أكاد أزعم أن عالم "الطيب صالح"، إبداعيا، ظل محافظا على "رؤية" ثابتة، في الرواية والقصة القصيرة، مستقصيا أبعادها وتحولاتها في الماضي والحاضر، عبر سياحة عميقة في الذاكرة الفردية، والجماعية بما فيها ذاكرة المحتل، خاصة مرحلة "اللورد كتشر"، وسقوط عشرين ألف شهيد ايام ثورة المهدي في القرن 19. إنها "ذاكرة موشومة" ـ على حد تعبير عبدالكبير الخطيبي ـ دون أن يرادف هذا الوشم حقدا أو "عنصرية مضادة" أو رغبة في الانتقام الذي اكتشف "مصطفى سعيد" ـالوجه الثاني للراوي الراغب في الحوار قبل الانتقام ـ عبثيته وهو يطلب {النجدة} بد أن شارف على الغرق في النيل كناية عن الغرق الأكبر الذي عانى منه في {لندن}، مدينة وجرائم وسجنا الى أن عاد الى السودان.
في قصصه الأخيرة ـدومة ود حامد خاصةـ لا يمل "الطيب صالح " من رسم هذه العلاقة مع الذات من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية.
وسأقتصر على النصوص التالية{2}:
- سوزان وعلي
- خطوة للأمام
- الإختبار
- لك حتى الممات
أما بالنسبة للقصة التي عنونت بها المجموعة "قصة دومة ولد حامد" فإنني أعتبرها صفحات منفلتة من "موسم الهجرة الى الشمال"، بل إنها لحظات متقطعة من عودة الراوي الى قريته، في مواسم مختلفة لتركيب عناصر الصورة سواء عن طريق الكشف والاكتشاف للقرية، ومكوناتها، بحكم طبيعة المسافة بين الراوي وقريته، أو من جهة ثانية، عن طريق المحكي الذي يمارسه الجد مرمما أجزاء الصورة، بظلالها الظاهرة والخفية.
تقوم هذه القصص على مكون مركزي تحكم في النص منذ البداية الى النهاية، لنطلق عليه، مؤقتا، مكون الطباق الذي "لايدير ظهره" للحقل البلاغي، ولكنه يسمح بالانتقال من التعارض أو "الثنائية الضدية" الى التماثل حينا، والتطابق حينا آخر، المشاكلة حينا، والتقابل حينا آخر.
مظاهر هذا الطباق المطابق، إذا صح التعبير، تتجلى في الآتي:
1. في اسم العلم {سوزان# علي في قصة سوزان وعلي}
2. في اللون: {كان اسم داكنا، أسود إذا شئت، لم تكن سمرتها داكنة، بيضاء إذا شئت} قصته خطوة للأمام
3. في المظاهر الجسدية الأخرى، من أنف وشعر وعيون، فضلا عن الملامح الأخرى. {خطوة للأمام}
4. في المرجعية الثقافية والمهنة، والاهتمامات الفكرية والفنية. {كانت تعمل كاتبة اختزال في شركة التلفزيون، وكان يعد "رسالة الدكتوراه في التاريخ" قصة لك حتى الممات" "درست الفن في معهد سليد، درس العلوم السياسية في معهد الاقتصاد بجامعة لندن" {قصة سوزان وعلي}. "هو محام من دربان، وهي ممرضة من نطنغهام" {قصة الاختبار}. "كانت ممرضة وكان معلما" {خطوة للأمام}.
5. في المكونات النفسية والتربوية وانعكاس ذلك على السلوك الاجتماعي والتفاعل الحضاري مع البيئة الاجتماعية. "كان رقصه فظيعا، لكن معرفته باللغة الانجليزية كانت جيدة." {لك حتى الممات}. "...ولم يكن يبدو أنها متعلقة بأهلها كثيرا ...ومن ثم عاد الى بلده" {لك حتى الممات/ سوزان وعلي}.
المظاهر الطباقية السابقة، مقدمات لتعميق مظاهر الاختلاف بين الكائنين، العالمين، الهويتين، والكاتب ـوهو سارد أيضاـ يقدم هذه المقدمات بهدف إبراز المعطى الموضوعي الذي لا جدال فيه، وهو معطى الاختلاف. ومن، فالاختلاف وارد، بالقوة والفعل، في واقع البيئتين المتعارضتين:
الخرطوم# لندن، السودان # بريطانيا، أوروبا # افريقيا. العالم المتقدم# العالم المتخلف.
