هذه المجموعة مقسمة إلى 3 مجموعات، كل قسم مختلفا عن الآخر.
القسم الأول:.. قصة طويلة "غرفة ضيقة.."، وان كنت أعتقد أنه يمكن إدراجها كرواية قصيرة، نظرا للعناصر المشتركة في الثمان عناوين الداخلية، وأيضا الامتداد الزمني، ووحدة الشخصيات، مع وحدة المكان الأساسي وهو "مستشفى-ميدان المعارك الحربية" غالبا، وهو ما يمكن أن نستنتجه بعد العرض.
يتضمن العمل قصص داخلية، كل قصة تحمل عنوان الاعتذار "عذرا.. مرة يا سيد الألم، ومرة يا سيد الحرب..وهكذا.
*فنيا يمكن للقارئ ملاحظة أن هناك عناصر تتكرر في أحداث القصة ورؤية القاص، بالثماني قصص الداخلية، وهى:
أولا: الألم والتأمل حول الألم، وضح في الأولى مع عنوان القصة "معذرة يا سيد الألم" التي بدأها ب"هبت الريح من نشيد الألم..." وفى الثانية "معذرة يا سيد الحرب" يقول: "تمنى لو يعتنق دربا يجهل الألم..." وفى الثالثة "معذرة يا سيد الاحتمالات" يقول: "قدره اعتياد الألم، وفى كل مرة يبدو كما الأنثى التي تلد، وبعد الولادة تنسى أفاعيل الألم فيها!". وفى "معذرة يا سيد اللذة" قدم الكاتب تحليلا للألم وقال بأنه واللذة مرتبطان، يقول: "إليه انساب درب اللذة فانتشى، لم يصمت كعادته كلما قدمت الممرضة التي يجهل اسمها، أول ما جذبه فيها صوتها الذي يشي بجنية في قلبها تكفى العالم كله!.. ربما بسبب المجال المغناطيسي أو "الأورا" أو ...أيا ما يكون ذلك السيال المنطلق من أحدهم إلى أخر حاملا فكرة أو رغبة.."
ثانيا: الأخبار أو قراءة الصحف، وكثيرا ما تكون تلك القراءة محايدة، بنقل الخبر المنشور في الصحيفة كما هو، وان بدا أن الحنكة في الاختيار هي التي أكسبت تلك الأخبار أهميتها الفنية.. سواء لمتابعة أخبار التمهيد للحرب على العراق، أو أخبار الفساد في الداخل.
ففي كل اعتذار من الاعتذارات الثمانية، أشار إلى جملة من الأخبار إما ملاحقة لموضوع، أو التقاط بعضها الآخر الذي يتسم بالتنوع ما بين أخبار سياسية ودولية وعربية، ثم ببعض الأخبار المحلية التي شغلت الرأي العام خلال زمن القص. وتعبر في مجملها عن رؤية المؤلف من حيث رفضه للحرب على العراق وتهديدات "بوش" السابقة عليها.. أو الفساد الداخلي ونشر أخبار إحدى قضايا الفساد.. وكلها على علاقة ما بالألم، إما تسبب ألما أو بسببها تزداد آلام "الانسداد المعوي" الذي يشكو منه.
