«شعرت بثقل العالم يجثم فوق صدري، عالم موارب و بأقنعة مشبوهة و متعددة"
«يبدو الأمر و كأن كل ما يحدث مجرد لوحة باروكية عن القيامة"
يلج سعيد بوكرامي بروايته "ثقل العالم" الصادرة عن دار أجراس بالمغرب، منطقة مستبطنة، فيما بين العتمة و العتمة؛ فالعتمة الأولى تبدأ بهذه الإطلالة الموحية، أو الانطلاقة الدالة من كمون مستسلم، و هو مشفى الأمراض العقلية / النفسية، الذي يستدعيه الراوى، منطلقا منه بحكمة معالجه النفسي، و متأثرا بتعاليم كونفوشيوسية، مؤسسا لنزعته إلى الخلاص من بؤرة عالم يئن تحت وطأة ممارساته كفرد / كل، بقول المعالج
«الركض أفضل وسيلة للدفاع.. و هو يقصد العلاج، و هو بذلك كان يلمح إلى ضرورة الهرب من جحيم الكهرباء و الماء البارد و الحبوب الحمراء المهلوسة، لكن ثورته انتهت بأن لفقت له الإدارة الفاسدة تهمة اغتصاب إحدى الممرضات ".. الرواية/ص5.
يمهد النص هنا، في مفتتحه، للغوص في أغوار نفس عليلة / مجتمع مريض، قد تكون العلة فيه غير ظاهرة، و لكنها مستحكمة في قرارها، إسقاطا على واقع عام مدلس ينقاد راوي النص لملابساته المتناقضة.. تنعكس فيه الأوضاع و تضيع الحقوق و الواجبات بطريقة عبثية ملتبسة، و يدفعه دفعا نحو هذا المرض / العلة المستحكمة في النفوس، أو العرض الاجتماعي المستشري تدليسا و تزويرا للواقع كما يشير النص بداية في تداعي ذكر المعالج..
و لكن البداية تطرح أيضا تساؤلا هاما لا يقل عن كونه مثارا لجدل يقوم عليه بناء الرواية بقسميها اللذين اعتمد عليهما الكاتب؛ لتفصيل و تجسيد كل مرحلة على حدة.. الأولى لاستجلاء أو البحث عن الجذور الحقيقية للأزمة. و الأخرى لبيان الأثر والتداعي لما يحدث / يمكن أن يحدث أو المنتظر / المتخيل حدوثه كنتائج لها دوافع و مقدمات و أسباب.. تدفع بالجزء الأول للتحليل و التفنيد، و تترك الحبل على الغارب للجزء الثاني كي يفرض نتائجه / أحكامه.. لتحمل رسالة النص هذا السؤال/التساؤل ..
«..... و لكن ألا يعتبر الركض بلا اتجاه نوع من الهروب من المسئوليات، و لم لا تكون المواجهة أجمل ما في الحياة ؟ ولماذا لا يتحول الركض من الهروب من ... إلى نوع من المواجهة مع ... ؟ "ص5
هذا ما تحاول الرواية الإجابة عنه بروية شغوفة متوترة في نفس الآن، و بملابسات صغيرة كمنمنمات حياتية متجاورة متلاحقة في نسيج روتيني مضاد و مقصود، خاصة فيما يتعلق بالجزء الأول الممهد للانشطار الأكبر، و محاولة التحول إلى مرحلة جديدة مهداة / متخيلة، و متوقعة، أكثر التباسا و غموضا و سوداوية، و تضعه إطارا لها منذ انطلاق دفقاتها، للتحول في نهاية الأمر إلى عتمة أخرى ما تلبث أن تطوي صفحة النص الأخرى على شطرها الأول لتكتمل دائرية العتمة.. المُقَدَّمة بغلاف معبر، تنبغي الإشارة إليه كأحد الأدوات التي يعتمد عليها النص، نجح في أن يكون واجهة مؤثرة كعتبة أولى جيدة للنص في محاولة استشرافية لبداية سبر الغور.
* الدخول من البوبة
يعتمد الراوي في هذا القسم على التنقل المغلق بين الأماكن المادية الملموسة، التي تفرض تضاريسها، سلطتها على أجواء السرد، كما تفرض اسقاطاتها النفسية سلطتها أيضا بتأثيرها المباشر على نفسية راوي النص المأزوم، و بين التداعي لأشياء مرت به، ترتبط بذكريات مع الأماكن مع رصد تحولاتها في مزيج من الرصد الواصف المختلط مع عبثية مضمون ما يجرى، و إن كان يجري بصورة طبيعية، لكنه يمهد بالطبع لما سوف يكون عليه تكنيك السرد في القسم الثاني المكمل، و المعول عليه في إبراز مضمون النص و توجهه.. فيقول الراوي مدفوعا بحمى البداية التي تسلبه قدرته / قدرة مجتمعه على الإمساك بزمام الأمور التي انفلتت:
«اسمحوا لي أن أتوقف للحظة ؛ لأبدأ من البداية، لم تكن لدىّ الخيارات عديدة لكن الشيء الذي أتذكره و يمكن أن أشد به رأس الخيط لتكون لهذه الحكاية بداية للتدهور الذي صاحب سكان مدينتي و انتهى بأغلبهم إلى مستشفي الحمقى و المخبولين «ص5
لتتقافزبعد ذلك الأماكن بتراتبية متقنة تدفعها عملية التداعي أو الفلاش باك، المختلط بسمات الشخصية و المطبوعة بتأثيره ؛ فالبداية من العيادة، كمنطلق لمحاولة إصلاح ما اعتور الشخصية من تأثير واقعها / تاريخها المحيط بها، و المسلط على ذات الراوي ، إلى جانب اعتماد الكاتب صيغة طرح الواقع الخارجي من خلال مقاطع من مقالات مجلة تحوي ملفا عما تعده القوة المسيطرة على العالم، للعالم و أجيال المستقبل، مزاوجا معه ما يدور بداخله من صراع و تأزم له من الأسباب المادية ما دفع كثيرا نحو التعب النفسي، و لتظهر مسبباته و تطرح على واقع أشمل خارجي بمقومات عامة تمس الشأن العام، بحيث تتداخل هذه المقاطع مع ما يدور في العيادة التي يرتادها الراوي للعلاج من الصلع ( المفاجيء !!).. و ربما تجدر الإشارة هنا إلى العراء و الانكشاف الذي تشعر به الشخصية و تعاني من تداعياته، و تحاول ربطه بما يدور حولها من صراعات مدمرة و مؤامرات تُحاك ؟!!