ومن الضروري أن ينتج هذا التعارض التوجس، أحيانا، بسبب الضغط الاجتماعي "في مكتب التسجيل في فولام رود، حيث أخذها وحيث تركته يأخذها، كانت تصرفات المسجل لا غبار عليها، لكن خيل لبعض الحاضرين أنه كان محرجا بعض الشيء" {خطوة للأمام}.
وقد ينتج هذا التعارض سوء الفهم والشك والقطيعة في نهاية الأمر. "مات بالالتهاب السحائي في صيف 1951. ولم يخبرها أحد {...} "لماذا لا تجيب؟ أم أنك لم تعد تحبني؟" {لك حتى الممات}.
كما أن هذا التعارض، قد ينتج أحيانا، المغامرة والتمرد وتجاوز المحظورات. "بعد ثمانية أشهر حصلت المعجزة، ومع هذا قالت: لست أدري.
قال: أنا أيضا لست أدري."{لك حتى الممات}.
قالت: تزوجني..
قال: لا، صعب
قالت: لكني أحبك
قال: وأنا أيضا أحبك، لكن.." {سوزان وعلي}.
هذه المستويات من التوتر المادي والنفسي بين الطرفين، تعكس رواسب عديدة من طبيعة العلاقة بين العالمين منذ عهود سحيقة الى اليوم، وبحكم طبيعة هذه العلاقة المبنية على التضاد، وفي جوهرها الأساس كان من الضروري أن يقع الشد والجذب، عبر مراحل تاريخية مختلفة، ممهورا بالدم {الحروب الصليبية/العراق/فلسطين} حينا، وبتبادل الأوهام، على حد تعبير سيزا قاسم، حينا آخر {مفهوم صراع الحضارات/تصدير الديمقراطية/التمييز العرقي/العقل الأوروبي التنويري والظلامية الشرقية...} عدالة التاريخ أو ظلمه، وعدالة الجغرافيا أو ظلمها وما نتج عن ذلك في النصوص القصصية السابقة، نلمس القليل أو الكثير من ذلك، بعد أن تم تقديمها وهذا ما سنعود إليه لاحقا، سرديا بصيغ مختلفة.
في قصته "خطوة للأمام" نجد التركيز على الاختلافات "الأنتروبولوجية" بتجلياتها الظاهرة جسدا ولونا ومقاييس جمالية، علما أن "الأنتروبولوجيا" و"الإثنوغرافيا" من علوم الاستعمار التي صاحبت حركته التوسعية قبل أن تتحول، في وقت لاحق، الى أدوات علمية تستخدم في الخير والشر.
"كان أسمر داكنا، أسود إذا شئت. لم تكن سمرتها داكنة، بيضاء إذا شئت.
كان أنفه أفطس، لكنه لم يكن قبيحا، وكان أنفها إغريقيا جذابا بأي مقياس قسته"
أما بالنسبة لقطبي التاريخ والجغرافيا، ظلما وعدلا، فإن الرسائل المتبادلة بين الطرفين تقدم لنا بعض الجوانب هذين القطبين "كتبت تقول: الراتب جيد، وكندا ممتعة، لكن لماذا علينا أن نكون بعيدين هذا البعد واحدنا عن الآخر؟
أجاب: "لأنه من جهة، ليس من العدل أن أجرجرك الى هذا المكان، البالغ الحرارة والكثيف الغبار، ولأني فقير لا أستطيع أن أثقل ضميري بك"
أما بالنسبة للدم، فالإشارة المركزة الى علامات تاريخية محددة، تعكس التوتر الدائم "كانا يقيمان حفلة عشية كل سبت يدعوان إليها أناسا من كل نوع ل..." تلامذة مصريون حتى إبان معركة السويس.." من قصة الاختبار.
سبقت الغشارة الى الطباق في النصوص القصصية السابقة يتجه الى أن يصبح مطابقة تقابلا، تماثلا، تشاكلا.
ومن تم، فالصراع بين العالمين اقتضته ضرورة الاختلاف بين العالمين في مستويات عديدة دون أن يمنع ذلك من محاولة تقريب الهوة بين العالمين. وبهذا يصبح الاختلاف عنصرا من عناصر إثراء العلاقة بين العالمين، الى الحد الذي تصبح فيه العلاقة صيغة جديدة أنتجت منتوجا لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي، بل إنه تحمل القليل أو الكثير من هذا أو ذاك. فارتباط الشرقي بالمرأة الغربية. بالرغم من خضوعهما لعناصر الاختلاف الى حد التعارض، فإن ذلك لا يمنع من إمكانية الارتباط بينهما، من جهة، ومن الاستناد، من جهة ثانية، الى قاسم مشترك يجمع بينهما. وهذا القاسم المشترك قد يكون:
ü الحب المتبادل بين الشخصيتين لعوامل عديدة، مثلا، التفوق العلمي، وهو قاسم مشترك بين معظم قصصه، بل الراوية أيضا {موسم الهجرة الى الشمال}، والقاسم المشترك بين الشخصين، وارد عند كل منهما عبر هذه العلاقة.