ثالثا: الإشارة إلى الطعام.. هناك فقرات متنوعة حول تعلقه بالطعام، في كل الاعتذارات. هل للعلاقة الخفية بين الطعام واللذة التي لا يبرح أن يتناولها مع الألم، أو في مقابل الألم، أم بسبب حرمان الشخصية القصصية من الأكل، نظرا لإصابته بمرض في أمعائه حرمه من الماء والطعام؟
قدم واحدة منها باسم "معذرة يا سيد الطعام". معبرا مرة عن تعلقه بصنف ما من الطعام، أو بعرض أوصاف بعضها الآخر نظرا لحرمانه منها بسبب المرض. وتلاحظ تناص توظيف القاص للتراث بعرض لبعض المعلومات حول القيمة الغذائية لبعض المأكولات، من مصادرها العربية.. فيعرض لكتابات الإمام الرازي عن البصل، على أشكال أكله المتنوعة، مثلما يذكر بعض الآيات القرآنية: "يخرج من بطونها شراب نختلف ألوانه فيه شفاء للناس" النحل 690، كما يذكر مقولة "هيرودوت" الشهيرة: "البصل هو الكرة الذهبية، عجبت للمصريين كيف يمرضون وعندهم البصل والليمون؟"
رابعا: تداعيات الذاكرة عن الحرب، وهنا أهنيء السيد نجم بما عرف عند العرب قديما بالبصر العالي، وعرف حديثا بالاسترجاع، فهو ينتقل إلى تجربة الحرب بهدؤ وببساطة. فيقول: "..سأله الطبيب عن تاريخه المرضى، عرف إن مريضه لم يصب في معارك اكتوبر73، لكن بسببها. حاصرت القوات الإسرائيلية وحدته الطبية.." وفى موضع آخر يقول: "كثيرا ما كان يسأل رأسه: لماذا هم ها هنا حول سريره، بينما هو هناك.. مع زملاء الحصار في زمن الحرب البعيد!"
خامسا.. تكرار عنصر الأحلام والأمنيات، حلم اليقظة وحلم النوم وحلم الأماني وتنوعت الأحلام حتى كان الكابوسى منها. يحلم بالعودة إلى مكتبه وأوراقه وأصدقائه والبحر.. يحلم بأن يأكل كل ما لم يأكله منذ زمن..يحلم كثيرا. ولأن الحلم مرتبطا بالليل، كان عنده الليل حالة خاصة وله معه علاقة متميزة خطت الأحداث على صفحة أيامه. يقول في الليل: "في الليل كثيرا ما يشعر بالجوع.. للطعام والضحك والكتابة واللذة. جعله المشتهى.. أكثر كثيرا من نهار أيامه!"
انه إبداع ناضج جدا عند السيد نجم، ووعى الكاتب جعل القصص الثمانية في غرفة ضيقة، أو القسم الأول وكأنها قصة واحدة، استخدم فيها الكولاج كما في مجال الرواية، كلها لوحة واحدة.
القسم الثاني:.. أهم الملامح في قصص هذا القسم، هو ما أثارته تلك القصص من سؤال هو: كيف يستطيع المؤلف من فكرة يبرزها من خلال حكاية وحدث؟ وهو ما حققه السيد نجم، فأغلب القصص يبدو وكأنها تبدأ بفكرة وليس بحدث. ومن هنا يبرز نضج خاص وخصوصية المؤلف في التناول الفني.
قصة "في الحرب والعتمة نسمع ونرى"، أبرز الكاتب أن الجيش علمه ثلاثة أشياء هي الشجاعة والقوة والنظام، من خلال المفردات كان الحكى حول حادثة قتل (قتل خطأ على ما يبدو).. وهذه هي القراءة المباشرة. والحقيقة أن المغزى البعيد في تلك القصة أن البطل قتل رئيسه في العمل، وما يتضمنه النص من إشارات تبرز قدر تعسف وهيمنة هذا الرئيس، إذن هناك تاريخ خفي متضمن ولم يبح عنه، بين الموظف القاتل والمدير المقتول، وربما هذا هو المراد توصيله من القصة، وان شغل القارئ بموضوع الجيش وتجربة البطل فيه.
وربما الفقرة الكاشفة عن هذا البعد تتضح في قوله: "لأنني المحنك في معرفة هيئات الأسلحة التقطته عيني، بحلقت صامتا، دهشا أشرت بسبابتي، الملعون رئيسي هذا، اندفع قبلي كعادته في اختلاس مستحقاتي في العمل بعد أن ينسب جهدي وانجازي إلى نفسه".