«عبد الرزاق المتوكل ..
نطقته الممرضة ممططا، و كأنها تخرجه من سرتها الجميلة.. ألقيت المجلة فوق طاولة الاستقبال، و رفعت بصعوبة جسدي المنهك.. طلب مني الطبيب أن أفتح فمي ثم طلب مني أن أزيل سروالي ليفحص شييء ثم بعد ذلك قال:
ـ هذا نتيجة توتر نفسي ..
ـ ما علاقة التوتر النفسي بالصلع المفاجيء ؟
ـ تأملني بعينيه الصغيرتين الماكرتين و قال:
ـ أما زلت تتناول المهدئات ؟
ـ لا توقفت عن تناولها ..
ـ علاجك سهل لكنه يحتاج وقتا و صبرا طويلا.. هل أنت مستعد ؟! «ص 8
يطفو اسم الراوي بدلالاته و طرحه الذي يرتكن إلى نوع من السخرية الذاتية اللاذعة المختلطة بنوع من القدرية، و محاولة إسقاطه على الشخصية التي تبدو طبيعتها و كأنها تركن إلى الدعة و الاستسلام، و تفويض الأمر إذعانا لاتقره الأجواء الجديدة المحيطة، بماديتها التي تطحن كل شيء، و لا تعترف بفحوى ذلك، و تدعو إلى التراكض و التصارع و حياكة الأمور بشكل آخر جديد، مختلف عن هذا السياق الجمعي المرتد عن جمعية توحده .
كما تجدر الإشارة هنا إلى تداعيات المرض النفسي، الذي يؤدي إلى هذا الصلع المبكر / الانكشاف، و ليخرج الراوي من هذا الموقف المتداخل مع عملية التسجيل / التقرير التي تتري من المجلة، بإعلان عن «طريق إلى المستقبل ".. يفتح لعلامات الاستفهام في ذهنه طريقا ممتدا يتداخل مع كل شيء ؛ ليحفزه للحصول على فرصة نحو الخلاص من هذا العالم الثقيل، كدلالة يؤكد عليها عنوان النص الفارق، نحو عالم آخر لا يحيط بكنهه، مع صراعات العمل التي تضغط على الراوي في صورة مدير جديد للعمل يحاول حصره في دائرة سطوته، كنموذج دال على سلطة جبرية جديدة و متجددة تمارس سلطانها القاهر و ضغوطها، مع محاولاته اليائسة للانفلات و تأمين ذاته ( الضائعة ) ضد غوائل الشر المستحكمة في الجو الكابوسي الجديد الذي تفرضه عليه صورة المدير سلطتها المحبطة.. مع ما يمكن تسميته بنشوء الرغبة الجديدة في الالتحاق بعالم جديد، و هنا تبدو المفارقة اللاذعة، التي تبرز تناقض الذات مع ما تطرحه، أو تحاول طرحه..
«عدت إلى الأرشيف فوجدت زميلي انصرف بدوره تاركا قنينة ماء معدني فوق مكتبه، طبعا تركها ( للتمويه ) على أنه لم يغادر بعد.. قصدت الرف ...، و سحبت منه ملفا بعينه، ثم الرَّف ... و سحبت منه ملفا آخر.. بعض الأدلة معي الآن.."ص11
يلتبس الراوي هنا بالشك و الاضطراب معا، في محاولة للهروب من واقع، انبثقت من هروب آخر جامع من حياة لها شديد الوطأة ؛ لينتهي كل موقف باصطدام عينيه مع إعلان الطريق إلى المستقبل، المعلق ـ في هذه اللقطة ـ في الصيدلية / مصدر تلقي العلاج، بما ترمز إليه ـ كمكان أيضا ـ من حلول عرضية لا تفي بما يفي به عرض كهذا العرض المستقبلي ؛ كحل / خلاص / علاج أشمل و أقوى و أنجع لا يهرب منه في تلك الحالة، بل يتشبث به من خلال المفردات التي تطرحها الصورة بدلالاتها و ما تبشر به من حقيقة / وهم، في مقابل عنصر المكان المادي كطارد لبطل النص، و دافع نحو هذا التفكير الجدي في عملية الانسلاخ..
