطور، لكن هذا النمو أو التطور لا يتم بمعزل عن تأثير البيئات والمناخات المصاحبة، من هنا يمكن فهم الضرورة التي تبرر العناية الفائقة بالشخصيات، في ما يتصل بالصفات الخارجية للشخصية لا بد للروائي من أن يتعلم فنون النحت وجمالياته، فهو مسؤول عن تجسيد الشخصية وخصوصياتها ودقة ملامحها وكل متعلقاتها.
v لا يوجد نقاء مطلق كما لا يوجد شر مطلق، ونستطيع أن نتماهى مع أي من شخصيات رواية "عندما تشيخ الذئاب"، كيف توصلت إلى هذه الصيغة الروائية المعقدة والمتداخلة في بناء شخصيات تحاكي الحياة في السطح كما في العمق؟
- الواقع المعاصر أكثر غرابة من الخيال، والخيال الإنساني بحاجة إلى إعادة تأهيل كي يتمكن من الحفاظ على امتيازاته التي سلبها الواقع منه. ما أعنيه هو أن المخيال لم يعد كافيا لكتابة الرواية، ولا بد من الاستعانة بعناصر أخرى تسهم في تغذية وتخصيب هذا المخيال، كجمع المعلومات، والاستعانة بتجارب الآخرين، والمعايشة، والمعاينة المكانية، وغير ذلك من العناصر التي تتضافر وتلتقي في معمل الروائي، "الجريمة والعقاب"، مثلا، لم تكن مجرد سرحات وظف ديستويفسكي فيها مخياله وتجاربه، إنما هي أيضا نتاج دراسة معمقة لطبيعة النفس البشرية، كما أن تولستوي احتاج إلى عشر سنوات من البحث كي يكتب روايته "الحرب والسلام". المخيال ضروري للرواية، لكن الاعتماد عليه بشكل أساسي قد يكون نافعاً للشعر أكثر من الرواية، الصيغة الروائية المتداخلة هي نتاج منطقي للصيغ الحياتية المركبة التي تميز إنسان هذا العصر؛ ففي "عندما تشيخ الذئاب" حبٌّ محكوم بالمواعظ، وشهوات تستمد قوتها من النصوص، وفتاوى تسبغ مشروعية على القتل والخيانة، وأناس يجدون في التعاويذ وصفات نموذجية لمواجهة المستقبل، وسياسيون متهتكون، ووزراء يتم استنباتهم في المزارع، وأناس ينطوون على ما في قلوبهم ومن الصعب على من لا يدخل عوالمهم أن يفك شفرات أسرارهم.
v نمو الشخصيات وانحدارها يواكب التطورات السياسية والاجتماعية في المدينة؛ بين الشخصيات والمدينة أيهما يعكس من؟ أيهما يصنع من؟
- هذا سؤال أكثر تعقيداً مما ينبغي، أنا لم أفكر بمن يصنع من، ما أعرفه هو أن المدينة تستخدم قلم الروائي كي تعبر عن نفسها، والشخصيات تستخدم حنجرته – إضافة إلى قلمه – كي تقول ما تريد، شخصيات الرواية تحاول فرض رؤيتها على واقع المدينة، لكن ثمة اعتبارات مدينية تفرض شروطها على تلك الشخصيات؛ المدينة هنا ليست مجرد البيوت والشوارع والبنايات، إنها البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تشكل الوجه الأبرز للتفاعلات المدينية.
