تقدم لنا الروائية اللليبية في مفارقة كاشفة عالم الرواية من خلال جنين لم يزل يتشكل في رحم الأم واستبصاره الساخر للتقاليد والأعراف والعادات الليبية العربية الموغلة في القدم التي تكبل المرأة وتحد من حريتها وترسم لها دورا تتوارثه الأجيال على مر الزمن. ويتأمل الجنين ويعايش في سخرية لاذعة أحوال الواقع خارج الرحم وكيف تؤثر فيه روحيا وبدنيا وتهدد حياته قبل أن يطأ الأرض.

وبر الأحصنة (رواية)

نجوى بن شتوان

عن الحقيقة البيضاء للبيضة
عن سين من نسل حمد عن محمد عن أم الهجرس أنها قالت لابنها:
(هات من يقرأ ويفهم)
فلمن يقرأ ويفهم... فقط وإذا فقط... هذا الكتاب.

مستخرج رسمي من سجل واقعة ولادة رب العائلة
الله هو شاهد زواج السيد آدم عليه السلام من سليلة الحسب والنسب الآنسة حواء عليها السلام وباقي التفاصيل لا يعلمها أحد.

هل كانا يتقابلان سراً.. أين تم تعارفهما.. من خطبها له.. من أقام وليمة العرس.. من أوقد الشموع ونصب الشوادر في شوارع العالم حتى أغلقها..؟

من ذهب مع حواء للكوافير الطبيعي.. من أحيا الحفل وآدم العريس بلا أهل.. وحواء العروس دون صديقات.. من وقف أمام باب غرفة العريس منتظراً طلوعه بالبشارة؟

من أمسك بالخرطوش وأطلق أول طلقة في تاريخ الأفراح المصحوبة منذ ذلك الوقت بالضحايا؟

ما نوع السيارة التي زفت العروسين.. من تلقّى التبريكات بمناسبة عذرية العروس وعذرية العريس أيضاً بما أنّه لم يعرف امرأة قبل حواء وبعدها..؟

من زمر وصفّر وصفّق..؟
من تباكى ليلتها..؟
من حسد آدم..؟
من حسدت حواء..؟
من حسدهما معاً..؟

حواء ليست لها أسرة تزورها، وتثقب زياراتها جيوب آدم النباتية، فقضى الله أن يتخلّص آدم من تكاليف (الزورة)(1)، على الطريقة الليبية على وجه الخصوص.

أمّا حواء المحظوظة فقد سّرها أنّ عريسها آدم بلا أم وبلا شقيقات وبلا قريبات ينافسنها على قلبه وعلي جيبه ووقته واهتماماته، فليس من تاء أو نون نسوة في حياته من أي ناحية!

ولقد جاء حواء الطلق، فالحمد لله، إذ لم تعرف العمليات القيصرية بعد ولا أي شيء قيصري من الأساس، ولم تعرف حملات نقل الدّم وتصديره وتكريره واستيراده وتفقيره.. ولا مطاردة الأدوية من مكان لمكان.. ولا اللّهاث طلباً للوساطات بغية الحصول على كبسولة مضاد حيوي يتّضح في النهاية دائماً بأنها الكبسولة المعطوبة وغير المطلوبة!.

لكن الله الرحيم رحم آدم رحمةً لم يقدرها عندما سخّر لحواء ولادةً طبيعية شفقة بحاله ووحدته ويتمه، وعادت حواء للمنزل بطفلين مختلفين (ذكر وأنثى) ففهمت تلقائياً أنّه سيكون في قلب الذّكر منهما الأنثى، وسيكون في قلب الأنثى منهما الذّكر، بيد أنها اندفعت في البكاء إلى مالا نهاية عندما وضعت قدمها فوق العتبة ولم تجد مخلوقاً في الدار لاستقبالها، فهي يتيمة من دون أم تعلّمها شؤون الرعاية بالصغيرين وتساعدها على الاهتمام بهما.

هوَّن عليها آدم الخطب (خوفاً من لا نهاية البكاء) مؤكَّداً أنه سوف يعوضها عن فقدان العائلة والجارات والأقرباء واللّمات(2)، ملوحاً إلى قدراته الفطرية في تكوين مناخ أسري... لكن حواء أصرّت على البكاء رغم تصريحات زوجها وضماناته، لفقدانها طقوس رعاية النّفساء، ومستلزمات فترة النّفاس من شوبة تردُّ الرّوح ونقيع حلبة يطرد فقر الدم عن الوالدة والوليدين، وخليط ألواز يعوض أتعاب الولادة، ولحوس(3) للصغيرين يقوِّي عودهما ويغذيهما، فذلك أقلّ تقدير لها على عملية الخلق.

وعودة لآدم الذي بكى لعدم معرفته بطريقة تجميع هذه المركبات وتصنيعها، كان يبكي أيضاً لعدم وجود أصدقاء يدعوهم للانقضاض على شياه العقيقة المعلقة كقضايا وطنية فاحت رائحتها وذاعت، ولعلّه بكاءه أيضاً لأنّه فكر في طعام الخرس والغديرة!.

حزنت حواء فأحد الأطفال أصابه (بو مخيلب)(4)، والثّاني أصابته العين، فاكتشفت حينئذٍ بأنّ عين الودود أكثر شراً ولؤماً من عين الحسود، إذ ليس ثمة حسود بعد، وحتىّ يظهر فلا بُدّ وأن يكون الفاعل الآن هي عليها السلام أو آدم عليه السلام!

طلب آدم من حوائه استخداماً عادلاً للثديين كي تسود روح المحبة والسّلام بين المولود الذكر والمولودة الأنثى، وتقتل مشاعر الأنانية والاستحواذ وحب التّملك التّي قد يشبّ عليها أحدهما.

حواء تعبت من تقصِّي هذه العدالة، لأنّ أحد الثديين كان يدرّ أكثر من الآخر، فطلبت من آدم أن يأتيها بمربية ومرضعة لأنّ تربية الأطفال ليست سهلة، بالإضافة إلى أنّ عملية الرّضاعة لابدّ أنّ تحلّ بوجود بقرة تكون أمَّاً مساعدة لها وكي لا يُتّهم حليبها بالفساد إذا ما ظهر خلل في بعض سلوكيات الأبناء، فيوجه إليه الانتقاد القائل بأنّ بعض الأخلاقيات الرديئة يرضعها المرء مع الحليب.

بالفعل كانت هذه أول محاولة لاتهام البقرة بالجنون والعقوق والانحراف وما إلى ذلك من عورات وراثية تظهر في السلوك الآدمي.

بحث آدم عن المرضعة والمربية، حتى تفلّقت وتمزّقت جواربه وأصيبت قدمه اليمنى (بالكالو)(5)، وما وجد أياً منهما، فالأرض غير مسكونة إلى ذلك الوقت بالخادمات الآسيويات، وتجارة الرقيق لم تروّج لها الوكالات السياحية ومكاتب السفر والجمعيات المطلية بالشّك في جميع من يعملون بها..!

لم يكن ثمة منغصات تفسد حياتهما الزّوجية والأسرية، فجعل آدم يحسّ بالفراغ، فهو وحيد في العمل، ووحيد في الشارع، وعلى الشّط، وفي الحقل، وفى الصيد، وأمام المخبز، وفي المستشفيات، وفي الأسواق، إنّه وحده في كلّ مكان ليست معه وفيه حواء وتوأماها.

ولأنّه وحده عرض آدم على حواء موضوع الحمل المتكرر فرفضت بشدّة (قابلة للتليين بعد وهلتين!) ثم ما لبثت أن وافقته عندما ذابت الشدّة عنها حتّى لا يقتله الشعور بالفراغ والوحدة ويقتلها هي من ورائه.

شغلت نفسها بعدئذ بالأولاد وبالحمل الجديد والمتجدد باستمرار حتّى بات وقتها محشواً بالأعمال البيتية التي لا فكاك منها إلا بالوقوع في حفرة الحمل (الممنوع من التّوقف).

وخطرت لها فكرة التريكو اليدوي لملء الجزء غير المشغول من وقتها، إنّها تجيد حياكة الكنزات الّصوفية، والجوارب والكلسات، حتى إنّها أهدت زوجها جورباً في عيد زواجهما الأول عوضاً عن جواربه التي تقطعت خلال أحداث ثورة البحث عن مرضعة ومربية.

لم يتمكّن آدم من قتل مشاعر البرودة التي تجثم عليه فقد صار دائم الشكوى من برودة الحياة، أمّا حواء فإنها تعزي ما يقوله إلى الوحدة، فهي ترتدي الميني جيب إلى أن يرشد أولادها ولا تتذمّر مثله من البرودة كثيراً.

وضعت حواء ـ بعد لأي ـ حملها فكان توأماً كالمّرة الأولى، ولداً وبنتاً، كبر الولد والبنت الأولان فأصدر الأب مرسوماً بعزلهما في الفراش منتظراً من يطرق بابه لخطبة الابنة الكبرى، مثلما دغدغته السعادة لأن يطرق أبواب الأرض خاطباً لولده البكر من تسر عقله وناظريه.

وأمام طول سكّة الانتظار هداه التفكير الابتكاري لحفظ النسل والعقب إلى فكرة تزويج الولد الأول من البنت الثانية، وتزويج الولد الثاني من البنت الأولى متغاضياً عن فارق العمر بينهما، وهو فارق لا يبدو كبيراً في الحالة الأولى، أمّا في الحالة الثّانية فهو جريمة اجتماعية على مستوى الكرة الأرضية، هكذا عُدَّ فيما بعد تلك الحقبة المتسامحة من عمر الحياة.

بكت حواء في البداية كما هي العادة عندما يعرض عليها أمراً، ولأنها بهذه الفكرة الآدمية جداً حتى النخاع سوف لن تتحصل على (ردايد وحدايد)(6)، وسوف تخرج من كلا الزواجين بلا حمص، ولكيلا تستمر المعارضة تكفّل آدم بهذه الأمور فجعلها تبتسم فوراً ثم توافق ثمّ تعلن الاستسلام لعقله الرشيد!.

وانتظرا لتحقيق حلمهما أن يصبح الأولاد قادرين على الزواج، كي يدفعا بهما في ليلة واحدة إلى الحياة الجديدة اختصاراً للنفقات.

كبر الأولاد الذين كانوا يستمعون لحديث أبويهما.. كبروا سريعاً فشعر آدم بالسعادة تغمر قلبه عندما عاد يوماً من الحقل ووجدهم ينمون في جنبات البيت كالنباتات الطفيلية، فاعترف لحواء بأنّه ما عاد يشعر بالوقت الزائد في حياته، وشكرها لأنّها لا تعترض نمو الأولاد في غيابه، وشكرته هي أيضاً لأنه جعلها تقتل الوقت بالتريكو والحمل، وبالحمل والتريكو و (بالحم ريكو) في حين قتله هو بالتفكير في نفقات الإنجاب.

لهذا وذاك رمى الجوارب وزمن الجوارب وراء ظهره، وأحرق الكلسات الصوفية وكسرت هي الإبرة مثلما عزقت السلك في البحيرة المشرفة على كوكب نبتون المجهول وغير المسمّى باسم آنذاك.

وأصاب الأولاد الملل، فهو ـ أي الملل ـ عندما ترك الأب والأم لم يجد قلوباً يذهب إليها غير قلوب الفلذات يتسلّى بما فيها من فراغ.

وأخذ الأولاد ينظرون حولهم، ماذا يفعلون، يراقبون ويترقبون حتى اشترك الأخوان ذات مرة، في حب أختهما الجميلة، وفاتح كلّ منهما والده في موضوع نكاحها في نفس اليوم والساعة من دون علم أحدهما بالآخر.

أصابت الحيرة آدم فظل يذرع الأرض، وكواكب أخرى، جيئة وذهاباً والأسئلة الحائرة تتطاير من معطفه في الرّواح والمجيء حتّى تعثر في واحد منها يقول:

ـ من أين سأجيء بعريس لابنتي الثّانية التي تضاءل نصيبها من الجمال..؟

وقد اشتعلت المشاكل في البيت الهادئ بسبب الحبّ المشترك، وفشلت مساعي الأب في صرف نظر واحد من الأولاد عن نكاح الأخت الجميلة، كذلك لم تنجح مباحثات حواء التي أصابها السكريّ وارتفاع ضغط الدم أو الهيموفيليا (لست أدري تحديداً فالمدّة طويلة) وزادت الخصومات وبرزت ظاهرة التحزّب والتشيع للآراء الشخصية، فهدّّدت حواء بقطع ثدييها مع أن ثمة حملاً قادماً في حاجة إليهما، ناهيك أن حلاً جذرياً كهذا لن يرضي آدم..!.

وشبّت المعارك بين حواء التي تريد وآدم الذي لا يريد، فاضطر أحد الأولاد للتنازل إكراماً للثدي الذي امتص خيراته، وعفا لأخيه عمَّا سلف، بيد أنّ الآخر لم ينسَ.

أحدهم توجهت اهتماماته للنظر في خلق الله، والآخر تخصّص في معرفة أحوال مخلوقات الله، ولم ينظر أبعد من نطاق (شوكة)(7) بيتهم، وكانت الغيرة تقتله من سعادة شقيقه بزوجته الحسناء.

خطّط للانتقام بمهارة، ربما ساعده عدم وجود شرطة آنذاك أو قوانين تدينه، وكان ثمّة غراب أغبر أعور يراقبهما معاً في الحقل.

حينما نفّذ ربّ (الشوكة) قرار الموت بأخيه بدأت إرهاصات صراع النيات والطّوايا والأهداف والأطماع والطموحات والأحقاد، وتشعّب الموضوع بين الحبّ والبغضاء، وجدل النّفس والبدن، ففريق أيَّدَ وفريق شجب، وفريق سرَّ وفريق تحسّر وفريق فرّ وفريق كر.......... وووو ..........

وربما بين التّشيع لفريق أو آخر قتل الأخ أخاه باسم الانتماء، والمؤكّد أنّ حواء قتلها الحزن الشديد على فلذات كبدها، وتمنّت لو أنّها ما رمت بالسلك والإبرة التي كانت تستخدمها لتضييع الوقت, فمشكلة حواء أنّ الوقت لديها أصبح هو هو سواءً بالقتل أم بغير ما قتل!.

ورأت أنّ الإبرة وأعمالها قد تعزلها نسبياً عن الشعور بمصائب الوقت ومحتوياته البائسة... إنّها تطلب النسيان من السلك والإبرة فقط.

وكان آدم أشدّ حزناً منها، إذ هذا بطنه وذاك ظهره فلا يعلم ماذا يجب عليه أنّ يفعل ليوقف المذبحة بين أولاده وأحفاده.

كبرت الفرقة... وتداخلت الأنساب، والحبّ لم يتنازل للحسد، ولم تنتهِ مكائد الحسد ضدّه، ظهرت فرق جديدة بقلب المعركة سمُّوا بالأعمام والأخوال والأصول والفروع، فقال الحزب الأول: (أنتم كأخوالكم) وقال الحزب الثّاني: (الخال والد) فردّ الحزب الثالث معيّراً (أنتم زريعتكم كلها بنات والبنات زريعة إبليس).

قال الحزب الرّابع (الولد نكد، يأتي للدّنيا وهو داخل القلب، ثم ما يلبث أن يخرج منه لتأخذه البنت).

قال الحزب الخامس (من لديه البنات يناسب الكلاب).

قال حزب جديد غير مرقّم (إذاً جدّكم كلب وأنتم كلاب لأنّكم تتزوّجون بناتنا).

قال الحزب الأول (إنّ تكاثركم ألهاكم حتّى تفاخرتم بموتاكم، وإنّما يموت من يفوت).

وتدخّل الحزب كذا وكذا وقالت الأحزاب كذا كذا...

ألهاهم التّكاثر حتّى أغار الحزب الأول على مضارب الحزب الثّاني فقُتل الرجال وسبيت النساء، وبيع الذكور أرقاء لبني الحزب السّابع، وحبلت السّبايا في زمن واحد وأنجبن فشب المواليد لا يشبهون آباءهم، فأكثر من الثلثين فيهم لأخوالهم ولهذا أحبوا البنات في الأحزاب الأخرى المعجبات بآبائهن، ممّا أغضب أولئكم الآباء الأشبه بأسود، فقتلوا بعضاً منهن ردماً وحرقاً، وجُوّعت قلوب البعض منهن ففكّرن في الهرب.

ندمت حواء لأنّها لم تتناول حبوب منع الحمل، تذكّرت أنّ لديها واحدة، فتّشت عنها في صندوقها الأثريّ، ولما وجدتها أخبرتها الحبّة بأنّها صارت عجوزاً وانتهت صلاحيتها كولود، بينما عضَّ آدمُ أصابعَهُ ندماً لأنّه لم يأتِ عقيماً إلى الوجود.

وبعد.. فالمساجلات مازالت دائرة بين أجيال الآباء والأبناء والأجداد وبين الذكور والإناث والبيض والسود والكبار والصغار.

ماتت حواء بالجلطة الاجتماعية ومات آدم بفقر الفهم، وهما يواصلان التّناسل وفضّ خصومات بنيهم، وفي أول ليالي المأتم تعارك الأخوة على الميراث، تدخل بعض المعزّين لفضّ الاشتباك، الآخرون الذين لم يتدخلوا يدوياً تدخلوا بأسنتهم وألسنتهم، مُذ ذاك رويت حادثة عراك الإخوة بأكثر من مئة شكل على كل لسان، الشكل الذي روينا به َكلِيبيين هو الذي نفضله في إدارة خلافاتنا، ونشتهر به ونتميز به عن غيرنا من البشر، إنه الذي وصفنا فيه بطلنا بأنّه الإيجابي على الدوام دون نقاش أو حكّ أذن ظالماً كان أو مظلوماً، فما من أحد يشبهه حمدٍَْ (ما كيف حمد في العركة حدّ)(8).

كما وصفنا فيه العراك بأنّه عراك موت أو حياة، ووصفنا فيه وسطاء الخير بأنّهم أكثر المتضررين (الحزّاز ديمه واكلها)(9) ووضعنا فيه خاتمة يتيمة لنتائج أي خلاف أو عراك مقصود وغير مقصود، تمثّلت تلك الخاتمة في صورة هزلية للمتعاركين وذويهم يتربعون على جزءٍ من الكرةِ الأرضية حول جفان من الأرز واللحم الضأني كبير التقطيع، يأكلون حتى يسيل دهن وليمة الصلح من حواشي أفواههم، ومكان تلك الجلسة الأرضية إما سقيفة من يسيرون إليه لمصالحته، وإمّا مجال كبير من الخيام يقفل شارع أهل المجني عليه، ويعطّل مسيرة أهل الشوارع الثّانية، ولا ضير من إقفال شوارع الكرة الأرضية كافة بخيام الفرح مادام ذلك دليلاً علي تصالح فردين أو قبيلتين أو شعبين أو أكثر، فابتلع لسانك وأسنانك أيّها النّمام الفتّان السائر بين الناس بالكلام، لم يعد هناك حرب، فقد حلّ السّلام وإلا لِمَ نقفل الشارع وتزدحم أمامنا الجمال ـ عفواً ـ السيارات ولا يتغيب عنا شيخ من الشيوخ المرضى والأصحاء، وبعد انتهاء التّجمع ورفع الشادر وفتح الشارع تزورنا سيارة البلدية المبجلة على غير المعتاد..؟!

لِِِِمَ؟

لقد كنا نتسامح كما أوصانا أبونا آدم وأمّنا حواء، فلعن الله الشيطان، إنّه السبب في كل ما حدث لنا من سوء كليبيين، الشيطان هو السبب في عطل الفهم وعطل لغة الكلام الحسن والملكات الخيرة وكل شيء، كل شيء.. من قفل الشوارع إلي قفل الرؤوس..!!

حاء من نسل حمد
حفروا بالأيدي قبل اختراع المغارف والفؤوس والملاعق ليطمروا حواء ذات النسخة الأرضية، مبقين على بضع حاءات للتناسل والاستمتاع، كانوا أربعين وتسعاً وتسعين نعجة على نحو ٍٍ من التقريب.

في الحفر الثّّاني حفروا مع بعضهم البعض لأنّ الرّجلَ الذي أنجبت له بنتا، كان بلا يدين.

في الحفر الرابع وكان في نفس الليلة، حفروا معه، فهو في الحفرين السابقين كان يحفر معهم حفرهم، ويواري معهم عارهم.

وإذ هجعوا متعبين من نبش التّراب بحثا عن قيعان توارى سوءاتهم، هجع معهم الغراب الذي يحوم فوقهم عند كل عملية دفن.

أصابعهم متّسخة بالتّراب على الدّوام ورائحتهم كلّها موت... عندما يغمسون أصابعهم في الثّريد ليأكلوا يذهب إلى بطونهم شيء من تراب مدافنهم غير المرقّمة وغير المعلّمة... الأصابع قبل وبعد الأكل لا تتحرر من التراب... بصماتهم واحدة... وإذا بلغ أحد هم من العمر عتيا، وكان بالطبع قد دفن وشارك في دفن الكثيرات... أمكنه أكل لحم المؤودات لأنّ تحلّل الأجساد الطرية لا يأخذ من التّراب وقتاً فالتراب يمضغ بسرعة دون أن يكون له ضروس وقواطع وعصارة هاضمة وفتحة لإخراج المحروقات... التراب مشبع بجسوم الموءودات المتحللة، ومشبع بأيديهم حتى بعد أن جاء العقل الذي اخترع البلطة والفأس مهوناً عليهم الحفر لأبعد قاع يؤمن لهم الطمر والنسيان.

حاء جديدة تدخل التراب، مقابل كلّ عشر موءودات تترك واحدة حية في كل بيت... لهذا نبتت وتأصّلت نزعة الجوع إلى حواء عند الرّجال، فهم الدافنين وهم الراغبين في نفس الوقت... وهم السّاعين إلى نهب غيرهم في حوّ آته الباقيات في قيد الحياة!

لديهم وفيهم كلا الرغبتين... الإفناء والإبقاء... محرّك الإفناء العار ومحرّك البقاء الجنس.

حاء من الحاءات اللائي نجون من التّحول إلى بترول في أكبر رقعة زيتية غير عائمة على كوكب الأرض... تحولّت إلى سبية، ثم نجت لها ابنة من الوأد لكنها لم تسلم من السبي، غدت الجذر الدّرني لجذر آخر طويل سيكون محمد عقدةً من ُعقدهِ غير المحدودة.

عندما نجت حاء من تراب أهلها... كان تراب آخر ينتظرها عند سابيها... ما تذكره حاء عن مرحلة مابين الترابين لعبةٌ يقولون فيها:

اطو يري طار/
معا الكفار/
اجنابه سود/
وفمه نار/

وهي كناية عن البندقية والطلقة ومستعملها، إيذاناً بمشروعية اللعب بالنار.

سين من نسل حمد
حدث النكاح في السّنة التي تلت أول طوفان تعرفه الأرض، كانت لحظة اندلاق عظمى وتجربة تتمرّس الأرض بها على البلل حتى الأزل، فالأرض منذ تعلمت الأشياء في مراتها الأولى لم تنسَ أبداً. نتيجة الخوف من المجهول وعدم وجود وقت لكلّ شيء وأدّت (احويوة) الثانية والثالثة والرابعة والخامسة...

أما (احويوة السادسة عشر بعد الألف) التي أبقت عليها الرغبة الكائنة في جسد حمد، فقد بيعت في عمر صغير جداً وبأسمال بالية لحمد الذي لم يسبقه حمد، بيعت بسعر بخس، كان حمد طفلاً يتيماً مثلها، لا يدرك أن الفكرة المتسرّعة لجمعهما لأجل حفظ النسل ليس إلا.

تمّ الاتفاق قرب الجابية(10) عندما كان ابن عم والدها وكافلها يتأهب للهرب من الطوفان الرابع ويتخفف من مقتنياته.

كانت سوق المقايضة رائجة فاستبدلت احويوة ببقرة وقبضتين من التمر.

آنذاك كانت البقرة تتعرّف لأوّل مرة على رائحة الثّور الوحيد الناجي من الموت، لا مردّ لقضاء الله فالبقرة لم تختر ثورها، لكنّها الحاجة لشرب الحليب بالتمّر!

