تتناول هذه الدراسة حضور تيمة الحرب في الرواية اللبنانية. من خلال رصد لسمات هذا الحضور في رواية "حارث المياه" للروائية هدى بركات. عبر استقراء لبناء النص وطبيعة السرد فيه وعلاقات الشخصيات.

الحرب في الرواية اللبنانية

ميلود بنباقي

استهلال:
شهد العالم العربي في تاريخه القديم و يشهد في تاريخه المعاصر صراعات شتى وحروبا مختلفة الأسماء والمسببات. بعضها ضد/ بسبب عدو خارجي، أجنبي (أو غير أجنبي)، وبعضها داخلي على شكل حروب أهلية ونزاعات طائفية، عرقية أو دينية... واليوم تقدم المنطقة العربية، مشرقا ومغربا، قرابين بدون عد لحروب مشتعلة هنا وهناك استمرارا لنهج تاريخ كتبت أحرفه بالغزو والاحتلال ومناوشات الجيران على الحدود واقتتال داخلي لا يخمد فترة إلا ليندلع من جديد...

والرواية باعتبارها عالما يجسد الصراع والتناقض، ويمزج ما بين الواقعي والمتخيل، الممكن والمستحيل، المعقول والعجائبي، ويزاوج بين الذاتي والموضوعي، بين الحاضر والماضي، والمعيش والتاريخ... معنية بالحرب، ليس من باب تسجيل الوقائع ونقل الأحداث.. إذ ليس المطلوب من الروائي أن يعمل عمل المراسل الحربي، أو المراسل الصحفي أو كاتب اليوميات... بل من باب هزم الموت والانتصار للحياة والسخرية اللاذعة من العنف والدم، وتغليب لغة الفن على لغة الرصاص. و أقدم هنا دراسة عن رواية "حارث المياه" لهدى بركات، سأتبعها بدراسة أخرى عن رواية "ربيع حار" لسحر خليفة. 

وهم اسمه بيروت.
الوهم.. هو ما تستهل به هدى بركات روايتها "حارث المياه"، كأنما تهيئ قارئها لولوج منطقة رعب يختل فيها اليقين وتسقط القناعات والأقنعة تباعا أمام عواصف  الشك والريبة، وتختلط أمامه الوقائع اليومية المألوفة بالفانتاستيك والعجائبي، قبل أن يتيه وهو يلاحق سرابا يطلع من بحر مترامي الأطراف لا يحده سوى الضياع والتشرد في أرض الله الواسعة. وهم اسمه بيروت، فُصل على مقاس مدينة تبدو جميلة كرؤيا سعيدة لمن ينظر إليها من بعيد. وهم لا فكاك منه، تنجذب صوبه والدة السارد/ الشخصية المركزية، كأنما بفعل قوى سحرية، غيبية، فتقطع رحلة نحو اليونان وتحكم على زوجها، تاجر القماش، بالانفصال عن شريكه والاستقرار في حضن هذا الوهم. رواية يشكك فيها السارد نفسه، مرتابا من حديث والدته، مدشنا سلسلة طويلة من الشك واختلال اليقين في أجواء حرب أهلية مدمرة لا قضية عادلة فيها ولا أبطال كاملين ولا نصر ولا هزيمة...

في حرب بيروت، يفقد الإنسان يقينه وممتلكاته. بيته لم يعد له، وذاته انفصلت عنه. يقف وجها لوجه، أعزل، أمام فراغه السحيق وخوائه القاتل، يستغرب عصيان ردة الفعل وغياب الانفعال. حالة تبلد ذهني وعاطفي، ذهول سريالي يحول الإنسان حجرا. وحده الحلم ينقذه من هذه الغيبوبة، فيذكره بزقزقة العصافير وبأن هذه المخلوقات الجميلة حلقت ذات يوم مشرق في سماء بيروت.

الحلم في "حارث المياه" لحظة فرج/ فرح عابرة، هروب مؤقت من كابوس يعيد للذهن صفاءه وللشخصية المركزية مزاجها الرائق قبل أن تداهمها المنغصات وهي ترتطم بأكوام الرماد وبقايا القماش المحترق. 

بطل عاد، أو بطل فوق العادة؟
البطل شخصية فوق العادة، يقعي على حجر ساعات طويلة لينتهي  به تفكيره نهاية سعيدة وهو وسط دراما مأساوية. يطمئن على مستقبله ويؤمن بإمكانية استرجاع حياته الهادئة، كما في السابق، متغاضيا عما خسره في الحرب و عما أتت عليه سلسلة الحرائق... وعندما تتوقف المعارك في هدنة قصيرة، لا يخرج للتجول وسط البلد مثل سائر الناس الذين اندفعوا بكامل زينتهم للتنزه في الخراب. أجل خروجه من البيت وزهد في تفقد محل القماش إلى أن داهمته الحرب من جديد.