v لماذا اخترت أن تشيخ الذئاب؟ فهل تبشر بالأفول أو النهايات المريعة لسلطة الدين أو المال أو النخب السياسية وليدة اللحظة أو الصدفة؟
- حسب علوم الحيوان فإن الذئاب تزداد شراسة كلما شاخت، كأنما تريد تخريب الدنيا قبل انتهاء شوطها مع الحياة، وهذا ينطوي – رغم فظاعته – على حس طفولي أناني، بمعنى أن الجانب الطفولي في الشخصية يغذي إحساسها بأنها مركز الكون، وأن نهايتها تعني نهاية الكون، لكن هذه نصف الحقيقة؛ النصف الآخر يتمثل في حتمية الشيخوخة، فعلى الرغم من تلك الشراسة والقوة والقسوة، فإن في عمق ذئاب المال والدين والسياسة ما ينذر بالنهايات، لا وجود للصدفة في حياتنا، الصدفة هي من أسوأ الاختراعات التي توصل إليها العقل البشري، إنها الحيلة التي نلجأ إليها حين نقرر الهرب من الأسباب التي لا نريد معرفتها، وهي تذكرني بما قال فريدريك نيتشه من أن "ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، إنما بالجهل أيضا، فثمة أمور لا أريد معرفتها، كما أن الحكمة أحيانا تضع حدودا للمعرفة."
v هذا العمل يحيلنا إلى روايتك البارزة "مخلفات الزوابع الأخيرة"، لجهة الانطلاق من الشخصيات في بناء المدينة، فأين يقع التشابه والاختلاف في بناء العملين؟
- في مخلفات الزوابع الأخيرة تم تصفير المكان والزمان، ثم استحداث وبناء مدينة من لا شيء، لم يكن ثمة مجتمع أو منازل أو شوارع أو أسواق، لقد بدأ البناء الاجتماعي والمكاني لحظة ابتداء أحداث الرواية؛ على العكس من ذلك، فالمدينة في "عندما تشيخ الذئاب" قائمة وموجودة قبل أحداث الرواية بكثير. الروايتان مختلفتان موضوعياً وبنائياً، لكنهما تخضعان إلى مدرسة فنية واحدة إذا جاز لي أن أقول هذا.
v في "عندما تشيخ الذئاب"، تُبنى الأحداث الروائية من خلال أصوات شخوصها الحاضرة إلا شخصية عزمي الوجيه المركزية، التي تتمحور حولها كل الشخوص، فهو الصوت الغائب ومع ذلك هو الأكثر حضوراً .. فهو المحرض وهو المحرك للأحداث، فلماذا كل هذا الغياب وكل هذا الحضور؟
- شخصيات الرواية وجدت صورها في مرايا بعضها البعض، لكنها كلها تمركزت في مرآة عزمي الوجيه على الرغم من أنه لم ينطق ولم يخصص له أي فصل أو مقطع في الرواية على غرار الشخصيات الأخرى، ربما كان سحر عزمي نابعاً من هذا الاحتجاب والعزوف عن المزاحمة، وربما كان هذا سبباً في التأثير الكبير لهذه الشخصية، إن معادلة الغياب والحضور لم تظهر بوجهها التقليدي في الرواية، وربما أمكن تفسير الحضور رغم الغياب بالرجوع إلى ما ذكره طه حسين في "المعذبون في الأرض" من أن ( تكرار وجود الشيء ينفي وجوده ) والعكس صحيح.
v تحتفي بالمكان، بجزئياته وخصوصياته. ويبدو أن المكان هو الأساس الذي تنطلق منه في أعمالك، فإلى أي حد يلعب المكان دوراً في المعمار الروائي لتجربة ناجي؟
· ربما احتاج المكان شيئا من العناية بسبب علاقته – غير المتكافئة – مع الزمان، لا أدري لماذا نصر على عقد تكافؤ قسري بين المكان والزمان، مع أن هذا التكافؤ ليس صحيحاً إلا إذا أردنا التنكر للفلسفة ولكوبرنيكس وآينشتاين وسواهما. المكان هو الأداة التي يستخدمها الزمان للتعبير عن سيرورته، فحين تقام البيوت في الصحراء فإن إحساسنا ينزاح عن تلك الصحراء ليتركز على البيوت، وحين تقام شبكات الطرق فإن اهتمامنا يتحول إليها بدلاً من البيوت، وحين تكتظ الشوارع بالمارة فإنها تتلاشى ويصير المارة هم موضوعنا.
