جيب القميص وجيب السروال
أصيلة من: محمد الأصفر
طيلة 18 يوم متواصلة من 1 ـ 8 إلى 18 ـ 8 ـ 2009م.. تعيش مدينة أصيلة المغربية أحلى أيامها الإبداعية والاقتصادية والإنسانية حيث تتحول إلى محج عالمي يستقطب عشاق الإبداع ومحبي السياحة الثقافية بالإضافة إلى السياح التقليديين الباحثين عن دفء المحيط الأطلسي على ضفته الشرقية والباحثين عن الهدوء والاسترخاء.. في هذا المهرجان يختلط الكتاب بالسياسيين من وزراء حاليين وسابقين ورؤساء جمهوريات وفنانين كبار ورؤساء تحرير صحف ومجلات من مختلف دول العالم.. أدباء عرب وأجانب دأبوا على الحج سنويا إلى أصيلة والجلوس إلى مقاهيها ومطاعمها المطلة على الشارع.. في أصيلة يمتزج المعمار العتيق المتكون من طين الأرض وطوبها بحالتهما الطبيعية بالمعمار الحديث اليابس المتكون من الإسمنت وأسياخ الحديد المسلح منتجة الصدأ و مفرزة الصديد الأسود.. بمعمار الرمل الماكث في تواضع على الأرض دون ارتقاء إلا عبر كثيب خجول تسكنه الأجساد في كسل ناظرة إلى أمواج المحيط التي تارة تهدأ وأخرى تضطرب وترتقي لتغسل الرمل وما عليه من كائنات بطهارة الماء المالح المبرقش بأصداف ضئيلة هشة وبخيوط ظريفة من جدائل الطحالب الخضراء أو تفل الماء. مدينة أصيلة صغيرة وأنيقة مثل مدينة درنة الليبية.. وعلى الرغم من صغرها الجغرافي إلا أن قلبها واسع كبير أستطاع أن يسكن عبر نبضاته أكثر من 150 ألف زائر هم رواد مهرجانها الثقافي في طبعته 31.. الفنادق في أصيلة كلها محجوزة من قبل المهرجان والكثير من زوارها الذين تأخروا في الحجز يقيمون في فنادق طنجة القريبة من أصيلة بأقل من 40 كيلو متر.. ليس كل زوار أصيلة من الدول العربية والعالم.. فللمغاربة من بقية مدن المغرب ومن المهجر نصيب كبير في زيارتها.. وأنت جالس إلى مقهى تحتسي الشاي الأخضر بالنعناع تمر من أمامك أنهار بشرية من الألوان جميعها في الصباح وحتى بعد الظهر ترى الكثيرين عامدون البحر.. يمسكون بمظلاتهم ويمتشقون حقيبة يد أو ظهر أو قفة بها مستلزمات السباحة واكتساب اللون البرنزي وكل ألوان الطيف.. الشاطئ قريب جدا من اليابسة والشوارع.. خمسون متر فقط وتجد أمامك الميناء تتجه من يسارا ليمتد شاطئ المحيط إلى ما لا نهاية.. شاطئ استوعب الجميع ورحب باغتسالهم وتطهيرهم من ذرات السوء إن وجدت. وأهمية مهرجان أصيلة تكمن في الإعداد الجيد له حيث استطاع منذ دورته الأولى قبل ثلاثين سنة أن يستقطب كوكبة مهمة وذات قيمة من المبدعين في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية من قارات الأرض جميعها عبر تنظيمه لندوات ومحاضرات وملتقيات دسمة زد على ذلك أن سكان المدينة قد أحبوا المهرجان لأنه جلب لهم المتعة والبهجة والرزق والخير وحسن من وضعهم الاقتصادي والاجتماعي وساهم في تعمير وتكبير وشهرة مدينتهم الصغيرة فليس صحيحا أن الثقافة تستنزف المال ولا تجلبه كما يروج كتاب الإعلام والمستفيدون من تجارة الكلمة واللحن واللون فالثقافة عندما توظف جيدا تجلب أموالا طائلة وتستطيع أن تصرف على نفسها وتفيض أيضا. في موسم أصيلة تتحول هذه المدينة إلى كرنفال فني أدبي وإلى سوق اقتصادي وسياحي