بطل خبير بأنواع الثياب وتجارتها مثل أبيه، عاشق للنباتات والأشجار والأزهار، يحفظ أسماءها ومواسمها ويميز بين حلوها ومرها. يلاحقها وهي تينع وتنضج في أوج الحرب والدمار ويتساءل من أين أتت للأرض كل هذه الخصوبة؟ وهل قامت القذائف مقام المحراث ففلحت الأرض وهيأت للبذور أسباب الحياة؟ قبل أن يستدرك بسؤال آخر يعيده لفراغه وغيابه، صفتيه الأساسيتين، أم تراني كنت غائبا عن الوقت ساهيا عن جريانه منذ أن بدأت هذه الأحداث تتحول إلى حرب؟

لا يؤمن السارد بالحرب، أو لا يعترف بوقوعها. وتلك أعلى درجات السخرية اللاذعة من هذا الموت المجاني الزاحف بين الناس. يلاحق نباتاته وأزهاره ويمعن في الحديث عن أنواع الثياب بدل وصف أنهار الدماء وأكوام الجثث وأصوات الرصاص والقذائف. وعوض مواجهة المسلحين المنتشرين في الشوارع، يواجه كلابا مشردة يدخل معها في لعبة كر وفر طويلة تنتهي نهاية غريبة/ سعيدة. فزعيم الكلاب الذي سد المنافذ في وجهه وتمكن منه أخيرا، لم يكن يريد قتله. كان فقط يبحث عن صديق، عن سيد يعوض سيده الذي مات.

مع هذه النهاية المفاجئة، يسأل القارئ نفسه: هل هذه هي الحرب حقا؟ 

زحل الكوكب القاسي.
يتوغل السارد الرئيسي  في دهاليز التاريخ وسراديب الأسطورة علهما تسعفانه في إعطاء تفسير لتلك الحروب والكوارث التي تعاقبت على بيروت وخلفت فيها موتا ودمارا شاملين. وينتهي توغله إلى أن الحرب والخراب هما قدر هذه المدينة التي خلقت تحت تأثير زحل، الكوكب القاسي. لذلك لم يخل تاريخها من غزو أو زلزال أو طاعون أو حرب أهلية. تاريخ كتب بالدم والأشلاء على جبين مدينة لا تتجدد دورة حياتها إلا بحرب أو موت عظيمين.

عندما يتعب السارد من عبثية الحرب وهول التاريخ والأسطورة، يلوذ بذاكرته، يمتطي صهوتها ويسافر نحو متاهات زمنية بعيدة  تنأى به عن العفونة والخوف والموت رغم أن قدميه تظلان غارقتين في ويلات الحرب دائما. يتذكر حبيبته شمسة في موقف حرج لا يستطيع الحب أن ينفذ لعتمته. يتذكرها وهو في مواجهة جثة فتاة تسمر أمامها وجلا بعد تيه شاق داخل نفق مظلم. 

الخوف شوكة الحرب.
تولد الحرب في نفسية السارد الرئيسي مستويات مختلفة من الخوف:

الخوف شعور ملازم للحرب، إحساس طبيعي يلازم السارد، فإذا غاب عنه، اندهش واستغرب وأحس كأن شيئا ما ينقصه.

الخوف درجات ومراتب، إذا بلغ ذروته تماهى مع الهذيان والحمى وامتزاج الحقيقة بالوهم، فتطغى على ذهن الشخصية التخيلات والاستيهامات .

قمة الخوف، هي انعدام الخوف ذاته. حالة تنتاب السارد كلما أيقن من موته الوشيك، إذ لا إحساس مع انتفاء الحياة.

لكن الخوف ليس هو ذلك الشعور السلبي دائما. ليس تلك الهشاشة التي لا يحبها أحد. لأنه ينجي من المهالك أحيانا على رأي المثل: من خاف، نجا. فالسارد، وهو واقف لصق حائط ينتظر قتله رميا بالرصاص، يسقط من فزعه المفرط قبل أن تخترق النيران جسده، فتغطيه أجسام الآخرين، أو بالأحرى جثثهم، وينجو من الموت بمعجزة لا تليق سوى بنبي. معجزة اسمها الخوف فقط. 

فضاء الرواية/ فضاءات الحرب.
تبني رواية "حارث المياه" فضاء دعائمه الخراب والانفجارات والتخفي والحذر...