استطاع المؤلف أن يبرز فكرة من خلال حكاية، فهو دوما يبدأ من فكرة.. والسيد نجم أنجزها، فقدم عملا ناضجا بحق.
وفى قصة "الروح وما شجاها" يراوح بين رغبة الزوجة والحرب.. ففي القصص السبعة، خمسة منها استرجاع لتجربة الحرب.. إلا قصتي "أوامر"، و"حكاية النمر حلمي".
في قصة "الروح وما شجاها" يتوقف مع الخوذة التي يضعها الجنود على رؤوسهم فيقول: "الخوذة هي سترى وسر اطمئناني، كنت أضعها تحت راسي لأنام، وأحفظ فيها بولي لشربه إثناء فترة الحصار، واخبىء تحتها بعض كسرات الخبز الجافة لحين القحط وقد سد الأعداء طرق الإمداد والتموين إلينا على الضفة الشرقية للقناة".. ما قاله في مقابل محاولة الزوجة أن تخلع عنه الخوذة بعد أن استقبلته عائدا من الحرب! وهو ما يثير التساؤل حول أفاعيل الحرب مع الجندي، أي حرب.
"السيد نجم" من أهم من كتب عن الحرب، وأن التجربة حاضرة في ذهنه.
أما قصة "الحالم حلما لا يعرف تفسيره" هي القصة الوحيدة التي بلا حرب، قصة في أغوار الشخصية، تأمل في تجاعيد تلك الشخصية التي تثير الكثير من الأسئلة.. لأنها صامته، فاعلة ولها مكانة خاصة عن سكان الحي، فالرجل ليس طبيبا ولكنه يحقن ما يأمر به الطبيب، إلا أن الناس وثقت فيه وأعطته مكانة خاصة، وجعلته الملجأ بينما الرجل في حاجة إلى التعضيد والعون في الحقيقة. وقد تناول الكاتب هذه الرؤية بعيدا عن السذاجة والتطفل.
بالعموم قصص السيد نجم تحتاج إلى قارئ مثالي، القارئ العادي من الصعب عليه أن يتغلغل مع القصص.. لكن يجب أن أشير إلى أن قصتي "أوامر" و"حدث مع النمر حلمي" أقل من بقية قصص المجموعة.
القسم الثالث: قصص قصيرة بلا عنوان، هي مجموعة من القصص في حدود صفحة أو اثنتين. وسوف نتوقف مع القصة الأولى منها، "حكاية" تلك القصة التي تكشف عن الصراع الأزلي بين البشر، فقد قرر عمدة القرية عقد اتفاقية سلام مع القرية المجاورة، وأثناء الاحتفال بهذه المناسبة، وبينما يرقص كل الشباب، ولم تشأ الشمس أن تغرب، وقبلت بوجود القمر إلى جوارها، كما يصف المؤلف.. تصادم شابان وتصارعا، فغضبت الشمس واختفى القمر، ونال الصراع من كل الموجودين.. ويقول في السطر الأخير: "فأظلمت السماء والأرض، ولم يعرف احدهم من يقاتل من؟!"
في النهائية أهنيء المؤلف على المجموعة الناضجة، التي تدل على حنكة وبراعة في السيد نجم، وهو يعد راهب من رهبان القصة القصيرة.
*رؤية الناقد "حسين عيد":
وقد أعد دراسة مقارنة بين قصتين حول موضوع "عودة البطل المهزوم بعد عشرين سنة!"