«فرأيت الإعلان الذي قرأت عنه، و طالما بحثت عنه، معلقا يحتوي صورة زاهية الألوان تصور أرضا خضراء كأنها جزيرة الكنز، في مقدمة الصورة طرق ملتوية تسيجها الأزهار، و في أسفل الصورة كتب بلغات كثيرة الجملة التالية.. الطريق إلى المستقبل"ص12
لتبرز الدلالات بالكلمات الواشية بالوعورة المختبئة خلف ما يزين الصورة من ورود و أماني خضراء يانعة، ينخدع بها الراوي مدفوعا بحمى البحث عن مخرج / خلاص ..
و ليلج النص بعد ذلك إلى ذكر تفاصيل المكان العام الخارجي / بيئة الراوي، مختلطة بشجونه، و بمقاطع من مسلسل تأزماته المطلة من خلال تيمة الاسترجاع، من ماضيه مختلطة من مشاهد الحاضر و المواقف التي يلاقيها الراوي سواء داخل بيته / مستودع أسراره، أو في البيئة / المكان المحيط ككل، و الحامل لشجونه، و التي تتصارع عليه، و تتشكل و تتصاعد حدة تأثيرها حتى أنه ليقول بلسان حال النص / الحال العامة التي تود الرواية أن تطرحها..
«شعرت بثقل العالم يجثم فوق صدري، عالم موارب بأقنعة مشبوهة و متعددة"ص13
تبدو هنا الحاجة الملحة إلى التخلص مما يؤرق الشخصيات كنتيجة لعملية استدعاء مستمرة لما يؤرقها و يستجلب سخطها المرتكن على أصول نفسية / عقلية متدهورة، تعاني الازدواجية في التعبير عن الرأي كما سيرد فيما بعد، كما تعاني غربة مجتمعها و بيئتها المحيطة التي تداعت عليها عناصرها الخانقة ؛ لتأتي ردود الأفعال دائما، بالتفكير الملح في الالتحاق بالطريق إلى المستقبل، على الرغم من غموضه ..
المكان، عنوانا للذكرى، و دلالة للتحول
تعكس بدايات الفصول / المقاطع، دائما، اسقاطا عل المكان بدلالاته، و تؤكد على دلالات تحولاته التي تبدو أحيانا، و تتوارى أحيانا ليطغى عليها الهم الخاص، المفضي بأي حال من الأحوال إلى إبراز الإحساس بالتأثير العام، بحيث تعكس الواقع الحياتي المعيش، بوصف جغرافيا المكان الدالة على حالة من حالات التردي لرصد الواقع بالتشابك أحيانا مع مقالات الجرائد ـ مرة أخرى ـ كوسيط إعلامي مسيطر على ذهن الراوي كفرد، و على مجتمعه ككل، كما يبدو المقهى ـ المرتبط دوما بالحياة و أخبارها ـ كمرادف للتفاعل اليومي، و كنموذج مصغر من نماذج المجتمع الدالة، و كمسيطر على حالات الفراغ القائمة في حياة / حيوات الشخوص.. و لنلاحظ هنا ـ كنموذج ـ دلالة الاسم هنا أيضا ( الهلال ) ..
«مقهى الهلال، كنت أقعد و أشرد فيها.. يبصق الحمام فوق رأسي، أو فوق الجريدة أو داخل الفنجان، أحيانا ترجمني عمارة الحبوس بزليجها الداكن فيها أصارع أفكارا تترنح كبندول.. أمامي شارع الجيش الملكي و ... و ... «ص21
و ما إلى ذلك من تداعيات وصف المكان و إلقاء الظل النفسي على رؤية الأمور، التي ترصد حالة التحول حتي على المستوى الخارجي. كما هو الحال مع العودة الدائمة إلى تضاريس المكان لإبراز البعد الدلالي للتحول كما في ملاحظة:
«تكاثرت أوراش الترميم في الدار البيضاء و كأنها ستتحطم فوق رؤوس السكان «ص41
بما يطرحه من محاولات لإسقاط الإحساس بعدم جدوى ما يحدث من تطوير لا يأتي معه سوى الإحساس بعدم الأمن و الخوف الشديد من انهدام كل شيء فوق الرؤوس، بما يعكس أيضا حالة اليأس التي تستشري في نفسية البطل الذي لا يجد ـ كما قلنا و نكررـ أية جدوى مما يمكن أن نسميه تطورا أو تحديثا ..
بالإضافة إلى بعض التفاصيل الأخرى التي تمثل إضافة لكم الإشارات الدالة على تحول المكان إلى الأسوأ كدال مؤثر على ما آلت إليه الأمور، و إن كانت حتى من منظور الراوي، الذي ربما تتجسد له الأشياء أو الأمور بالشكل الذي يتواءم مع حالته النفسية، و وضعيته الاجتماعية التي أثرت و تأثرت بتداعيات التعب النفسي فتراه في مشهد نزوله من بيته، تمهيدا للانسلاخ من هذا الواقع الذي احتواه مخلفا وراءه هذا المشهد الدال، حيث يقول ص46
«نزلت الدرج المبقع بقطرات أكياس الأزبال. فتحت البوابة و قفزت الدرجات الثلاث دفعة واحدة. الشارع فارغ. بعض الكلاب المشردة تلتهم أكياس الأزبال المكومة عند طرف الشارع. الليل بدأ يزرق و يتلاشى ...»
خنساء و الجنس كمعادل ..