نبت لحمد شعر خفيف على شفته العليا وتكونت في اللّحظة نفسها داخل رأسه قطعة أرض لا طوفان فيها، هواء وسماء وتراب وشمس فقط.

كانت أعظم صحراء كبرى يدركها خيال حمد، هدأت وتيرة الطوفان قليلاً، فتشكّل مفهوم غامض حول قطعة الأرض، جعل حمد يعيد النظر في الشعر الذي بدأ يظهر في وجهه، لم يجد ما يفعل بذلك المفهوم الذي زامن دخول احويوة حياته، فوضعها فوق قطعة الأرض حتى يستوعبها رأسه وذهب ليدخل بر الروم ولا يعود منه أبدا.

احويوة اليتيمة نجت من الطوفان هي وحملها ومات كلّ من معها.

كان حسين طفلا بلا أب، مرض بـ (خي العويله)(11)، فبات يصرخ بشدّة وأمه تهدهده في ضيق من صراخه الذي سيجلب عليها لعنات والدها الشيخ، لأن الصوت ينبه العسكر إليهم وهم يمضون من دروب موحشة غير محروسة.

أرسلت جدته الأولاد الصغار لجارتها التي نبت لديها الفيجل، أحدهم حمل الملح والشّعير والسّكر الذي أعطته له ليعطيه للجارة، سمت الجارة على النبتة واستأذنتها لقطع بعض الفروع، تفرّق الصغار وهم يعودون بغصون الفيجل ذات الرائحة القوية غير اللطيفة.

سقى حسين مغلي الفيجل المحلّى بعدما برد، ودهنت مفاصله وسائر جسده النحيل بماء الفيجل، فنام في حجر أمه كلعبة من ألعابها.

حسين يلعب بالعصي مع أولاد خاله في (حوازة)(12) جده، ويركب ظهر الجحش القصير بعد وضع خنفساء في إحدى أذنيه.

كان الجدري قد فتك بأرواح الآلاف وخيف على روح حسين منه، فالعقب غالي وأم حسين تموت يومياً قبل العشرين من عمرها حسب تصميم التقاليد الصارمة لحياة أهلها.

كانت تراقبه وهي تعمل في الحوازة مع أبيها وأمّها وأخواتها، ما تزال هي الأخرى طفله ولا فرق يذكر بين عمرها وعمره!

ضرب الجد حسين ونهره لأنّه لن يصبح رجلاً إذا دخل السّابعة وهو مازال يلعب كالصغار ويحتمي في رداء أمه التي تلعب خلسة مع أخواتها وتنصت للخراف(13) تحت ضوء القمر كل ليلة معهم!

ثم زُوَّجت قبل أن يدرك حسين أنها أمه، فهو في ازدحام الصّغار من حوله يظنها إحدى أخواته، كثيرون في مثل ظروف حسين وظروف احويوة، يتمّ التّصرف بهم قبل بلوغ سن الإدراك، فحسين سوف يخجل ويغضب ويرفض دخول رجل بأمه بعد أبيه، وإن كانت ما تزال دون العشرين، ولن يكون مسموحاً له تخريب تدبير أبيها الشيخ الكبير، أمّه أيضا سوف تخجل فترفض أن يمسسها رجل وشارب ابنها قد أصبح نافراً!

كره حسين رؤية تلك المرأة التي تأتيهم في العيد الكبير على كارو يجره حمار أعجف، ترافقها قفة من خوص النّخل، تحتوى سلعاً يومية لكنّها مهمة بسبب الغلاء المرافق لموجة الطاعون الثانية، يتقدّم احويوة رجل يكبرها بسنوات كثيرة، يتقبع طاقية سوداء لها بسكل(14) وعباءة حمراء وبلغة(15) من جلد الجمال، احويوة بطيئة الخطوات بسبب حملها وصبيتها المنقولين على ذراعيها والممسكين بطرف ردائها واللاحقين بالرجل ذي البسكل الذي قيل فيه (في البسكل من أجل الرّجل وفي الرّجل من أجل البسكل):

بو بسكل نازل يدلا عقلي سلا شاغل بالي ووقتي كله.

حسين يصعد النخلة مع أولاد أخواله ليهرب من السّلام على تلك المرأة التي يحبّها في خفر وغموض ويخشى الالتقاء بها ومصافحتها والتكلم معها!

تتسلل احويوة مغافلة العيون لترى حسين من بعيد وتتخيله كيف يكبر بعيداً عنها، إنّها تحث أطفالها على الذّهاب إليه ومحادثته واللعب معه فهو أخوهم وإنّ كانوا لا يعرفونه ولا يعرفهم.

نعم إنه يكبر لكنه مازال طفلاً، سنه عشرة أعوام فقط وهو غضوب وضرّاب وغريب ومغلول ومظلوم وحاد الطبع ولديه غربة تسكن روحه وتحرك بدنه، حتى جاء ذاك الوقت الذي انتشر فيه الجوع وكان الحرّ شديداً والسماء ممسكة والعسكر يسطون على النّجوع لإجبار المزارعين على دفع الضريبة، وحسين يملك بذلة عربية واحدة ويمشي حافي القدمين، وينام بين جذوع النخل إمّا إفلاتا من مقابلة المرأة التي تأتيهم ورجلها وبنيها المتزاحمين على الكارو، وإمّا هرباً من اليد التي تجعله جندياً لسلطة لا يعلم عنها شيئاً.

يعمل ليلاً في الحوازة ويعين جدّه على السير وجدّته على إخفاء الحنطة المتبقية لهم في الشتاء، كان الأخوال يمنعونه من دخول بيوتهم لأنّه غريب على بناتهم، ويكلفونه عوضاً عن أبنائهم بأعمال السانية(16) مالم يعترض أو يبدي الامتعاض، ولماذا يعترض ويمتعض وهم أصحاب معروف عليه؟

يقتات حسين بخبز الشعير الخشن والبازين والزميتة وزيت الزيتون الغاوي(17) في أفضل الأحوال.

جدّته طعنت في المرض وقل إبصارها، لذا كان حسين عينها وعصاها، كانت تحبّه كابن وتذرف دموعها عليه كيتيم مقطوع، وهو يحبها ويحضنها كأم لأنه لم يعرف أبداً أمه ابنتها!

كانت تقول له وهو يحملها على ظهره إلى جاراتها:

إحسونة ودي نفرح بيك، دسيتلك سواري الفجرة عند خالتك مناني كان طرالي شي.

يردّ عليها:

بعد عمر طويل ياحناي.

الموت لابد منه يا كبدي.

خلاص أنا وصلنا براكة خالتي مناني ياحناي، خلي صمعة يروح بيك، آني نبي انحدر معا جداي غدوه ونبو نعبو الكارو قبل ما تسقط ا لشمس.

ربحت يا كبدي... ربحت يا كبدي.

صادف دخول حسين وجدّه المدينة وصول الوالي أو الباشا الجديد، فالمدينة تعوم في الاضطرابات منذ انتهاء ولاية الباشا السابق وبادية الدواخل في حالة من التّبرم والتّمرد، والأمر يتفاقم مع ضرب البدو للجباة الذين يأتونهم لتقييم محاصيلهم وجباية الضرائب عنها.

طرحا للود مع الأهالي، وبمجرد أن وطئت قدماه الأرض، أمر الوالي بذبح الخراف أمام أضرحة المرابطين وتوجه للجامع وهو يضع يده على رأس أحد الدراويش، وأطلق سراح البدو المعتقلين، وأنزل رؤوس زعماء العشائر الأربع، التي علقها سابقه على بوابة المدينة، ليأكلها الذباب والحرّ ويتعلّم منها المتمرّدون درساً لانهاية لمفهومه.

كان الوالي في يوم وصوله والأيام التي تليه حنوناً قبل أن تبدأ ملامحه الحقيقة في البروز.

رتب حملة لتأديب عرب الدواخل الذين لا يمتثلون للأوامر ويعصونها ويتهربون من التجنيد ويضرون بالمصالح التجارية، وصادر المبالغ التي يقبضونها من محاصيلهم وبهائمهم، فأجبرهم على دفع ضرائب العشور المستحقة عليهم، وكان رد فعلهم غير متوقع حيث تضامنوا مع بعضهم وكفوا عن ارتياد المدينة، تاركين محاصيلهم لبهائمهم ترعى فيها وتدوسها بدلاً من تزويد الأسواق بها.

كانوا عنيدين في قرارهم، الذي أدى لانتشار السرقة والنهب والجوع في المدينة، وقد توجت تلك الفوضى بقتل أحد تجار اليهود المرابين في حانوته.

تحرك اليهود في وجه الوالي فامتنعوا عن تسديد الضرائب المستحقة على أعمالهم وتجارتهم مالم يتم القصاص لقتيلهم فوعد الوالي بتأديب عرب الدواخل وتعويضهم.

تتبّع حسين وأبناء أخواله وأقاربهم رجلين غريبين، وأخذوا يشتمونهم ويصفرون وراءهم ويشدون أطراف ألبستهم، كانت السماء تمطر والفتيان لا يتقونها بشيء فهم عراة وحفاة وعنيدون.

كانوا يغنّون لهما:

يامطر ُصبّي ُصبّي
طيحي حوش الربي
والربي ما عنده شي
غير اقطيطيس يعوي
يا مطر يابشباشة
طيحي حوش الباشا
والباشا ما عنده شي
غير اقطيطيس يعوي!

كانت هذه المشاكسة الغنائية كفيلة بتوسيع قضية سوء التّفاهم بين الباشا ورعاياه، فأرسل حملة تأديبية للعصاة الذين لم يحترموا المتصرّفين، قتل فيها المئات من النساء والأطفال والشيوخ دوساً بسنابك الخيول، ونهبت البهائم واسترققت الفتيات، وزادت فوضى الاعتداء على الأعراض.

ثم اختلطت الأمور فصار الوالي هو أحد أهم تجار البارود الذي يباع بثلاثة أمثال ثمنه الأصلي للبدو، الذين يستعملونه في مناوشاتهم لقوات الوالي!

اكتمل شارب حسين وماتت جدّته بالخلعة(18) عندما داست أقدام العسكر حوازتهم بحثاً عن مثيري الشغب، وقد ظنتهم قتلوا حسينا وحملوا رأسه في برميل الخشب المليء بملح السّبخة، لتعليقه كبيان عند مدخل المدينة.

إنّها صورة رأتها عينا الجدة العمياء في طفولتها عندما اغتال العسكر السابقين أبناء عمها وعشيرتها.

باع حسين سوار الفجرة(19)، فالرجل بلا بارود رجل ناقص، ولكي يلتحق بالخارجين عن الطّاعة، لأنّ بيوت الأعيان والمرابطين في كلّ الأرجاء دهمت من قبل عناصر أجنبية، فصار لزاماً تأديب الكفرة المعتدين على الحرمات.

نشطت فكرة حمد الأول عن قطعة الأرض المرتبطة بحويوة، في رأس حسين كحفيد وناقل إرث، فركب جواده وتنقل في عدة أمكنة لتنفيذ جزء من تلك الفكرة المكلفة.

من أجل بناء سور يحد المدينة عن مينائها، حول المساجين إلى سخرة يعملون ليل نهار لينتهي السور الذي يحمي القلعة والمدينة من تهديدات الفرقاطات الأجنبية، في الأجل المحدد له حتى يحتفل الباشا وقناصل الدول الأجنبية بذلك الإنجاز، كان أحد قناصل الدول المؤيدين للفكرة يشرف على المشروع الحامي لأطماع بلاده في الشرق، وارتكب ذلك القنصل القائم بأعمال بلاده على خير وجه خطأ فادحاً ذات ليلة، عندما ضرب بالسوط بعض المساجين العاملين في تشييد السور، فاشتعلت أعصابهم وأدركوا أنّهم ملاقو حتفهم قبل إتمام البناء فقاموا بجلد القنصل بسوطه وخلع ثيابه عنه إلا ما ستر عورته، وإجباره طوال الليل على حمل الطوب والصخور حافياً ونقل الطين اللازب فوق ظهره.

لقد شيّد جزءا لا بأس منه من السور (عرف السور كله فيما بعد باسم القنصل) قبل أن يتمّ القضاء على أفراد الحامية النيام والسيطرة على أسلحتهم.

كان حسين ممن تحققت لهم أعجوبة الفرار من مذبحة المساجين السّخرة، تلك التي وجمت لها القلوب وضجّت بها البلاد زمناً لتدخل في زمن آخر لابد أن تنسى فيه تلك الحادثة وغيرها لتكون قادرة على تجاوز مصيرها. أحد رفاقه وهو رمضان ولد حليمة بنت عصمان حمل أخته وراءه على جواده، لأنه لا يستطيع أن يترك عاره خلفه، فإمّا أن يموت معها أو يموت دونها، هكذا يقضي الشّرف على الرجل منهم، كانت مطاردة عنيفة وغير متكافئة في شتاء قاس ٍ وجوع مطبق وتشّرد طويل بين الأمكنة والملاذات، عندما أدرك الأخ الشقيق أنّ المنية قريبة منه والحلقة تضيق والنّفاذ صعب وأخته أمانة ثقيلة في عنقه قال لحسين خذها كزوجة، كان الحمل ثقيلاً على عنق حسين فهو ميت أو موشك على موت والعار أطول من العمر والعسكر دمويون متوحشون، إن سقطت الفتاة ذات الثلاثة عشر ربيعاً بأيديهم، سيتداولون عليها وإن كان عددهم مائة، آه... إنّه لشيء مرّ على قلب الرّجل الحرّ.

سمعت الفتاة باكية وصية أخيها ولم تتكلّم، حسين الواجم المكفهر لم يتكلم كذلك، فقد دفنوا رمضان تلك الليلة الباردة عند أهل نجع معلوم، لهم قربى بأخواله، حتّى إذا نجت الفتاة وأرادت تعقب منبتها أمكنها ذلك في يوم من الأيام، إنهم حريصون على أنسابهم وأصولهم حتى في أحلك الظروف.

دفن شيخ النّجع ورهطه، الرّجل المصاب وآووا الآخر عاقدين نكاحه على الفتاة في جو من الحزن، لكيلا يمضي مع محرم وهو يطرق المجهول الأكثر أمناً.

تلك الليلة قال شيخ النّجع لحسين إنّه بمأمن، فالمنطقة جبلية وعرة في النهار فكيف بالليل، إلا إذا كان أدلة من العرب أنفسهم بين العسكر، لذا يمكنه إيواءه لمدة محددة، ولولا الضائقة التي تمرّ بها البلاد لأمكنه تقديم مساعدة أفضل، بيد أنٍّ حسيناً يعي الضغوط التي يعيشها الأهالي والجوع الذي يفتك بهم وأعمال النهب والسطو والطاعون الذي يظهر مجددا في حارات اليهود وينتشر بسبب طمعهم وجشعهم، لأنّهم يدفنون موتاهم في بيوتهم تهرّبا من دفع ضريبة الدّفن لعميد جاليتهم الذي رفعها إلى عشرين درهما، من أجل توفير نفقات دفن الفقراء منهم.

إنّها أيام حالكة، سمع فيها حسين بمصرع ثلاثة من إخوته لأمه بالطاعون، كانت أحبهم إلى قلبه (زينوبة) تلك الفتاة السمراء المليحة، الفرعاء كغصن زيتون، كانت زينوبة تعمل لدى عائلة نصرانية، وحين انتشر الوباء أغلق النصارى بيوتهم وحدّدوا الخدم الذين سيدخلونهم في الحجر الصحي معهم حتى يتقلص الوباء، كانت مهمة زينوبة تعبئة جرار التوابل يومياً لحرقها وتبخيرها مع الصّبر والمّر والجاوي والكافور والبارود من أجل تطهير البيت والقضاء على الميكروبات، ومن مهامها أيضاً إخبار سادة البيت بحركة الدخول والخروج في المنزل لكي يقرّروا إعطاءها أو عدم إعطاءها المفاتيح، كانت سيدة زينوبة تفضلها عمن لديها من خدم والسيد كذلك، حتى أنّهم أوكلوا إليها في تلك الآونة العصيبة الإشراف على المؤن الوافدة، وتطهيرها بالخل والمياه للتّأكد من سلامتها.

كانت زينوبة مخلصة ونشيطة في عملها وكانت عين أحد الخدم الزنوج عليها، كان يحبّها ويتودّد إليها بشراسة وهي تمتنع عنه لأسباب تتعلق باختلاف العرق واللّون والنظرة الاجتماعية.

نقلت زينوبة لمستوصف الرهبان الإرساليين، حينما كان الطّاعون يرسل النّاس يومياً إلى القبور بالمئات ويجعل المحتضرين منهم يذهبون زحفاً نحو الأماكن التي يستجدونها دفنهم.

أقيم لزينوبة ذات الثلاثة عشر ربيعاً مأتماً يليق بها كإنسانة لا كخادمة، وأعلن أهل البيت الحداد عليها كمكافأة لسنوات خدمتها لهم بتفان لا مثيل له، وتمّ اختيار الزّنجي المحبّ لإخبار أهلها ومقايضتهم حول رعاية أسياده لطفلها محمد.

قضى العبد أسابيع في أداء المهمة وقد مرّ بأقراب محبوبته لعلّهم يتبنّون ابنها كي لا يتنّصر الطفل إذا ُترك مع العائلة النّصرانية، التي إن لم تهدأ الأوضاع في البلاد، ستضطر حالها حال العوائل النصرانية الأخرى لإنهاء أعمالها وإقامتها في مناطق التّوتر، والارتحال إلى حيث يتوفر لها الأمن والسلامة.

كان حزن حسين كبيراً لم يتنبه معه لوجود إفطيمه، وعندما حان وقت رحيله أعطاه الشيخ ما يستطيع أن يمدّه به في رحلته، فلم يجد حسين طريقة يثني بها على فضائل الشيخ إلا بإعطائه الثياب الرسمية للقنصل المضروب، والذي قلبت قصته البلاد، كوسام لأعمال البطولة!

ذهب حسين مهموما بكل شيء ومن كل شيء، وعلى محمد ولد زينوبة بالأخص، لقد عزم وبصوت مسموع على الرجوع لأخذه، فإنّه لمن العار أن يكون الخال والداً، وأن يفر الوالد عن ولده!

في ليلة باردة، وأسفل شجرة زيتون في حوازة لا يعلم صاحبها حطّ الرّجل المرتحل بزوجته وناما متعبين، لأول مرة يبدأ الفعل الزوجي، كانت الأخطاء كثيرة والتجربة معدومة، والخجل والخوف رديفان، مع طلوع الضوء أدار كل منهما وجهه للآخر ولم يتكلّما، هي لا تعرف عنه شيئاً أكثر مما سمعته يدور بينه وبين رمضان شقيقها وهم يسيرون، وهو يتقدمهم لكي تبقى المسافة المحتشمة بينه وبين حرمات صديقه، لكن لحظة الاقتراب مكلفة، كان بين اللحظتين يوم وليلة قبل أن يبتعد الرّكب الصغير عن مواقع الاشتعال ذاهباً باتجاه برقة الهادئة.

في العراء التقى الوجهان الطفوليان، وفي البريّة عرف حسين محاسن ضرب جدّه له حين كان دون الثامنة لكي يسارع في النمو نحو رجولة لم يكن يدرك لماذا جعلتها تقاليدهم الصارمة سريعة جداً، كانت إفطيمة تتلفلف في ثياب والدتها ويعوم جسدها الفتي فيها، فالثياب إضافة لكونها ميراثها الوحيد الذي لابدّ من أخذه أينما ذهبت، فهي كسوتها أيضاً.

" ماهياش تقيله عليك؟ "

كانت هذه العبارة أول عبارة يتفوه بها الفتي لامرأة في حياته لا تكون جدّته ولا إحدى جاراتها وصديقاتها المسنات، وقد أصيب بالخجل لما طأطأت الفتاة رأسها، وكان لا يريد أن يبدو أمامها غير قادر على أفعال الرجولة لذا قال لها:

"حناي الله يرحمها دستلي سوارها الفجرة علا خاطر اتبيتني بيه، وني بعت السوار علا خاطر البارود، وخويا رمضان الله يرحمه عار فني مش واطي، امشي قالي خود إفطيمة تبقالك مرا، راهي قز ونه وماعندهاش غيري، وأني حاطها في رقبة راجل موش في الخلي، قولي عاد هكي ربي راد، واني لازم نعطيك حقك وحق الله، يبقا يا بنت الناس هذي غدارتي وحصاني وازي منهم حاجه لكي "

تصمت طويلاً ورأسها للأرض حتى يطلب إليها الجواب:

ـ أني ماضي عليا ما قاله خويا وماعنديش قول فوق من قوله.
ـ لكن لازم علا خاطر إنتي تقعدي راضية.
ـ أني راضية بجميع ما كتبه مولاي عليا وعليك وعلى ساير أمة محمّد.

ابتسم حسين ورضى بقسمته فأصبحت الطفلة إفطيمة بعد صبر زوجة كما أحبّ حسين لنفسه، لولا أنّه مات عنها بالسّل وهو في الثانية والعشرين وهي في منتصف التاسعة عشر تقريباً.

المعبر
قالت والدتي بالأسود والأبيض:

ـ كانت المرحلة الأولى قاسية جداً، وهي كيف أجيء من ظهر الرجل المشغول دائماً بتحميل البلوك والطوب بين القرى وقيادة الشكوانتة عبر الطرق الرملية والمسفلتة بأسلوب بدائي خلفه الطليان لنا، تحديداً كان الرجل المشغول مشغولاً ما بين اجدابيا وفزان حيث ينشئون طريقاً جديدة تربط الوطن بالشعب والشعب بالوطن، وعن هذا الربط ستنشأ روابط فرعية أخرى.

كثيراً ما فرح الناس بذلك الازدهار في حياتهم فسموا ذلك المشروع نسبة لمتعهده الرسمي بمشروع طريق العابس.

كان الرجل الذي سوف أجيء من صلبه نملة في جمهور النّمل الذين يشيدون تلك الطريق... لقد انتظرته طويلاً لكي يتفرغ لي وينجبني حتى قبل انتهاء مشروع الطريق، فطريق عبد الله العابس طويلة جداً مثل حبال الحكومة ووعودها، وربما يُنجز جزءٌ منها ويُترك الآخرُ لعبدٍ آخر من عبيد الحكومة لينال شفطة العمر كالتي شفطها سابقه فيصيب السعد جيوبه كما أصاب أسلافه على نفس السكة من مشروع الطريق ومشاريع أخرى خارج الطريق والطر طريق..!

إذاً أخرت قدومي للدار الزائلة طريقة ابن عم الحكومة وصهرها وقريبها في إنشاء طريق لليبيين يمشون عليها، ويقضون حوائجهم الدانية والبعيدة، ويصلون بعضهم البعض، ويتصاهرون وتنقطع القطيعة بين أطراف الصحراء والشواطئ الليبية فيتعارف الناس، وتروج التجارة، وتتحرك العبارة وتتفتق الأذهان، وتنطلق الأجساد، ويلوح في الأفق شيء جديد من الآخر وإليه لكي يصدق فعلاً وقولاً إنّ من ليبيا يأتي الجديد دائماً!!

إنما لابدّ من طريق ليحصل ذلك الانفتاح الليبي علي نفسه.

كان صاحب السلسول مسؤول عمال يحسب الرّشاد(20) والزفت والحصا وقطران الطريق، ويدير فريق الرجال الذين يصنعون الطريق ويحصي وحدات الطوب والزينقو(21) التي يصنعون منها استراحات المشروع الضخم ومحطاته، والتي اختار أهل ليبيا تسميتها بالبراريك(22) كما هو ديدنهم حين يطلقون التسميات علي أشيائها التي تعنيها فتلحق بها في كثير من الأحيان القبح المعنوي، لا يستثنى من هذه القاعدة في الأسماء حتى فلذات الأكباد.

تلك البراريك التي نمت فيها مع الرجل الذي حملني في ظهره، هي براريك مشروع العابس، فكل ما تسبب في وجود طريق العابس سيحمل اسمه، وإن كان الطعام الذي يأكله العمال والبراز المخلَّف منه في أمعائهم، والأحلام التي يحلمونها، وجيل المواليد الذين أنجبتهم أمهاتهم تحت زينقو براريك فخامته.