فقد تنشأ علاقة حب بين فتي وفتاة، وبدلا من أن يكتمل الحب بالزواج، يحدث تفريق باتر بينهما. ثم تنقضي عشرون سنة، ليعود بعدها البطل المهزوم ثانية. ماذا دفعه إلي العودة؟ ماذا وجد في الواقع الجديد؟ كيف كانت مشاعره ومشاعر محبوبته السابقة؟
هذه دراسة مقارنة، تجتهد أن تجيب عن تلك الأسئلة وغيرها، وتتناول قصتين تشتركان في نفس التيمة. وهاتان القصتان، هما:
- قصة "الخلاء" من مجموعة "خمارة القط الأسود" لنجيب محفوظ
- قصة "كذبت امرأة" من مجموعة "غرفة ضيقة بلا جدران" للسيد نجم
*المشترك في المعالجة:
- كان السرد الغالب في كلتا القصتين بضمير المتكلم للرجل.. تبدأ القصتان، بعد انقضاء عشرين عاما علي لحظة المفارقة.. كانت الحبيبة السابقة ترتدي فستانا كالحا أسود، في قصة "كذبت امرأة"، و"ملتفة بالسواد من الرأس حتى القدمين"، في قصة "الخلاء".. كانت صورتها المصونة في الذاكرة: "رشيقة القدّ، نحيلة في رقة"، "ما كنت أري عينيها إلاّ من عسل ولبن وخمر"، هي "المرأة التي كنت أظن أني أحبها" (قصة "كذبت امرأة"). كانت جميلة الحارة، وبدا "وجه زينب الذي أحببته منذ كنت في العاشرة" (قصة "الخلاء").
*أوجه اختلاف المعالجة:
- رغم أن الطابع الغالب علي السرد في كلا القصتين، كان السرد بضمير المتكلم، إلاّ إنّ تجيب محفوظ اعتمد علي راو خارجي آخر بضمير الغائب، لعدد محدود من المرّات، معقبا بكلماته في مواقف حاسمة.
- المكان: كان في شقة سكنية غير معرّف موقعها في قصة "كذبت امرأة"، وكان المكان معرفا بكل تفاصيله في قصة "الخلاء"، وهو حارة "شرداحة" الكائنة بحي الجوالة، والتي يمكن الوصول إليها عن طريق الجبل أو الحي.
- أبطال قصة "كذبت امرأة"، هما زوج وزوجة وأرملة دون أسماء، ودون أن نعرف عمل الزوج. أبطال قصة "الخلاء"، هم الرجل العائد "شرشارة"، والحبيبة السابقة "زينب"، وهناك أيضا الفتوة السابق "لهلوبة"، وأخيرا صاحب السرجة، التي عمل بها الرجل العائد، وهو صبي صغير، "عمّ زهرة".
- لم تعتمد قصة "كذبت امرأة" علي "الفلاش باك" في كشف ماضي البطل، بينما افتتحت قصة "الخلاء" بفلاش باك يكشف ما حدث للبطل منذ عشرين عاما، عندما كان يعمل في السرجة، وفي ليلة دخلته علي زينب، إذا بالفتوة الجبار "لهلوبة" يجبره علي تطليقها، بعد أن أشبعه ضربا، فمضي إلي المنفي في الإسكندرية يجر أذيال الخيبة والذلّ والقهر، "ولا أمل لك في الحياة إلاّ الانتقام"، و"هكذا ذابت زهرة العمر في أتون الحنق والحقد والألم"، وكوّن عصابة ورجع إلي حي الجوالة بالقاهرة بعد عشرين عاما، محفوزا بالانتقام واستعادة محبوبته. بينما كان مبرر الزيارة في قصة "كذبت امرأة"، هو تقديم واجب العزاء لموت زوج المحبوبة السابقة، و"تمنيت أن أري موقع سترها مع زوجها الذي فضلته علي".
- وفي الوقت الذي بدأت فيه قصة "كذبت امرأة" بلحظة دخول الزوج وزوجته إلي منزل الحبيبة السابقة، التي بدت مترددة في دعوتهما للدخول، كناية عن اندهاشها من الزيارة، حتى لو كانت من أجل تقديم واجب العزاء. بدأت قصة "الخلاء" بالعصابة وهم يندفعون إلي حارة "شرداحة" عبر حي الجوالة، بدلا من طريق الجبل.