يحرك اقتصاد المدينة ويساهم في بناء بنياتها التحتية والفوقية.. في هذا الموسم ترى الناس في حالة نهل مستمر من المتعة والصحة والمعرفة والهدوء والطعام والحرية. في موسم أصيلة تتحول المدينة إلى مزار يشد إليه الرحال بحب ويحرص كل من زارها على إعادة الكرة ربما كي تغفر له ما ارتكبه من ذنوب ثقافية طيلة عام من مغادرته الفسيولوجية لها. كل من يزور أصيلة سيجد نفسه مجبرا برغبة لذيذة منه على زرع مضغة من قلبه في طين قصبتها أو رمال شاطئها.. مدينة تلتهمك بسحرها الشفاف.. تحملك وأنت تغادرها بذكريات قد تنسى اسمك لكن ما عشته فيها من لحظات لا يمكنك نسيانه.. نستطيع أن نقول عنه أنه نبض دائم في الذاكرة.. نبض أصيل فطري لم ينتج صخبه وتعاليه ركض أو بذل مجهود بدني آخر.. نبض أنتجه الحب ولا شيء غيره.. وكل الناس تستمر في حياتها وتقاوم تعاساتها بفضل هذا النبض الجميل الذي للأسف الشديد لا نملك منه الكثير لأنه طائر أبيض يزورنا ويترك في قلوبنا ريشة صغيرة أو تغريدة شجية وكل من حاول أن يقبض عليه أو يأسره في قفص صدره اختنق ومات فالحرية أكبر من شهيق وزفير والحب أكبر وأعظم من الحرية.. الحب هو روح الحياة.. والحرية لا تضيء في قلوب الكراهية مهما سكب عليها من زيت أو زفت.. وتضيء فورا لو حلمت بنبضة حب واحدة.. حيث يتحول المكان إلى محج محبة كأصيلة الآن. الرابعة فجرا.. الحياة مضيئة بالقمر.. الناس نيام.. خرجت من البيت بحي المحيشي.. وقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة أو سيارة خاصة اكتريه حتى مطار بنينة ببنغازي.. زوجتي فوق سطح البيت ترمقني بحنان وتنتظر أن تقف سيارة لترى تلويحتي لها قبل أن أغادر.. جاء باص صغير.. لوحت لزوجتي بيدي بعد أن أخليتها من الحقيبة وانطلق الباص الصغير إلى المطار. حاولت أن أتحصل على آلة تصوير أوصيت أكثر من صديق في بنغازي.. كلهم قالوا لي لا أحد رضى أن يعير كاميرته لاسبوع.. قبل أن استسلم للفشل اتصلت بصديقي الشاعر خالد درويش ووافق أن يمنحني آلة تصوير.. هو في طرابلس وسأنزل من طائرة الرحلة المحلية لأركب بعد ساعة ونصف لطائرة الرحلة الدولية المتجهة للدار البيضاء.. فور وصولي مطار طرابلس اكتريت سيارة أجرة نقلتني إلى وسط المدينة وجدت خالد ينتظرني أمام مسجد سيدي الصيد وفي يده الكاميرا وخيوطها حاول أن يفهمني كيفية الاستعمال لكن الوقت ضيق قلت له شكرا سأتعلم استعمالها في المغرب وأعطيته قطعة شوكلاته وزعتها علينا مضيفة الطائرة وكانت القطعة قد ذابت قليلا على الرغم من الصباح الباكر وبرودة الجو.. كنت قد احتفظت بها لابن خالد الصغير ووضعتها في جيب قميصي العلوي الأيسر مع القلم.. من دون مبالغة لا أريد أن أقول أن قلبي يذوب قطع الشوكلاته من أي بلد صنع أو جنسية كانت. في أصيلة دخلت إلى محل تصوير ووجدت فتاة مغربية أعطتني درسا في كيفية استعمالها وفهمت بسرعة وبدأت التقط المناظر التي أحس أنها ستحرقني لو مرت أو هربت من ضغطة إصبعي. وصلت مطار الدار البيضاء ظهرا.. حجزت في القطار المنطلق إلى أصيلة الخامسة إلا ربع بعد الزوال.. قضيت الوقت السابق لموعد الانطلاق متسكعا في شوارع كازا بلانكا.. اتصلت بعدة أصدقاء