يقدم القاص السعودي هنا مفارفة دالة بين عالم السوق بناسه وحكاياته وأساطيره، واستعادة الراوي ومعايشته لأركيولوجياه ولأطياف من رحلوا ومازالوا حاضرين في المكان والذاكرة، ومازالت أصواتهم متضافرة مع صخب السوق.

الأناشيد والناس

فهد العتيق

في الفجر يمد نظره نحو مشهد النساء, يقترب من النافذة، يطل على السوق، يرى العباءات السوداء تتدفق في الشارع الصاخب، الشارع الضيق الطويل، حتى إذا ما اكتملت دقات السادسة صباحا، كانت النساء قد أخذن أماكنهن صفوفا طويلة على جنبات السوق تحت جدران البنايات القديمة، يتحدثن بأصوات مرتفعة، ويثرن الغبار حولهن وحول الناس الذين يروحون ويأتون، كما لو أن عملهم هذا الذهاب وهذا الإياب، النساء اللاتي يشبهن الجراد العجوز بملابسهن الملونة وعباءات أجسادهن اليابسة، نساء بقدود مثل الأعواد، دقيقة وطويلة، وضحكات صاخبة، فرحة، يفرحن ويبعن أشياء كثيرة، أو يضحكن فقط، ضحك كأنه شياطين صغيرة تخرج من صدورهن الهزيلة أو كلام ينبعث من حلوقهن مع رائحة اللبان، نساء ومع ذلك يضحكن بعمق، بعضهن جئن من القرى المحيطة وبعضهن جئن من الحارات المجاورة يبعن ويشترين، يبعن الخبز والتمر والحمام والتعاويذ ويشترين الأقمشة، نساء ورجال يتداولون أساطير شعبية ومقولات قديمة علقت بغبار الوقت، يبعن أشياء مسحوقة للمرضى في أكياس أو في علب فارغة لها رائحة الحناء وطعم اليانسون والحلبة، وكلها للمرضى، هؤلاء الذين فقدوا القدرة على مواجهة الحياة إلا بأرواح سوداء ويأس وقلوب معذبة، يقرؤون عليهم الآيات، وينفثون الهواء من صدورهن المتعافية على الصدور الممروضة التي تبكي اَناء الليل وأطراف النهار.

وإذ تميل الشمس إلى الغروب يأتي إلى النافذة ليحضر المشهد الآخير، مسيرة الناس وهم يغادرون السوق مخلفين وراءهم أناشيد وأغنيات وصدى ضحكات وصخب وغبار، فلا يتبقى من ظلام الوقت سوى وجوه قليلة شاحبة يعلوها الغبار، بأصوات خافتة كأنها لأشباح تتحرك في ظلام، يتمّون عمليات بيع صغيرة في همس موح.

يقف أمام النافذة، أمام اثر غامض لقصص أسطورية يتركها هذا المكان كل يوم، وعندما يهبط الظلام، يصعد إلى سطح البيت المترب، ينتظر أن ينام وسط حارة مخنوقة الأنفاس، يحلم أن يعمل أو أن يعمر بيتا، يسافر في سماوات بعيدة ولا ينام، يستلقي في فراشه، وهو يشعر دائما برطوبة الجو الخانق، وحرارته، يدخن ويتأمل السماء كأنها كهف اسود، أو يتأمل أمه وأخته اللتين تنامان قريبا منه، وفي الغالب يشعر بأخته التي لا تنام، يسمع حشرجات صدرها المريض، يلتفت غليها، يجدها تلتف إليه وتهمس:

ـ أريد أن أذهب معك هذا الصباح إلى الطبيب.
ـ أنت متعبة.
ـ مللت، أريد أن أخرج..

يتذكرها طفلة تركض معه في الأسواق، أو عندما تسرق البيض من أطباق البائعات، طفلة جميلة وطويلة بشعر قصير، أو يتذكر أيام الجمع عندما يركضان إلى ساحة القصاص لرؤية السيف والسياف، يتذكر كل ذلك، وهو الآن يسمعها جواره بصوت مريض وحزن ناعم يبكي: ـ لا تنس إذن أن تحضر معك الجرائد ومجلات فنية. ـ لن أنسى.

ثم يراها بعد قليل مع دنو الفجر تقف بجسدها الهزيل كنخلة نحيلة، تمشي إلى الفتحة الواسعة المطلة على بيتهم، تقف طويلا هناك جوار الجدار، وهو يتأمل جسدها الذي يبدو كشبح وسط سواد الليل، يسمعها تسعل أو تبكي بصوت خافت، في هذه الهدأة العميقة، تبكي بصوت خافت ما يلبث أن يرتفع فيهز جسدها بكامله، تحت وطأة إحساس حاد بالمرض والملل واليأس، يقول لها بهمس: عودي إلى فراشك، لكنها لا تسمعه، ينهض إليها، إنه يعرف أنها تبكي من أجله، أو من أجل مرضها، أو من أجلنا جميعاً، من أجل الحارة التي تركها أهلها ولم يعد أحد يعرف أحدا، ذلك الوقت الذي بدأت فيه تمرض أو تموت عندما قالت إحدى نساء السوق الوافدات: ابنتكم سوف توهب حياة جديدة تليق بقلبها الطيب، اغسلوا جسدها كل يوم بأوراق الحناء ثم استعدوا لاستقبال ضيف حياتها الجديد، نفذّت الآم هذه التعليمات، وقرأت معها سورة الفلق، حتى أصيبت البنت بداء الصدر، يقترب من أخته يضع رأسه على كتفها بحنو: غداً سوف تشفين يا حبيبتي.

هاهو الآن يقف أمام السوق، يمد نظره نحو مشهد النساء الاحتفالي، يطل بحزن، ويتذكر أختا مصدورة، وأما غالية، وبيتا كان يضج صباحا ومساء، بصوتين جميلين لامرأتين عذبتين تركتاه وسافرتا إلى الله، بينما يتحرك تحته عالم صاخب بالرجال والنساء والأطفال والتواريخ والأساطير والتعاويذ والأمراض والذكريات، وآثار أصوات قديمة يسمع صداها بين الحين والحين في هذه الفراغات المجدولة من الحلم.