- وفي حين استقر كلّ من الزوج والزوجة، في قصة "كذبت امرأة"، علي كرسيين ذات مساند خشبية، وجدت العصابة الحارة خالية من أيّ عصابة في قصة الخلاء، وأمضي الرجل رحلة بحثه راجلا بحثا عن محبوبته السابقة.
- كانت الحبيبة السابقة في قصة "كذبت امرأة"، قد "ارتدت شبشب زنوبة بلاستيك"، و"سيماء وجهها محايد في بلادة. لا يبدو عليها التفاتة المنتبه إلي جسده الذي يتكاثر"، بينما بدت المرأة في قصة "الخلاء": "امرأة غريبة ممتلئة لحما وخبرة"
- قالت المرأة في أثناء زيارة الرجل وزوجته لها، في قصة "كذبت امرأة" ضمن ما قالت أنها تعيش خريف العمر، وأنّ زوجها مات في الوقت المناسب، وتحدث الرجل طويلا حول نفسه. وكانت زوجته تراقب ما يجري، وهي تسجح خشب المسند بأظافرها، حتى بدت كالموناليزا، لولا تلك السجحات التي بدت أكثر عمقا عمّا قبل. بينما بدت مجريات اللقاء في قصة "الخلاء" علي مرحلتين، راقبها في المرحلة الأولي من بعيد فرآها، "وقد أنضجت الأعوام قسماتها الساذجة"، و"كان وجهها متشبثا بقسط وافر من الوسامة، وهي تساوم وتناضل، وتلاطف وتخاصم، كامرأة سوق لا يمكن أن يستهان بها". ثم جاءت المرحلة الثانية، حين اقترب منها. لم تعرفه في البداية، وعندما عرفته ارتفع حاجباها وانحرف جانب فيها عن شبه ابتسامة، ودار بينهما حوار (علني):
- وأخيرا رجعت إلي شرداحة
- عودة الخيبة
التمعت في عينيها نظرة ارتياب وتساؤل، فقال بغضب:
- سبقني الموت!
- كل شيء مضي وانقضي.
- دفن معه الأمل.
- كل شيء مضي وانقضي".
- مشاعر البطل الحالية إزاء المرأة: كانت في قصة "كذبت امرأة" (باطنية)، غير معلنة: "أراها تربك هذا الجسد، وبحذق وخبرة الأيام تابعت وشوشات أناملها، تلك التي بدت وكأنها كائنات غامضة تزحف فوق صحراء فسيحة". وانظر إلي رد فعله "شعور أشبه بالفرح انتابني، أحسسته بين ضلوعي، لأنها تريد أن تكشف لي عن أسرار جسدها! وان بدا علي غير إرادة منها، وهكذا يبدو عفويا!" وهذا شعور غريب وعجيب، لمجرّد التفكير فيه، أو تفسيره علي هذا النحو، وفي حضرة زوجته أيضا! ولا يصبح هذا التفسير معقولا، إلاّ لو كان الزوج يعيش وهّم أنها مازالت تحبه، وبذلك يفسر تصرفا عاديا لحركة أصابعها علي جسدها بأنها تعرض جسدها عليه! وهو ما يؤكد في نهاية الأمر أنه مازال مهتما بأمرها، وربّما لم يقبل حتى الآن فكرة رفضه، أو تفضيل آخر عليه!
أمّا في قصة "الخلاء"، فقد تبادل الرجل والمرأة "نظرة طويلة، ثم سألها: "وكيف حالك؟"
أشارت إلي مقاطف البيض، وقالت: "كما تري، معدن!"