مغاربة جميعهم مشغولون في العمل ووعود منهم باللقاء في المساء بعد الخامسة.. تناولت شطيرة من الخبز الخشن الذي اتمتع بمضغه دائما أعقبتها بكأس من عصير البرتقال الطبيعي وذهبت إلى محطة القطارات، انطلق بي القطار مارا بعدة مدن منها الرباط وسلا والقنيطرة والقصر الكبير وعدة مدن صغيرة تبدأ بكلمة سيدي.. لم أعد أرى لوحات مسمياتها عد أن حل الظلام.. في القمرة التي أجلس فيها عائلة ترطن بالدارجة المغربية وكلما يخرجون من المقطف شيئا للأكل أو الشرب يمنحوني منه فأسمي باسم الله وآكل.. وعندما تسألني المرأة أو ابنها أو ابنتها اشبيك يا ليبي متقلق أقول لهم لا شيء أنا معكم تمام التمام مثل ذلك القمر الذي في السماء وأريد ماء في الطائرة قدموا لنا وجبة أرز بالسمك وكلما أكل سمكا أشعر بالعطش.. سمك في الجو.. شيء حلو.. يحكون حسب ما فهمت عن مشاكل الحياة وعن الانتخابات وولدهم الكبير الذي يرتدي زي الرجاء البيضاوي الأخضر يتنرفز بين الحين والآخر ويضرب بقبضته في الهواء ويعرض علينا الجريدة التي بها العداء المغربي الأولمبي خالد سكح الذي اختطفت السفارة النرويجية في المغرب ولديه وهربتهما إلى أمهما النرويجية بطريقة مريبة تشبه طرق المافيا وعصابات المخدرات وتقول الأم السيد خالد غلطان لو أنه تزوج بنت بلاده ما حدثت له مثل هذا المشكل الكبير.. كان جو الرحلة جميلا.. وغير ممل لكن شعرت بالفقدان وشعرت بشيء من الدوخة والانتشاء والغربة.. فهذه العائلة نزلت في محطة القصر الكبير وبقيت وحيدا في القمرة.. دخل القمرة آخرين وأخريات.. لم أفتح معهم حديثا كنت مجهدا وفضلت أن أخذ غفوة بعد أن ربطت حزام جهاز حاسوبي في معصمي وقاية من المخر (السرقة) وصرت أحلم أحلاما لا أريد أن استيقظ منها وأعتقد أن مرد ذلك للطعام الذي تناولته مع العائلة جارتي في القمرة.. من ضمنها قليل من لحم الدجاج المطهو جيدا والمبهر ببهارات يتذوقها أنفك قبل فمك. صديق كاتب مغربي قال لي أن هناك ديوك تتغذى على أعشاب نباتات مخدرة.. فيكون لحمها به نسبة من الكيف.. ما إن يتناول الإنسان لحمة من هذا الديك حتى يدوخ رأسه.. وأنا أحلم وأراجع ما لكت من لحم دجاج. شعرت بيد تربت على كتفي بشيء من الحنان ظننت العائلة عادت لي بديك رومي أكل حقلا من الخشخاش.. فتحت عيناي مطمئنا للراحة المربتة على كتفي فوجدت رجلا بشنب من عنقه تتدلى حقيبة سوداء وفي يده زرادية من الصلب حيّاني بأدب و طلب مني تذكرة ركوب القطار إلى أصيلة.. كانت التذكرة في جيب قميصي الأيسر.. أخرجتها له فثقبها بالبينسة البيضاء (الزرادية) بيسر وأعادها لي.. ثم مضى.. كانت التذكرة صلبة.. غير هشة.. عجز قلبي أن يُذيبها كالشوكلاتة.. لن أضع التذاكر مجددا في جيب قلبي.. سأضعها في جيب سروالي المبذر المذوب للتذاكر والمال والأوراق الرسمية.. أي شيء أضعه في جيب سروالي يضيع. أي شيء أضعه في جيب قميصي حتى وإن لم يذب يبقى.. سأضع أصيلة دائما في جيب قميصي.. ولن أمنحها لأي محصل كي يثقب أذنها ويلبسها قرط عبودية.. سأضعها مع الأمكنة الأخرى التي أحبها كثيرا.. جيب قميصي كالدنيا لا غطاء له سوى السماء.. في سروالي بطم كثيرة أحيانا أحرص على قفلها