طال انتظاري... أيّها السّادة، كما طال انتظار الليبيين حدوث ثورة كبيرة في حياتهم تقلب أوضاع حملهم وإنجابهم وحياتهم الأولى والآخرة، وفقرهم المدقع، حياة تؤسّس لهم بنياناً جديداً ينفض عنهم القمل والعث والبرغوث ومعالم الجهل والسذاجة ويسقيهم الحليب النقي كل صباح ويطعمهم خبز الفرن وينسيهم شيئاً من أطعمة الفقر التي خلفتها لهم عيشة الجوع، فهم لولا عيد الأضحى أكثر من نباتيين دون اعتناق مبدأ النباتية، تقريباً استمر حالهم هكذا حتى بداية السبعينيات من القرن العشرين.

ثمّة طبقة محدودة مغتنية كانت تسيطر على إدارة المال وكنزه لنفسها لتتّميز به اجتماعياً عن غيرها من الطبقات الأخرى، إنّها طبقة الحكم وحاشيته وهم في الغالب ليسوا من السكان الأصليين للبلاد، تلك الطبقة الراقية بالمال كحسب ونسب لها، وليس بالحسب والنسب كحسب ونسب، بل بمبدأ نفعي آخر يقول الدنيا بالوجوه والآخرة بالأعمال، (وراقد الريح ما هو من حد)(23) كما يقول الليبيون في فلسفتهم اليومية.

أفراد تلك الطبقة صعدوا بالمال على فقر غيرهم، وصعَّدوا خَلفَهُم من بعدهم بالدّعامة الماديّة التي خلّفوها لهم.

كنت انتظر في الغيب صعود ظهر رجل يريحني عناء الجدل الاجتماعي لاحقاً حول تميّز الشريحة التي سآتي منها حيث سيريحني صعود ظهره مسبقاً من غلبة الدّين والفقر وقهر الرّجال وطمعهم، تلك التي فعلتها طبقات بطبقات أخرى ضعيفة، لتمتاز عنها بما فعلته بها، وإلا من أين يستمد الوجيه وجاهته إن لم يكن هناك وضعاء، ومن أين للقوي قوته والثّري ثراؤه لو أن قوة القوة وقوة المال أتيحت للجميع بنفس القدر والمقدار..؟!

إنّ لمالك الشيء الذي لا يملكه غيره أن يترفّع به، فحسبه أنه يملك ما لا يملكه ندّه، وهذه في التّقدير الدّنيوي حسنة له وسيئة بالآخر المعدم.

امتدّ مكثي لانتظار صاحب السلسول، فيما كنت وأطفال الرجال الآخرين خارج العالم الدنيويِّ ننتظر إذن المرور، كنت أقف في طابور الأولاد الذين سيكون آباؤهم عمالاً أشقياءَ وعبيداً وسّخرةً ومهمّشين وكّناسين وحمَّالين وأجراءَ، على الرغم من أنّ العالم يُبنى على أكتافهم ويمتصُّ رخاءه من عنائهم دون اعتراف بفضلهم وقيمتهم، والدّليل ألا رجاء من كرمه حتّى في ذلك العيد البائس الذي خصصه لهم وسماه ـ عيد العمال ـ فهو إنّما يذكّرهم بمرتبتهم التي لا يجب عليهم تخطيها!

كنت ـ إذاً ـ داخل جمهور التّمييز العنصريِّ غير المعلن، تحديداً وسط أولاد العمال الذين اختصّهم الله بطريق عبده العابس واختصّ بهم الطريق، والذين حين يحتفل آباؤهم بعيد العمال يمكثون دون أكل لأن آباءهم ذهبوا ُيحْيُون مراسم العيد!

هناك طوابير لا عدَّ لها ولا حصر، أقربها منا وأقربنا إليها طوابير أطفال الشغيلة المتظاهرين على الدّوام في بريطانيا، وعمّال سكك الحديد والوقود والكهرباء في أوروبا وأسيا والمضربين عن الطّعام والصّائمين عن الحياة، فرغم البؤس الذي عانوه تميزوا عنا بسنوات ضوئية من الوعي، فها هم يحتجّون مسمعين العالم البيروقراطي صوتهم، إنّنا نختلف عنهم في إنّنا نحرث ليل نهار كالحمير والبغال لصالح بقاء الطبقة البرجوازية واستمرارها، ولا نضرب عن الأكل لأنّ الطّعام هو مبلغ الغاية في الحياة كلّها بالنسبة لنا، فالمصران هو عدونا الأعور وسيدنا الذي تسبّب في عبوديتنا بعينه الوحيدة المحدودة المجال!

يظهر أننا لن نطلب منه العتق، ولن يبادر هو به إلينا، مخلدين أقدم علاقة استعمارية في التاريخ مرت بها ذاكرتنا ومازلنا نحتمي بها ونكررها.

إنّ طريق الطّعام هي التي جعلت صورتنا هكذا، فمن أجله خدم آباؤنا طريق العابس وليس انتصاراً للوطنية وتنمية البلد والاقتصاد وتميز الإنسان عندنا، فهذه المشاعر مستبعدة من طريقتنا في الحياة وطريق عبد الله العابس التي تستهدف إنماء ثروة العابس فقط.

لقد كان ملء المصارين أقرب وأسهل من ملء شيء آخر في الجسد، إذ كان الفقر حارس ُملاك القرار على أفكارنا طيلة قرون وقرون ُكتف فيها العقل عن المفاهيم التي ترتقي بحياة أشخاصه فلم يصل خيالهم لأبعد من أرنبة الأنف، وإن تجاوزها لم يتعدَّ أرنبة الأرانب التي يطاردونها بطناجرهم الفاغرة أفواهها.

سألني الولد الذي يغطى وجهه هباب قناديل الفحم لأنّ والده سيكون فحّاماً، يقطع الأخشاب ويطمرها في الطين ويقد فيها النار لتتحوّل إلى فحم يبيعه للناس بالجوال فيتدفّئون به في الشتاء القارس، ويعدّون عليه موائدهم وأدوار شايهم المجترة، متحدّثين متسامرين مخطّطين لغدهم الذي يشبه بلا جدوى أمسهم البعيد.

قال الولد الذي بدت عيناه الخضراوان كعينيّ قطَّ وسط وجهه الأسود:

ألم يأت أحد ليأخذك..؟

قلت:

كلا، مازلت أنتظر لا أدري لماذا تأخر أهلي، لعل المانع خيراً.

سأل:

من سبب التّأخير والدك أم أمك؟

قلت:

حسب معلوماتي طريق عبد الله عابس!

قال الطفل متململاً:

لعلَّ أبوييَّ تأخرا لانشغالهما بتحصيل لقمة العيش، لهذا سأعمل على مساعدتهما بمجرد خروجي من قماطي.

ثم أردف:

التّأخير تحصيل حاصل.

وببعد نظري الذي سأعرف به قلت له:

لقمة العيش في البلاد التي سنذهب إليها لا يجري وراءها اثنان (رجل وزوجته معاً) في الخط نفسه، إلا وكان الثقل على أحدهما أكثر من الآخر.

القوم الذين خصتنا الرّحمة بالذهاب إليهم كأبناء، نساؤهم كالبغال يحرثن أراضي العائلة وأراضي أهل الزوج، ولا يسمح لهن بالرفض، فنار الزوجية أرحم من تنور الأهل، الأب بدكتاتوريته والأخوة بزوجاتهم والأعمام والأخوال بتوابعهم!

قد تكون أمي الآن في الحقل تفلح الأرض وتزرعها وتسقيها وتقطف الثمار وتقمُّ الحوش وتصنع الفحم للشتاء وتنقي الحبوب والمحاصيل وتهتم بدفن حصدة بركة للعام المقبل(24)، وتنظف الجابية من الطحالب بالعرجون، وترد البئر وتسحب الدلاء وتحمل الماء فوق رأسها وتسجر التنور يومياً للخبز وتحلب البقرة أو العافطة أو النافطة(25) وتطحن الحبوب ليلاً في الرحى لأكل الغد وتطفي الماء فوق جزَّات(26) الصوف وتزيل شوك كرموس الهندي(27) في الجابية، وتصوبن الثياب على يديها وتتبن دواب أبي وجدي وأعمامي العزّاب، وتغزل الصوف لصنع الكلمان والعبي(28) وتقطف الزيتون وترصه في الصناديق هو وغيره من محاصيل السانية(29) وتحملها ظهر الكارو(30) منذ الليل فجدّي سيحدِّر بها في الغد مع الحدارة(31) للسوق، أمي تفعل كل تلك الأعمال وأعمالا أخرى ترج ذاكرتي الطازجة وتمجها.

تشقّقت قدماها ويداها من الخدمة في الحوش والسانية وربما لحق التشقق ببويضاتها، فصارت مثل بيضة دجاجة خدشت قشرتها فمذرت.

أنا قلقة على وضعها الصحي.. ماذا إنّ لم تتحملني بويضاتها المتعبة من العمل علي مدار السنة..؟

 أو أن تتحملني ويدخل الهواء من كسرها البسيط فيفسدني عبق الحرية الذي فيه، فتلحقني عاهة البيضة المَذِرَة التي ترتبط بي مدى العمر، فيعيرني بها الكبار ويتعلم الصّغار والعالم الذي يكبر، مناداتي بها فيحسنوا التّعيير!

أخاف أن يستشري التّعب بها فيلج رحمها فينزف وأنا أتعلقه كالقراد حباً للحياة، بينما يصرّ الرّحم علي قذفي خارجه كرهاً لحياتي.

أخاف أيّها الصديق..!

ربَّت ابن الفحام علي حتى لحقني سواده قائلا لي:

لا عليك، قد يكون السّبب في التّأجيل هو أبوك؟

قلت:

أو تظن بأن الأمر هكذا؟

هل لأنّ أمي أنجبت بنتين قبلي ففجع أبي وفقد القدرة على الإخصاب؟

لكم أخشى أنّ تلحقه التابعة!

أم تراه مشغولاً مكدوداً في الصحاري، ومهموماً بطريق الليبيين التي ستخرجهم بإذن الله من القوقعة ومن ظلمات الجرة؟

إنّه رث الثياب، مسمر البشرة، ملفوح الجلد، متخّشب النظرات، خشن اليدين والألفاظ، غليظ القلب، بارد العواطف، مفخّخ الأعصاب، منفوش الشعر، حليق الوجه إلا من إصبع هتلريِّ يصعد شفته العليا.

تعبت قدماي من الوقوف يارب..

تمنيت لو تعطي طريق العابس إجازة للرجل السابق وصفه فيقود الشكوانتة ليومين وليلتين كي يصل المرأة المقتولة بالزمن والكد والعناء وخدمة العيال والحظ العاثر والوحدة، فيقتل أحشاءها بي، مرهقاً من اهتزازات الشكوانتة علي الطرق الصحراوية التي صنعتها خفاف الجمال والبعير، متألم الظهر أبداً.

لامناص من هذه الظروف للخلق والتكوين فلا أفضل منها، حسنا لأشكر الله فأنا أحسن من غيري بكثير.

إن زوجته تمحط ظهره بزيت الزيتون الغاوي(32) لفائدته العظيمة في حماية السلسول المسئول عن بقاء السلالات الطينية ونبات الذرية.

أحسّ أصابعها في خليتي تمتحني فأكاد أقتل تحت يدها، لذا مكثت عالقة مثل العلقة بسلسول الرجل المحبط المنهك من أعمال الصحراء ومن قفزات الشكوانتة عبر قفار ليبيا وأراضيها الصّحراوية والرّملية والحجرية وشمسها الجهنمية وقلبها القاسي الذي اختار لنا حياة صعبة تتطلّب الصّبر الطّويل لكي يستمر الحيُّ منا حياً..!

قلت للطفل الذي ينزل أنفه سائلاً مخاطياً أسود (لونه الطبيعي أصفر مخضر لدى أطفال الطوابير الذاهبة إلى الدنيا) قلت:

وأنت ألم يأتِ أحد لأخذك إلى هناك..؟

منع الطفل السائل المخاطي الأسود من النزول على فمه بسحبه من الأنف بواسطة الشهيق قبل أن يجيبني:

أعرف بأنني سوف أولد ومن أنفي ينزل هذا المخاط الأسود الذي سيدخل فمي وكأنّه ملعقة من فحم، قبل أن أتمكن من التّحكم به، وأعرف أنّ أبي الذي سيقرفني كان مثلي، وبعد أنّ كبر جفّت مياه المجاري السوداء منه واختفت في صدره مكونة بلغماً أسود غير رئتيه إلى إسفنجة مطبخ قذرة.

وأعرف كذلك بأنّني سأسعل مثل أبي وسيعالجونني بحليب الأتان ليتوقف سعالي الديكيّ، وإن لم تكن المشكلة ديكية أو دجاجية ستصبح مشكلة حميرية أعنف وطأة، طالما الشبه قائم بيني وبين الحمير إخوتي من الرّضاعة.

سأحبّ الحياة كما أحبّها أبي بصوت الحمار الذي تلبسه وتسبّب في طلاقه من زوجاته، ومن أمي مرتين واقترابه من الطّلقة الثّالثة ذات المرار، لولا الدم الآدمي الذي يجري فيه ويوقفه عن الحران مذكراً إياه بآدميته التي آنساه إياها العمل والبخت، فهو في أصله إنسان وإن عاملته الحياة وأناسها معاملة الحمير والبهائم.

سأكون في شبابي عتّالاً مثلما كان أبي يعطي ظهره مثل الحمير لتصعد عليه أمور إنسانية جمّة، تنساها البشرية له فيما بعد لصغرها.

يبدو أنّ والدي أعطى الحياة ظهره مقتنعاً بما لاشك فيه أنّه خدام للآخرين الذين وجدت الحياة لهم ومن أجلهم، أعطى عموده الفقري لحمولات الموانئ والأسواق وسكك الحديد ومواد البناء وأمتعة المتنقلين، وقد حدثت له إصابة عمل أحنت ظهره على الدوام لمن لايستحق.

لا أشك بعدم وجود ذلك المخلوق رغم جزم المنطق غير العادل للحياة بوجوده!

كانت حياة أبي المحنية والمنحنية صعبة على عموده الفقري وعمداننا فيما بعد، حين انتقلت إلينا من بعده فتسمينا بها، ثم قيل عنا أبناء الفحّام لما أخرجنا الحظ الحسن من تأجير الظهر إلى سوق الفحم ليخدم أبي مع العبيد في حرق الغابات وتعرية الأرض من غطائها الأخضر.

لقد تجلّت مظاهر حسن الحظّ ذاك في اصطباغ والدي بالصبغ الأسود، فمجرد اسوداده سيرفع من قدره عندما يحكم البلاد ذوو الجلدة السوداء، ومن حسن الحظ أيضاً أن المفاهيم في هذه البلاد سرعان ما تتغير بالمال والقوة متى تزامنا وليس بالشكل أو القيمة.

هكذا خلص أبي من شبهة الحمير ونمى إحساسه بالدفء، كان ذلك المغنم الوحيد الذي كسبه من المفحمة وأكسبه لأمي التي تعمل معه في تقطيع الأشجار وحرقها.

أجل إنّه عمل شاق لا يستطيعه إّلا الرّجال، لكن أمي عملته نزولاً عند متطلبات الحياة التي تقسم الظهر ومتطلبات طاعة الزوج أيضاً.

كان الغبار الأسود يغطي وجهها معظم الوقت، وينكر أصولها التّركية البيضاء واضعاً شبورة بينها وبين أبي، ربما هي التي عطّلت قدومي.

متعبان جداً من الغبار هما، مسودان، جافان، مرتميان أواخر الليل كالبهائم.. فآهٍ من الغبار، آه من الغبار الذي أبقاني إلى السّاعة في الطّابور.

ضجّت الطوابير الكثيرة وراءه.. آآآه.

خمد الطفل... وعلى الجانب الآخر للآهة كانت طفلة مُهرنِفة تبكي طوال الوقت، والملائكة الصغار يسكتونها بالألعاب والحلويات.

إنها تريد أمها، وكلنا نريد أمهاتنا لكننا لا نبكي مثلها، يا للمسكينة منظرها يقطع القلب، كأنها في أول يوم مدرسي لها، تبكي بألم، خاصة عندما يقول الأطفال إنها تُرْنَى(33) وأمها بنت من بنات باب الله، فهي من ضلع (هَيَّان ابن بَيَّان)(34) تبكي رغم نسب أمها إلى الله تأدُّباً واحتشاماً ليبيين فائضين على من اقترفن إثم الزنى مع المُنسِبين، فالله أولى بهن من الناسبين، وكأنهم الأبرياء وهو حاشاه المتهم!!!

ماذا تقول الطفلة عن شعب يتجاسر على الله ولا يجرؤ على مواجهة حكامه وطواغيته وفقره وجهله ومشاكله؟!

الله السمح السلام المسلم بوحدانيته وفردانيته، انتهكوا الحدود معه، فجعلوا له بناتهم المومسات اللاتي أجبرتهن الظروف أو لم تجبرهن على الفجور معهم، أما هم فأبرياء من السلسول إلى النخاع!

لأنه يستطيع التصرف وهم لا.. ويستطيع ستر فضائحهم، وهم لا.

وبما أنه لم ينظر لهذه البلاد التي وجدت على سبيل التجربة فإن رمي الخطايا على باب الله أسهل ما يمكن أن يفعله الليبيون في ليبيا بالله!

يبدو أن رحمته تعالى زادتهم جشعاً، فخصصت الحكومة أرضاً من ممتلكاتها تتوسط السوق البلدي (احتفاءً باتساع أملاكها) بنت عليها بيوتاً لبنات الله لزيادة الاقتصاد المنوي، فانظر لهذه الحكومة الرشيدة كيف لم تفتها صغيرة ولا كبيرة!

تلك الطفلة كآلاف الأطفال ممن يعود نسبهم إلى الله، تبكي شعوراً عارماً بالوحدة، مع إنّنا مجتمع الطوابير العالمي كلنا أحباب الله وأحبابها، إلا إنها تبكي مصيرها القادم من الآن.. إن لها عينين خضراوين، وبشرة سوداء داكنة انساقت إليها عنوة من والدها، فظلت الأثر الوحيد منه عليها.

قال طفل سمين أبيض متّسخ:

يقولون بأنّ الأطفال هناك يلعبون في الشوارع المتربة، وما من أحد يعيش معهم طفولتهم، ينكبون على القمامة ليستخرجوا منها ما يصنعون به ألعاباً، يحيلون بقايا المواد المنزلية المستعملة إلى ألعاب، الكراتين والعلب والزجاجات الفارغة والجوارب المعطوبة والأقمشة البالية، ينشئون منها عالماً يسع خيالاتهم مرحباً بهم من عالم مترب مقفر يشبه ألعابهم.

قال آخر:

ماذا سنصنع بالوقت الذي نكبر فيه..؟

إنه طويل... مملٌّ، والبقاء الطويل في مرحلة الطفولة خرق لقوانين الحياة في ليبيا، يجب أن ُيربّى الذكور على أنّهم رجال صغار، والإناث على أنّهنّ نساء صغيرات.

هل تفهمني يا صديقي.. يجب أن نكبر قبل الأوان وكأنّّنا في سباق، طالما أسباب فوت الشيء عن حدّه كلّها موفرة لنا.

يا الله.. لكم هو طويل الطابور الذي ألفتنا منه، والذي سيؤلف مجتمعنا ذا اللسان الطويل والإنجاز الضئيل!!

تعبت قدماي يارب.. وأنا قد تعبت...!!

قالت طفلة متخوّفة من أحزمة الكاراتيه التي تحتزم بها النساء في ليبيا عندما يعملن:

يقولون بأن الأمهات يربطن أطفالهن إلى ظهورهن، ويعملن بهم أعمال البيت والحقل، فكيف تتصور نماء طفولتك مربوطاً خلف ظهر أم مجهدة؟!

هل قدرك أن تغادر البطن إلى الظهر..؟

وينام الطفل، ويموت أيضاً مختنقاً من الشدّ دون أن تعلم به أمه طالما لم تفك رباطه، ويسقط من يسقط منهم في حلل الطبخ الكبيرة، فيموت غريقاً في الطّبيخ الذي يغلي دون أن يتيسر إنقاذه بالمغارف والأدعية!

تدخل في الحديث طفل له أنف طويلة سيكون بصاصاً ابن بصاص:

يقولون بأنّ ظروف أمتنا صعبة، فهي مستقلة منذ بضع سنوات، وتتخبّط في إدارة شؤونها ولا تدري كيف تقود سفينة الحياة وحدها، بلا خبرة سابقة أو معونات صديقة، ليس لأنّها من دون أصدقاء إنّما لأنّ الفقير لا يرغب في صحبته أحد، فما بالك إن كان فقره عقلياً.

ثم فجأة انفتحت للأمة طاقة السعد مع أول بقعة نفط وجدت فوق رمال صحرائها، بصت عنها َصَدفة (shell) بالصُدفةِ، فكثر الطامعين حولها مدعين صحبتها، ما هو المتوقع من فقير اغتنى، ووضيع ارتفع، ووريث غير راشد ورث ثروة هائلة لم يستخدم العقل في تصريفها، وإن استخدمه فهو استخدام صغير لعقل مثل حبة اللوبياء بالكاد يمده بفكرة أو فكرتين؟

ولا حرج عليه فهو سليل معارف فكرية معقّدة تشبه حزم الفجل المتعفن واللفت المخلل!

إنّ صورة الفجل واللفت المعتادة في ليبيا آنذاك تعني أنّك إن َشبِهت حزمة ضوء فإنّك كائن من كائنات بسم الله (عالم الجن الذين يسمى المرء باسم الله لكيلا يضرونه) أو "ضائع" صائع عديم خلق ورديء نسب!!

في طابورنا كلنا نتشابه تقريباً في الاقتراب من الفاقة أو الابتعاد عنها بقليل... ثمّة مجموعة بسيطة مميزة، اصطفت كلها بجوار بعضها كونت شلّة بمفردها لم تنظر إلينا ولم تختلط بنا، كانوا زنوجاً سوداً وأعلاجاً حمراً، وما بين هذه وتلك يشيعون أنوفهم، ظننتهم لعائلة واحدة عندما توحّدوا في رفع الأنوف الفطس والقوقازية، لكن ُصحح لي، أنّهم أولاد الذوات والعائلات المرغرغة الرغنة، أرجلهم ليست حافية وأظافرهم مقلمة ولا تنبعث منهم روائح العرق والبول والنتن، شعورهم ممسدة ومرايلهم نظيفة وياقاتهم بيضاء، تجري على ألسنتهم عبارات لا نعرفها ولم نألفها، هي إمّا من لغة عرق الأم أو من عرق الأب، هم أولاد الطبقة الحاكمة التي ستلد حكامنا فيما بعد.

كلما اقتربت منهم الطفلة الباكية لكزوها بعيداً عن محيطهم إمّا بمؤخراتهم ذكوراً وإناثاً، وإما بالمقدمات فقط إذا كان اللكز مذكراً!

عانى طابورنا يا إلهي من عدم الثبات الانفعالي، ومن التّقلبات الذهنية الهوجاء، معتقداً في نفسه أنه أعقل وأكيس وأرزن طابور على الإطلاق، لن أتعصب إلا للحق فأقول ـ وإن همساً ـ انتشرت بيننا عادة التحدث لبعضنا وعن بعضنا بالسواطير، وعادة الخرق وتضخيم الذات.

عرف الفتيان الذكور في طابورنا بالوقوف على ساق واحدة، وإسناد الأخرى للحائط مستغنين عنها للجدار، مثبتين على أنفسهم أنّهم ليسوا أمة مشاءة في سبيل الحياة، ينتظرون أن تأتيهم هي صاغرة، يهشون الوقت كما الذباب والبعوض فلا يطعمهم إلا كد كبار السن، بينما عرفت الفتيات الإناث بالكلام الكثير عن بعضهن واقتفاء أثر القمل في الرؤوس الراكدة.

لقد كانت جلدتنا يابسة من الخارج، رقيقةً من الداخل كالقطمير، لا شيء يحميها من التّمزق، كالطوابير الأخرى التي حمت كيانها بالقراءة والمطالعة والتبحر في العلوم والفنون الجميلة وإجراء التجارب لإثبات الحقائق التي لم تكن حقائقها بينة لها.