ü أو قد يكون الدافع هو الرغبة في خلق هذا القاسم المشترك، تمهيدا لتطبيع العلاقة بين الشخصيتين شريطة أن يحمل هذا القاسم المشترك ملامح مشتركة أيضا، تعكس هذا التواصل الجديد في قصته "خطوة للأمام" يجسد الطفل هذه الصيغة التواصلية فهو يجمع بين بياض الأم الانجليزية، وسواء الأب القادم من السودان، وملامحه الجسدية الأخرى من شعر وأنف وعيون، تأخذ القليل أو الكثير منهما الى غير ذلك من القواسم المشتركة{انظر قصته خطوة للأمام}.
ü أو قد يكون القاسم المشترك نابعا من المغامرة ضدا على التقاليد الأسرية والاجتماعية والجغرافية في المجتمعين {سوزان وعلي/الاختبار}. والمغامرة، بطبيعتها قد تنجح أو قد تفشل، كما أنها، من ناحية أخرى، قد تبدأ بالنجاح وتنتهي بالفشل {سوزان وعلي/ لك حتى الممات} أو قد تبدأ بالانسجام، وتنتهي بالفشل الجزئي، من أحد الطرفين، وصولا الى الفشل النهائي.
إن المظاهر السابقة حلقة من حلقات الصراع بين العالمين، من خلال مستويات العلاقات العاطفية بين الرجل العربي ـالافريقي، والمرأة الغربية. ومن تم، فالرصد المتأني لهذه العلاقة تجاوز ما كان يعرف عليه "مصطفى سعيد" في رواية {موسم الهجرة الى الشمال} بواسطة لغة الدم التي مارسها الأجنبي "منذ ألف عام" قبله أن يمارسها "مصطفى سعيد"، انتقاما لكل الضحايا، أقول، إن هذه الأوضاع {البورتريهات} في هذه القصص تسمح بإعادة النظر، في هذه العلاقة، بوسائل جديدة تقوم على "التواصل الإنساني" بين المرأة والرجل، بين الشرق والغرب. وهذا ما يؤكد على إمكانية النجاح في لحظات محددة {قصة خطوة للأمام} وفي الوقت ذاته، لا يمنع ذلك من الفشل كما عكسته زيجات بين الرجل العربي ـ الافريقي، والمرأة الغربية، في قصص مختلفة {لك حتى الممات/ سوزان وعلي}.
والكاتب، في هذا السياق، يتبنى قصصه القصيرة من خلال بنية ثلاثية على الشكل التالي:
Ø {أ} هدوء ـ توتر ç هدوء {خطوة للأمام}
Ø {ب} توتر ـ هدوء ç توتر {سوزان وعلي/ لك حتى الممات}
Ø وفي الحالة الأولى {أ} تكون هذه العلاقة الثلاثية على الشكل التالي:
§ رجل çامرأة çحلم متحقق {خطوة للأمام}
Ø وفي الحالة الثانية {ب} تصبح العلاقة على الشكل التالي:
§ رجل ç امرأة ç قدر {سوزان وعلي}
§ رجل ç امرأة ç سوء فهم أو تفاهم {لك حتى الممات}
§ رجل ç امرأة ç عجز عن تجاوز رواسب محددة {سوزان وعلي}
بين القدر وسوء الفهم أو التفاهم، وبين القدر والعجز عن تجاوز رواسب التاريخ والجغرافية التي امتدت كما جاء على لسان مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة الى الشمال، الى ألف عام.. من الصراع بين الغرب والشرق، بين هذا وذاك، حاولت شخصيات هذه القصص تجاوز كل ذلك فنجحت مرة، وفشلت مرات، ومنها عاودت المحاولة من جديد. وهذا هو قدر الغرب والشرق، لا بد من المحاولة، محاولة الجوار ومحاولة اللقاء، وفي الأرض متسع للجميع.
مبدع وناقد من المغرب
هوامش:
1ـ الطيب صالح: دومة ولد حامد {قصص} دار العودة بيروت 1984
2ـ وهي من نصوص المجموعة أعلاه