كما أتت من خلال كل ذلك مرحلة انعدام الوزن التام بمسلسل ظهور «خنساء "، كتفصيلة مضفرة مع كل هذه التداعيات، و ما تستدعيه هي من تذكر شخصية «نزهة «و مأساتها و مأساة الراوي معها، و كذا «ريم «وما تحمله الشخصيات النسائية في ضمير الراوي سواء كانت علاقة حميمة مثل حالة أمه و أخته، مع ما يتكشف عنه، بالتوقف الكثير المتواصل مع خنساء و حواراته معها، التي تعبر مرحلة التذكر و الأسى المبهم الحيي إلى منطقة اللذة و التعذب بها ـ كلذة مفتقدة فيما بعد ـ بداية من علاقة مبتسرة، تدرجا إلى علاقة كاملة نحو الخلاص بممارسة الجنس و الالتحام المعالج للعطش و الحرمان، أو كما جاء به النص من تفاصيل ص45 ..
ليبرز النص العملية الجنسية على أنها من الممكن أن تمثل المعادل الموضوعي لحرمان الحياة، و كعلاقة عكسية للجنس كسبب للبقاء، و تحوله إلى سبب آخر للانسحاب، و المتعة المفقودة، مخالفة لسنن الحياة و قوانينها ..
و بالدور الذي لعبته خنساء كشخصية رئيسة، و إن غابت أحيانا كثيرة، بتخللها تفكير الراوي
ـ بغض النظر عن نظرتها هي للأمر على أنه محض ( حاجة عابرة ) تقضيها لذاتها، و للذتها، ناهيك عن تأثيرها / عدم تأثيرها على حياة الراوي ذاته !! ـ و لكن كمحاولة منه لاستيعاض الحلم / الماضي الذي لم يتمكن من تحقيقه أو ربما الخلاص بالجنس ؛ ليكون لخنساء حق الفعل حيث يتجسد دورها كدال على مرحلة ذائبة في عقل الراوي الباطن فيما بعد، لتمثل مفارقة أخرى تتكشف عنها أحداث السرد أو العودة من مرحلة غيبوبية ما..
أيضا تبدو، على خلفية العلاقة مع خنساء، ملامح شخصية الراوي المضطربة من خلال إشارات متناثرة، مثل فعل الاستمناء المتكرر في الحلم، تأكيدا على دلالته على الوصل المفتقد مع المعاني الحسية، و الحرمان الجسدي الشبق، الذي يتفق مع الحرمان النفسي، بكونه عملية جنسية مبتسرة .
كما جاء استدعاء النص في هذا القسم لشخصيات مؤثرة في ذات الراوي سواء بتعاليمها ـ كما سبق مع ( كونفوشيوس ) ـ أول النص ـ أو ما تطبعه في نفسيته مثل ( جاك بريك ) و (ماو تسي تونج ).. كدلالات متعددة على الفراغ النفسي الذي تعاني منه الشخصية التي تنزع دائما نحو النموذج الكاريزمي، كما تنزع إلى تأصيل فكرة أن الماضي يسري في عروقنا، كما الدم الذي نرثه من أسلافنا، دلالة على الارتباط الشديد بالماضي، على الرغم من الرغبة الملحة في الخلاص و الالتحاق بالمستقبل ( الغامض ) !!
كل تلك العوامل التي تدفع بالشخصية، بعد فعل التفريغ الجنسي مع خنساء / الرمز، و ما يحمله من معنى للفظ أخر قطرات الرغبة في الحياة الماضية ، إلى إشارة نحو بداية الطريق الجديد بما ينطوي عليه من معاني الانسلاخ التام في رحلة نحو الوهم أو الحقيقة أو الحلم.. أيهم ؟! على أنها تأتي دفعا بعد عملية ( الخلاص ) بالالتحام و الذوبان الجنسي، المعادل للانغماس في الأمل، حتى و إن كان أملا كاذبا، لا يعانق الحقيقة، التي ربما صارت حقيقة فيما بعد، في مفارقة أخرى من مفارقات النص، المعتمد في أغلب مراحله على العبثية، و اللا معقول الذي يصير بحكم انقلاب الموازين معقولا و متقبلا، بأي شكل من الأشكال، و تحت طاريء الأحوال ..
«تنبهت فجأة إلى أني أعدو إلى جانب شخص و جهه ليس غريبا عني، ابتسم و بدأ يشجعني برأسه كلما رفعت الإيقاع و واصلت الركض. بعد مسافة لم أستطع تحديدها بالضبط قال:
ـ الطريق .
فقلت:
- الطريق إلى المستقبل .
شدني من كتفي و قال:
- الطريق من هنا، .... .... .... «ص 46، 47
بما يدفع بهذا الباب الجديد، في اتجاه تتحول فيه الإشارات إلى رموز لها حق الفعل، و الواقع المادي الملموس و المحسوس إلى واقع افتراضي تختزل فيه الأشياء و تتحول للتحرك في حيز جديد متخيل، و مرَمَّز إلى حد بعيد، متسع على أفق غير معلوم، و مغلق في نفس الآن، محصورة في تعليمات و أوامر و أحوال تُحْدِث في النفس المستسلمة العجب ؛ فالمكان هلامي ينبثق من مكان حقيقي، و هو الطريق الذي أشار إليه الراوي في نهاية القسم الأول، يسلخه الراوي / النص المدرك، من رحم الواقع ليضع فيه تصورات للأفعال و ردود الأفعال المنتظرة / المتخيلة.. و ربما كانت عين الحقيقة ؛ ليتجلى السؤال مرة أخرى، و لكن بصيغة جديدة، تتلون بألوان المرحلة الغامضة، فمن الذي يملك خيوط المستقبل ؟!