لنا نظرة نقدية خاصة للموضوع الوجودي، فالجهد الذي لا تكون حصيلته نقدية وفورية تعبئ الأوردة النقدية بالدم وتملأ المصران لا ينبغي أن نصرف إليه الذهن أو الوقت... إننا نختار ما يجب ألا يجعل أقدارنا صعبة كأقدار أجدادنا وآبائنا، نعاني فقر الجيب وهشاشة العظام والعظماء.

وفي هذا العالم الجميل رغم الانتظار (لست أدري لماذا كنا ملحّين على سرعة القدوم؟) كانت الأسماء تتراءى لي خطوطاً مستقيمة ولانهائية تزين الأفق من فوقنا، كما تتزين سماء المدن في الاحتفالات الرياضية، عندما يحتاجون اسماً يقطعون طرف أحد تلك الخطوط، فتنقلب القطعة في الحال اسماً، وتأخذ شكلاً مختلفاً عن الخط الذي اقتطعت منه، يدعون أنّهم اختاروه لكن الصواب أنّه هو من اختارهم.

كانت شمس الأسماء تسطع على طوابير الأطفال البشر، فيجعل نصيب هذا منها أكثر وأجمل من نصيب ذاك، فللعرب أسماؤهم، وللأعاجم أسماؤهم وللشرق أسماؤه وللغرب كذلك، ولكل جهة أسماؤها بحسب المكان، والزمان والمزاج، والمناسبة، والتقاليد والأعراف، والتشاؤم، والتفاؤل، فالاسم شعاع ضوء مستقيم غير متناهٍ مستلٍّ من كرة كبيرة تتدحرج عالياً منذ علم الله آدم الأسماء كلها، وإذا نظرت إلى أي اسم تكونه لن يمكنك لضآلته على تلك الكرة أن تراه أو تتصوّر نفسك حامله أو مالئه!

كثيرون في طابورنا لن تكتب لهم النّجاة من عديد الأسماء الليبية القديمة، التي سيلاحقهم قبحها من أجيال السلف، وكأنّ بينها وبينهم ثأراً، فيصابون بعقدة العَلَم الكريه، ناقمين على الاسم ومطلقه ومناسبته وصاحبه الأسبق مدى العمر.

الحقيقة إنّني توجّست من الحبس الانفرادي في اسم غير جميل تسمّيني به العائلة تيمناً أو نحساً أو كرهاً أو تودّداً لخاطر أحدهم أو إحداهن، وقد طلبت من الله الموت على أنّ أحمل اسماً قبيحاً ما حييت.

فضاء السلسول

الماء يغلي في المرجل...
وسكّرٌ يذوب في الماء...
وملعقة تتمدّد في السّكر...
 السّكر يحلّ في القهوة...
 القهوة تفور في المرجل...
 تنسكب قليلاً على الموقد...
نصف المكتوب لا يأتي...

ماؤك يغلي...
هيا إليه...
سّكرٌ...
فملعقةُ...
فقهوة...
تكتبك في سطر مبتور...
لن تُقرأ إلا بالمقلوب!

حتى الآن لم يتمّ تشييئي، عبارة عن لا شيء أنا أقرب ما أكون إلى مادة الجسد أو مسحوق منه، لم يتخذ طبيعته، يترجرج مثل الجلي في نفق الجسد الحامل، حيث سأكون محض هلام يلتصق بجدران الدهاليز السرية للجسد، حتى يحين التشيؤ وتحولني جرثومة الفعل الجنسيّ في بلازما الدم إلي شيء سيتقرر أن يكون حياً.

داخل هذا النفق المدلهم أسرار وحوادث مجمدة من الماضي السحيق، الذي يعود إلى حادثة النزول الأولى تلك التي بررت وجود فتحات في الجسد الآدمي من أجل نزولٍ مستمر ومتواصل.

هنا أمكنني رؤية هلام ملايين البشر، منذ الوقت الذي لا يعلمه أحد سوى مالك الوقت، وصاحب قرار التسيير بذاته الكائنة بلا علة لكينونتها، المافوق الماهيات والتّناهي، المحسوس غير المرئي، المستدل به عليه وعليه به.

يشبه النفق الذي وجدت به، حفرةٌ لا تتسع لغيرما حاكم أمتي لاذ بالفرار، كان النفق مرصوصاً بانتظام حتى ليكاد يختنق بخلايا الأجداد وخمائرهم، لم تغادره أو تنقرض منه خلية، وإن كان هو المعني بذرفها إلى الأديم الذي يجعلها من مكونات الأرض فيما بعد غير المعلوم وقته!

سأخرج على هيئة هلام لزج مثل المادة اللاصقة سريعة الجفاف، يقترب شكله من شكل العين في المخلوقات الحّية لإنوجادها داخل وعاء مائي رجراج.

من هذا سأبدأ رحلتي، فهؤلاء هم باذرو تكويني الدموي واللحميّ، النفسي والجسدي، العقلي والنزوعي، أجداد جذوري التي ضربت في الأرض وستضرب فيَّ.

كنت مع صورهم وخصائصهم نتعلق النفق الأشبه بجذع نخلة تاريخية لا يرويها المطر، لكنّهم في أعلى مكان منها، لن ينزلوا معي عندما أنزل، لأنّهم نزلوا قبلي في أوقات متفاوتة من عمر الحياة، وسينزلون بعدي وفيَّ شئت أم أبيت ذلك الحلول.

تحت الشنة(35)، نشأت فكرة الاستقرار وتكوين أسرة، كانت فكرةً اهتزت لنشأتها الشنة مؤيدة عقل (إمراجع) الراجح الذي ارتج هو أيضاً بسبب مادة الموضوع التي لم يخبر فكرةً أكبر منها مدى رفقته لمراجع، إنّ عقل إمراجع لم يعتد منه توظيفاً له من قبل بهذه الكيفية فلا مندوحة من أن يرتج قليلاً.

يخاطبه قائلاً:

(خلاص يامراجع كبرت... شوفلك شي وليه تحرقلك اللقمة وديرلك ظنوه تلقاهم في عقاب العمر)

هكذا ُخطِبَ إمراجع، وبعد اقتناعه بدأتُ (الحوحزة)(36) للنزول، أجزم بأن من أنزلهم إمراجع قبل العثور على حرثه، حكموا بالموت براءة، فبطانة الفتيات البدويات اللائى استقبلن الجل لا تمتلك الشرعية لاستقبالهم، لذا تحوط صاحب السلسول وصويحباته من أن تنمو خلية مخصبة داخل البطانة تتكلم عن لا شريعة النزول حيث لايمكن إسكاتها!

هنا يوجد كل شيء وأي شيء، كل كبيرة وصغيرة من عمر الحياة سادت أم تنحت، محفوظ في مادة حافظة تقهر الزمن وعوامل الإبادة داخل مستودعات دقيقة تؤلف نفسها، سوف يستغرق العالم قروناً طويلة لكي يتوصل إلى خريطتها الإنشائية.

هنا توجد مطبعة قديمة ـ غير حكومية ـ للسمات الظاهرة وغير الظاهرة، للعيوب والمزايا، التصرفات والانفعالات، الأمراض والتكهنات، الأفكار والطموحات، النزوات والقدرات...

على سبيل المثال أمكنني رؤية خصائص جدّي الحادي عشر الذي سأحمل بعض صفاته، كان فصيح اللسان ممتلئ الساقين، متعجرفاً، لا يتحكّم في الفساء حتى أمام الخليفة وهذا ما تسبب في مصرعه (سأختلف عنه في مصرعي المخجل الذي يسببه حبس الفساء) بينما كانت امرأته ـ جدتي العاشرة ـ امرأة تحفظ السّر لمدة يوم واحد فقط، طويلة القامة، حميراء، تفهم متى أحبت وأرادت، تغوي الرجال دون أي مستمسك عليها، إن رأيتها ستصلي على طرفها دون وجل (وهكذا سيكون الحال معي).

أما جدّي الرابع فقد كان كثير الكلام حدّ الملل، لديه ضعف سمع وراثي، طيب القلب لكن متى غضب انقلب إلى ثعلب ماكر وباعك بقرشين، إنه غير مادي لكن رغبته في بيعك بالقليل لابد من تحقيقها، لذا لا تستغرب إلحاحه على بيعك بفلوس منتهية لا يستعملها أحد!

سيتقرر أن أرث من كل ساكن من سكان النفق خصلة معينة، تعرفت إلى الجدّ الأهمّ لأم أبى حسين، شهيد الوطن، وإلى ا لجد الأهم لأبى أبي الشاهد على عصره محمد زينوبة، فلم يتيسر الخلاص من بعض سماتهم.

ثمة خميرة ينقصها الماء، سيعطيني نصف المتخمرين بها نصف مورثة البهجة، وهي مورثة معنية بالضحك دون سبب، سيكمل النصف الآخر للمورثة نصف المتخمرين بمورثة النكد لأقل سبب.

دس الجد الأوسط مورثة من مورثات الغباء العام في بروتين خليتي، لأنه لم يجد من يتناقلها عنه، حينما كان آخرٌ ألمعيٍّ يخلط مكوناتها بي، وكان يصيح " زيدوني أمية، البني آدم اللي جاي تو يطلع وجهه صحيح... بسرعة شوفولنا جدنا بو قربه وين..؟

يصيح به أحدهم من آخر النفق:

قالولك ما فيش خبزة.

ـ دزيتك على أميه مش على خبزة؟!
ـ عارف والله... لو كان فيه أميه تو يكون فيه خبزة، لأن العجينة ما تنعجنش بالأمنيات ولا بالصياح.
ـ وعليش ها اللفة الطويلة قولها م الأول؟
ـ ما تأخذنيش... أنا مخصب بجين اللف والدوران.

تعرضت طائفة كبيرة خلال الحرب والسّلام لغازات التّفاهة وقد حدث لها انقلاب جيني تسبب في ولادة أفراد تافهين يحاربون بصرامة مثيرة للعجب كل ما هو غير تافه!

كان منهم أفراد ذوو شأن في التّفاهة، سيكونون أشدّ في المستقبل، لأنّ نموهم الجينيِّ نشيط وسريع وهذا يثير الإعجاب بهم على تفاهتهم ويجعل المرء يضرب المثل في قوة الإنجاز بالتّفاهة إذا أراد التّعبير عن حسن الأداء!

فجأة حين كنت أتملمز(37) في دهاليز النفق صادف مروري مرور قوات المسح الشامل، الباحثة عن مورثات تضخم المثانة وطول اليد وكبر البطن وضآلة حجم الدماغ مع اتساع حجم العينين وانسياب الشعر.

كان فرد قديم يتخفى، مفضلاً عدم الكشف عن وجودها فيه، وقد نجح في إخفاء تلك الخليقة ليغادر بها إلى الحياة الدنيا، حيث وإن خالها تُخفَ على الناس سُتعلم ِ.

ارتطمت في طريقي للأسفل بفرد قديم يهرب من شيء غير بيّن، سألته عن السبب فأجابني على عجل:

ـ أفتش عن نفسي بعيداً عن المكان الذي وجدت نفسي فيه.

بعد هروبه شعرت بمغناطيس شديد جذبني إليه لكنّي لم أعثر عليه، قيل لي بأنّه كان هكذا ومضى هكذا، أحسب أنه هرب إلي داخلي، فقد شعرت بريحه هناك.

الوجود النسائي هنا كئيب، تختص بحملهن حيوانات خاصة ذات مسير بطئ وبدائي لكنه صبور، هناك جدة من جداتي القديمات قتلت بوضع الملح على جراحها التي خَلَفهُا الاستمرار في جلدها، سيكون خلفها حاملين لهذه المورثة المتألمة حتى مع عدم وجود جسم غريب يحمل السوط، سيصبح الجلد ذاتياً وسبخة الملح داخلية التوالد وغير معلنة.

امرأة أخرى سأكون متسلسلة من نسلها لا تهتم بنتف شواربها، تمتهن معالجة عقم الذكور والوخز بالمخيط (المخيط الليبي هو جد الإبرة الصينية ) صعبة المزاج طيبة القلب وتلد أطفالها على كبر... امرأة أخرى تملك في فمها لسانين وفي صدرها رئتين وعدة بلاليع... وأخرى لحمها أخضر لكثرة الوشم عليه، إنها ليست خريجة سجون الدولة بل سجون الحياة!

تلك هي جدة صاحب السلسول المباشرة.

وكانت امرأة ترحي الحبوب بالرحى السوداء، وتغني بعض الأغنيات التي تدعو فيها علي علاقتهما (هي والرحى) بالانقطاع في أجل قريب، وأخرى تغني على صوت الرحى أغنية لأخيها الذي غيرت مشاعره أفعال الدس لها:

خييّ لو كنك خيي صحيح   ماتاخذ القول فيَّا
ولو كنك خي النساوين   اشوي ما قالن عليَّا.

وكانت عجوز تضرب بنتاً جميلة من بناتها تتأخّر في العودة من المراح، من الهيأة التي تضربها بها يبدو أن شيئاً أهمّ قد تأخر عنها، شيئا تعرفه النساء لبناتهن البالغات بـ (الحرمانية) وهو أحد مسميات الدورة الشهرية التي ربطن بينها وبين أفعال التّحريم، يبدو أن شيوع تلك التسمية سببه كثرة غياب الحرمانية عن الكثيرات ممن تأخّرن، فمسّهن ذكور في الخفاء مساً عنيفاً مريداتٍ وغير مريداتٍ، فتأخّرن عن الحيض وتأخر الحيض عنهن!

إن ثمّة نسغاً يتحرّك في بلازما من عبروا، كان مسئولا عن تخمر بعض الصّور الذهنية التي لها علاقة بالقتل والإجرام والتضحية بالنفس والجهاد ومبادئ أخرى يسمونها وطنية...!

ثمة من لا يملكون روحاً من تلك على الإطلاق لكنّهم سيوجدون إلى جانب من يملكونها حتّى لا تبور السّلع أو تتساوى الأشياء فتفسد الحياة.

بدأت جولتي (التحوحوزية) مع (تحزز صاحب السلسول على الزّواج) وكلما أوغلت في التحوحز رأيت أقواماً كثيرة غبرت، بعضها متسّخ قليلاً وبعضها كثيراً، فاحت عليَّ رائحة الجسد الإنساني بقوة، فالبعض أنجب ذريته دون استحمام مستعجلاً بلا سبب للعجلة!

هناك فقط يوجد من لن يحتاج المرء إن تعامل معه لعقد أو شهود، إذ أنّ كلمته تكفي كميثاق وثيق، والأكل من طعامه أو إطعامه عهد بعدم الخيانة والتّخلّي، وشدّه على اليد التزام صريح بالوعد، هذا الذي يفعل ما يقول ويقول ما يفعل دائماً.

وكان هناك من ينكرون معاناتهم من أمراض عضوية ونفس جسمية سيعطونها لغيرهم مع متلازمة الإنكار، ففي الأورام العضوية سيكون الجد (بو دحقلة) الزعيم بلا منازع وسينكر بودحقلة، وسيكون منهم معرق الإبطين والعالم بأمور الناس والفاسق والصّالح ومن لا يتدخل في أمور غيره والذليل والخانع والشجاع الأهبل الذي تصرعه شجاعته والوسيم الذي يخدعه جماله والغرير النزق الذي يوقعه نزقه في مطبّات، والكريم والبخيل والنمام والمنافق والسيد الهمام وأخو الجّهالة والمترنّح والجائع العفيف، والشبع الطّماع والضّراب والضرار والمخدوع المستمتع بخديعته، والمسكين والغالب، والمغلوب والطفيلي، والجبار، والدكتور، والمتطلب، والدكتاتور، والعادي، والسقيم، والمجامل، والمرائي، والصادق، والفهلوي، والقواد، والزاهد، والقاتل، والمقتول، والفصيح، والعيي...

لكن لن يسعني الآن أن أقول بمن من هؤلاء سأتصف؟

القائل: وليل كموج البحر أرخى سدوله..
والقائل: ودك غير تمشي دوم جالي..
والقائلة: يامَّه القمر ع الباب..
والقائل: خليه يخش.
والقائل: مش وقته.
والقائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني..
والقائل: وطوابير الجمعيات وطوابير مص الدم ونتف الريش.
والقائل هيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين..!
والقائل: ماجابوك عرب يا مريم..!
والقائل: الرُّبُّ في عقابو
والقائل:الحي ما تشكره نين اتحطه تحت الحيط والتراب.
والقائلة: انريدك اتهون اتغلا___غير يا عزيز أيش درتلي.
والقائل: احرص على الموت توهب لك الحياة.
والقائلة: حتى عزيز كيف الناس___امعاهم ابقي عين شامتة!
والقائلة: وامعتصماه..
والقائل: هكا بالقدا دير روحك مش سامع
والقائل: ما بي مرض غير دار العقيله.. وحبس القبيلة.. وبعد الجبا من دار الوسيله.
والقائلة: أحبك لا طمعا بجنة ولا خوفاً من نار.
والقائل: لو كانت الأمنيات أحصنة لركبها الشحاذون!
والقائلة: ياجرحي خليك بدمك، نين ايجيك عزيز يلمك.
والقائل: حصرم في عين من لا يحب العنب..
والقائل: الجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء، فالجبان يفر عن أبيه وأمه، والجريء يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحله، والقتل حتف من الحتوف، والشهيد من احتسب نفسه على الله.
والقائل: المرء مع من لا يفهمه مثل السجين.
والقائل: اختلاف اللغات مثل اختلاف بصمات الأصابع لا يعوق الأيدي عن قذف الحجارة.
والقائلة: نسم علينا الهوى من مطلع الوادي.
والقائل: إذا استطاع رجل وامرأة أن يتعانقا بعد انقضاء رعشة الجنس فلن يفترقا أبداً..!
والقائلة: إن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار.
والقائل: الغالي بطا ونا أمعلق عيني في كل يوم أنقول تو يجيني.
والقائل: أيها الفم إنك فوهة الجحيم..!
والقائل: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
والقائل: في شارع البزار ريت إغزلة.
والقائل: شام ياذا السيف.
والقائل: ليام كيف الريح في البريمة
والقائلون... والذين ما فتئوا يقولون... والذين سيعيدون ما قيل... واللذين لم يقولوا شيئاً بعد... واللذين يريدون القول لكنهم لا يقولون ما يريدون.

مررت بشيخ هرم ذي لحية بيضاء طويلة وشنب كالمقشة، بجواره شخص آخر يغربل أشياءه في الريح، كانا يترصدان مروري ليعطياني شيئاً منهما، يقول الشيخ:

لقد استعجلنا بدفن البنت حية..!

فيجيبه الآخر متمهلاً:

لا عليك.. حاول المرة القادمة أن يكون المولود ذكراً، فالذكر لا يعيره شيء، الذكر صانع عار الآخرين..!

وكان ثمة من يقول لآخر:

أنت ممنوع من النزول الآن لحملك مورثات اليقظة التي قد تبقيك صاحياً زيادة عن الحد المعمول به لبقاء المرء في صحوة.

وآخر يقولون له:

أنت أفكارك موغلة في القدم لذا ستقطع سلالتنا إن سمحنا لك بالنزول.

وآخر يقولون له:

التلوث العائد لأعمال الصرف الصحي أثر في الجينات، لذا سنؤجل موعد نزولك حتى تجد حكومة أبيك حلاً صحياً لأعمالها.

وآخر يقولون له:

إذا نجحت في اختبارات الذكاء سنسمح لك بالنزول، لأن كل من نزلوا اكتشفنا أنهم يعرضون البشرية لغباء مفرط، وقد وصلنا الدعاء علينا بالشر، لأننا زدنا عدد الأغبياء على رقعتنا الجغرافية وصدرناه لما وراءها.

السؤال الأول:

رئيس أي دولة تعرض يوم الجمعة الماضية لمحاولة اغتيال..؟

الممتحن:

وهل نجحت المحاولة..؟

المختبرون:

أنت تجيب فقط لا تسأل..؟

الممتحن:

إني أتحرى الجواب لأن المحاولة إذا تمت بنجاح فهذا يدلني أن المرحوم ليس من رؤسائنا، وبالتالي عليَّ تغيير مسار البحث، أليس المطلوب هو معرفة إمكانياتي على استخدام ملكاتي..؟

المختبرون:

انتهى الوقت، السؤال الثاني، رئيس أي دولة يتعرض كل جزء من الثانية إلى السخرية..؟

الممتحن:

هذا أغبى سؤال، والإجابة عليه تعني المزيد من الغباء.

المختبرون:

حتى الآن تبلي حسناً، طيب رئيس أي دولة يتعرض يومياً للمحبة سواءً أكانت هناك انتخابات أم لا..؟

الممتحن:

إنه الرئيس الذي يدعى " كل الرؤساء العرب"

الممتحنون:

انتهى الأمر... برافو... والآن عليك أن تمرّ بلجنة الامتحان المعنية بشؤون العلم.

كان رئيس اللجنة شخصاً مذكراً أحيانا ومؤنّثاً بعض الأحيان، يضرب أهدافاً لا تأخذ الواقع في الاعتبار.

سألني دون أن يلتفت نحوي:

ـ إذا دخلت المدرسة فما أول شيء ستفعله يومياً؟
ـ أقف لتحية العلم.
ـ ولماذا؟
ـ حتى لا أنساه.
ـ وإن لم يكن هناك علم؟
ـ أغيب عن المدرسة حتى يحضروا علماً.
ـ وهل لابد أن تكون التحية ونحن وقوف؟
ـ ضروري، لأن جدنا أحبَّ واقفاً، وبكى واقفاً، وقال واقفا "قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ... بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ "
ـ شاطر، الآن إلى أسئلة الرياضيات، لنفترض بأن الأعداد الفردية، على فكرة هل تبدأ الأعداد الفردية باسم أم بعدد..؟
ـ إذا كانت تبدأ باسم فهو لابد وأنّ يكون اسماً لحاكم عربي، أما إذا كانت تبدأ بعدد فإن اسم ذلك العدد لابد أن يكون على اسم واحد من أولئك الحكام!
ـ ممتاز، لنعد إلى سؤالنا الذي يفترض أن مجموعة من الأعداد الفردية تقيم حفلاً خاصاً بها، وقد ألحَّ الرقم 2 على حضور الحفل فمنعته الفردية، فسألهم وهو يمد رأسه داخل القاعة شاماً رائحة الوساطة، لماذا الرقم 8 موجود وهو ليس فرديَّاً؟!

ماذا تقول لو كنت مكان المسئول؟

ـ بسيطة... ألـ 8 هو في الواقع صفر يحزم وسطه للرقص.
ـ أتنبأ لك بمستقبل مشرق في خير أمة أخرجت للناس، امضِ الآن إلى اللجنة التالية..

كانت لجنة الجغرافية مصابة بالطرش المتعدد الأوجه، أحد الأجداد يكلم آخر، يجري معه حديثاً تأملياً:

ماذا كانت هذه القطعة من التّراب في طفولةِ العالم أي عند نشأة الوجود.. قبل أن تتحول إلي بيت كبير لنا، ماذا كان هذا البيت في صورته السحيقة؟

يتنهد الآخر قائلاًً:

يقول أجدادي بأن أرضنا كانت مكباً لذرق الطيور وروث الحيوانات والبشر عند بدء الخليقة، حيث تأتيها هذه المخلفات من مختلف الأصقاع وقد عانت نتيجة ذلك من الخصوبة الزائدة، صارت تفرز حاجتها الزائدة من الخصوبة دون أن يطلبها منها أحد، إن الخصوبة التي توزعها وتبخرها في الجو تجعل التّحكم في الرّكض الحيواني إليها أمراً صعباً بالنسبة للدائسين على ترابها.

أقف أمامهما فلا يرياني وعندما تطرق أسماعهما كلماتي يتساءلون:

من الطّارق..؟

هل يمكن أن يكون القادم هو القرن الجديد، لعله هو، فالقرن الأوّل عندنا، أما الثّاني فهو لم يأتلف بعد.

يقولون لآخر:

أنت ستكون كذّاباً، يمكننا معالجتك هرمونياً قبل أنّ تنزل ويستفحل الخطر.

