عندما ندعي امتلاك "مفاتيح" لقراءة الأعمال الفنية، فإننا نصنع من هذه الأعمال "أقفالا"، بينما هي كتاب مفتوح بدون أبواب وبدون حراس، ببساطة بدون مركبات، تحتفي بالظاهر للعين، وعميقة لأن أصفاد "الماوراء" لا تطوقها.
وأعمال محمد الكزولي الفنية الفطرية من هذا المقام، فالشوق إلى الوقائع الجارية، عارية كما تلوح للعين، يتملكها، سيما عندما تريد أن تعبر عن هذا السر العجيب الذي تخفيه الحياة في تكرارها، والذي يكمن في اليومي البسيط وفي الوقائع الساذجة والمتكررة، يكمن أيضا فيما يحيط بنا : أشياء وألوان وأضواء وعلاقات وعادات وسلوكات، طقوس وأفراح وأقراح... يكون السر إذن ما يظهر للذات وهي تصرح علنا لانتمائها لموطن وأرض وجغرافية ولزمن مندثر وزائل يصعب القبض عليه، لكنها تنجح في نقله من انسيابه إلى ثبات اللوحة وتجاويفها... وبما أن لا خارج بدون داخل يطرح إشكال موقع الذات في هذا كله ؟
إنه الفنان : يرسم سيرته، يرسم حنينه، يرسم خارجه وما ظهر للعين منفردا، يرسم فاعليته بمهارة الحرفي الذي يزاوج بين الفنان والصانع...
وعندما شددنا عن نزع المفاتيح للقراءة في هذه السيرة التي ترسم ذاتها وترسم عالمها الصغير في تفاصيله وبكل سداجاته، فلأننا في حيرة من أمره، كيف أن نستسيغ مقتنعين أن هذا الذي سميناه فطريا وساذجا، وهو يعبر عن أشيائنا العادية الهاربة والمندثرة، هو كذلك، أي تعبير فني ساذج وفطري ؟
كيف لكذا رسم أن يوثق بصريا لذاكرة هي صور يومية منسية (مخيال)؟
كيف يمكن أن يكون فطريا هذا الذي يخاطب الغير فينا ؟
يخاطب الآخر فينا وكل ذات تتلقف "غيرها"، وآخرها، بحنين أو بدهشة ؟
أليس ذلك تعبير غير عادي عن أشيائنا العادية ؟
وكيف لنا أن نقيس هذه الحرية التي لا تخاطبنا ؟
كيف أن نقيس هذه الحرية التي تستجلي أشياءنا القديمة: تلك اليوميات التي نعرفها تماما المعرفة، أو نجهلها أو لا نعرفها البتة، وتعيد لها البريق ؟
هكذا هي، ربما، الأعمال الفنية لآخر الفطريين الكبار المغاربة محمد لكزولي: انتربولوجيا لونية تتقصى الاندثار وما هو في طور الاندثار، توثيق بلا لسان، خزان أثري بصري عن مدينة سلا ومغرب القرن الماضي وهو يندثر ويمضي من يومياتنا..
يبدو فعل الصباغة، في أعمال الكزولي، بمثابة قبض وإمساك بالاندثار الهارب، نزع الخام من خامه وإيقاف حركته في فرجة لونية تمنح تناسقها من ذاتها وليس لها حاجة إلا لمخيال لوني لا خيال فيه...
يستطيع الكزولي، على المستوى التقني سواء كان الحامل التشكيلي ورقيا أو قماشا، أن يطوع اللون وأن يفك أسرار صباغة الزيت كما الاكواريل، ويجعل الألوان تتناسق وتنسجم غارفا من ملون طبيعة المغرب وأضوائها وألوانها، وبها يوثق لمغرب القرن العشرين بكثير من الجهد والوقت وبكثير من الهارمونيا اللونية حيث يستجلي "الطبيعة المغربية" في بهاءها، كما تنجلي لناظرنا مشاهد وحرف وعادات وأعراف وأمكنة من مغرب عميق، يضفي عليها الفنان، في اشتغاله اللوني، حمولة نفسية وذاتية لتصريف عنف داخلي وأحاسيس بالتفاوت والظلم الاجتماعيين ووعي بأمراض وعلل المجتمع.