** الطريق إلى المستقبل، وافتراضية جديدة للواقع
هنا يتسع الزمن النفسي / الداخلي للرواية، و الذي ينطلق من ذات الراوي نفسه، لتتسع معه زاوية الصورة نفسها، لدرجة انعدام الخطوط الفاصلة بين الفترات الزمنية استنادا إلى واقع مفتوح / مفترض، ساع لتجسيد نوع من الكابوسية المسكونة بالهاجس .
«الطابور يمتد كلسان طويل .
رجال و نساء و أطفال في صف لا نهائي .
يتحركون بصعوبة في اتجاه أفق داكن .
يبدو الأمر و كأن كل ما يحدث مجرد لوحة باروكية عن القيامة «ص 49
ينفتح هنا المجال لصورة جديدة للعبثية تلتحم فيها الأحداث مع هذا الواقع الافتراضي / الكابوسي، من خلال تزاحم مجموعة من الشخوص تبذل ما تملكه / لا تملكه من مقومات للحصول على تأشيرة العبور إلى المستقبل، و لو بهذه الصورة الانتقالية الموغلة في التشابك و العتمة و الصراخ و الهرولة، بما يطبع على الأحداث ذلك الموقف السوداوي الذي يلقي بظلاله على النفوس الراغبة للاندماج ؛ حيث يندمج هنا الراوي ـ المنعزل بذاته، الهارب في قسم رحلته الأول ـ في معراجه / سقوطه مع الجموع الراغبة في الالتحاق بركب حياة جديدة / مستقبل، أو انتكاسة جديدة في صورة أكثر عبثية، و أكثر اقترابا و التصاقا بمفهوم جديد للتحول ؛ فالأمور هنا عجائبية شكلا و مضمونا.. حيث تسيطراللامنطقية التي تغلف كل الأمور التي تكتنف أحوال الراوي و كل المجاورين، و المزاملين له في هذه الرحلة المحفوفة بالغموض.
«يرتفع صوت من مكبر غير بعيد:
ـ بعد قليل ستنزل من السماء مساعدات و مؤونة، من يريد نصيبه فليفعل ذلك بهدوء و مسئولية «ص 49
لتفتح هذه البداية الجديدة، عملية التمكين من الأحلام / الطموحات، كعملية تواكلية جديدة صرفة لا تحتفي بقيم الاجتهاد و المقاومة، كمفهوم خاطيء لمعنى التوكل الذي قد يمثل على أرض الواقع فريضة عقيدية يُحتفي بها ؛ مما قد يحيلنا إلى الدلالة العكسية لاسم الراوي ـ الذي ورد مرة واحدة في القسم الأول ـ لإسقاط الواقع المأزوم لبطل النص، و ما يمثله من شريحة / نموذج لبيئته، التي تجمعت عناصر وجودها ـ بعد غيابها في القسم الأول ـ في هذا المشهد القيامي غير الواضح المعالم، و المحفوف باللهاث الغيبوبي و الفرحة غير المبررة، أو المصدقة لما يحدث حولها، أو ربما غير المستندة إلى مسببات حقيقية معقولة.. تدفع الراوي للانسلاخ من الحلم نسبيا، و الإحساس ربما، بمد وطني متأصل فيه، رغم المعاناة و قرب تجسيد حلم الهروب و الانسلاخ، و ربما التبست بشبهة سخرية لاذعة في قوله:
«و إن لم تخنني الذاكرة يمكنني أن أقول ربما نشيدا وطنيا «ص50
لتتماهى فكرة الوطن مع فكرة الهروب في هلوسة توغل في الخط النفسي المضطرب لراوي النص / بطله، و بما يتفق مع حتمية الموقف الذي هو بصدده ؛ فردود الأفعال دائما، هيسترية، غير فاعلة، و الفعل دائما منتظر، قسري، ملزم، موح بالحصار المفروض الذي ربما اخترقته بعض التحذيرات التي ربما أتت على لسان عجوز ـ صاحب ملامح بورتريهية !!، التي يمكن أن تحيلنا إلى غلاف الكتاب الدال على تشوه الواقع سواء كان قديما أم معاصرا ـ يحتل مساحة من مساحات المكان الجديد في النص، حيث يقول على لسان العجوز، الذي ربما يمثل في ذات الموقف منفردا، عنصر التمسك بالأصالة أو الخبرة الحياتية، رغم استبعاد جدارتها بذلك:
«لا تذهب، فهذه خدعة.. اسألني أنا من يعرفهم جيدا، الآن فقط بدأ اللعب الحقيقي «ص 50
و كأن العملية ما هي إلا فخ تفرضه فعاليات الصورة العبثية التي تتشابه فيها، إلى درجة التطابق، وجوه الأشخاص المستقطبين لتلك النماذج البشرية في تلك الرحلة التي تختزل فيها الأشياء و العوالم كما في جزء من حلم / كابوس يحمل مفردات سيناريو يتكرر بطائرات حربية تلقي بالرسائل إلى الطابورييين بتعليمات من يهيمن على كامل الصورة الكابوسية.. تحول ساحة الواقع الجديد إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، و لكن بلا دروع واقية ..!!