ـ لساني طويل، لأن نسبة الرصاص في طعام أمي كبيرة.
ـ هناك أعشاب خاملة تشفي من الكذب، يصنعون منها طعاماً خاملاً يجعل المرء يبلع لسانه.
ـ الحمض النووي الغازي سيبطئ تطور الجرثومة إلى أن تولد، ويسأل الله جدنا التاسع عشر، أن تصل معدلاً كافياً قبل أن تحين لحظة القذف والتخصيب، ليسمعه الله فإن أحداً من أجيالنا لم يحمل خصائصه منذ ما بعد الخلافة الراشدية.

جاءت لحظة حيونتي، مع بدء مرحلة التسخين والتدليك، تشكل حيواني متخذاً حيونته من هرمون الجنس في البلازما، رأس مدبب مثل رأس السهم، جائع لاختراق جدار البويضة المتأهبة، وبطن نحيفة مفلطحة قليلاً، وذيل أطول ما في الكيان كله، جاء ليأخذني بعجلة، لم أكن قد أكملت جولتي في دهاليز أحداث الماضي المجمدة بشخوصه ومعالمه وخياراته الدقيقة والمركبة، لم تكن ملامحي الوراثية مكتملة ولا خياراتي كاملة.

كان حيواني رهيب السرعة، لم يدع لي فرصة اكتشاف باقي كائنات النفق الإنساني، اكتشفت وأنا أعدو معه وفيه أن هناك سباقاً أزليَّاً تمارسه حيوانات شبيهة بحيواني يصل عددها إلى 21 مليون حيوان في حلبة سباق واحدة، يمكن تصميم ميدان مشابه لها في الواقع لمحبيّ سباقات السيارات والعدو المفتوح، كانت زفة صعبة في زمن قياسي القصر، تداخل حيواني يفسح المجال لبقاء الأقوى والأكثر صبراً ورغبة في الحياة، والأكثر نصيباً من المقدر والمقسوم.

كانت هناك حيوانات غير مركوبة لا تشارك في السباق، تقف على جنبات الحلقة منتظرة دورها، إنها في الواقع تشبه سيارات أجرة أمام المدن الرياضية والجامعية، شاهدت الكثيرين يتعجلون الانطلاق قبل حفل الزواج بأيام، لم أفعل فعلهم بل تمسكت جيداً بعظام السلسول لأني كنت على علم حقيقي بموعد الزفاف حتى لا أموت، لقد اكتشفت معرفتي الفطرية للموت قبل أن أتشيء، فمن أعطاني هذه المعرفة ومن أين جاءتني؟!

ثم فجأة وعندما صعدت السخونة بقلب المدلك قُذفت من فتحة الموت إلى الحفرة المخصصة لتكبيري، في فترة لم يكن فيها حب كما لن يكون بعدها حب ولا ود، لحظتها تذكرت أنني في تاريخي السحيق عشت هذه التجربة مع عدد من أجدادي في قلعة حلب حين ينفذون أحكام الإعدام بتمرير المحكوم من فتحة كفتحة المجاري، يهوي منها إلى قاع سحيق مظلم له درج ضيق على مستوى سطح البحر، يدخل منه الجند بعد تمام الارتطام ليسحبوا الجثة المتفتتة إلى القبر الذي يحفره المحكوم لنفسه بنفسه!

تذكرت أيضاً أن أحد أجدادي المهمين في الشر، اختبأ من قوات جندها العالم ضده في حفرة ضيقة ومعتمة كحفرتي، ولما وجدوه مندساً بها كاليربوع، سحبوه منها ككائن بدائيٍّ لم يصله الصابون، مفلين شعره ولحيته على الملأ، فاحصين حمضه النووي في السّر، ليتوصلوا لسّر الإنسان فيه، لكنه يموت والسر معه، أي إنّه لن يمنح العالم الجواب الذي يريده على سؤال يقول في عمومه هل كنت إنساناً أم لا؟!

تاركاً الدانا تشرح لهم على أقل من مهل المهل وإلى قيام الساعة من هو الإنسان وكيف يكون

مرحلة ما بعد التدليك
بفضل التدليك وما في الزيت الغاوي من خصائص سحرية انتقلتُ في دقائق من أسفل سلسول الرجل ذي الشكوانتة إلى كرة رخوة غادرها ساكن قبلي بفترة وجيزة، ادعت المرأة التي سكنتنا أنها ليست بوجيزة، فخروج الطفلة التي سبقتني استغرق عامين وليس كما ورد خطأً في سجلات البلدية.

كان هناك خلاف مزمن بين حسابات المرأة صاحبة البطن وبين حسابات البلدية، فحسابُ البلدية حسابٌ فراغيٌّ، وحسابُ المرأة تراجعيٌّ، أي حين مات فلان، وحين هج فلان، وحين زلزلت الأرض زلزالها، وحين تولّى الحكم فلان، فالأحداث تجتر أحداثاً أخرى في أعقابها، كرأس فلان الذي على رأسه جاء فلان، وكعام صابة الحمير(38)، وعام تجريدة حبيب(39)، وعام زلزال المرج(40)، وعام عجاج سيدي المهدي(41)، وعام الجدري، وأعوام الطاعون، وعام طيحة الطير(42)، وعام الحلبة(43)... وغيرها.

سجلات البلدية لم تكن تعرف سيدي المهدي، أو سيدي بوعجيله، ولم تكن تعرف فلاناً الذي هجَّ بعد خصام عائليٍّ، ولا الزلزالَ الذي حدث في قرية صغيرة لا تشكل شيئاً على الخارطة، ولا حبيباً الذي ادَّعى الحمق لينجو بنفسه من الإبادة الجماعية لعشيرته ولا تعرف أشهر أمنا عيشه وتويبع الأول وتويبع الثاني ولا ولا ولا.

إن واقعة التضاد الحسابي المعتمدُ علي الذاكرة، والحساب المعتمد على الدقة العلمية واقعة شهيرة لم تستطع سجلات القيد القضاء عليها، لأن القول بالقضاء النهائي يعني مسح ذاكرة شعب أراد الله له أن يحتفظ بالقوة في ذاكرته فقط.

لو أن الأمر شابه خلع سن تتقلقل، لكان يسيراً علينا إبدال شيء بشيء، وذاكرة لا نريدها بالذاكرة التي نتمناها.

في زحمة التدقيق الحسابيِّ للحبل والمخاض والميلاد، تدافع المرأة صاحبة الوعاء البطني عن غرائزها المكبوتة والمكظومة خجلاً من شيءٍ يرونه مخجلاً، يسمونه العيب، ويعنون به الحب والجنس دون فصل المفهومين عن بعض، ففعل الميلاد في الأصل فعل مضاجعة، والولادة المتقاربة من بعضها البعض هي أفعال تضاجع مستمر اقترفها بلا توقف صاحب السلسول وصاحبة البطن المسكون!

إن المرأة ما تنفك تشتكي طباع الرجال الصعبة، وسوءَ معاملتهم للنساء منذ جيل جداتها وأمها وحتى جيلها، إنهم لا يتغيرون، أنانيون، غلاظ قلوب، كذوبون، مخاتلون، لا يفكرون إلا في راحتهم، ولم يسلط الله على البلاد حاكماً يقهر رجالها ويغلبهم إلا انتقاماً منهم ومن جبروتهم، فما يفعله الأعمى يجده مردوداً في عكّازه.

وصاحب السلسول من ضمنهم، وأيضاً صاحب الطريق كلهم يشبهون بعضهم في أي زمان وأي مكان على هذه الأرض.

ومع احتفاظ المرأة بروح المشاحنة، تعطي بطنها قراءة مختلفة للعلاقة!

في منتصف الطريق الذي لم ينجز لآخره وفي منتصف التدليك، ومنتصف الزمن الكونيّ، ومنتصف الكلام، والعتب والملام، ومنتصف البيت، والسرير والوسادة، ومنتصف كل شيء ينتصف، استنزلني الرجل عن ظهره، فتسللت لنصف المرأة السفلي، أترجرج كالجل، بفعل زيت الزيتون الغاوي، إذ لولاه لسيطر الجفاف على العملية برمتها.

كان الذي يصفني طريقي إلى الظلمات حيواناً من الدرجة الأولى، اكتشفت أنه الحيوان الوحيد الذي لا يمكن تربيته في حدائق الحيوانات، وإلا لقعد الرجال كلهم في أقفاص حدائق الحيوان وما أنجزت طريق عبد الله العابس على الإطلاق، كأقل خسارة يمكن أن يسببها لنا وجود حدائق للحيوانات في بلاد ليس بها طرقات!
إنّه حيوان برمائي مفترس وأليف يتربى في أي مكان، بل لا يحتاج مكاناً ليطل برأسه، فالضيق لا يشكل له مشكلة وكذلك الاتساع، يظهر متى أراد في الشوارع، في المقابر، أسفل الطاولات، على الكراسي، في دورات المياه، في الطائرات، في البحار، في المحاضرات، وراء الأبواب، في غرف القياس، في السيارات، في المواخير، في الليل، في النهار، إنّه متدفق ومتوافق مع كل الظروف، عدا إنّه لا يستجيب للترويض والدخول في أقفاص حدائق الحيوان، والسبب كما علمتم معروف.

هل يمكن لحيوان أنّ يتفرج على نفسه؟!

سيكون الحيوان الذي أبحرت للحياة فوق ظهره، السبب في شعوري بالانبساط الإنساني فيما بعد عندما تنعتني المعلمة بقولها لي (يا حيوانة يا بنت الحيوان) وكأنّها تمتدح نسبي العريق نثراً كما مدح الشعراء الجاهليون أصولهم شعراً، ليكون مديحها من ثم سبباً لاعترافي بالأصول الواقعية لنظرية الأصل الطوطمي لقبائل أجدادي من بني كلب وبني أسد ونَمير وضبَّه وبرغوث وكلاب... بل أبعد من ذلك الذهاب وراء درونة الآدميين(44)!

كانت الظلمة من حولي مطبقة وسميكة، فالمرأة التي هيت، غلقت الأبواب وقطعت دابر الكهرباء نهائياً من البيت وهي تزاول اضطجاعها.

في خلال ذلك كنت أحسب نفسي مركباً لا تجد مرفأها، إسفنجة يفتتها العالم الرخو، نبتة متحولة في قاع الماء تنشد أصيصاً فإن استوضعها ماتت!

أواه... ولا عيونَ لي افتحها على عالمي الجديد، وما وظيفة البصر ترى في ديجور مدلهم عمره تسعة أشهر، أسمع فيه شيئاً ضعيفاً يدق، خفته في البدء، لكن الفطرة ألهمتني أن اللهاث الذي أسمعه ما هو إلا قلبي، تلك المنطقة التي ستتولى إدارة إحساسي بالحب والحق والخير والجمال وستقلع منها طائرات الحسد والبغض والحقد نحو العناصر والمخلوقات والأشياء.

تباً إنّه صغير وضعيف لكنّه جبار، مثل قلب جدي سلطان سلاطين الزّمان والمكان، الذي أحرق الزرع، وقطع الضرع، وجفّف الحلق، وانقص الخلق، وأطبقت قبضته على البعرة والبعير، والذرء والذرة... تباً كان له قلب كقلبي ورغم ذلك خافه الرجال وخرّوا له بقلوبهم صاغرين.
ترى ما كان شكل قلوبهم إن كان قلبه عادياً؟!

مرحلة الدّحية
لن أستطيع المرور إلى عالم الكلمات دون التّفتيش في الجسم البيضوي والبيضاوي عن جذور الكلام المتعلقة بجذور الحكاية
كانت الفتاة في الثالثة عشرة من عمرها، كل ما أدركته من الحياة هو أنّها ستصبح أمّاً بمجرد بروز نهديها قليلاً، ولا داعي لانتظار النضج الكامل، وذلك الشيء المسمى بالحرمانية، فاندلاق وابله وهي عند رجل يلجها، أفضل من هطوله وهي في بيت أبيها في انتظار المولج!

ولم ينتظروا مجيئه، انعقد اجتماع الخالات في بيتهم تلك الليلة حول الجدّة التّي عملت أشهراً طويلة من العام، على جمع أربعين قبضة من الدقيق، وأربعين حفنة من الملح من أربعين بيت تعطيها عن كلّ بيت امرأة متزوجة أو معقود عليها ُتدعى فاطمة.

يشترط في الجامعة أنّ تكون عجوزاً لا تحيض ولا تغتسل (خالية من الحياة) تطرق البيوت والنجوع، تمدُّ كفَّها اليمنى صامتة، ولا ترد على من يكلّمها مهما كلّمها، وعلى من تأتيه أن يعي مقصدها فلا يبطئ في إعطائها حاجتها.

 توفّرت هذه الشروط في الجدّة للأم، وإن كانت تعاني وراثياً من أعراض رغبة جنسية فكرية غير ملحوظة لسواها، لا تتفق مع سنها بالنسبة للمرغوب بهم!

كان الغرض من عملية التّجميع، صنع قنان البخت(45) الذي يتمّ به استطلاع فرص الفتيات الصغيرات في الزواج، ولو أنّ تلك الاستماتة والدّقة في التّطبيق حظيت بها قنبلة لسبق قنان البخت الأمريكيين لهيروشيما ونجازاكي وأفرغهما من الذكور!

تدرك الفتيات مدى أهمية تلك العملية لهن، وقد شاع أنّ يسمّي الناس بناتهم فاطمة تسهيلاً لتزويج وترويج الأخريات، حتّى لا تبقى فتاة في الدّار دون زواج، يقال إن الأجداد حرصوا حتى في أوقات الحروب والمجاعات على عدم فراغ بيوتهم من الدقيق والملح، إبقاءً للعلاقة التي يسهمان بها في حفظ سلالة الليبيين من الانقراض!

لابد من هذا الاستطراد ـ بعضهم خان رفاقه وقضيته من أجل مردود الملح والدقيق، دون أن يحسب حساباً لعلاقة الماء والملح، أوالخبز والملح التي يصنعها الإطعام من جوع وقلة، والإجارة من فزع وخوف.

كانت الفتاة تلعب مع إخوتها وأخواتها وأولاد الخالات، عندما ُعجنت القنانين (جمع قنان) بيد العجوز ذات الشروط الميتة، وبعد أن تمت عملية إدخال الموت إلى القنان باقتناع كبير، نوديت الفتاة في منتصف انسجامها مع الآخرين، التفتت إلى النداء الذي أخرجها من طفولتها تلك الليلة ليضعها في طابور نساء الوطن الطفلات!

قالت لها أمها:

تعالي ياعويشه... خوذي هالقنان، اقرمي منه قرمة، وحطّي الباقي تحت رأسك وعدي ارقدي، واللي تشوفيه وانتي راقده احكيلي عليه... بكره بعدما تنوظي عطيه لواحد من المزاطيف الصغار وقو ليله عدي اعزقه، شوفيه وين يعزقه وتعالي قو ليلي... ها... رد بالك تنسي وين!!

قالت اعويشه بنظرات متوسلة:

لكن يامويمتي نبي نلعب توا معا البنات ما خاطريش نرقد.

الأم:

سلم بنتي اسمعي كلامي بيش نعطيك حلوى.

اعو يشه:

عرايسي يستنو فيا يامويمتي، طوّل عمرك نبي نلعب، خليني نلعب اشويه، بعدين ماعنديش نوم توه، مش حس حناي أتقول ليل الشتاء طويل ع العدو..؟!

الأم:

ع العدو بس مش علينا، البنات كلهن يبن يرقدن توا، ونحنا نبو نطفو الفنار خلاص، الصباح رباح.

تحدث الأم مجتمع الصغار بضرورة إنهاء اللعب لهذه الليلة وتأجيله للغد، بحجة أن الجدّة الكبيرة مريضة وستطفأ اللمبة الوحيدة في الحوش، فيهجع الجميع إلى مراقدهم لتأمين راحة ممتدة لها.

الفتيات والفتيان يدخلون مراقدهم مجبرين، يقولون لبعضهم همساً:

ـ انشاءالله أتموت وتريحنا يارب.
ـ آمتا بس تموت ونلعبو كيف الناس؟!
ـ خلاص... أهي شكلها موصله، بالكي ها الليلة هي آخر لها ليله معانا.
ـ أوف..! يا ربي، حسني ماعنديش نوم.
ـ ولا أنا.
ـ ولا أنا.
ـ ولا أنا.
ـ ولا أنا.
ـ ولا أنا.
ـ ولا أنا.
ـ ارقدوا.. مرقد الحق إن شاء الله!

كانت الأم تتأكد من رأس اعويشة على المخدة والرؤوس الأخرى الأقل أهمية منه، باعتباره أكبرها والذي تقضي الضرورة الخلاص منه أولاً.

تجد اعويشه صاحية فتسألها هل أكلت من القنان، فتجيبها اعويشه:

ـ نشفلي ريقي، طعمته كله ملح!
ـ اسمه فيه، قنان السوال عالما والملح وين؟ إن شاء الله وين ما يستحبلك الخاطر يا بنيتي.

كانت الأم تحمل رغبة الخلاص من حملها، صوتها المنكسر يدعم الموقف المملح الذي تقفه منذ مجيء كبيرتها اعويشة والمتزايد مع كبرها.

أكلت اعويشة القطعة التي أحالت فمها إلى سبخة، لكنها نسيت أن تسمي كما عودوها عند الأكل، لكيلا يأكل الشيطان معها، الواقع أن الشيطان أكل معها، هذا ما تأكدت منه اعويشة قبل أن تنام ولم تجد له حلاً وقتياً سريعاً، لأنها بمجرد الأكل من القنان لا يحق لها أكل أو شرب شيء بعده ولا حتى منه هو أيضاً!

مُنعت أحاديث المراقد، فتحدثت اعويشة مع نفسها أحاديث طفولية:

 إنّ نجحت خطة القنان فسألد عروساً من لحم ودم ألعب بها، لن يملك أحداً أخذها مني، سأسميها باسم جميل أجمل من اسمي، اسم كالذي أسمِّي به عروستي الخشبية الآن، وسأزوجها عريساً ليس من خشب ولا من قصب، أختاره أنا، وسأعمل لها قنان البخت كهذا الذي يمتلئ بالأماني والأعاجيب والأحلام، لكن سأعجنه لها بماء الورد والسّكر لتكون جميع أيامها حلوة.

ثم خطر لها خاطر.

ماذا لو احتفظت بالقنان ولم أعطه غداً لأحد أخوتي ليرميه ولن أخبر أمي أنني خبأته لعروستي، فنشترك أنا وعروستي الحقيقية في نفس القنان؟!

ريثما تكبر سيكون مليئاً بالأماني المنوعة، وربما لحلاوتها لن يكون مالحاً مع تعاقب الأيام عليه، كما هو الآن معي!!

ثم أنّ الجدة لن تكون موجودة لتعجن لنا واحداً جديداً بمثل هذه اليبوسة والملوحة... إنّ الصغار تفاءلوا لها بالموت، وهي يجب أن تموت غداً بأي شكل من الأشكال، فالكبار لم يكذبوا علينا حين قالوا:

خذوا فألكم من عيالكم، لأننا أجمعنا على هذا الفأل هذه الليلة!

أوقفت الألعاب عن اللعب ونامت اعويشة على أحاديث الموت، أو على الحلم بالموت، ونام الصّغار والصغيرات كذلك رافضين مشروع التنويم الإجباري، لا تأتيهم الأحلام تلك الليلة، ربما الكوابيس، ربما الأنا المحاصرة، ربما خيالات القنان، ربما الوسائد التّي تمرست على صناعة الصور والحكايات، لكنها ليست أحلام الصغيرات في الغالب، بل أحلام الكبار لهن وبهن في اليقظة!

وبر الأحصنة
الجهة التي يرمى إليها القنان هي الجهة التي سيأتي منها العريس.

(قنان رقبة) تلقفه كلبهم الحارس ما أن رماه الولد الصغير، طاردت أمها الكلب الذي أمسكه بفمه وعدا به، توقف به أمام خربة حوش (أحواس) الذين ذبحهم المحتل داخل بيتهم قبل أن يهدمه فوقهم.

شهقت المرأة ومضت تضرب الكلب بنعلها!

يا كلب... يابن الكلب، داك خشمك حتى في بخت راقدة الريح، مش كافيها اللي هي فيه، علاثر القزن وعفانة الخوت، اترودلها في عطيب لبخوت؟!

عوى الكلب الذي تلقى الضرب على وجهه، ثم جرى عائداً لبيت أهل رقبة حيث خلص تلك القطعة المالحة من الملوحة برميها في البئر!

قنان بنت المحاميد عيشة أخذه طفل بطيء جداً، وضع الطفل القنان بجانبه حتى انتهى من اللّعب بعد الظّهيرة، ثم نام في مكانه، وأثناء النوم بال فبلله البول، وبعد أن أفاق أخذه ومشى به في جميع الاتجاهات، ثم عندما جاع وأمه ليست في البيت أكله مكرهاً، لذا قيل في تبرير الخسائر التي لحقت ببخت بنت المحاميد عيشة:

برنوص بنت المحاميد عيشه.. ريشه بريشه.. عامين ما كملوش النقيشة.

وقيل أيضاً لتبرير تعثر مشاريع زواج عيشه، بما أنّ المبرّر الصناعي الأول لم يقنع شريحة كبرى من المستفهمين:

عامين غير شبح بالعين
وعامين ضرب المعاني
وعامين دز المراسيل
وعامين جيته وجاني

وعامين آخرين للاحتياط كانا كافيين لمغادرة عيشة بيت أهلها لجوار ربها، إثر تراشق الحلفاء والمحور بالقنابل قريبا من مزرعتهم.

أما قنان (عتيقة) فقد التقطه كلب أسود غريب عن الحي وهرب به إلى جهة مجهولة، وكان مكتوباً مقروءاً من العنوان ومعروفاً من الألوان!

فيما وهب قنان (نواره) لكلبهم السلوقي، الذي لم يتحرك من جنب الجدار، رفسته أمها بقدميها فعوى وكأنّه مريض ثم عاد للانكفاء على نفسه في الظل... خرج منصور من المربوعة ليرى ما بالكلب؟

أربع مرات خرج منصور.

كانّ مستغرباً رقدة الكلب ذلك اليوم وعواءه الأشبه بالأنين، ثم كان الصباح، فمات الكلب المرفوس في تلك الناحية، لقد كان أنثي وليس ذكراً، لأنّ أوجاع المخاض قتلتها في النهاية.

كان منصور يتيماً يعيش في مربوعة خاله حتى يجد عملاً ومأوى، فلما أمَّن له خاله العمل قهوجيًّا عند أحد معارفه، منّ عليه فزوّجه ابنته نوارة حتّى تفرغ المربوعة، ويعيش منصور معه دون خوف من كلام الناس عن وجوده في بيت به بنات متوهجات.

أما قنان (رجعة) فقد غادر به أخوها أرض الحوش، ولما كان ينعطف في طريقه رماه إلى كوم القمامة المركونة لسور المنزل، ذاك الذي فاق ارتفاعه ارتفاع البيوت يوم رمى إليه قنان رجعه وما به من أثقال، ربض البخت بالقنان هناك، منتظراً بصبر كملايين الأشياء أن تتعافى البلدية من العشى النهاري وعمى الألوان والمُهاق(46) والكساح ومن نفسها لترفعه من دون تلقاء نفسها..!

كانت اعويشه الوحيدة بين المنومات التي رأت الحلم تلك الليلة، لأنها لم تتقلب أثناء النوم ولم تستبدل فراشها مع أحد، لم تنم جيداً لكنها رأت شيئاً لا يختلف على تفسيره اثنان من عقلاء العائلة، حين أخبرت به والدتها وجمت وطلبت منها عدم سرد المنام على أحد، لقد سكتت الأم قلبياً.

كان واضحاً جداً أن ما رأته الطفلة لا يجب أن يحويه رأس واحد وفي المنام أيضاً!

عبرت الوالدة لطفلتها عن خشيتها مما سيأتي به الغيب لها:

مكبر همك يابنتي!!

ذهبت الوالدة صبيحة حلم ابنتها تفتش في الخلاء عن عشبة لها وبر ولا تأكلها إلا الأحصنة، لكي تضعها في النار وتبخر بها الدار مما رأت اعويشه.

طلبت من اعويشه سرد حلمها في الحمام لإبطاله، فقد كان الشيطان هو من رأت وتلك الأحصنة أحصنته.