جيدا ورغم ذلك تتسرب وتتدلى منه الأشياء المادية والمعنوية. جيب قميصي لا بطمة تعلوه.. وقاعدته شعاع بسيط من السلك.. وليس بينه وبين قلبي أي ملابس.. على فكرة أنا دائما لا ألبس كانتيرة بيضاء تحت القميص.. قمصاني جميعها وتي شرتاتي ألبسها دائما على اللحم مباشرة.. عندما تغضب زوجتي من إهمالي ورفضي للبس الكانتيرات وتقول لي الكانتيرة جيدة ومن القطن الأبيض الناعم تمتص لك العرق أقول لها لا أريد أن يمتص عرقي القماش.. فالأقمشة ليست عطشانة.. ودائما ترتوي أثناء الغسل. لست متيقنا أنني خرجت عن الموضوع لكن ما كاين مشكل، سأتوقف عن فن الثرثرة الآن وأقول لكم وصلت أصيلة العاشرة ليلا.. المحطة مهجورة لأن كل الناس يحتفلون بالمهرجان وسط المدينة.. باص صغير انحشر فيه عدد أكبر من طاقته من الناس.. لم يتبق إلا مكان في الخلف حيث يضعون عدة الميكانيكا وبطانية السائق.. عرض علي السائق أن أركب فيه فركبت وشعرت كأنني راكب سيارة قلع (نصف نقل) قفل علي الباب بالمفتاح وانطلق بنا.. بعد ربع ساعة وجدت نفسي في المدينة الحيّة أصيلة لأبدأ رحلة البحث عن فندق رخيص أو غال.. بعد مروري على حوالي عشر فنادق.. تحصلت على غرفة لليلة واحدة في فندق نجمتين.. الليلة بـ 500 درهم حوالي 70 دينار ليبي الليلة.. خلعت ملابسي ونمت في حوض الحمام لربع ساعة ثم لبست سروالا قصيرا حتى الركبة وفانيلية على اللحم بالطبع وخرجت لأذوب في زحام المهرجان.. في صباح اليوم الثاني وبعد أن فطرت في مطعم الفندق زيتون ومربى وعصير برتقال وزيت زيتون وقهوة وزبدة وخبز محمص وبريوش ولم أكل كل هذه الأشياء.. لكن من كل شيء أشوي.. وأنا أصعد لغرفتي ناداني صاحب الفندق ونبهني على إخلاء الغرفة قبل منتصف النهار لأن الزبون الذي حجزها سيأتي بعد الظهر.. فقلت له لن أخرج من الغرفة.. البيت لساكنه.. ودبر لزبونك في فندق آخر أو غرفة أخرى.. هذه الغرفة تطل على البحر.. وعروس البحر المغربية جاءتني من الشرفة وقالت إن غادرت الفندق سيشب حريق ضخم في الفندق.. وسيحترق شنب صاحب الفندق وينصهر أنفه ليصير مسخا، وقلت له يا راجل صلي على النبي.. فصلى عليه وسلم.. قلت له وراس جدتك لن أخرج.. إن أردت مالا أكثر فلن أمانع بس بعد يومين.. تأتي النجدة الدولارية من بنغازي.. قال انتظر وأمسك بمسمعة الهاتف الذي رن.. تكلم بالدارجة المغربية حتى انتهى ثم واصل الاستماع إلي.. عموما عرف فعلا إني زبون عنيد لن يغادر غرفته.. ودخل معي في حديث عن المصداقية وكلمة الشرف وسمعة الفندق وغيرها من المثل.. قلت له حتى أريحه وأجعله يشعر باليأس ويدبر لزبونه غرفة أخرى: (علي الطلاق ماني طالع من الفندق) ثم صعدت إلى غرفتي في الدور الثاني على سلالم الدور الثاني صادفت عاملتين تلمعان قيشاني الجدار وتمسحان السلالم فأخرجت حفنة ثقيلة من الدراهم المعدنية المزعجة لجيب سروالي وأعطيتها للقريبة مني قائلا اقتسميها مع صديقتك ففرحتا كثيرا ورفعت راحاتهما إلى السماء ودعتا لي بدعاء شعرت أنه دعاء من القلب عندما رن جرس الهاتف في غرفتي وكان المتكلم صاحب الفندق الذي قال لي زبون خرج دابا (الآن) والمشكلة حلت الآن مع الزبون المراكشي القادم بعد الظهر.