ثمة استبدالات مكانية تتم عبر الزمان الذي يمثل الحقيقة الأشمل، المكان يعيش ومضة ثم ينطفئ ليولد مكان آخر يحمل ملامح جديدة! نحن جزءٌ من هذا التوالد الذي يتم في حضن الزمان وتحت رقابته. الرواية تستخدم المكان أيضا لتحقيق غاياتها، ولمسايرة الزمان واللحاق به.
علاقتي بالمكان انتقائية وربما غرائبية، فالمكان لا يتحقق إلا عبر اتصاله واشتباكه بأمرين غاية في الأهمية هما: الإحساس والذاكرة. الكاتب لا يستطيع الاعتراف بالمكان دون إحساس بوجوده، وحين ينتفي هذا الإحساس فإن وجود المكان في الكاتب ينتفي معه، فثمة أماكن لا نستطيع اعتبارها أمكنة، وثمة أرصفة وهضاب وحقول نعبرها في حياتنا دون أن نحس بها، أو دون أن تتجسد فينا أو أن تنشأ بيننا وبينها علاقة؛ إنها أماكن لا تمنحنا شيئاً ولا تحضر في ذاكرتنا، فهي أماكن ملغاة بحكم إخفاقها في امتلاك شروط التحقق في وعينا الذي يمنحها صفات المكان، فحين نألف المكان نكون قد اكتشفنا تفاصيله، لكننا في الوقت ذاته نكون خضعنا لإرهابه ووقعنا في فخاخ مسالكه وشعابه. المكان هو ذاك الذي تعترف ذاكرتي به ويخلف بصماته فيها، لذا فإنه يمتلك شروط التحول الفني في رواياتي.
v يضم منجزك الأدبي ست روايات وثلاث مجموعات قصصية، فهل أنت مكرس كروائي أكثر منه قاص، وما موقع القصة في إرثك؟
- بدأت روائيا منذ العام 1977 حين كتبت أولى رواياتي "الطريق إلى بلحارث" التي نشرت سنة 1982، على خلاف غالبية الروائيين الذين بدأوا شوطهم مع القصة القصيرة ثم تحولوا إلى الرواية. هذه ليست ميزة، إنما هي مجرد تجربة مغايرة إلى حد ما. أولى مجموعاتي القصصية "رجل خالي الذهن" صدرت في العام 1989 وبعد ثلاث روايات، لكن على الرغم من أنني أصنف كروائي إلا أنني لا أتعامل مع القصة القصيرة باعتبارها ترفاً أو استراحة للروائي أو "فضلة" رواية، القصة القصيرة فن عظيم لكنني غير قادر على تكريس وقتي الكامل له بسبب أولوية الرواية لدي.
v توليت رئاسة رابطة الكتاب الأردنيين في الفترة من العام 2001 إلى 2003؟ ألا تعتقد أن العمل النقابي يمكن أن يصطدم مع المزاج الإبداعي للكاتب؟ أو قد يعمل على تسييس الكائن "الرفضي" في داخله؟
- رئاسة رابطة الكتاب الأردنيين أمدتني بتجربة جديدة على الرغم من أنها اختطفت وقتي وأحالتني إلى كائن نقابي مثابر. حاولت أن أتعامل مع هذا الموقع من جانب إبداعي، بمعنى أنني حاولت وزملائي في الهيئة الإدارية ابتكار أساليب جديدة للتعامل مع الحالة الثقافية والإبداعية، ولمعالجة الإشكالات النقابية المتعلقة بأعضاء الرابطة، نجحنا في بعض مهامنا واصطدمنا بعقبات حالت دون تحقيقنا بعضا من غاياتنا النقابية، لكن في الجانب الثقافي أدعي أننا حققنا الكثير على مستوى التجديد في الخطاب الثقافي والسياسي للرابطة، وربما كانت مسألة الثقافي والسياسي هي أبرز ما ميز تلك الدورة من عمر الرابطة، فقد ركزنا على شمولية الثقافة باعتبارها كلاً يحتضن السياسة والاقتصاد والمجتمع وغير ذلك، وتوقفنا عند العلاقة التقليدية الجائرة بين الثقافي والسياسي، وهي علاقة التسيد التي يلجأ السياسيون إليها من أجل توجيه الحالة الثقافية وفقا لما يريدون. لقد رأينا أنّ السياسي العربي (السلطوي والحزبي) قادنا إلى هزائم متكررة بسبب استفراده بكل شيء، وطالبنا أن يفسح هذا السياسي المجال للثقافي كي يشارك في صياغة المستقبل بعيداً عن تنظيراته وتعليماته التي تشارف صلاحيتها على الانتهاء، غير أننا فوجئنا بتشبث هذا السياسي بالسلطة وبالقرار، ومقاومته لأي تغيير تحت أي شعار، لذا لم يكن غريباً أن يطلق نيرانه على مبادراتنا.