فيما سار الصغير بالقنان طويلاً عملاً بنصيحة اعويشة الراغبة في زوج ليس من البلدة، ليضعه في جهة غير مطروقة من البلدة لم يسمع بها البعض، تعرف بطريق العابس، كان الأهل إذا خوفوا أولادهم أشاروا إليها كجهة تأتي منها العفاريت لتعاقبهم في الليل على ما اقترفوا في النهار!

صبحت الجدة بحال طيب وأول حديث خاضته خلال الإفطار كان عن زواجها من المرحوم الذي أنهى حياته منتحراً في معركة مع بعض الانكشارية، بعدما استبد به اليأس من عدم ارتفاع مستوى معيشته، ليوصف بعدها بشهيد الحق والواجب!!

بعد نشرات القنانين قررت توصيات الاجتماع ضرب حصار على الصغيرات يمنعن به من الخروج للشارع لأي سبب، كانوا يسمون ذلك الحصار المحليِّ بنظام (الحجبة) وهو الذي تمنع بموجبة الصبية الراشدة من مغادرة البيت إعلاناً لها وللخاطبات بأنها غدت امرأة!

تعرضت اعويشة بموجب قانون الحجبة لتأثير الظلام وضوء القمر الذي تراه من أرض البيت العربي، تلك التأثيرات التي ستظهر نتائجها على حملها.

رأت اعويشة حركة غير معتادة في بيتهم وأناساً من أقاربهم، لم تستطع السؤال لأنّه ممنوع والممنوع دائماً عيب!

كان عليها أن تعرف بنفسها أنها صاحبة المناسبة، كان من الضروري أن تحضر هذه المناسبة خرافهم وخراف من يعرفونهم أيضاً..!

أيامها لم ترَ القمر مثل فردة خبز التنور، رأت التنور فقط، وشعرت بحرارته في أركان بيتهم العربي.

شيء واحد قالته لها والدتها، جعلها تعرف في الأخير لماذا يجتمعون رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، قالت لها:

عيب تقابلي بوك ها لأيام، البنت الميدوبة هي اللي اتحشم.

أخفضت اعويشة رأسها وارتفعت الزغاريد، إنّها المناسبة اليتيمة المسموح فيها لصوت المرأة بالخروج من عورته، فكونه يلعلع مزغرداً للحدث يعفيه من عقوبة العورة!

وجيء بعويشة من بين ألعابها في رداء وردي، وجهها مغطى بخمار أحمر، متراجعة الخطى، متلاحقة الأنفاس، واقتيدت من يدها الصغيرة بيد عجوز ميتة كأنّما تجر للإعدام، طلب منها المثول لصفحة الحناء، لقد كان أثر تراب الشارع عالقاً بقدميها الصغيرتين... لابأس ستخفي الحناء المعجونة من ليلتين والمبيتة في النجوم ذكريات القدمين مع التراب ومع الشارع ومع الطفولة، وستكبل صبغة المسئولية الكفين تكبيلاً إلى إعالة الحياة التي تكبرهما.

تلك الليلة التي هونت فيها الزغاريد ضخامة المسئولية الملبسة لعويشة، أدركت اعويشة أنها ُزوجت من رجل متمدن مقارنة بالموجودين في سوق الزواج آنذاك، يعمل رئيساً لعمال طريق عبد الله عابس، يقود شكوانتة لها سلسلة تضرب الأرض فيسمع صداها من سابع شارع، هذه أهم المواصفات الأخاذة في الرّجل الذي زوجت منه، سمعت اعويشة الأخريات يتكلمن عنها مثلما سمعت صوت قلبها لأول مرة يحدثها أنه منذ فترة وجيزة بدأ يخفق لعامر ابن خالتها تركية الذي رأته في عمرها مرتين، كانت الثانية يوم قدومه من طرابلس صحبة أبيه متجهين لدرنة، أما الأولى فهي التي دبت بها الحياة في الكون حسب تقديرها.

وتحركت عروق الوراثة داخل إعويشه، فجعلتها تسكت طيلة أيام العرس، كاظمة تلك العاطفة المعيبة التي اختارت توقيتاً حرجاً تتكلم فيه.

أخفت طبول الفرح والتصفيق المتعطش للتصفيق والغناء الصادح والزغاريد (وهي آهات مخزونة) أخفت صوت القلب الطفل.

الوحيدة التي سمعته معها كانت طفلة مثلها سبقتها بعامين إلى قصعة الحناء ومطارق الطبول وخمار الإعدام الأحمر، همست لها مسعودة وطفلتها على ذراعها:

العزايز يقولن كان الوحدة مصت صبع من أيديها ليلة حنتها قعدت عام بلا جياب، وكان مصت اثنين قعدت عامين، ما أدير يش دورتي وع العام يقعد عنك قطع لوا، هيا مصيلك إصبع وإلا إصبعين.

ولم تتمكن إعويشه حتّى من مصِّ ريقها، العبرات تخنقها لأنها ستفارق عرائسها وأخواتها واخوتها وبيتهم، وقلبها مع ساكن طرابلس ابن خالتها تركية إلى قائد الشكوانتة الأسمر، المؤصل من جهة الأب والأم وكأنّه حصان عربي عريق.حاصرت حناءها وكلامها العجوز الميتة التّي أشرفت على صبغها، وقد اختيرت لسبب وجيه وهو كونها غير (امحولة)(47) تيمناً وتمنياً لعويشه بعدم التحول من فراش لآخر!

صبيحة اليوم الذي ذهبت فيه اعويشة لزوجها احتفلت عائلة الزوج بختان الأطفال الذين لم تتم طهارتهم بعد، فالاحتفال قائم والأطعمة مطهوة على كلّ حال واغتنام الفرصة واجب للتقليل من تكاليف المناسبة.

وضعت أمهات الأطفال المختونين أرجلهن في أوعية كبيرة بها ماء بارد لتبريد المقص علي أطفالهن، كن يبكين خائفات وفرحات، ُسمع صراخ الطفل الأول فارتعدت إحداهن وقدمها في الليان لأنّ الصارخ كان طفلها ثم توالت الارتعادات والزغاريد, أدخل الآباء أطفالهم على أمهاتهم ليقمن بإسكاتهم، فولولت الزغاريد وسعدت كلّ أمّ بوليدها النازف وتسعد بتضميدها لمكان الختان، وقبضها الفلوس.

ذهبت نسوه أخريات بالقلفات المقطوعة من الصّغار لردمها في التّراب ورشها بماء زمزم أو ماء مرقّي ليطرح التّراب البركة فيها عندما يكبرون ويعوضونها بالألذ الأجمل.

كانت اعويشة منكمشة على نفسها، لأنّ ما جرى للصّغار جرى لها الليلة الماضية شيء شبيه به إنّما بمقص غير حديدي، ظلت تضمد مكانه حتّى الصباح.

جيء بالصغار ليوضعوا في حجر اعويشة واحداً تلو الآخر، تيمناً بالذكور وتيمناً بأنها ستنضم إلى صف منجباتهم بعد أجل مسمى.

قالت لها أكثر من حاسدة:

ياسعيدك... هضوم وين يكبرو ويبقو تريس مايتبعو كلمة حد غير كلمتك.

بعد سبعة أشهر محسوبة من وقفة ذلك الرّجل الممسك ببندقيته للقضاء على إعويشه تحديداً، إذا فُتح الباب الموصد وهمس له الرّجل الآخر من ورائه بشيء عن شيء أحمر دخل من أجله ولم يجده عند الطفلة شبه الميتة، بعد تلك الأشهر السبعة كانت اعويشة تلعن نفسها لأنها لم تلعق أصابع يديها وقدميها يوم حنائها، ولا أصابع الحاضرات أيضاً، فالويل لمسعودة مما جره تخاذلها في تكرار النصيحة، وخوفها من العجوز على إعويشة من هموم نفسية.

بعد عام من تجربة الحناء وعدم التحول أدمنت إعويشة عضّ أصابعها ندماً بشكل غير مرئي!

وضعت والدة إعويشة ُسرّة حفيدتها في صندوقها الخاص، صندوق (بوطقه)(48)، تطبيقاً للتقليد الذي يسجن سرة البنت لكيلا تكون في المستقبل طليقة الرجلين، فتغدو تربيتها مسألة متعبة (انطلاق الرجلين دائماً يقود إلى انفراجهما في النهاية!).

في حين توضع سرة الولد حسب التقليد في الجامع، لكيلا تألف قدماه سوى المكان المحترم والمقدس!

لكن كيف فتحت ولمن تراها فُتحت بيوت بنات الله، وسررهن في الصناديق الموثوق من طقتها وسررهم في أروقة المساجد؟!

عندما حان دوري كان دخان وبر حصان من تلك الأحصنة السحيقة يعلق بي بين جدران البويضة التي ستحاول إخراجي من ذكرياتها بيضة خميسية لدجاجة تبيض كل يوم من نفس الديك، ولسوء حظها لم يعفها خميسٌ من الأخمسة أبداً!

لم تكن حاملتي قد سمعت شيئاً عن وسائل تنظيم التفقيس، وبعدي بقليل عندما بدأت الأحاديث تدور همساً عنها، أبعدت حاملتي آذنيها عن مجالس الهمس حتى لا ترتكب جريمة تخريب أقدار الآخرين المبنيين للمجهول أو تتلاعب بمصير الحيوانات التي يتعب بعلها في توفيرها وتصديرها وتكثيرها، والتي سيصبح منها مجتمع الآخرين قريبًا جدًٍّا.

كانت الجدران مغطاة بصور كثيرة متكلمة، لنساء ورجال أقدم بكثير مما يصل إليه خيالك، ونشرات ووشوشات ونمائم وهزائم وغيبات ونيات حسنة وخبيثة، رأيت مجلة حائطية بين ازدحام الصور الرهيب تحوي هذا الجدول(49):

النظام الغذائي
يؤسف لحاملتي أنّها لم تعلم بهذا المنشور الغذائي، وأنّها في حال علمت به لتتصّرف في نوع الجنين لن يمكنها توفير ما ورد في جهتيّ المنشور نظراً للحالة الاقتصادية التي تعتري مطبخهم بشكل أبديٍّ!

فمع أمة تأكل الزميتة والعصيدة بأنواعها والمقطع والحريقة والفتات والكسكسو والرز والمكرونة والحساء والبراك والعصبان والفول المدشش والبسيسة وتتجرع الروينة واللبن الرائب والمصير والشاي الأخضر

للحصول على ولد

للحصول على أنثى

1 ـ تجنبي تناول الحليب ومشتقاته والجبن تماماً.
2 ـ تناولي الفاكهة بكل أنواعها، وعصير الفاكهة، والخضروات بكل أنواعها عدا الخس والفاصوليا.
3 ـ المعلبات، السالمون، السمك، اللحوم، البطاطا، المشروبات الغازية.
تجنبي تناول الطعام المالح تماماً.
2 ـ تناولي اللوز والفستق غير المالح.
3 ـ الخس والفاصوليا.
4 ـ البهارات، المعجنات، الحليب ومشتقاته، البيض والجبن، السمك المسلوق بالماء، الأرز، المياه المعدنية.
5 ـ تجنب الطعام المشتمل على مادة الصوديوم والبوتاسيوم.



المعقود وتحلي بالكعك والمقروض والغريبة (في المناسبات فقط) مع هذه القائمة كيف يمكن أن يصنفك الغذاء وأين؟ !

وما هو شكل قلب وقالب الإنسان الذي تتدخل في إيجاده هذه المأكولات؟!

سيتعذب الغذاء ويحتار في شكلك لو ترك له شأن تحديد جنسك في ضوء هذه المأكولات!!

كان ثمة قائمة بالتحذيرات التي استطعت تبينها، فنقص هرمون الأنتروجين سيكون مسئولاً عن الصلع مثل (8765843357811 66408) اسم من الُصلع تذكرهم قائمتنا الوراثية على سبيل المثال فقط!

وبما أن العدد الطبيعي للغدد التي تفرز العرق في جسم الإنسان هو مليونان، فإنه يجب الحذر من بعض الجينات التي تتلاعب في توزيع وتوضيع هذه الغدد كما حدث مع (23456677665443322564) من الأجداد، وضعت غددهم العرقية في مكان واحد من الجسم، ولم توزع بشكل عادي عادل، حيث وضعت أحياناً في الإبطين، وأحياناً القدمين، وأحياناً الفم، وأحياناً الأنف، وباقي الأحايين بقية أنحاء الجسم.

وحذرت نشرة ذبذبية أن التنبيه الكهربائي لمناطق محددة على القشرة المخية يعمل على إثارة العواطف والأحاسيس لكي تحسها المناطق الممتلئة بهذه المواد الكيميائية (نيوز بياند) فالحب والكره ظاهرة كيميائية، وهذه المواد تفرز في الجسد كله حتى المعدة، وذلك ما يسمى بالإحساس المعويّ، فالعقل ـ بالتالي ـ لا يوجد فقط في الدماغ.

بناءً عليه هناك كثر ممن كانت وستكون عقولهم في بطونهم فقط، ستحدث لهم قصصاً غريبة لا يخطر على بال عاقل ردها للمعدة، من هذه القصص خيانة وطنية بسبب (أطعم البطينة تستحي العوينة) وغريزة سلوكية متداولة تؤدي بالمتصف بها عندما يأكل في جماعة إلى الهجوم على أكبر لحمة وخص نفسه بها دون حياء أو تراجع أو مساءلة ضميرية أو إلخ...!

وذكرت النشرة أن بليارين ونصف البليار ـ لا على سبيل العد ولا على سبيل الحصر ـ من سكان الخارطة الوراثية تعرضوا لخبطة في اليافوخ وخبطة على القلب فوقعوا ضحايا (أشدو)(50) الحب من طرف واحد.

كما أن المساحة الفعلية لليد من الدماغ ستكون 54 ملم، بينما مساحة الرجل من الورك إلى الأصابع هي 17 ملم، أي أن المساحة الأكبر ستكون لصالح العمل وليس لمشي الرجل هنا وهناك وأينما أحب الخاطر!

سيخالف ترليون فرد من أتباعي وأنا من أتباعهم هذه القاعدة بواعز يسمونه (زنة أو رشقة شيطان).

هناك جماعات كانت تنام في العراء أو تترك النوافذ مفتوحة ليلة اكتمال القمر بدراً، تعرضت لضربة من القمر مما أدى لإصابتها باضطرابات عقلية، ستعطي هذه الجماعات كروموزومات النوم العرائي لأجيالها القادمة، لكن بوسعي تخطّي الضّربة القمريّة في عقلي لأنّ الغرفة التي تكدّس فيها أخوتي قبلي، غرفة بلا نافذة وبلا باب، مجرد فتحة معتمة في جدار، نلجها نحن وفأر أبيض يشاركنا ظلامها!

كانت صور جداتي وأجدادي تتحدث لي عن كل شيء دون حرج أو تردّد، يذكرون لي العيوب والمميزات التي فيهم دون أن يعير أحدهم الآخر بما فيه، ودون أن يغتر أحدهم على الآخر بما عنده، لأنهم أدركوا بعد فوات الأوان أنهم ملكوا أو لم يملكوا تلك الأشياء بإرادة أعلى منهم وعلى ذلك لم يكونوا أصحاب الخيار في وضع صفة وتنحية أخرى، قال لي قتال قتلة منهم:

لا تغضبي ممن سيقول لك يا جبانة... جاوبيه بأن الجبن هو نصف الشجاعة، وهما لا يتضحان كصفتين غير متناقضتين إلا عند الكر والفر... التفسير العقلي لهذه الصفة السلوكية النفسية هو أن بعض المورثات تصنع مادة ما عند قراءتها من اليسار إلى اليمين، وتصنع أخرى مختلفة تماماً عند قراءتها من اليمين لليسار، فهي مورثات صغيرة تختبئ في واحدة أكبر منها والأكبر منها في أكبر وهكذا.

ولا تغضبي إذا طلبت النجدة من أحدهم ولم يقدمها لك، اعذريه فقد يكون بسبب شيء في مورثاته، ولا تعتقدي بأن جميع النّاس حملوا المورثة التي وجدت لدى المعتصم بالله، وفعلت فعلها عندما حرّكتها صرخة امرأة ضربها جندي رومي على قفاها... وأوجدي عذراً كذلك لمن تلاعبوا بأممهم جانحين إلى حل مشاكلها بالغدد اللّعابية، فهؤلاء ورثوا جينات لعابية تفوق الحد المحدود عند العاديين، ولا تعتبي على الرجال لأنّهم كذوبون مخادعون، ولا على النساء لأنّهن كثيرات دس وغلبة، ولا على الكلاب لأنّها مهما وفت لصاحبها سيأتي عليها يوم تنهشه فيه، ولا تلومي العقرب التّي تربيها في كمك عندما تلدغك، فهي حسب مورثاتها إنّما تشكرك!ولا تسخري من ذوات الشعر المجعد حين يوهمن أنفسهن بانسيابه، متسائلات لما تخطئ مؤسسة الكهرباء في فاتورتهم من دون الجيران؟!

ولا تسخطي عمّن لاتنبت لهم لحى، ولا تستغربي ممن يكرهون اللفت بلا سبب، ولا ممن يحبون اللحم البشري بشراهة مقلقة، ولا ممن يفضلون ولداً من أولادهم على الباقين، ولا ممن يحسدون إخوتهم ويحفرون لهم، ولا ممن لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، ولا ممن يبنون أحلامهم بألسنتهم ويخططون للحياة في كهف الفم، فإذا خرجت الخريطة من ذلك الكهف مزقتها أقل نسمة واقعية، ولا ممن يسفكون الدماء ويستبيحون الأعراض ولا ينامون إلا بعد أن يلحقهم الإحساس بالقذارة، ولا على من يغسلون أسنانهم بين كلّ مضغة ومضغة ولا يغسلون قلوبهم في الحياة مرة، ولا ممن يعضون اليد التي تمتد إليهم بالخير، ولا تحزني ممن يصاحبك في الدنيا لطمع فيك، مخفية صحبته لك معلومات لا تعلن دوماً عما يضمر، فالصداقة من الخارج جوزة طيب كثيراً ما تحوي في داخلها نية بالغدر لمن نصاحب!

بينما قتال القتلة يحدثني فاجأه رجل غليظ القلب بطعنة في القلب ألقته ميتاً... مسح القاتل خنجره وخبأه في جيبه ومشى في جنازة الرجل، وكان أشدّ الباكين عليه... فلقد كانا صديقين حميمين تجمع بينهما ذات الصفات!!

مشيت بلا ملامح في الغرفة الوسيعة بلا نهاية وبلا بداية، قرأت ما كتب تحت بعض الصور وما كتب عليها وما كتب لها من الحياة وما كتب لي منها، فوليد الصفر يؤسس دولة كبيرة تنتهي بأطماع نسبائه فيها، ووليد الأول يغرق في الملذات وينقلب عليه عبيده فيخوزقونه ويفسدون أموال وأعراض المملكة، ووليد اللحظة كائن حالم يغزل الأماني التي يحققها سواه، يطمع في جيرانه، فتصل أطماعه أن يحسد الأطفال أحذيتهم وملابسهم لأنّه لم يلبس مثلها في طفولته ويحسد جارته لأنّه لمّ يتحلَّ بطموح جبار كطموحها ثم ينتهي به الحسد أعورَ!

وميزونة الأولى مخلوقة صحراوية تتعرّض باستمرار لأشعة الشمس التي تجفّف نسبة الماء في مورثاتها فتخشوشن الصفات اللينة فيها، وتزداد تلك الخشنة من أساسها خشونة. وحمد الذي ليس مثله في العركة حد، يتزوج من ميزونة لكنه يلعب بذيله، وهو يملك هيئة عادية لا يتحدث إلا عنها جملة وتفصيلا، معتقداً بوسامة كاذبة، يؤسس أول فريق كرة جوارب في الحياة، وينتهي إلى سلالة يعتقد ذكورها بوقوع جميع النساء من جميع الأعمار في هواهم، ويكونون إما خفراء وإما مدراء، بينما تعتقد نساء تلك السلالة في كل ذكر منهم رجلا!

تتجادل امرأتان أمام صالة المشاهير في الدحية فتقول الأولى للثّانية:

هل يمكن التنبؤ بنوعية الملامح العقلية والبدنية والسلوكية للأولاد الذين سننجبهم من معرفتنا للشهر واليوم والسنة التي تم فيها الحمل واليوم والشهر والسنة التي يولدون فيها..؟  

تجيبها المرأة:

تقول جدتي... كسكسله يعاود لأصله(51).

المرأة الأولى تنظر بطنها ويدها تمسد الرداء الذي ترتديه:

هل تعرضت أمك للعواصف الكهرومغناطيسية وهي حامل بك (تأخذ هذه العواصف اسماً محلياً هو الزنات)؟

الثانية:

نعم... نعم...

الأخرى:

وماذا حدث لها؟

الثانية:

لاشيء، سوى معارك مستمرة مع أبي، وحوادث تافهة تصنف ضمن الحوادث المنزلية، تؤثّر في تكويننا الكلي، كرمي سكين في مؤخرة أحد إخوتي العصاة، وعض أختي في ساعدها، ومعاقبة العاق منا بحك الفلفل في فمه أو مؤخرته، وتصعيد الدماء لرأس جدتي، وإطلاق عنان لسانها على الجيران، واستهلاك حنجرتها في الصراخ الدائم بنا على أننا أبناء كلب وأن من لا يريد أن يكون أسفل سباطها لا يلزمها وجوده، وأشياء من هذا القبيل... وأنت هل حدث لأمك شيء كهرومغناطيسي..؟

الأولى متجلجلة:

أجل... أجل.

الثانية:

وما هو؟

الأولى:

أنجبتني..!

الأولى:

وهل تعرض والدك لتلك العواصف؟

الثانية:

خلق بها، فأبي كان سلطان زمانه... وأبوك؟

الأولى:

أبى كان سيافاً، لا يحس ولا يشعر ولا يستطعم ولا يؤثر فيه شيء، فهل سيتأثر بهذه التوافه؟!

ذات مرة كان في عطلة، لأنه لم يوجد أحد محكوم بالموت ذلك اليوم، ذهب أبي معنا لقضاء يوم ترفيهي، تصوري حزّ لنا رأس جارنا في الرحلة لنلعب به كرة القدم عندما نسينا الكرة، وبتر أرجل الأطفال الذين سبقونا في العدو، وانتزع ألسنة المشجعين الذين شجعوا فريق الخصم في لعبة شدّ الحبل، وآمرنا بجمع مخلفات الرحلة من الأكل والمعلبات ثم فتح بطن فيل الغابة حياً ووضعها بداخله، كانت فيلة وليس فيلا، رأينا جنينها في بطنها، ثم خاط البطن بخيط معدنيٍّ محميٍّ، ولما سألناه لماذا قام بذلك؟ أجاب:

لتتعلموا الحفاظ على نظافة بيئتكم فتحمونها من الملوثات!

الثّانية:

وكم كان عمر الجنين ألا تتذكري؟

الأولى:

الفيلة مدة حملها 645 يوماً... أعتقد كانت في اليوم 635.

الأولى

ماذا يعمل والدك؟

لثّانية:

بصّاص.

الأولى:

وجدك؟

الثانية:

بصاص أيضاً.

الأولى:

إذن هي مسألة وراثية؟

الثانية:

تعالي أريك المسألة... لأريك صورهم، والد جدّي وجدّ جدّي وجدّهم، صورهم كلّهم هنا، إنهم في زيهم الحربي والعسكري الكامل، بالطبع الصور خالية من الزي الإنساني لهم لكن يمكنك النظر إليهم، فهم من المشاهير، لا تخشي على حملك منهم فأنا أعرف أنك مازلت تتوحمين، والدتي هي أيضاً انفصلت عن أبي ومع أني لم أعرفه أبداً إلا أنّها توحمت بي عليه فجئت أشبهه!