طيلة 18 يوم متواصلة من 1 ـ 8 إلى 18 ـ 8 ـ 2009م.. تعيش مدينة أصيلة المغربية أحلى أيامها الإبداعية والاقتصادية والإنسانية حيث تتحول إلى محج عالمي يستقطب عشاق الإبداع ومحبي السياحة الثقافية بالإضافة إلى السياح التقليديين الباحثين عن دفء المحيط الأطلسي على ضفته الشرقية والباحثين عن الهدوء والاسترخاء.. في هذا المهرجان يختلط الكتاب بالسياسيين من وزراء حاليين وسابقين ورؤساء جمهوريات وفنانين كبار ورؤساء تحرير صحف ومجلات من مختلف دول العالم.. أدباء عرب وأجانب دأبوا على الحج سنويا إلى أصيلة والجلوس إلى مقاهيها ومطاعمها المطلة على الشارع.. في أصيلة يمتزج المعمار العتيق المتكون من طين الأرض وطوبها بحالتهما الطبيعية بالمعمار الحديث اليابس المتكون من الإسمنت وأسياخ الحديد المسلح منتجة الصدأ و مفرزة الصديد الأسود.. بمعمار الرمل الماكث في تواضع على الأرض دون ارتقاء إلا عبر كثيب خجول تسكنه الأجساد في كسل ناظرة إلى أمواج المحيط التي تارة تهدأ وأخرى تضطرب وترتقي لتغسل الرمل وما عليه من كائنات بطهارة الماء المالح المبرقش بأصداف ضئيلة هشة وبخيوط ظريفة من جدائل الطحالب الخضراء أو تفل الماء.
مدينة أصيلة صغيرة وأنيقة مثل مدينة درنة الليبية.. وعلى الرغم من صغرها الجغرافي إلا أن قلبها واسع كبير أستطاع أن يسكن عبر نبضاته أكثر من 150 ألف زائر هم رواد مهرجانها الثقافي في طبعته 31.. الفنادق في أصيلة كلها محجوزة من قبل المهرجان والكثير من زوارها الذين تأخروا في الحجز يقيمون في فنادق طنجة القريبة من أصيلة بأقل من 40 كيلو متر.. ليس كل زوار أصيلة من الدول العربية والعالم.. فللمغاربة من بقية مدن المغرب ومن المهجر نصيب كبير في زيارتها.. وأنت جالس إلى مقهى تحتسي الشاي الأخضر بالنعناع تمر من أمامك أنهار بشرية من الألوان جميعها في الصباح وحتى بعد الظهر ترى الكثيرين عامدون البحر.. يمسكون بمظلاتهم ويمتشقون حقيبة يد أو ظهر أو قفة بها مستلزمات السباحة واكتساب اللون البرنزي وكل ألوان الطيف.. الشاطئ قريب جدا من اليابسة والشوارع.. خمسون متر فقط وتجد أمامك الميناء تتجه من يسارا ليمتد شاطئ المحيط إلى ما لا نهاية.. شاطئ استوعب الجميع ورحب باغتسالهم وتطهيرهم من ذرات السوء إن وجدت.
وأهمية مهرجان أصيلة تكمن في الإعداد الجيد له حيث استطاع منذ دورته الأولى قبل ثلاثين سنة أن يستقطب كوكبة مهمة وذات قيمة من المبدعين في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية من قارات الأرض جميعها عبر تنظيمه لندوات ومحاضرات وملتقيات دسمة زد على ذلك أن سكان المدينة قد أحبوا المهرجان لأنه جلب لهم المتعة والبهجة والرزق والخير وحسن من وضعهم الاقتصادي والاجتماعي وساهم في تعمير وتكبير وشهرة مدينتهم الصغيرة فليس صحيحا أن الثقافة تستنزف المال ولا تجلبه كما يروج كتاب الإعلام والمستفيدون من تجارة الكلمة واللحن واللون فالثقافة عندما توظف جيدا تجلب أموالا طائلة وتستطيع أن تصرف على نفسها وتفيض أيضا.
في موسم أصيلة تتحول هذه المدينة إلى كرنفال فني أدبي وإلى سوق اقتصادي وسياحي يحرك اقتصاد المدينة ويساهم في بناء بنياتها التحتية والفوقية.. في هذا الموسم ترى الناس في حالة نهل مستمر من المتعة والصحة والمعرفة والهدوء والطعام والحرية.