و لكن لا مناص من الاستمرار في هذه اللعبة / الهيكلة الجديدة للحياة ـ بمقادير من يملك ـ الممهدة لما لا يمكن تحديد مساره ؛ فالعجوز رغم خبرته، مازال مصرا على الولوج في غمار المغامرة التي لابد منها ؛ كأمل / طوق نجاة، للمجبورين قسرا على الوقوع في دائرة الهيمنة، حتى من هم في مثل سنه و دربته نزوعا ـ ربما ـ إلى تأصيل تاريخ يحمل عنوان الخنوع، و بما يعيدنا مرة أخرى إلى لوحة الغلاف، في تأويل لصندوقها المغلق على عين حاملها، بما يدلل أو يعطي معادلا آخر للإرث القديم من الثقل ذاته ..
كذلك ترصد حركة النص ظاهرة تحول التشبيهات أو ضرب المثل إلى النموذج الغربي في المفاضلة بين نماذج غربية لا تمت بصلة لا للمجتمع و لا لبيئته المحيطة..
و ليصف لنا النص صورة جديدة من صور المعاناة من أجل الطريق إلى المستقبل / الحياة الانتقالية الجديدة ؛ فيقول الراوي ص57
«الجوع الذي يستبد بنا كفيل بأن يدفعنا إلى قبول أي شيء، الركوع، الرقص الإباحي، النباح و حتى النهيق، و في لقمة واحدة و رشفات محدودة أنهيت الوجبة. تغرغر السائل الأسود إلى أعماقي القاحلة، قرقرت و رجعت صدى الفراغ الهائل و كأني ألقيت حجرا في بئر عميق «ليعمق النص، بتجسيده لهذا المشهد الوصفي الدال، مع تحول الجمع إلى نوع من الطابوريين، كما يطلق عليهم النص، هذه الهوة أو البقعة المنسية التي ترادفت فيها و تجمعت كل أشكال الامتهان و الهوان، و بإشارة إلى ما يمكن أن يرمز إليه السائل الأسود من دلالات، مع ما يطرحه هذا الفعل من ردود أفعال تجري و كأنها حجر يلقى في فراغ شاسع !!
ظواهر دالة مؤثرة
تتأثر حركة السرد بهذا القسم ـ على خلاف القسم الأول ـ بافتتاحيات المقاطع على ظواهر طبيعية.. تتحول، و تتجسد بألوان أخرى تلقي بظلالها على الأحداث المتلاحقة، و كأن فصول و تقاسيم الوقت بالكرة الأرضية قد اختزلت و ذابت الفترات الزمنية بينها، تغييبا لعنصر تراتبية الزمن لحساب الحالة النفسية المسيطرة، لتجعل من هذا الموقف ـ فعلا ـ ما يقارب المشهد القيامي الباروكي، و إن كان جاء تصريحا على لسان الراوي، إلا أنه الآن يأتي بهذه التقنية الفنية التي اعتمدها النص، لرصد الدلالة مع التحول، و التي تسهم في كسر حاجز الزمن سواءا على مستوى اختزاله، أو طرحه مع بدايات المقاطع بأشكال تخدم درامية / لا معقولية المقطع ذاته، على نحو مما يلي:
«تخرج الشمس شاحبة من وراء الضباب الصباحي الكئيب. ترسل أشعتها الدافئة إلى وجوهما و رقابنا و ظهورنا. أشعر بدفئها يتغلغل إلى جلدتي. أرسل نظري إلى جميع الأنحاء، فأرى النائمين يستسقظون و يقفون كالصاعدين من القبور. وقف العجوز بعدما استعان بعكازه، أما المرأة فبقيت جالسة القرفصاء، كأنها تفعل شيئا لا تريد أحدا يطلع عليه «ص59
تظهر هنا المرأة لتطفو على سطح الحدث باقتنائها طعاما لا يملكونه، لتحيل الراوي ـ في عملية استفاقة ـ إلي تداعي جزءٍ من ماضيه / حياته السابقة، ليطفو معها المكان أيضا متمثلا في مقهى آخر هو مقهى ( الزهور) ـ بما يعكس المعنى المتواري للأمل ـ كما ينعكس عليها شبها قريبا بزوجة الراوي السابقة، و كزمز للحياة الجديدة بكل سماتها ؛ ليختلط بذلك الوهم الذي يتماهى مع الحقيقة كما تختلط أيضا ملامح العجوز مع شخصية تستهوي الراوي، هي شخصية ( هو شي منه ) كزعيم مناضل ملك حق الفعل، لتوضيح العلاقة العكسية بين ما يطرحه النص، و ما يبرز من سلوك و نضال هذه الشخصية، كمثال للتحرر، و الإمساك بمقاليد أمور الذات / الجماعة ، لتتوالى الإحالات التي يلقيها الراوي من حلمه / حياته الجديدة، على واقعه / تاريخه .، و تتوالى معها الإشارات الدالة على الحال الآنية / الكابوسية، و لتتوالى مقاطع المشهد العبثي ما بين عمليات التفتيش التي تجترج عورات الطابوريين بالكشف عنها بطريقة مهينة، ربما كانت محاولات تحمل على وجهيها كل من عملية الإخصاء، و الاختبار معا بما ترمزان إليه، و تنطويان عليه من رغبة آسرة في النيل من هذا المكون الجيني سواء بالاستمرار أو الزوال على حد السواء ..
«تقدم مني و بدون آلة، قال ( يعني الجندي أو المفتش )
ـ وسع رجليك .