في صالة المشاهير أيضاً صورَ سفاحين تاريخيين، أعطوا شكلهم لمن جاء بعدهم كاملاً أو ناقصاً فشارب هتلر سيكون على والدي، ورأس ستالين على جدي لأمي وعينا جنكيز خان لعمة جدّتي التاسعة والخمسين، ولسان صدام لشعب تعداده صعب، وطغيان موسيليني للكثيرين ممن يمشون بجوار الحيط، وتزمت يهودا لمن يتزمتون، وشعر تشي جي فارا مع سوالف المهلهل لقادر ابن أختي، وعرج بايرون لعم عم جدّ عم أبى الثمانين، وعبث نتشه لقلب خال والد ابن خالة أم أمي، وخبث عمرو بن العاص لجدّتي العشرين، ومكر هند بنت عتبة لعمتي السابعة، وبشرة جورج صاند للخال الرابع والثلاثين لجدّنا الرابع والسبعين من جهة أبي، وتهكم النيهوم المر لمعجمنا اللغوي اليومي، وأصابع بصبوص لعمي الذي يستخدم يديه للنهب، وطول عمر المختار لأختي مصيونة التي تستخدمه في الهبال والبحث عن العيال، ونظرات جبران لخالتي أم السعد التّي تستثمرها لمراقبة أحوال العباد وشفتا دكتور جيفاكو لأخي إبريك الذي يوظفها للسب والرمي، وقصر نابليون لأخي وليد الذي يزن نفسه بمعيار كبير جداً غروراً وخيلاء لتورية فقر وعقر وقزامة داخلية.

في صالة العدوانية، رأيت من ظننته لأول مرّة من معاصري، وهو المدعو (ادهينة) صاحب القبضتين الحديدية والشيطانية، لا يستطيع كسب حقّ بهما رغم ارتفاع معدل الدهون فيهما، لأنّ استخدامهما غير مرشد وينقصه توجيه من العقل، ذاك الذي يفتقده ادهينة ويضع مكانه سائلا رائجًا كالذي يخرج من البيضة عند فسادها.

قابلت الأشهر بجين السم الكلامي في كلامي، والأشهر بجين العسل الذي يسم البدن، والأشهر بنفخ ريحه الحارة في الأحشاء، والأشهر بإرسال الناس إلى الجحيم بهمزة، والأشهر ببياض الكف، والأشهر بسواد النية، والأشهر بالعيون الخلفية، والأعلم بما يسوس الملح، والعاديين ممن لهم وعليهم والعلماء والزبالين وأنصاف اللّصوص والشّرفاء والنّمامين والنّذلاء والشّجعان والمخنّثين والكذّابين والمختالين البالونيين والشواذ فكرياً والمنحرفين سلوكياً والنجباء ومحابي أنفسهم، والمؤثرين غيرهم على ذواتهم، والحكماء والمتحكمين، والغارقين فيما لا يعنيهم، والناجين بأطماعهم، والرحل بأفكارهم والمستقرين بجثثهم، والموقدين النار في حطب الدار، والمدفئين غيرهم بحصتهم من الدفء، والمتمتعين بشقاء الآخرين، والمشقيين الآخرين منهم، والماشين دروبهم على جثث غيرهم، والمبررين سقوطهم، والمتخمين بلحم إخوانهم، والمطاردين بالخجل، والمطرودين منه، والرائحين بين الأقدام، والمقتولين بالكلام و... و... و... و...

علمت أمام الصالة التي حوتهم بأنه سيكون لكل واحد منهم على كثرتهم سهم في، وأن لا خوف عليّ من ذلك، إذ سأكون إنساناً طبيعياً في الختام.

ياويلتاه من سأشبه؟؟؟؟؟؟

ومن سيشبهني؟؟؟؟؟؟؟

ولماذا سأكذب على نفسي وعلى الحياة فأردّد هرباً من حقيقة ملخت منها بأنّني لن أشبه إلا نفسي؟!

كان يمكن أن تكون البيضة كتكوتًا، لكنهم قلوها في الزبد الغنمي وأطعموها لها، فاستقرت خصائصها في تجويفي، مهما يكن... سأرث شيئاً من الكتكوت وشيئاً من النعجة!

وأكلت حبوب البازلاء في طبيخة ليبية تسلب العقل، فتخللت صفاتها المندلية(52) دمي، فهو مهما ُأحل لن يتحلل من تلك الطبيخة!

وضيفوها قهوة عربية بالمستكي وشيء من الكتيبة، فتحلّل مضمون السحر في أحشائها، ووصلني الجنّي المرسل بالشّر، عن طريق الحبل السري، تصارعت معه، فألحق بتكويناتي بعض الأضرار كتلك التي أحدثتها لي بعض العقاقير المأخوذة عن جهل بعداواتها لي!!

جاءتني وأنا أجفف تجويفي البصيري امرأة سوداء عريضة المؤخرة، كأنّها السوريلا الأسبانية (ناتاشيا)، التي خلفها الصليب الأحمر الدولي في بلادنا عقب الحرب الثانية... أخذتني من المكان الذي سيكون يدي وعدت بي، فلما سألتها إلى أين وجولتي لم تنته في أنحاء مادة الجسد، بكت كما بكت يوم أنجبتني الطفلة التي ظل عنق قلبها ملتفتاً صوب طرابلس بينما يلتف عنق رحمها على أولاد رجل من برقة!!

قالت لي دموع ناتاشيا:

حان موعد انقسامك الثّاني خارج الدّحية!

*   *   *   *   *

أحداث من تلك المراحل وجدت في يوميات الجنين الذي سكن البطن قبلي، كانت مدونة علي جدران البطن السبعة، بدا متراسلاً مع تؤمه أو مع فرد من أفراد العالم الآخر الذي أحبته روحه وربما مع من يخلفه، وربما مع نفسه أو مع حاملته آو مع الآخرين هنا وهناك أستطيع نقل وحدتي بالكلمات، يومياتي هناك غير معروفة لأحد سواي، يراقبني الناس حين يراقبون حجم البطن، أنا في راحة من معرفة الناس والكلام معهم وتلصصهم الدءوب، روحي معلقة بسعادة ليست دنيوية في حبل حاملتي السري، الآن رأسي مقلوب عكس الناس ولا فكرة عندي لشيء.

أشعر بالوحدة في العتمة الضيقة التي لن أعرف خيرها حتى أجرب غيرها، ارتطم بجدران البطن، فتتأوه المرأة حاملتي في منتصف ثرثرتها مع جاراتها اللواتي يقلن لها: إذا تكرر منخاص البوجنب(53) معك في اليمين فالمولود ذكر.

صارت حاملتي تتوهم أنني ألكزها في جنبها الأيمن، قائلة بلغة الركنية أمام زوجها (جنبي يوجع فيا).

لقد كانت هذه الكذبة أول تدريب عملي لحاملتي تحملنيه فيما بعد بأشياء لم تصدر عني، إفلاتاً من العقاب الزوجي.

*   *   *   *   *

ثمة حبل ذليل كان يشنقني من بطني أسبح به كمن يتعلم الغوص واستمد منه الطعام خلال إقامتي الجبرية في ظلمات البطن، كنت أستاء من حمولات هذا الحبل حين تحمله المرأة إلي بالعصبان، والحريقة، والمكرونة المبكبكة، والعصيدة(54)، إنّها أطعمة لا تحتملها مضغتي ونواة خليتي لأنّها تنفذ إليها وتخربط نظامها وتدوخني.

أنا بلا يدين بلا عينين، نموي يلزمه ظلام مطبق تحت الجلد ستتبقى منه نتف في قحفي بعد اجتياز مرحلة إدخال الوجه في البطن وحضن الساقين، كنت أنصت لأصواتهم لما يتعاركون ولما يكذبون ولما ينافقون ولما ينمون، ليس لقدرتي العالية على السمع، بل لقدرتهم على اختراق حواجز الصّوت والظّلام، فهل لي أن أنكر أصواتهم؟

هل لي أنّ أنكر قدراتهم هل لي؟

*   *   *   *   *

مات أطفال كثيرون من الآفات التي استنقلتها أمهاتهم، وتشوه آخرون سوف تكون الكثرة الغالبة من المواليد مصحوبة بإعاقة أو إعاقتين، سيكون جيلي منمطاً بما يغلب عليه.

ماذا نصنع تعبنا من الوقوف.

وددت لو أستطيع لفت نظر حاملتي إلى الطعام الذي تؤكلنيه معها فهو غير صحي البتة، إنّه فقيرٌ من الفيتامينات، وطعام الفقر هذا صار من التقاليد العريقة التي لن تتمكن حاملتي من الامتناع عنها لأنّها تخاف من جدّتي ومن الفتاشة(55) التي ستفتش بطنها أمام عينيها في الليل!

يا للرعب من الغابة التي تنقلب إليها أمورنا في الليل، ويا للأساليب الإرهابية غير المعلنة التي تستعملها الجدّة في ترويض كنتها!

زد على ذلك نبيذ الليبيين وسكيرهم، فاتح شهيتهم وعصير موائدهم الحارق الخارق المسمى بـ (المصيَّر) إنّه ماء نار ينزل في الجوف فتتصاعد أبخرته من الرأس، يقولون بأنّه المسؤول الدائم عن ظهور الوليد بشعر مجعد!

إذا كانت أمك ليبية فلا ينبغي أن تتناوله في بطنها، حتى لو قالوا لك بأنّه دواء ينجي من الموت!

*   *   *   *   *

حاملتي متعبة...

 إذن أنا أيضاً متعبة، طيلة النهار تخدم مثل البغل ولا أحد يرأف بها..!

حين ترفع جدتي القعيدة للحمام أتعذب أنا من أحكام الأشغال الشاقة المنزلة بي وحين ترتمي من الإرهاق سارقة بعض اللحيظات تمدد فيها جسدها على الأرض ليرتاح، تكون قد وضعت طنجرة الطعام على الموقد، لكن النار فيها من طبع صاحب السلسول تتجاوز حدودها مع الطعام فيلتصق بقعر الطنجرة وتفوح رائحة التصاقه في البيت فتنهض المرأة مذعورة من غفوتها، مشرعة الأبواب على الفور حتى لا يشم زوجها الاحتراق فيجعل يومها أغبرَ، دون واقٍ تمسك الطنجرة الساخنة فتلهب يديها، لكن ذلك غير مهم، المهم هو سرعة التصرف وإنقاذ الطعام من رائحة الطنجرة المحترقة.

نادت أختي الكبرى التي تلعب النقيزة(56) فجاءتها وبيدها الفرنجية(57) فقالت لها ذوقي هل يوجد طعم غريب في طعام سيدك..؟

قالت لها:

 طعمته شياط ياوميمتي..

قالت لها:

الله يشيط ريقك.

تسرع إلى جارتها فتسكب لها سائلاً أخضرَ في طنجرتها يسمونه ملوخية، الوقت ضيق والمرأة أنقذت جارتها في مواقف مشابهة، فالرجال كلهم بطبع واحد، وطنجرة عن طنجرة لا تفرق.

تصنع المرأة العصيدة بمجهود مضاعف يتزامن مع مجيء صاحب السلسول الذي يسأل عن رائحة الشياط كاشفاً عن الطنجرة، فتخبره المرأة بأن الرائحة من عند الجيران وأن أوصدي النوافذ أيتها المرزية(58) فحسب البيت تشميساً.

يسبُّ الرّجل الجيران وجيرتهم السوداء وجاره على وجه الخصوص، لأنّ زوجته تحرق له الطعام ولا يزال يحتفظ بها زوجة له.

 تباً لم يعد هناك رجال!

هكذا يعبر صاحب السلسول عن الرجولة، ملحقاً بها الأسف لعدم قدرته على تطليق زوجة الحمار جارهحين تطعمني المرأة السائل الأخضر الذي يشبه المخاط الأخضر النازل من أنوف الأطفال، أتعذب لأنني أدرك قهرها ولا أريد أن أزيده بدفعها للقيء.

إنّي أتعذب، أبتلع القيء، ألعق المخاط...

إذا كانت أمك مهضومة الحق لا تجعلها تغفو زيادة عن زمن الغفوة كي لا تغفل عن الطنجرة وتبتلع أنت الموضوع والشتائم و.......... ا ل م خ ا ط.

*   *   *   *   *

أتوقع أن أصير كأختي الكبرى أحمل صينية الخبز فوق رأسي، وأذهب بها لسيدي (فرج الكواش) الذي لا صلة بينه وبين أي فرج في الدنيا، أقف مجدداً في الطابور ممسكة بمنشفتي التي تعزل عني حر الصينية بعد رجوعي بها.

تخرج صينيات الجيران معلمة بأصابع الأمهات صانعات الرغيف، كلٍ اختارت علامة تميز صينيتها يعرفها الفران بها، رسوم عشوائية بالسكين، وخزات بالإبهام، حبات من الكمون، حبات من السمسم على رغيف واحد فقط، أما صينيتنا فهي الأغرب لأنها تعلمت بنجوم سداسية وصلبان معقوفة، أين تعلمت أمي هذه اللطافة؟

أم إنها سمعت بالحرب الباردة فمضت تهدد أبي بالرسم على العجين، لكي يمشي على كل أشكال العجين دون أخطاء!؟

وفيما انتظر دوري يصيح الفران اسم عائلتي بصوت عالٍ، أتقدم لاستلام الخبز الذي تعطي النار علاماته صوراً مكبرة يزدريني الخباز عليها قائلاً:

كل مالكم أيخوف، هيا انتلفي، اللي بعدها.استجابت حاملتي فوراً فلم تعد ترسل أختي خوفاً عليها من أصابع الكواش، تلك التي ترسم علامات الخبز على صلصال الجسد وفي أماكن استوائية منه.

إحدى الجارات عممت الخوف حين لاحظت رقبة ابنتها وذراعيها.
لن يتخلص رأس أختي من أثر الصينية عليه، بوسعي الاطمئنان على المهام التي سيؤديها رأسي في الحياة بالنظر لمآل رأس أختي.

إذا كانت أمك من طين أمي، فضع فرزدقة من العجين في أذنيك حين تذهب إلى الفرن، وارتدِ الملابس الواقية من أصابع الطحان، فما يدريك لعله يتشهى!

*   *   *   *   *

بحثت المرأة عني في الفنجان... كانت مهتمة بأية أخبار تقولها القهوة عني، القارئة الأمية اجتهدت في التهوين عليها فبدلت جنسي وميقات وضعي وشكلي وصفاتي وطالعي وبختي ومصيري والحوادث الكبيرة التي تجيء في أثري.

كانت يائسة ومهددة بالمزيد من اليأس، تفتش عن ذرة أمل في أضيق مكان، لم تجد خيراً في الناس، لم تحصل على أمل منهم، فاشترته من العرافات، الكلمة الطيبة صدقة، هكذا يرددون لكن ما من أحد يتصدق دون مصلحة تعود عليه بمنفعة، ولو أنها أعطيت لهم مجاناً ما توانوا عن الأخذ بل لطالبوا بالمزيد.

نصيحة... إذا كانت أمك ليبية فلا تعارض تسولها الآمال من شرب القهوة التي تصهد جوفك... ولأنها يائسة فتجرع القهوة خير لها من سوائل اليأس، كسموم الفئران ومواد التنظيف وأدوية البرص والجرب الحيواني، تلك التي تخلص المرء من حياته المهمومة في لمح البصر!

*   *   *   *   *

دخلت حاملتي مأتماً لتعزّي إحداهن في وفاة زوجها، يتطلّب القيام بالواجب الاجتماعي في هذه المناسبة أن تضاهي المعزيات زوجة المتوفَّى في التعبير عن الحزن لفقده وهن لا يعرفنه، دخلت حاملتي صارخة وسط مجمع النسوة الباكيات قطعت هدومها وشقت خدودها بأظافرها، كانت معها امرأة المتوفى التي ما توقفت طيلة صحبتها بحاملتي عن الشكاة لها من معاملته القاسية ومن بخله وحبسها أشهراً طويلة في البيت لا ترى أهلها، كانت إحداهما تندب والأخرى ترد عليها، راثيةً مآثره وكأنه ملك همام، أحياناً حاملتي هي المولولة وأحياناً هي المايسترو... تنسى نفسها في أحيان كثيرة فتبكي وكأنّها زوجة المرحوم!

تحصلت حاملتي على لكزات من دائرة النادبات، فاعلة ما بجهدها لإقناع الحضور بالدرجة الأولى بتأثرها لترمل صديقتها، دفعت أنا ثمن الليالي السبع لمأتم الراحل، فحاملتي تشارك في طهي طعام الصدقه(59). وغسل أواني العزاء وتنظيف المكان من أثر المعزين والبكاء بحرقة على ميت عرفته بالنعوت فقط!

كنت أعلم حقيقة بكائها، فهي تتشهى لبس رداء لم يشتره والدي لها، وخاتماً رأته عند عمتي، وأسرةً من ذوات الأدوار لإخوتي الذين يفترشون الأرض، وقفلا جديداً لحمامنا الذي يفضحنا مع الضيوف، وقطع من الأثاث المنزلي الذي لا تستطيع مفاتحة والدي في أمره مرة ثانية خشية أن يطلقها ويعيدها لبيت أهلها بيدٍ للأمام وأخرى للوراء، وأنا مازلت في بطنها.

عندما تواسي حاملتي الناس في مصابهم وأنا في بطنها تمضي أوقاتي سوداء، فموت شخص ليبي ليس موضوعاً هيناً أبداً على الأحياء، فما بالك على من لم يولدوا بعد! نصيحة... إذا كانت والدتك ليبية فتوقع أن اكم بك وأنت في أحشائها، تمسَّكْ جيداً بالمشيمة وتوسل الله ألا يميت أحد معارفكم وأنت بعد نزيل البطن، فلعله لا يفعل أو لعله يؤجل أخذ من يريد أخذه حتىلا تؤخذ أنت في الرجلين.

لعلك... إذا.......... لعله

*   *   *   *   *

سمعت صراخ أمه المصابة فيه...

مسكينة هي الأم الثكلى، نتشته القابلة من الرحم ففكت عنقه، قيل بأنه خرج للدنيا برأسه عكس الاتجاه الذي يأخذه الأطفال وهم يجيئون، يسمون المولود بتلك الهيئة (فارسي أو فارسيه).

طفل آخر فكوا قدمه أثناء جره للحياة، لم يكن فارسيًّا، سيكون أعرج عندما يمشي ما لم يضعوه في (جبيره)(60).

مات ابن الفحام في نفس اللحظة التي كانت حاملتي تلدني فيها، تألمت لوفاة صديقي الذي نقص عنه الأكسجين وهو يخرج من نفق الرحم ليلحق بنا إلى دهاليز الدنيا.

أمه لم تستطع إنقاذه لأن قلبها متعب ورئتيها كذلك، تألمت لأن عملية مروره للآخرة بالدار الدنيا فشلت، لذا فإن أول ما سأفعله إن كتبت لي النجاة من طريقة مستشفياتنا في الولادة، هو الذهاب إلى أهله والانخراط معهم في البكاء على عاشر طفل لهم يولد ميتاً، لقد كان المتمخط المرحوم من أعز أصدقاء وحدتي.

نصيحة... إذا كنت ستولد في أحد مستشفياتنا فلا تثق في اليد التي تمتد إليك، اقطعها فوراً إن استطعت قبل أن تشوهك أو تميتك، فالخدمات غير المؤهلة لاستقبال القطط يحملونها أكثر من طاقتها باستقبال الآدميين.

تدبر أمرك مع (طبيبة عرب)(61) فالإنجاب والحياة والعمر مسائل بالبركة والحظ، ولا دخل لها بعدد المستشفيات وكفاءة الأطباء لدينا، مادامت هذه أيضاً رهينة بالحظ والبركة!

*   *   *   *   *

مسكت حاملتي رضيعها بيد وبالأخرى شدت كساء الولي، وأحكمت أسنانها في جردها لئلا يقع عن رأسها مرهقة جاه (سيدي عبد السلام) ليهدي بعلها فلا يرفس نعمته بقدميه (تقصد بالنعمة نفسها التي ليس لها مثيل في الزوجات الصالحات) فربما هداه الدعاء بجاه الأسمري فتعطلت جيناته المسئولة عن الجبروت ومن ثم توقف عن استبداده بها.

أختي صاحبة الترتيب العاشر، الممسكة بجرد(62) حاملتي أمام المقام الاسمري، دعت بشل الذراع التي تمتد إليها بالضرب، وتلك التي تشد شعرها للخلف خلال تمشيطه، الشيء الذي نجم عنه بروز جبهتها وتندر أخوتها عليها وهم ينادونها بـ (أم جبهة) وطلبت منه ـ وكأنّه ولي أمرها ـ وهبها فستاناً غير ملبوس تزهو به أمام بنات الحومة في العيد المقبل، وأن يعمي بصر أخوتها عما بيديها من الطعام والحلويات، وأن تأكل في ربيع هذه السنة (قعمولا وكريشة)(63) كبقية خلق الله الذين أحيتهم مشيئته في ليبيا، وأنّ تلبس حذاءً عالياً يعفي قدميها من غدران شارعنا المصاب بالحفر من قبل ميلاد سيدنا لوط عليه السلام، والموعود بالرصف منذ خلافة معاوية الأول!

ولما كانت المرأة الممسكة بكساء الولي والمحاذية لحاملتي قد أكثرت الطلبات على حضرة مولانا ولم يخرج لها من قبره صارخاً أو مستنجداً أو هارباً إلى قبر مجهول لا يتبعه إليه مواطن ليبي، طمعت أن يلبي لي رغباتي أنا كذلك ريثما أولد.

مبتداها يا سيد الأسياد، إيقاف عادة ضرب والدي لأطفاله قبل أن أولد له، وإيقاف جدي المعني بالتموين العائلي ونمونا الغذائي عن شراء خضار (سوق الظلام)(64) التالفة لرخص ثمنها حتى لا يذهب للسوق مرتين وحتى يطعم ما نحجم عن أكله منها لخرافه في سياج المنزل الخلفي، اجعله يا سيد الأسياد يكف عن نظرته الاقتصادية، فيتسوق للخراف على حدة في غيرما اليوم والساعة التي يتسوق لنا فيها!

ولتساعدنا يا سيدي عبد السلام في حل ظاهرة أو مشكلة زلوف(65) حاملتي التي تظهر في بيتنا كل قرنين مرة حين تزور أحد الجيران لمناسبة خطيرة جداً، وأن تعفيني مستقبلاً من يد والدي التي تنهال كالبلطة على طالب الزلوف المبعوث إليه من حاملتي، وأن يساعدها في تنظيف بيتها من أهل أبي الذين يعسكرون عندها آكلين الأخضر واليابس، وعندما يتحيّنون للرحيل يؤجلونه ثلاثة أيام متباعدة أو أسبوعاً قابل للتجديد، ثم لابدّ وأن يأخذوا أي شيء يعجبهم من عفش البيت فالبيت لولدهم، وما لابنهم هو لهم!

ويا سيد الأسياد أوقف لحاملتي من يعينها في جلي حلل الألمونيوم حتى تظل تلمع من جديد ويزول عنها الصدأ فقد تعبت من تبييضها. وسخر لها أعوانك ليربطوا لسان أبي ويهذبوا سلوك (إبريك) أخي الذي لم تعرف كيف تربيه، ويقصروا لسان (باهيه) أختي الكبرى بحيث تبقى منه القطعة المختصة بالجمل الرقيقة، وإن لم يجدوا فيه تلك القطعة فليأخذوه كله، ونحن سنسامحهم في دية الهبر الذي يكسر العظم.

ويا سيدنا... أتوسل إليك ممسكًا بكسائك الأخضر المتسلسل من المرابطين الذين قبله واحداً بعد الآخر، أن تعينني علي الحياة هنا، فالمرء لا يستطيع الثقة المطلقة بإعانات اليونسكو والصليب الدولي ومعونات الدول الصديقة لتحسين مستوى المعيشة ريثما يكبر، فهذه رهن بسياسة البلد وحسن سلوكها العالمي، ونحن لن نكثر عليك ونحشرك في عقد السياسة، فقط ابقَ معنا، وافعل لنا كل شيء من شأنه تخفيف أعباء الحياة، وإن كان موتك منذ سنوات يعني بأنكَ ُرحمت من حياتنا فعلاً، فأنت الذي أفحمت معلمك لما أعطاك البيضة قائلاً لك (كلها في مكان لا يراك به أحد) بأنك لا تستطيع لأن الله في كل مكان يراك، الآن لو كنت حياً لا تستطيع إقناعه بهذا الجواب الطيب، فثمة من يرانا مع الله باستمرار، وجوابك معلمك بات علماً سلفياً محضاً نقدره، لكننا نزيد عليه، فقد تطورنا بعدك، وتطورت عيوننا يا أسمر، فتدخل لتُهْدَيَ أبصارنا وبصائرنا وسرائر رجالنا ولتسير نساؤنا على طرق التربية الحديثة ـ على ذكر الطرق ـ ساعد جهاز (الفضيل أبو عمر)(66) في ردم الحفر فقد امتلأت بلادنا بالحفر (يابو شاش خضر) دون أنّ يرمينا أحد بالقنابل.