في موسم أصيلة تتحول المدينة إلى مزار يشد إليه الرحال بحب ويحرص كل من زارها على إعادة الكرة ربما كي تغفر له ما ارتكبه من ذنوب ثقافية طيلة عام من مغادرته الفسيولوجية لها.
كل من يزور أصيلة سيجد نفسه مجبرا برغبة لذيذة منه على زرع مضغة من قلبه في طين قصبتها أو رمال شاطئها.. مدينة تلتهمك بسحرها الشفاف.. تحملك وأنت تغادرها بذكريات قد تنسى اسمك لكن ما عشته فيها من لحظات لا يمكنك نسيانه.. نستطيع أن نقول عنه أنه نبض دائم في الذاكرة.. نبض أصيل فطري لم ينتج صخبه وتعاليه ركض أو بذل مجهود بدني آخر.. نبض أنتجه الحب ولا شيء غيره.. وكل الناس تستمر في حياتها وتقاوم تعاساتها بفضل هذا النبض الجميل الذي للأسف الشديد لا نملك منه الكثير لأنه طائر أبيض يزورنا ويترك في قلوبنا ريشة صغيرة أو تغريدة شجية وكل من حاول أن يقبض عليه أو يأسره في قفص صدره اختنق ومات فالحرية أكبر من شهيق وزفير والحب أكبر وأعظم من الحرية.. الحب هو روح الحياة.. والحرية لا تضيء في قلوب الكراهية مهما سكب عليها من زيت أو زفت.. وتضيء فورا لو حلمت بنبضة حب واحدة.. حيث يتحول المكان إلى محج محبة كأصيلة الآن.
الرابعة فجرا.. الحياة مضيئة بالقمر.. الناس نيام.. خرجت من البيت بحي المحيشي.. وقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة أو سيارة خاصة اكتريه حتى مطار بنينة ببنغازي.. زوجتي فوق سطح البيت ترمقني بحنان وتنتظر أن تقف سيارة لترى تلويحتي لها قبل أن أغادر.. جاء باص صغير.. لوحت لزوجتي بيدي بعد أن أخليتها من الحقيبة وانطلق الباص الصغير إلى المطار.
حاولت أن أتحصل على آلة تصوير أوصيت أكثر من صديق في بنغازي.. كلهم قالوا لي لا أحد رضى أن يعير كاميرته لاسبوع.. قبل أن استسلم للفشل اتصلت بصديقي الشاعر خالد درويش ووافق أن يمنحني آلة تصوير.. هو في طرابلس وسأنزل من طائرة الرحلة المحلية لأركب بعد ساعة ونصف لطائرة الرحلة الدولية المتجهة للدار البيضاء.. فور وصولي مطار طرابلس اكتريت سيارة أجرة نقلتني إلى وسط المدينة وجدت خالد ينتظرني أمام مسجد سيدي الصيد وفي يده الكاميرا وخيوطها حاول أن يفهمني كيفية الاستعمال لكن الوقت ضيق قلت له شكرا سأتعلم استعمالها في المغرب وأعطيته قطعة شوكلاته وزعتها علينا مضيفة الطائرة وكانت القطعة قد ذابت قليلا على الرغم من الصباح الباكر وبرودة الجو.. كنت قد احتفظت بها لابن خالد الصغير ووضعتها في جيب قميصي العلوي الأيسر مع القلم.. من دون مبالغة لا أريد أن أقول أن قلبي يذوب قطع الشوكلاته من أي بلد صنع أو جنسية كانت.
في أصيلة دخلت إلى محل تصوير ووجدت فتاة مغربية أعطتني درسا في كيفية استعمالها وفهمت بسرعة وبدأت التقط المناظر التي أحس أنها ستحرقني لو مرت أو هربت من ضغطة إصبعي.