بعد تردد: "ألم .. ألم تتزوجي؟"
"كبر الأولاد والبنات." جواب لا يعني شيئا. واعتذار واه كأنه مصيدة. ما جدوى العودة قبل أن تسترد الكرامة الضائعة؟. ألا ما أفظع الفراغ
بعد انصرافهما، في ختام الزيارة، في قصة "كذبت امرأة"، تحدّث الرجل كثيرا حول أن تلك المرأة سيدة مملة، لا تعرف آداب الاتيكيت. لكنه اضطر أن يتوقف عن الحديث، "لأن أصابع زوجته بدت مصبوغة بالدمّ، وقد علقت بأظافرها نسائل رقيقة من ألياف خشب مسند مقعدها". هنا، كانت المشاعر الرجل والمرأة مضمرة، لم يسفر عنها، وان بدت موحية بالنسبة للزوجة علي الأقل من خلال اصطباغ أصابعها بالدم من طول كبت مشاعرها وهي تسجح الخشب من مسند كرسيها الخشبي.
أمّا في قصة "الخلاء"، فنتابع الرجل العائد والمرأة وهما يتحاوران بعد فترة، في ختام الزيارة، وذلك حين "أشارت إلي مقعد خال في زاوية الدكان، وقالت: "تفضل"
نغمة ناعمة كأيّام زمان. لكن لم يبق إلاّ الغبار. قال: "في فرصة أخري."
وتردد في حيرة معذبة، ثم صافحها وذهب. لن تتكرر الفرصة".
هنا، المشاعر معلنة، تحاول المرأة أن تزيّن له البقاء، لكنه فهم أن ما جاء من أجل لم يتحقق، وكان حاسما في رده، الذي جاء مجاملا، لأنه كان يعرف في دخيلة نفسه، وأن الفرصة لن تتكرر أبدا!
الإيقاع:
يحكم قصة "كذبت امرأة" إيقاع هادئ، ساكن، بطيء، مرتبط بما تمور به نفوس أبطال القصة الثلاثة (الراوي، زوجته، والأرملة) من مشاعر. هناك سببان للزيارة: الأولي (معلن)، هو تقديم واجب عزاء للأرملة لموت زوجها. تأدية واجب العزاء، هو طقس اجتماعي، يمارس بشكل رسمي، ويعكس نوعا من المشاركة (الظاهرة) مع الآخر في مصاب الموت. لكن لابد أن نعي أننا نعيش في مجتمع يحكمنا بتقاليد وعادات وقيم لا يمكن الخروج عليها. من هذا المنطلق لم يكن متاحا للمحبّ القديم أن يقوم بهذا الواجب وحده. لذلك، كان لابد له أن يفعل ذلك في صحبة طرف آخر، حتى تسمح تقاليد المجتمع له بالزيارة. وكان هذا الآخر هو الزوجة، التي لم يوضّح لنا النص كيف أقنعها بالذهاب، وهل اعترضت؟ وهل كانت تعرف بعلاقتهما السابقة، أم كانت تشك أنّ هناك شيئا مريبا يرتبه زوجها؟ وهل جري بينهما نقاش حول الزيارة؟ ..أسئلة كثيرة مثارة، لم نعرف إجابتها كقراء، لكننا عرفنا ما آلت إليه الأمور في النهاية، وهو أنه ذهب فعلا في صحبة زوجته، فكانت شاهدا علي اللقاء، ومراقبا ليس محايدا بأيّ حال، لأنها هي الزوجة الحالية، التي تربطها بزوجها علاقة شرعية، ولها كلّ الحق في الحفاظ عليه. من هنا، يتضح أنّه بقدر ما كانت مشاعر الزوج مضمرة، فان كل مشاعر الزوجة كانت أيضا (مضمرة) ، وهي تحرص علي أن تحافظ عليها مخبوءة بداخلها، أو تكبتها في صمت. وهي وان أبطنت مشاعرها ولم تظهرها، إلاّ إنّ انعكاسها بدا بما كانت تحفره من سجحات أظافرها علي المسند الخشبي، وهو الفعل الذي رآه مرتين. لكنه ظلّ سادرا في غيّه حتى بعد أن انصرفا من بيتها، فراح يتحدث دون أن يعي بأنها امرأة مملة، لا تعرف واجب الاتيكيت، لولا أن رأي برهانا ساطعا علي ضيق زوجته، وتأذيها مما تسمع وتري وأن لم تجهر برأيها، وذلك في اصطباغ أصابعها بالدم، "وقد علقت بأظافرها نسائل رقيقة من ألياف خشب مسند مقعدها"