المكان متحول، متبدل باستمرار تعيد القذائف رسمه وهندسته بين عشية وضحاها، فيبدو غريبا في أعين أهله، ويتيه السارد في أزقة وأسواق وساحات كانت إلى وقت قريب حميمة ومألوفة لديه ويضطر لرسم علامات ومعالم حيث يمر ويطلق أسماء جديد على تلك الأمكنة. باختصار يرسم في رأسه خارطة جديدة للأماكن التي تبدلت وفقدت سالف معالمها. إنها الحرب، تدك ما كان قائما وتخلق غربة الكائن والمكان.

في رواية مثل "حارث المياه" تكون الغلبة للأمكنة المغلقة على حساب الأمكنة المفتوحة. فالمدينة بكاملها تصبح فضاء مغلقا محاصرا بالخرائب والدبابات والموت والخوف مما يدفع الكائن البشري إلى التخفي في أمكنة أضيق وأكثر انغلاقا (غرف، دهاليز، أنفاق، متاريس...)

أما الزمن فيفقد انسيابه الطبيعي ليدور في حركة لولبية لا اتجاه محدد لها، أو ليتوقف عن الحركة تماما استعدادا لانطلاقة سريعة، مدوية، يندفع خلالها بجنون جارفا ما/ من حوله أو أمامه.

زمن الحرب، زمن سيء لامحالة. لكن للحرب  والكوارث أسرارها وعجائبها ومفارقاتها الساخرة. إذ تنتقي أجمل الأوقات وأبهاها لتندلع وتفعل فعلها الشنيع.

قيل للطيارين الأمريكيين ألا يلقيا القنبلة الذرية إلا إذا كان الطقس مشرقا والسماء زرقاء لا تشوبها غيمة. ولم تغرق التيتانيك غرقها الشهير إلا لأن الطقس كان رائقا.

يستغرق الإنسان في اللهو واثقا من استتباب النعمة.. إذاك يضربه ربه الضربة القاضية، يرفعه عاليا ويخبطه على الأرض. 

بناء الشخصية:
تبني هدى بركات شخصيات روايتها من طينة هؤلاء الناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. لكنهم لا ينسحبون من الذاكرة بسرعة، ولا يمضون دون أن يتركوا في أنفسنا أثرا ولو بسيطا. "نلتقيهم عرضا في هوامش نهاراتنا التي صرنا نجهد حتى لا تضطرب بالمفاجآت، حتى تنتظم على سلامة الضجر وأمانه، نلتقي كما تتقاطع القطارات، ونرى بعد أيام من رحيلهم أننا إنما احتفظنا بصور مهزوزة مرتجة الخطوط، واهمة". (هدى بركات، الجزء الثاني من برنامج: روافد، قناة العربية، 7/ 10/ 2005).

تُبنى ملامح الشخصية المركزية وعلاماتها من مقولات الريبة والفراغ، إذ تعيش حياة تدور في دوامة من اللايقين والبحث الدائم عن الاستقرار والهدوء والحب والجمال في عالم يسوده الخراب والصراع والتحول المستمر... "إنها تحرث المياه. إنها ذلك" الإنسان الجميل الذي يبني وهما، عالما جميلا مسورا بالخراب. يبني بيتا يداري به بؤسه ويموت بائسا، "معتقدا أن في جمال الحرير ما يصد عن الأذى ويمنع عنه الموت" (فيصل دراج، هدى بركات: من تاريخ متداع إلى تاريخ لا وجود له، مجلة نزوى، عدد: 36، أكتوبر 2003).

دوامة المآسي والهزات التي تتخبط فيها هذه الشخصية واهتزاز نفسيتها وتناقض مشاعرها.. هو ما حذا بالناقد المغربي محمد معتصم إلى الجزم بأن هدى بركات في هذه الرواية قد اعتمدت بناء نفسانيا للشخصية من خلال تركيزها على أفعالها وتصرفاتها وردات أفعالها.. وبواسطة ذلك كله تتحدد أفكارها وميولاتها وتتضح أهواؤها وتطلعاتها. (محمد معتصم، بناء الحكاية والشخصية في الخطاب الروائي النسائي العربي، دار الأمان، الطبعة 1، 2007).

ولعل هذا البناء النفساني للشخصية هو الأنسب لرواية اختارت النبش والغوص في عبثية الحرب وغرائبية الموت وهلامية الشك والفراغ. 