وصلت مطار الدار البيضاء ظهرا.. حجزت في القطار المنطلق إلى أصيلة الخامسة إلا ربع بعد الزوال.. قضيت الوقت السابق لموعد الانطلاق متسكعا في شوارع كازا بلانكا.. اتصلت بعدة أصدقاء مغاربة جميعهم مشغولون في العمل ووعود منهم باللقاء في المساء بعد الخامسة.. تناولت شطيرة من الخبز الخشن الذي اتمتع بمضغه دائما أعقبتها بكأس من عصير البرتقال الطبيعي وذهبت إلى محطة القطارات، انطلق بي القطار مارا بعدة مدن منها الرباط وسلا والقنيطرة والقصر الكبير وعدة مدن صغيرة تبدأ بكلمة سيدي.. لم أعد أرى لوحات مسمياتها عد أن حل الظلام.. في القمرة التي أجلس فيها عائلة ترطن بالدارجة المغربية وكلما يخرجون من المقطف شيئا للأكل أو الشرب يمنحوني منه فأسمي باسم الله وآكل.. وعندما تسألني المرأة أو ابنها أو ابنتها اشبيك يا ليبي متقلق أقول لهم لا شيء أنا معكم تمام التمام مثل ذلك القمر الذي في السماء وأريد ماء في الطائرة قدموا لنا وجبة أرز بالسمك وكلما أكل سمكا أشعر بالعطش.. سمك في الجو.. شيء حلو.. يحكون حسب ما فهمت عن مشاكل الحياة وعن الانتخابات وولدهم الكبير الذي يرتدي زي الرجاء البيضاوي الأخضر يتنرفز بين الحين والآخر ويضرب بقبضته في الهواء ويعرض علينا الجريدة التي بها العداء المغربي الأولمبي خالد سكح الذي اختطفت السفارة النرويجية في المغرب ولديه وهربتهما إلى أمهما النرويجية بطريقة مريبة تشبه طرق المافيا وعصابات المخدرات وتقول الأم السيد خالد غلطان لو أنه تزوج بنت بلاده ما حدثت له مثل هذا المشكل الكبير.. كان جو الرحلة جميلا.. وغير ممل لكن شعرت بالفقدان وشعرت بشيء من الدوخة والانتشاء والغربة.. فهذه العائلة نزلت في محطة القصر الكبير وبقيت وحيدا في القمرة.. دخل القمرة آخرين وأخريات.. لم أفتح معهم حديثا كنت مجهدا وفضلت أن أخذ غفوة بعد أن ربطت حزام جهاز حاسوبي في معصمي وقاية من المخر (السرقة) وصرت أحلم أحلاما لا أريد أن استيقظ منها وأعتقد أن مرد ذلك للطعام الذي تناولته مع العائلة جارتي في القمرة.. من ضمنها قليل من لحم الدجاج المطهو جيدا والمبهر ببهارات يتذوقها أنفك قبل فمك.
صديق كاتب مغربي قال لي أن هناك ديوك تتغذى على أعشاب نباتات مخدرة.. فيكون لحمها به نسبة من الكيف.. ما إن يتناول الإنسان لحمة من هذا الديك حتى يدوخ رأسه.. وأنا أحلم وأراجع ما لكت من لحم دجاج. شعرت بيد تربت على كتفي بشيء من الحنان ظننت العائلة عادت لي بديك رومي أكل حقلا من الخشخاش.. فتحت عيناي مطمئنا للراحة المربتة على كتفي فوجدت رجلا بشنب من عنقه تتدلى حقيبة سوداء وفي يده زرادية من الصلب حيّاني بأدب و طلب مني تذكرة ركوب القطار إلى أصيلة.. كانت التذكرة في جيب قميصي الأيسر.. أخرجتها له فثقبها بالبينسة البيضاء (الزرادية) بيسر وأعادها لي.. ثم مضى.. كانت التذكرة صلبة.. غير هشة.. عجز قلبي أن يُذيبها كالشوكلاتة.. لن أضع التذاكر مجددا في جيب قلبي.. سأضعها في جيب سروالي المبذر المذوب للتذاكر والمال والأوراق الرسمية.. أي شيء أضعه في جيب سروالي يضيع. أي شيء أضعه في جيب قميصي حتى وإن لم يذب يبقى.. سأضع أصيلة دائما في جيب قميصي.. ولن أمنحها لأي محصل كي يثقب أذنها ويلبسها قرط عبودية.. سأضعها مع الأمكنة الأخرى التي أحبها كثيرا.. جيب قميصي كالدنيا لا غطاء له سوى السماء.. في سروالي بطم كثيرة أحيانا أحرص على قفلها جيدا ورغم ذلك تتسرب وتتدلى منه الأشياء المادية والمعنوية. جيب قميصي لا بطمة تعلوه.. وقاعدته شعاع بسيط من السلك.. وليس بينه وبين قلبي أي ملابس.. على فكرة أنا دائما لا ألبس كانتيرة بيضاء تحت القميص.. قمصاني جميعها وتي شرتاتي ألبسها دائما على اللحم مباشرة.. عندما تغضب زوجتي من إهمالي ورفضي للبس الكانتيرات وتقول لي الكانتيرة جيدة ومن القطن الأبيض الناعم تمتص لك العرق أقول لها لا أريد أن يمتص عرقي القماش.. فالأقمشة ليست عطشانة.. ودائما ترتوي أثناء الغسل.