وسعتهما و وقف أمامي، وضع كفه بينهما، تلمس قليلا ثم جمع كل شيء في قبضته و ضغط بقوة. فصرخت و قفزت من مكاني. أشار للآخرين أن كل شيء على ما يرام ثم تجاوزوا العجوز إلى الذين يقفون في الخلف. « ص61
بما يحمله هذا المشهد من نذر، و عواقب و امتهان يليه عرض المرأة / الرمزالتي طفت على سطح النص، للزواج من الراوي، و التي يأتي فعلها من خلال وصفه للكائنات التي صارت هلامية ضمن الركب الذي هو فيه، ليبرز هو دون غيره، ليتعين عليها إبراز هذه الرغبة / الحيلة، التي خطط لها من خلال كل ما دار و يدور حول راوي النص المتشبع بهاجسه، و علته.. تشبعا يملي عليه هذا التورط، بهذه الدينامية اللا مسئولة، حيث يحركها الهاجس، و الدليل الغاوي، المتمثل في شخصية الرجل العجوز الذي يتخذ موقف المداهن، من بعد غضبته لإبعاده
«في هذا المساء أخذت أفكر بجدية في هذه المخلوقات الحية المنصهرة في الطابور. يسيرون دون أن يدركوا أنهم يسيرون و يتوقفون. التفتت المرأة و قالت:
ـ ما رأيك أن نتزوج ؟
وجمت لعدة دقائق و أنا أنظر إلى عينيها المشعتين ثم قلت:
ـ لم أفهم قصدك
ـ ماذا ستفهم ؟ أطلب منك أن تتزوجني .
ـ الأمر صعب خاصة في مثل هذه الظروف.
ـ لا شعب و لا يحزنون. تشهد أمام العجوز أنك ستكون زوجا مخلصا و مسؤولا ثم انتهى الأمر
تدخل العجوز ساخرا:
ـ امرأة توزن بالذهب .»ص62
لتصير عملية الاقتران بهذه المرأة، و إن كانت محض وهم و تدليس، رمزا للانصهار و التماهي مع هذا التوجه، النازع لهوية الراوي، والموقف الذي تتأرجح فيها رغبته بين الرضوخ و بين الرفض، حتى يقع، و الوسيط في هذا هو الخبرة الزائفة المتمثلة في الرجل العجوز .
ليعبر مشهد الفراغ من النشوة الثنائية بينه و بين المرأة التي استحلت رجولته، كما استحل أنوثتها المزعومة، المختبئة خلف السراويل و الجلباب الكشميري، عن مدي تأثر كل ما حوله بما يدور في هذا المشهد الكابوسي:
«قمت بصعوبة و ألقيت نظرة على الأجساد المقصوفة فوق الأرض فبدت كقتلى عقب حرب طاحنة «ص63
لتنتقل مع بداية مقطع جديد تميزه نفس سمة الظواهر الطبيعية التي تتداول على المشهد الكابوسي بدوران غريب، و لتدفع الراوي إلى عملية جديدة من عملية الانسلاح من كابوسه / وهمه، و العودة به إلى طرف من أطراف حياة حقيقية سابقة، يقول في مطلع ص 64
«هبت نسمات هواء دافيء، فانزاحت الغيوم و ظهر نصف القمر و النجوم و المجرات فتذكرت عبد الستار الذي علمني لذة القراءة «
ليرصد فيما يلي ـ في منطقة بعيدة من وعيه ـ شخصية هذا الرجل الذي تأثر به يوما، و طالته التحولات التي نالت من كل شيء بعدما كان يمثل رمزا للعلم، و صار فريسة لهاجس المغالاة في الأمور العقيدية، ليرصد بذلك ظاهرة من الظواهر التي تؤرق مجتمعه، و ليفيق الراوي بعد ذلك على عين حقيقته الجديدة، في مشهده الجديد الراهن، حيث تمنح المروحيات الحربية طعاما للطابوريين الذين صاروا أسرى لهذه القوة المهيمنة التي كشفت عن وجوه عدة لها لم تكن لتليق بطريق جديد للمستقبل:
«انطلقت المروحيات السوداء التي تدعى على ما أعتقد الأباتشي أو كوجار لا أدري، لكن لو كان العجوز حاضرا لقال لنا نزعها بسهولة. حومت الطائرات فوق رؤوسنا عدة مرات. تكور الرجل الذي احتل مكان العجوز و وضع رأسه بين ركبتيه و أغلق بكفيه أذنيه و أصدر أنينا ثم سرعان ما أصبح عواءا «ص65، 66
يأتي غياب العجوز و تبديله هنا دلالة على تغييب عنصر مهم من عناصر المشهد، و بالتالي عملية تقليص فرص الخروج من هذا المشهد / المأزق، الذي كان يحتل فيه العجوز ـ ربما ـ جانب الخبرة و الحنكة، رغم إصراره السابق على المواصلة، و ليضعف من قوة الباقين الذين يصعقهم المشهد الحربي الصرف الذي يشي بوقوع مواجهة ، لكنها تأتي على تدمير أعصابهم، و لتواصل المرأة مسلسل انتهاكها لأعصاب الراوي، في قفزة زمنية تكسر بها حدود الزمن، الذي أصبح هو أيضا محض هلام:
«جرتني المرأة من ذراعي و قالت:
ـ دع عنك هذا الرجل. كل شيء في وقته، لقد انقطعت عني العادة. ستكون أبا خلال شهور .