الدافع الثاني للزيارة (مضمر) في أعماق الرجل وحده، كي يري ستر المحبوبة السابقة مع زوجها، الذي فضلته عليه. ينصرف معني (الستر) في المفهوم الشعبي، إلي الإخفاء بعيدا عن أنظار الآخرين، أو عن عينيه هو بشكل خاص. والمقصود هنا بطيعة الحال، هو "عش الزوجية"، الذي يشمل المكان ومحتوياته، لكنه ليس مقصودا لذاته، بل لارتباطه بالزوج الذي فضلته عليه، حين وضعته محلّ اختيار بينه وبين آخر، واختارت الآخر، دون أن يوضّح الراوي مبررات هذا الاختيار، بل تركه مطلقا دون تحديد. لكن تلك الرغبة العارمة في أي يري سترها مع الرجل، الذي فضلته عليه، يكشف أنه كان هو المحرك للزيارة، وان اتخذ من العزاء سببا. كما يعني أن هناك مشاعر (مضمرة) لدي الراوي، لم يعبر عنها، وتعكس نوعا من الاهتمام مازال قائما بالمحبوبة، رغم انقضاء عشرين عاما من زواجها وزواجه!
هنا، كان (إضمار) المشاعر، هو العنصر الحاكم في قصة "كذبت امرأة"، وهو ما ترتب عليه أن بدا الإيقاع علي السطح ساكنا هادئا، بل وربّما بطيئا، وان كان يمور في الأعماق بانفعالات شتي!
أما قصة "الخلاء"، فكان الإيقاع منذ لحظة الافتتاح رهيبا موّارا بالحركة (الظاهرة) علي السطح، كما البركان، وحمم الغضب تمور بداخله باحثة عن منفذ للانفجار. ذلك الانتقام، الذي ظلّ الراوي يعدّ له نفسه خلال عشرين عاما، لا يحلم بسواه. كان يحلم أن يدخل في معركة شرسة مع رجال الفتوة لهلوبة وعصابته، وينتصر عليهم، ويذيق الفتوة من نفس كأس الذلّ، التي سبق أن تجرّعها، ليسترد في النهاية كرامته المهدرة وحلم حياته المسلوب، بإعادة زينب إلي عصمته بضراوة العنف، وجبروته.
وحين انحدر بقواته إلي حارة "شرداحة" عبر حي "الجوالة"، لم يجد أحدا في انتظاره، وحين استفسر من عجوز السرجة، أخبره أن عدوه اللدود قد مات منذ خمس سنين، "فصرخ الرجل من أعماق صدره، وهو يترنح تحت ضربة مجهولة". ، وكانت تلك هي صدمته الأولي، لأن جلّ تفكيره كان منصرفا إلي الانتقام. هنا، كان نجيب محفوظ موفقا غاية التوفيق، حين بدا الراوي الخارجي معقبا علي الأحداث، بأنه ترنح تحت وطأة "ضربة مجهولة"، لأنه لم يضع ضربات (القدر) المجهولة في الاعتبار، حين يأتي الموت لا في اللحظة التي يحتسبها البشر ولا في المكان المتوقع، لذلك صرخ بصوت كالرعد "لهلوبة .. يا جبان.. لماذا مت يا جبان؟" (وهل يملك أي من البشر قدرة مواجهة الموت؟! وانظر أيضا إلي أسلوب موته، وتعجب، بعد أن مات مسموما في بيت أخته، الذي يعتبر مكانا آمنا، وذلك من أكلة كسكسى، ربما كانت تكريما له ولبعض رجاله!). ولم ينته الأمر عند هذا الحد، لأنه عندما سأل عن زينب، عرف أنها قد أصبحت بائعة في السوق. كان ينظر مفكرا "كم آمن بأنها كل شيء في الحياة، ولكن أين هي الآن؟!". "وهبط المغيب كآخر العمر". أنظر إلي توفيق نجيب محفوظ، حين جعل ذلك الراوي (الخارجي) يزاوج، في تلك اللحظة، بين مشهد الغروب وهو يحدث، كأنه إيذان بغروب الحياة وانتهاء العمر!