لست متيقنا أنني خرجت عن الموضوع لكن ما كاين مشكل، سأتوقف عن فن الثرثرة الآن وأقول لكم وصلت أصيلة العاشرة ليلا.. المحطة مهجورة لأن كل الناس يحتفلون بالمهرجان وسط المدينة.. باص صغير انحشر فيه عدد أكبر من طاقته من الناس.. لم يتبق إلا مكان في الخلف حيث يضعون عدة الميكانيكا وبطانية السائق.. عرض علي السائق أن أركب فيه فركبت وشعرت كأنني راكب سيارة قلع (نصف نقل) قفل علي الباب بالمفتاح وانطلق بنا.. بعد ربع ساعة وجدت نفسي في المدينة الحيّة أصيلة لأبدأ رحلة البحث عن فندق رخيص أو غال.. بعد مروري على حوالي عشر فنادق.. تحصلت على غرفة لليلة واحدة في فندق نجمتين.. الليلة بـ 500 درهم حوالي 70 دينار ليبي الليلة.. خلعت ملابسي ونمت في حوض الحمام لربع ساعة ثم لبست سروالا قصيرا حتى الركبة وفانيلية على اللحم بالطبع وخرجت لأذوب في زحام المهرجان.. في صباح اليوم الثاني وبعد أن فطرت في مطعم الفندق زيتون ومربى وعصير برتقال وزيت زيتون وقهوة وزبدة وخبز محمص وبريوش ولم أكل كل هذه الأشياء.. لكن من كل شيء أشوي.. وأنا أصعد لغرفتي ناداني صاحب الفندق ونبهني على إخلاء الغرفة قبل منتصف النهار لأن الزبون الذي حجزها سيأتي بعد الظهر.. فقلت له لن أخرج من الغرفة.. البيت لساكنه.. ودبر لزبونك في فندق آخر أو غرفة أخرى.. هذه الغرفة تطل على البحر.. وعروس البحر المغربية جاءتني من الشرفة وقالت إن غادرت الفندق سيشب حريق ضخم في الفندق.. وسيحترق شنب صاحب الفندق وينصهر أنفه ليصير مسخا، وقلت له يا راجل صلي على النبي.. فصلى عليه وسلم.. قلت له وراس جدتك لن أخرج.. إن أردت مالا أكثر فلن أمانع بس بعد يومين.. تأتي النجدة الدولارية من بنغازي.. قال انتظر وأمسك بمسمعة الهاتف الذي رن.. تكلم بالدارجة المغربية حتى انتهى ثم واصل الاستماع إلي.. عموما عرف فعلا إني زبون عنيد لن يغادر غرفته.. ودخل معي في حديث عن المصداقية وكلمة الشرف وسمعة الفندق وغيرها من المثل.. قلت له حتى أريحه وأجعله يشعر باليأس ويدبر لزبونه غرفة أخرى: (علي الطلاق ماني طالع من الفندق) ثم صعدت إلى غرفتي في الدور الثاني على سلالم الدور الثاني صادفت عاملتين تلمعان قيشاني الجدار وتمسحان السلالم فأخرجت حفنة ثقيلة من الدراهم المعدنية المزعجة لجيب سروالي وأعطيتها للقريبة مني قائلا اقتسميها مع صديقتك ففرحتا كثيرا ورفعت راحاتهما إلى السماء ودعتا لي بدعاء شعرت أنه دعاء من القلب عندما رن جرس الهاتف في غرفتي وكان المتكلم صاحب الفندق الذي قال لي زبون خرج دابا (الآن) والمشكلة حلت الآن مع الزبون المراكشي القادم بعد الظهر.