لقد رسم الكزولي، وما يزال يرسم، تناقضات مغرب وهو خارج من مرحلة إلى أخرى، كما رسم، بجرأة، بعض الطابوهات، رسمه لمغرب بسيط عميق وهو يتركب ويتعقد..
رسم الكزولي الآلة وهي تتسلل إلى الحياة الاجتماعية وبخاصة إلى البادية المغربية، كما لم يفته توثيق الأعراس والأسواق صباغيا توثيقه لكل الغرابات التي تثير انتباهه وتشكل بالنسبة صيدا ثمينا يمكن أن ينفرد في التعبير عنه صباغيا. في لوحة "مذبح الطبيعة" يوثق الكزولي لمهنة "القصابة" كما كان تمارس في الجبل المغربي وبالضبط بين أزيلال ودمنات، حيث كان القصابون يذبحون شياههم في الطبيعة ويستعملون الأشجار مسلخا – فكان بحق مهوسا بتوثيق غرابات المغرب العميق...
لا تنحصر حاسته التوثيقية عند هذه الحدود، بل تتجاوزها إلى توثيق حرف تقليدية منقرضة أو في طور الانقراض.. إذ مكنته ممارسته لمهن مختلفة من المعرفة الدقيقة بهذه المهن وبتقنياتها وبمنتوجاتها، فحاول أن ينقل هذا الاندثار إلى قلب اللوحة.
لقد اشتغل الرجل فلاحا في "سواني" سلا وهي معالم اندثرت، فرسم المحراث الخشبي التقليدي وتقنية السقي (المداير – الناعورة) وكأنه عراف على بينة من مصير زوالها فخلدها بالصباغة للذكرى. اشتغل أيضا حلاقا وخياطا وقد أتاحت له هذه المهن مخالطة سلا القديمة وأهلها ومهنها التقليدية، فرسم حرفة تحصارت المنقرضة (صناعة الحصائر التقليدية) والدرازة التي تشهد ملامح الاحتضار وصناعة الكوتشي والبرشمان (الخياطة التقليدية) وغيرها من مشاهد ويوميات سلا المندثرة...
في هذا المعرض يستعيد محمد لكزولي، بعد غيبة طويلة عن العرض، كل هذه الذاكرة البصرية من خلال أعمال تستوحي مواضيعها من صميم المغرب العميق وتناقضاته وعلاقاته وفاعليته الاجتماعية والحرفية. يستعيد أيضا سلا قبيل الاستقلال وبعده بكل تفاصيلها، يستعيد مسار حياته الفنية وأثر معلميها فيها، وخصوصا جاكلين برودسكيس واحمد الدريسي وفرنسوا دوفاليير الذي أصابه بلعنة التوثيق، يستعيد أيضا ذكريات أصدقائه وأصدقاء دراسته كميلود الأبيض وحسن الفروج وإبراهيم الكتبي والعربي بلعربي وغيرهم... وهو مسار فني حافل قاده إلى العالمية سيما وأنه لم يكن يخاطب في أعماله إلا الآخر سواء في المكان أو الزمان، والدليل على ذلك اختيار أعماله من لدن مؤسس المتحف العالمي للفن الفطري بلوزان السويسرية جون دوبوفي J. De Buffet ليمثل الفن الفطري المغربي في هذا المتحف، زد على ذلك اقتناء أغلب لوحاته وأعماله الفنية من لدن الأجانب.
ميزة أخرى لا تقل أهمية على مظاهر العالمية التي ارتادها لكزولي، هي مخاطبته للمستقبل ولأجيال الغد ليعرفهم بمغرب لا يعرفونه، مغرب عميق وبسيط، ربما افتقدوه إلى الأبد لكنه بقي حيا في إبداعه.
فنان تشكيلي