v كنتَ من الشخصيات الأدبية التي لعبت دوراً في إقرار مشروع التفرغ الإبداعي، الذي تدعمه وزارة الثقافة في الأردن، فهلا حدثتنا عن هذه المشروع؟
· نظام التفرغ الإبداعي هو ثمرة المطالبات المزمنة التي تقدم بها الكتاب الأردنيون على مدى عشرين عاماً، وقد مثل استجابة لتلك المطالبات، وهو أمر جيد ومبشر. لقد كنت واحداً ممن صاغوا هذا النظام، حيث قمنا بدراسة نظم التفرغ في العديد من بلدان العالم قبل أن نضع مسودة النظام، ثم درسنا البيئة التشريعية والقانونية في الأردن ومدى ملاءمتها لاستصدار هذا النظام، ثم أقمنا ورشة عمل شارك فيها أدباء وفنانون وفنانون تشكيليون من أجل تغطية الجوانب الجديدة التي حملها مشروع النظام. يرتكز نظام التفرغ الإبداعي إلى فكرة مفادها أن الأوان قد آن لإنصاف المبدعين ومنحهم فرص الانسحاب من ضجيج الحياة والخلود إلى إبداعاتهم مدة عام كامل، في مقابل تأمين احتياجاتهم السنوية، وقد شملت أقانيم الإبداع القصة والرواية والشعر والموسيقى والترجمة والفن التشكيلي والدراسات، وبطبيعة الحال تم تشكيل لجنة محكمة لاختيار من تنطبق عليهم شروط التفرغ الإبداعي، وهي بالمناسبة شروط تحاول حصر فرص التفرغ لمن يستحقونها فقط، وفي تقديري أنّ تطبيقات هذا النظام على مدار العامين المنصرمين كان منصفاً. أتمنى أن يطبق هذا النظام على المبدعين في البلدان العربية الأخرى، فهو يشكل جزءاً من الاعتراف الرسمي والمجتمعي بالإبداع والمبدعين.
v ما هو التحدي الأدبي القادم لناجي؟
- هنالك مسألتان غاية في الأهمية، أولاهما تتمثل في توظيف صدمات المستقبل ـ الذي يصر على الحضور قبل أوانه مثلما يقولون ـ في سياق الأعمال الروائية القادمة، هذا التحدي يستحق الاستجابة، فنحن نعيش في عالم متغير سريع التحول، وربما احتاج اللحاق به جهوداً كبرى، أما توظيفه روائيا فيحتاج إلى جهود استثنائية. التحدي الآخر يتمثل في إعادة الاعتبار للخيال، إذ من المعروف واليومي أن الواقع الآن أكثر غرابة مما يتمخض عن الخيال، ولا بد للمخيال الإنساني من أن يجدد نفسه كي يعود إلى سابق عهده الذي كان خلاله قادراً على تشكيل الواقع وصياغة مقدماته على الأقل. هذا التحدي يحتاج إلى عمل روائي مختلف.