كلاب تحارب نيابة عن البشر.
لا يواجه السارد مسلحين آدميين، ولا تطارده مليشيات أو عصابات، بل يواجه كلابا شرسة يقطع عواؤها الأوصال، تدير رؤوسها في كل الاتجاهات، تتشمم الهواء وتدافع بشراسة  عن مناطق نفوذها المسورة بالبول والروائح. أمام ضعفه إزاءها، راح  السارد يقنع نفسه بضرورة التعايش معها بلا مواجهات دامية.

تؤنسن هدى بركات هذه المخلوقات الرهيبة، إلى درجة أن القارئ لا يكاد يميز بينها وبين المجموعات المسلحة من البشر. تقطع الشوارع، تصول فيها وتجول، تسد منافذ الهرب في وجه الخصوم، تخطط لهزمهم، تتقيد بالتعليمات الصارمة التي يصدرها القائد...

بعد طول مطاردة، ومناورات وخطط، يتأكد السارد أن الحرب ضد الكلاب كانت مجرد وهم. فعندما يتمكن القائد/ الكلب أخيرا من خصمه/ السارد، يقف أمامه جامدا، يوسع له الطريق ويترك له فرصة النجاة والهرب. فلا يصدق ما تراه عيناه، ولا يأتي بفعل سوى أن  يتخلى عن شخصيته ليتقمص شخصية الكلب. يذهب إليه وهو يعوي ملء حنجرته يريد إثارته. لكن الحيوان لا يرد، لا يتحرك. وفي الأخير يكتشف السارد وهو مأخوذ بالشك والذهول، أن هذا الحيوان الذي تربص به طويلا ولاحقه من شارع إلى آخر، وأرعبه، إنما كان يريد التقرب إليه ويلتمس صداقته لا غير. كان يريد سيدا ومعلما يشبه ذاك الذي اختفى يوما خلف السواتر. وكأن هدى بهذه الخلاصة تريد أن تقول لنا أن لا فرق بين الجلاد والضحية، فالحرب لا تخلف سوى الضحايا. فالجميع ضحايا خوف أو إيديولوجيا... يدفعان للقتل دون مبرر "معقول". أو كأنها تبطل جميع مبررات الحرب جازمة بألا شيء يدعو لقتل الآخر وألا ناموس يبيح سفك الدماء. 

أزهار الحرب، حبها، وحريرها.
يسهب السارد في الحديث عن النباتات والأزهار و الأشجار وأنواع الثمار المختلفة. يعدد أسماءها ويتذوقها ويجهد نفسه لجنيها والبحث عنها. بعضها ينمو في الشوارع والأرصفة والساحات، وبعضها الآخر في الحدائق والبيوت.. كائنات حية تصنع للحياة بهجة تفتقدها في زمن الموت الأعجف. تذكر الأحياء بأنهم ما زالوا على قيد الحياة حقا، وتذكر الموت بأن الحياة في بيروت ما زالت ممكنة.

توازي هذا المحكي محكيات أخرى، أولها يأخذ موضوعه من تجارة القماش ونعومة الحرير وأصناف الثياب المختلفة، ويمتح ثانيها مادته من علاقة السارد بشمسة، ويعرج ثالثها على الذاكرة فيستنطق الأساطير والروايات التاريخية وحكايات الأب والأم والجد...

محكيات تبين الغنى المعرفي للكاتبة و تغني الرواية، لكنها تربك السرد وتوقف تدفق الحدث في بعض المناسبات وتبعد القارئ عن الجو العام للرواية، خصوصا بالنسبة لقارئ لم يعتد هلامية المكان والزمن وتكسر السرد وتقطعه وكثرة الاسترجاعات... 

في الختام.
يسأل السارد أباه، أو بالأحرى نفسه: من قتلني يا أبي؟ مستبقا موته الذي لم يحن بعد، مخمنا تخمينا يصل مرتبة اليقين، بأنه لن يموت موتا طبيعيا. فالحرب لا تتيح للمرء نعمة تحضير النفس والحواس لاستقبال ملاك الموت بما يليق بهيبته وجلاله.

في الحرب يموت الإنسان موتا فجائيا، مأساويا، بفعل رصاصة طائشة، أو لغم، أو قذيفة تطلقها بارجة، أو نيران مليشيا مسلحة...

ينام السارد، وعندما يستيقظ من نومه/ موته لا يرى أثرا لما سبق أن رآه قبل قليل. يغرق في بحر من الكراسي الفارغة ويحضر حفل غناء لم يتم ويبدأ دورة أخرى من حرث المياه... يراوح نفس المكان، ويجتر نفس العبث والعدم والشك. 

كاتب مغربي