هنا، بدا منذ بداية هذه القصة بزوغ لمشاعر طال احتباسها، فتفجرت حمما، وأصبح الإيقاع بالتالي موارا بالحركة، تنعكس فيه المشاعر من خلال حوار صريح، أو تحرك عنيف!
العنوان:
كان عنوان قصة السيد نجم، هو "كذبت امرأة". وقد يظلّ القارئ طويلا يبحث عن مغزي هذا العنوان، خاصة وأنّ القصة لم تكشف بين ثناياها عن كذب ملموس للمرأة خلال فترة الزيارة، إلاّ لو كان مغزي الكذب ينصرف إلي اتهامها بأنها كذبت بشأن علاقتها معه، إذ علي الرغم من أنها أحبته، إلا أنها فضلت رجلا آخر عليه. وكأنّ هذا العنوان يتسق مع الوهم المسيطر علي ذهنه، لأنه لم يستوعب – أو لم يقبل - حتى تلك اللحظة بعد مضي عشرين سنة إمكانية رفضها له، وما يدعّم هذا الرأي، ما فهمه خطأ من تحركات أناملها علي جسدها، وإلقائه اللوم عليها في نهاية اللقاء، واتهامها بأنها امرأة مملة، لا تعرف آداب الاتيكيت، لكن زوجته، التي ربّما فهمت حقيقة مشاعره أسكتته، بإشارة من أظافرها المصطبغة بالدم!
أما عنوان قصة نجيب محفوظ، الذي كان "الخلاء"، فقد لعب دورا بارزا في (بناء) القصة، وذلك حين جاءت العصابة أولا عن طريق الخلاء، وكان أمامهم مجال للاختيار بين المفاجأة عن طريق الجبل، أو الانحدار عن طريق حي الجوالة، واختار القائد الهجوم الواثق عن طريق حي الجوالة، حتى يعرف الداني والقاصي بأمر الهجوم، فتكون الفضيحة مجلجلة. وعندما آل كل شيء إلي خواء، بعد أن اكتشف موت عدوّه العبثي، وتحوّل المحبوبة إلي شيء آخر لا يعرفه، كان أمامه في طريق العودة اتجاهين، أما أن يمضي عبر الجبل، أو يمضي عبر الخلاء، "وكره فكرة الذهاب إلي الجبل عن طريق الجوالة. كره أن يري الناس أو أن يروه، وكان ثمة طريق الخلاء فمضي نحو الخلاء". وكان يدور في أعماقه سؤال "ما جدوى العودة قبل أن تسترد الكرامة الضائعة؟ ألا ما أفظع الفراغ". "هكذا وجدت نفسك قبل عشرين سنة، ولكن الأمل لم يكن قد قبر. وبهذا اكتمل البناء (الدائري) للقصة، بعد أن رجع البطل ثانية إلي (ضياع) نقطة البدء. وهو ما يعني أن يظلّ بطل القصة مسربلا، محاصرا هناك، داخل تلك الدائرة الجهنمية، التي لا نهاية لها، ولا فكاك منها، وهو وان ابتعد عنها، إلاّ أنّها تظل مهيمنة علي تفكيره، كأنها صورة مصغرة (للحياة)، حين يأتي الإنسان إليها من عدم ليواجه في الدنيا، وهي تنقضي كومضة، بالحب والفقد والضياع والموت، ليمضي ثانية إلي خلاء كأنه العدم!
ناقدان من مصر