أحسست دوخة في رأسي و خواء في ركبتيَّ ثم بدأت الأشياء تغيم في عيني .»ص67
تأتي هنا هذه النتيجة غير الطبيعية و الخارقة لقانون الزمن، كرد فعل لكل ما يحدث، و كدلالة على الاستمرار في الوهم و الزيف، بدليل العمل على إقصاء هذا الرجل الذي حاول اقتحام المشهد بسرد جزء من ماضيه، و التخلص منه بادعاءات كاذبة، كي يسير الركب كما خطط له، و ليكون الحمل القسري عنوانا لمرحلة جديدة للانصهار، و الدخول في مرحلة اللا عودة..
«اقترب الرجل الخلفي من أذني و قال:
ـ نحن جئنا لكى نصل و لا لكي نتوقف في مكاننا. المفروض أن الطريق إلى المستقبل معدة سلفا و المسؤولون يعرفون ما يفعلون. «ص 68
كاستمرار لعملية القيادة و المداهنة و الالتباس التي تدفع بالراوي كي يعيش إحساسا زائفا بالأبوة تمليه عليه كل المعجزات / الموبقات التي تحدث حوله، و تحدث في نفسه فعل الرضوخ ، رغم الإحساس المتغلغل بفقد العجوز كبوصلة / قوة دفع تعضد من شأن الجمع، إلا أنه يتماهى مع ضعفه و ركونه إلى كل الظواهر من حوله، حتى ليصير و الرجل الذي يتردد صدى كلماته في أعماقه صنوين متشابهين إلى حد الالتباس، كتعبير قاس عن الشعور بالعجز و الانكماش، و الذبول، تلقي عليه الشمس الصاعدة بعنف بمظاهر الفضح و التعرية التي لابد منها لتنكشف وطأة وهم ما كانوا يبحثون عنه، و لا يكف الجمع عن التماس نظام يجمعهم، يرحلهم إلى مرحلة جديدة من مراحل الاستسلام، و لكن بعد ذلك يطرح السؤال نفسه كما بدأ عن الركض، ليطرح معه جزءا من الإجابة، لكنها غير مكتملة، لتظل الحقيقة كالحياة ملتبسة بغموضها، و استغلاقها دوما عن الفهم ..، و لتبرزهذه الحيرة المغموسة في ماء الغواية نحو الأفضل و إن كان وهما، يسبغ على العقول دوما بدواعي تأزمات النفس و الوقوع تحت أسر الهلوسة.. !؟
«ما فائدة الركض إذا كانت الوجهة غير معروفة و النتيجة واحدة. لكن رغم ذلك فالركض في مثل حالتنا أصبح شريعة لأن الحفاظ على الحياة عين الشريعة و جوهرها. إذ سرعان ما بدأت تظهر أضواء تحمل ذيولا زرقاء كأنها شهب تحمل الحظ السعيد للبشر. شكلت بصعودها نصف دائرة ثم هوت فوق رؤوسنا المهلوسة"ص71
ليصير الركض شريعة و منهاج، و تبدو المواجهة ضربا من ضروب المستحيل، و ليكون العناق دائما مع الوهم، و اعتناق المسميات دون التغلغل في معانيها ..
لتعود في النهاية خنساء / الحياة، في صورة جديدة تتماهى مع صورة المرأة الكابوسية التي فرضت سطوتها على الواقع الذي افترضه الراوي، لتكمل الدائرة التي لن تتم إلا بإدراك العتمة للطرف الآخر منها، و بالعودة إلى المشفى مرة أخرى، ليتجسد هذا الانفصال / الانشطار الذي تولى راوي النص جاعلا منه شخصين بعالمين يكادان يكونان متعادلين على مستوى الفجيعة، ولكن بسمت شخصين يفرق بينهما حاجز الوهم و الحقيقة ؛ ليلتبس الواقع المادي بالواقع النفسي المفترض، بعد عراكهما المرير، و الذى ما تزال رحاه تدور و لا تتوقف عن الدوران:
«ـ انظر إلينا جيدا، أنا خنساء. هل تتذكرني، و هذا ابنك سعيد، صورة طبق الأصل منك، لقد تخليت عن القرعة لأمريكا، لا أريد غير المغرب موطنا. ألا تريد أن تعود إلى البيت. انتظرناك طويلا. يقول الطبيب أن حالتك في تحسن متواصل "ص72
ليظل الانفصال محتدما، عنيفا، و ربما أشد ضراوة، و ليستقر الثقل ثابتا فوق الرأس مختزنا بصندوقه محكم الغلق، على العين و القلب، و لتأتي العتمة الأخرى، التى تلتبس بالعتمة الأولى جسدا و روحا، هبوطا و معراجا، في محاولة لملامسة شغاف القلب المترع بثقل واقعه المادي و المحسوس، و لتنتج كل هذه التداعيات نصا جديرا بمخاطبة العقل و الوجدان معا، لتضمهما دفتي النص بلغة سلسة عانقت البساطة، و آتت ثمارا بتحالفها مع بناء متماسك، عمَّق من تماسكه الإيغال الشديد في الواقع، وكذا في الخيالي النفسي المفترض.. استطاع به سعيد بوكرامي أن يقدم إلى قارئه قطعة من شجن، و رغم غرقه في هذا المستنقع إلا أنه ربما لاح فيها أمل جديد يولد من رحم هذا الثقل.
أديب و باحث مصري