(يا لسمر يابو شاش خضر يا لسمر يا فكاك الزر)(67).

أرسل أعوانك لمساعدة حاملتي في حملها القادم، فولادتها مستعصية كسائر قضايانا القومية، والعدد لابد أن يتضاعف ليرهب اليهود أعداء الدين، وربما في تعدادنا القادم ـ الذي سأكون رقماً فيه ـ ستخاف إسرائيل منا وتحسب لنا حساباً من نوع آخر، لا تجعله يا لسمر حساباً كالذي يعلمونه لنا في المدارس، فحساباتنا التعليمية تعني أن إسرائيل لن تتوصل أبداً إلى الخوف منا بأي حال من الأحوال.

يا لسمر... لا تفك خيوطنا من إبرتك، فليس لك مفر منا وليس لنا إلا صلاح سيرتك نتوسل به لله، فما في سيرتنا ما يجيز التوسل بها، وحتى إن فاضت مرارتك منا فخرجت من قبرك عارياً دون كساء، سنعتبر ذلك كرامة من كراماتك الخطرة وسنتبعك أينما ذهبت، فقدر الصالحين على هذه الأرض لابد أن يوقعهم في مشاكل ذويهم فيتعبهم أحياءً ويثقل كاهلهم أمواتاً.

وآخرها... لن يكون للبداية في حضرتك ختام يا سيدي عبد السلام.

*   *   *   *   *

تحت تأثير حفنة من حبوب الأنفلونزا أخذتها حاملتي فور استشارتها أم زوجها، أصابتني حالة دوخان غريبة، ليست وعياً كاملاً وليست غشياناً مطبقاً، بين الحالتين رأيت ملك البلاد، رجل ضعيفاً لا يملك مقومات القوة التي تغنت بها حاملتي قائلة في شخصه (سيدي إدريس خبط كرسيه... طيح ساس البلدية).

لم يكن يملك من الخبط سوى خبط العشواء... والمريب في الأمر أنّه لم توجد ملامح لبلدية لكي تتغنى حاملتي بجدرانها التي يهدمها سيدها إدريس، كما لم توجد في عضلاته الشجاعة التي ينجز بها تلك المهمة الرياسية!

فهل ما تغنت به حاملتي كان مجرد هراء فني ومتطلبات وزن وقافية ليس إلا..؟

إذ إنّ كلمة كرسيه تتناغم معنىً ووزناً مع كلمة بلدية، وهي مازالت تتناغم، طالما خبط المسئول ذراع كرسيه يهدم ولا يعمر، وطالما تقلد مراكز السلطة لا ينجم عنه إلا الخراب... لنقل تكيفت جيناتي مع تلك الحقيقة التي دعمتها حاملتي طيلة تسعة أشهر بصوتها، وهي تجلي أواني الألمونيوم ويتوسط رجليها وعاء الغسيل في منور البيت العربي تارة وتارة حين تدعك ياقة قميص بعلها وتتقاطر (الزرقينة)(68) من مرفقيها.

كان سيدها يرتدي ملابس صاحب السلسول التي وضعتها للتو على حبل الحلفة، ورفعتها بالبكرة إلى قمة البيت كي تجف سريعاً... كانت الملابس وهو فيها مثل خيال فزاع الطيور... من هناك كان سيدها يراقب البلاد ويعلم بكلّ ما يجري فيها، كلّ صغيرة وكبيرة تخصه ولا تخصه، حتى ما يجري بين الزوج وزوجته والزوج وخليلاته، إنّه يعلم حتّى ما في الأرحام، أليس الآتي أحد رعاياه ومحكوميه وسامعي خبطات كرسيه، وشاهدي الجدران المهدمة، ودافعي ثمن الهدم وحاملي نتائجه على حساب أحلامهم؟!

قلت له:

لا أريد أنّ يحكمني أحدّ.

قال لي:

الكرسي سيرثه أولادي من بعدي، وكل ما على هذه الأرض وما تحتها ملك لي.

قلت له:

لكني لم أخترك، أنت اخترت نفسك.

قال:

البقاء للقوى، والملك للأقوى.

عطست حاملتي، فارتعد سيدها، وانبطح أرضاً، خشية ً من عمل عدواني ضده، مددت يدي الصغيرة إليه ورفعته عن الأرض التي يملكها ومكنته من عكازه، رفعت حاملتي حبل الحلفاء في الأثناء وثبتت البكرة، لكيلا ينفلت مجدداً.

قلت له:

القوة هي ألا تكون خائفاً من شيء، أنّ تملك الأمان قبل أنّ تملك أي شيء.

قال:

لست بخائف، تعثرت فقط في جلبابي وخذلتني عصاي.

جفت الملابس بالشمس الحارقة، وجف عوده داخلها، تهدل الحبل، وهزت الريح الملبوسات فالتف عنق القميص على الحبل، أنزلت حاملتي البكرة، خلصت الحبل من الملابس وخلصت كائنات الملابس من الحبل، طوت حاملتي الملابس في الخزانة، جاعلة ما مضى موسمه منها في أبعد ركن من الخزانة، مانعة اقتراب السوس منه بوضع قطعة من مكافح السوس كريه الرائحة معه... كانت حاملتي تغني تلك الساعة (يا جلود حليبك صافي... درت الثورة مع القذافي)!

وكان الملوك من أجداد طائفة الملك غير ملوك لشيء سوى نصيبهم الزائل من الدنيا... الملوك الذين لكل منهم خبطته وما يترتب عنها من هدم وهادمين ومهدمين ومهدومين، فالأمر للمدن التي يراد لها الخراب مربوط بتسليط الملوك عليها... وكانت لنا ـ كما لكل الناس حوائطنا المهدمة داخلنا، التي لن تقدر أكبر شركة مقاولات في الدنيا على إصلاح دمارها... ألأن الأمر متعلق بموضوع الحليب كما كانت حاملتي تقول، وبمشتقاته كما تعتقد مادتي الجنينية؟!

من تقاليد حاملتي مع الغسيل الوسخ أن تضعه بعد غسله في ضوء البدر ليصير أكثر بياضاً وهو يجف، لكن تلك العادة لم تعطِ مفعولاً مع القميص الذي دخله الملك إثر الأنفلونزا التي أصابت الأمة!

إن الموت يدين للحياة والحياة كذلك تدين للموت.

*   *   *   *   *

كان جيل منا يحمل مورثات الموت بفعل التلوث، التلوث بمختلف أنواعه وأشكاله، بما فيها التلوث الضجيجي، وقد مات من أقاربي عدد كبير بالصراخ الداخلي، وارتفاع معدل الديسيبل الصوتي لبعض القضايا الخاصة والعامة، عن المعدل المحتمل والمحمول لها ولهم!

بعض أقاربي حمل مورثة الأمراض العصبية، وقُضى من فورة أعصاب حول موضوعات لا تستحق الاشتعال.

هناك خلية نادرة باتت معرضة للانقراض كانت مع رّجل منا لا يعلم بوجودها معه، يعمل في صف المجاهدين الذين يزودون حركة الجهاد بالأسلحة، عمره ستة عشر عاماً، تعود أصوله لليمن، خرج مضروباً من أبيه وهو في الثالثة عشرة لأنه تأخر في العودة بالإبل، ولما كان غاضباً من أبيه فقد عملت مورثة الغضب بدماغه الأفاعيل، وشجعته على الدخول في مواقف ومواقع الاشتعال، كانت لديه شجاعة خطيرة جعلته يقطع ذراع صديقه لما علق بأسلاك المعتقل المكهربة، حتى لا يأخذه الطليان أسيراً جريحاً، ترك لهم ذراعه الدامية في السلك الشائك حاملاً بقيته على صهوة جواده غير المسرج، يحفزه بالصراخ ليصعد بهما التلال الرملية في الصحراء الليبية، كان الجواد يصبح فارساً لوحده إذا ركبه اليمني، فكيف إذا كان اليمني وصديقه معاً، كان اليمني الذي وضع يد صديقه في الزيت المحميِّ، يعرف أنّه لن يعيش، لكنه لم يدعه لهم، عندما حلّ المساء دفنه، وركب جواده لاحقاً بكتيبته، وحين مر بعد أيام بذات المكان رأى هالة نور شفيف تعم قبر الفتى.. كان اليمنيُّ مطلوباً لنيران الطليان، وكانت الجينة التي نبحث عنها معه، أعطاها لعيشه البنت الوحيدة التي عاشت من أبنائه، ولم تنجب على الإطلاق، وإن بلغ عدد من ولدتهم ثمانية ذكور وبنتاً واحدة من زواج سابق، ذلك أن صبغيات الأزواج الذين تزوجت منهم عيشه أزاحت الصبغية الفريدة المهددة بالغياب لديها، وسودت عليها صفاتهم، جيلا عقب جيل عقب جيل!

*   *   *   *   *

المنزل الذي أسكنه أنا أوسع وأهدأ وأنظف من المسكن الذي تسكنه حاملتي، فالجرذان المستوطنة بئره تعمل على تهجيرها مهما تدخل فتى الجيران في الصباح ونظف البئر منها.

والظلام الذي فيه بعد ارتفاع أشعة الشمس من فنائه يصيبها بالخوف لأنه يجعل الليل يهبط باكراً، وبابه يصيبها بعدم النوم لأنه لا يقفل إلا إن أسندت إليه جالون البنزين الحديدي الذي تركه لها زوجها عندما ذهب ليعمل في إعمار الصحراء!

لم يكن لبيتها باب ولا إضاءة ولا أنيس عدا أنفاس إخوتي الصغار، كنت أكثر اطمئناناً وشعوراً بالارتياح.

نصيحة... تمسك بالمنزل الذي سكنته ما وسعك التمسك، ولا تغرنك الدار الدنيا، فهي على نقيض ما يشاع عنها، إنها ضيقة ومعتمة وملأى بالجرذان من كل جنس ونوع وبالمطبات والمنزلقات، أبوابها مخيفة وغير مأمونة والإعمار في صحراواتها مثل بناء الجدران على الرمال!

وبالليبي الفصيح مثل تنظيف (ناصر المصدور) بئر الحوش العربي من القناطش يومياً، مذ يفع وإلى أن توفاه الله في الخامسة والثلاثين، حين كان موظفاً لدى البلدية يتابع تنظيف غرفة تفتيش، أقفلت بواليع بيوت شارع عريق، لا يكاد ساكنوه الآن يذكرون كيف ولم مات وهو ينقذ أحد عماله من الغرق في الوحل الأسود!

*   *   *   *   *

ريثما تولد... لن يخطر في بالك أن أمك مخلوقة تعيش بلا رأس لأنها في غيرما حاجة إليه مع أبيك!

ولن يخطر لك أن البراج(69) الأسود ذا المضحك الأبيض اليقق حين تبعث له باسمها واسم أمها والعشرة قروش مع الدلالة(70) سيفتح لها البرج ويخبرها بنزاهة تامة كل شيء عنك من المهد إلى اللحد، طالما قبض ثمن القراءة مقدماً، ولن يكون مهمًّا بالنسبة لأمك إلا إنقاذ نفسها من جنسك والإسراع بتبديل الحبل، بالحفر في حواشي الجدران الرطبة واستخراج دودة البر وشيها حية على نار الفحم وشمها حد الشرق في دخانها.

لن يخطر في بالك أن مصيرك في هذه البيئة معلق بدودة قد تقلبك بنتاً وأنت ولد، وقد تقلبك ولداً وأنت بنت، وفي صورة غير معلنة قد تجعلك دودة على وجه الأرض أيها كان جنسك!

ريثما تولد... الناس يعيشون فوق بقعة كبيرة من زيت الحجر، يمنون أنفسهم بالعيش الرغد وبالزوجات المتعددات وبالسيارات الأمريكانية والتبغ الفاخر والعطور الغالية والملابس الحريرية والذهب والفضة والقصور والشركات الخاصة والخدم والحشم وووو

ولا يصحون من هذا الحلم العمومي الطويل لكي يحذروك منه إلا بعد أن تكون قد تورطت فيه مثلهم ولطختك بركة الزيت بسوادها من رأسك لقدميك.

ريثما تولد... سيكونون في ربع الحلم يتوهمون، فبقعة الزيت الكبيرة تهتز بهم يمنة ويسرة تسليهم ريثما يموتون وتستبدلهم بحالمين جدد!

ريثما تولد... سيدي منصور هو (مجبر الكسور) وسيدي حمد (في العركة ما كيفه حد) وسيدي عبد الله (خاش الخلاء بالله) وسيدي مرعي (جارنا أينجحنا في اختبارنا) وسيدي مشكان (أيبرد حر العطشان) وسيدي همال (اللي بيه الخاطر يطمان) وسيدي خليفة (بوالروضات بو قبة نظيفة) وسيدي إمراجع (للحسايف والمواجع) وسيدي عبد السلام (جايب اعسيله من بلاد الرومان) وسيدي الصيد (جياب البعيد) وسيدي بوحبله (امعقل المنهبلة) وسيدي بركة (امنجي العرب في العركة) وسيدي موسى (فاكنا م الحوسة).

وسيدي بورمانة (واخذ حق الحرجانة) وسيدي بوهنود (عاطيها لليهود) وسيدي بن شتوان (الراعي من أم الصيبان) وسيدي بودوارة (المبري م الحرارة) وسيدي الزروق (كبير الهمة منجي كل اصغير لأمه) وسيدي بوراوي (امباعد البلاوي) وسيدي وسيدي وسيدي..........

وريثما تولد... كل الناس أسيادك وبعد أن تولد ستجدهم كذلك.

سيدي في غرب ليبيا الساحلي تعني أبي، وفي شرقها الساحلي تعني عمي، وإن لم يكن هذا أو ذاك فهو أيُّ غريب وأيُّ وليٍّ صالح ببركته تعيش وتتعافى من الأمراض والأزمات وتواصل البقاء حياً وتنجح في مشاريعك، هو الحماية غير الملحوظة والنجدة غير المعلنة، فقد ثبت بالبرهان، برهان الأولياء الصالحين وفعاليتهم في إبقاء العنصر الليبي متواجداً حتى الآن على وجه الأرض، وناجحاً في بعض الأمور أحياناً!

فبالبركة نحيا وبها نستمر، وليس مهماً معرفة بركة من منهم!

فتستور يا أسيادي أيما معنى عنت...؟!

*   *   *   *   *

شربت حاملتي عصير النخل (اللاقبي) فدخلت في غيبوبة دامت زمناً لا أستطيع حسابه، توقفت عن النمو كما يتوقف الأطفال الأحياء يوميًّا في بلادي عن النمو في طوابير المدارس الصباحية، وبدلاً من الرجوع إلى الوراء حيث تفتش ذاكرتي صناديقها العتيقة، وتخرج ألبستي المرسوسة بها، لم تجد الذاكرة شيئاً في الصناديق فهي فارغة لم تعبأ بشيء بعد ولم تقفل، لذا ذهبت ذاكرتي إلى الأمام واقتنصت لي أقرب الصور وكانت هذه الالتقاطات عن مشاهد من حياتي القادمة.

رأيتني في الشارع غير المرصوف ألعب مع الأولاد، نتصارع، نلعب بالتراب وبالقمامة وكل شيء وأيما شيء يشكل لنا ألعاباً حتى الدراويش والعجائز ما لم ننهَ عن ذلك، ورأيتني لا أكترث كثيراً بالألعاب التي يتسلى الأطفال بها، حيث كنت أبحث عن لعب الوقت وهي لعب لا يفهمها الصغار، وكان شاب أصم من حارتنا يهوى بنتًا من بنات الحارة الموصدة عليهن الأبواب، وكانت هذه البنت تحلم بفتى من خارج العائلة يتزوجها ويبتعد بها عن أجواء العائلة والوطن، كانت تحب أن يرحل بها حيث لا يتبعهما لسان أناسهم، لكنه لا يتزوجها في الختام، ولا تخلص من لسان الناس بالزواج من سواه، ويموت الأصم بالجلطة التعبيرية، لأن الناس لم تعِ مفهومه عن الحب، لا تفهم أصلاً أنه يملك أن يحب على نحو جيد، يعتقدون بأن عاهته جنسية، وإن كانت في الجزء العلوي من جسده، المسئول عن التعبير، بالتالي فهو ممنوع عرفيًّا من الاقتراب من أي أنثى عدا أنثى الكلب التي خبروا بالسر عن بعض أناسهم ممن لم تكن لديهم عاهة ظاهرة، أنها تسرت(71)!

وكان هناك رجلان من خارج الشارع تقاتلا بسبب امرأة كل يريدها لنفسه وليس للآخر، وصارت عفريتة المجني عليه تظهر في المكان الذي أزهقت روحه فيه وبدلاً من أن تخيف القاتل أو تذهب لمناجاة الحبيبة ظهرت لأهل الشارع وكأنها أخطأت العنوان وهي تُكلف بالنزوح للدنيا، وصار اللعب مكروهاً للصغار في الفترة ما بين المغرب والفجر، لذلك نصح أحد كبار السن العارفين بدق مسامير 10 ملي في مكان الرصاصات ولما دقت المسامير لم تعد العفريتة الشقية تظهر في الشارع وتحرم أطفاله من اللعب بالتراب ومخلفات البيوت أو تكبت موهبتهم البريئة في التراشق بالحجارة الدقيقة على مدِّ ذراع الرامي لتصيب السيارة، وهذه خير دعاية للمسامير العشرية القادرة على رصد الأرواح، وتعليق أصحابها بالجدران إلى الأبد وكأنهم لوحات مجمدة إلى أجل ٍغير مسمّى.

وكانت امرأة تحمل للمرة الحادية عشرة تتخاصم مع زوجها ليل نهار، يستفهم أهل الحارة عن الميقات الذي حدث فيه الإخصاب.

وكان عبد الملح رجلاً أسود عملاق، رقم حذائه الـ (54) غير متوفر في البلد، فمقاس الأرجل والعقول لابد أن يكون واحداً، لذا هو حافٍ من المهد بسبب الفقر وإلى اللحد بسبب كبر قدميه، يملأ هذا الًعبد البائس كارو الملح من السبخة ببلطته الكبيرة، ولما يعجز حصانه عن جره يفكه ويربطه إلى الخلف ليحل هو محله، سيكون هذا العبد ذو القدمين المتشققتين من الفقر والحفاء والملح والد مجموعة من الصبية الشقر بينهم طبيب يحمل لقب والده إلى الأبد (ابن عبد الملح) لأنّ لا شيء يموت عند الليبيين سوى الأشياء التي تحمل تفسيرها المنطقي الحقيقي!

*   *   *   *   *

ها ها ها هاي.

المرء لا يستطيع الثقة في أي بلد يصنع له حذاءً يقاوم حفر بلاده التي يرتطم صدى وطأها بدماغه.

لدينا مفاجآت بالطريق.

لا يستطيع المرء الوثوق بقدميه أو بصلاح بلاده، لا يختلف الأمر سواءً انتعل أحذية الصين وبنغلادش أو انتعلته الأحذية، فالطرق المحفورة هي هي، طرق ليبية، تكافح صناعات العالم كلها والمستقبل في ليبيا لن يكون خالياً منها سواءً رفس الحذاء الأرض أم رفست الأرض الحذاء، المشي هنا نحو الغد غير مأمون حتى وإن جربت المشي برأسك أو بيديك!

ها ها ها هاي.

البلاد كبر رأسها، وهذا الكبر لا يفرح، فجسدها ظل قاصراً عن النمّو، وكان لابد أنّ تعاني استسقاءً دماغيًّا، تزيل قذارتها بذات اليد التي تأكل بها وتصافح بها، فحذارِ من مصافحتها دون واقٍ.

ها ها ها هاي.

اسمعوا الحكاية التي لم يروِها لي أحد، ولم أقرأها في كتاب، نقلها لي ثقب الباب المغلق، لا أعرف الباب من قبل ولم أزره، ولم يعرفني هو أيضاً، لا أعرف العالم الذي تجري وراءه وبه هذه الأحداث، كانت الذبابة تطنُّ فوق رأسه فتأخذ بقدميها أفكاره التي ولدت للتوِّ وما يزال عودها رقيقاً، أعتقد أنه أصابها بالمنشفة وهي تطير بفكرة الحبّ، فالحب أثقل وزن الذبابة إلى أن تمكنت منها المنشفة، سقط الحبُّ المحمولُ على جناحها ميتاً، فلم يفرق بين جسد الذبابة الميتة وروح الحب المزهقة وهما يرتميان أرضاً.

ها ها ها هاي.

الأسد هو الملك في كل شيء، والبرص الذي قاد انقلاباً عليه سيطيح به من فوق ظهر التمساح، سيرفع رأسه قائلاً عن جنود الأسد:

(هؤلاء من أخبرتك عنهم يا خالي) فأخبر أعمامك إن ظلمت، واذهب لأخوالك إن جعت!

ها ها ها هاي.

عربة الإسعاف التي تزعق، ليس بها أحد غير السائق وعشيقته، يزمّر لكم لتخلّوا له الطريق إلى جهنم، فأفسحوا له ما وسعكم، لن تروه لسرعته القصوى، لكن الله يراه ليس بالنيابة عن أحد.

ها ها ها هاي.

المومس الزنجيَّة (البكوشة)(72) التي يتردد عليها الآباء والأبناء خفية في بيتها خمسيني الجدران، المسقوف بالخشب، والذي يحترق كلّ عام مرة، فيسارع إليه الإطفائيون من جميع الأعمار ومن جميع الجهات، ودون دق الهاتف تجد شرطة الحرائق نفسها عنده.

إنّها خرساء وصماء وأمية وعملها لا يتطلب فهماً أو صوتاً، لو امتحنتم رجال هذا البلد الصغار والكبار فيها لما رسب منهم أحد!
ولو امتحنتموها هي فيهم لرسبت لعدم وجود الوقت للإجابة!

إذا أردتم فرض حضر التجوال فخذوها من هنا، لكن سيكون بعد فترة وجيزة بعضكم في فراش بعضكم، فدعوها تحت سقفها الخشبي مع أولادها منكم وأولادكم منها، إلى أنّ تتعاون بلادنا ثقافيًّا مع بلدان آخر تجيئنا منها السبايا والسائبات!

إن أكبر تعداد للأطفال الملونين الذين لا توجد بينهم حواجز عرقية أو لونية هو في بيت البكوشة، فلا حرمتم هذه المرأة الحنون على نطافكم!

(إنّه مجرد شخص مجنون يتكلّم ليل نهار في الحي ولا يتدخل أحد لإسكاته لأنّ سبب ثرثرته أنّ أحداً غير عادي حاول إسكاته!).

*   *   *   *   *

تعرضنا لغزو حيواني بربري من حديقة حيوانات ضخمة هرب حراسها أو ناموا أو أكلتهم السباع. اشتمل الغزو الحيواني على مخلوقات لها شكل الخنازير والديناصورات والكلاب والعقارب والتماسيح وغيرها، المهم أن جميع أنواع الحيوانات المفترسة والأليفة كانت تغزونا معاً في لحظة لها ما سبقها مما شابهها الكثير الكثير، وهذا هو المثير في الأمر، تضاربنا أنا وأخي معها، وقطعنا رؤوسها ومزقنا أوصالها أرباً إرباً، بصق علينا مشروع الأسد منها فانتزعنا لسانه، أما مشروع فرس النهر فقد ظل منتحياً ناحية محايدة في انتظار أن تنتهي المعركة الوجودية لينضوي تحت لواء الفائز فيها، عندما أسرته أنا وأخي وجدناه حيواناً ضعيفاً طيباً ساقوه إلى غزونا سوقاً، وقد سقوه مغلي النعناع الأخضر وأطعموه المكسرات ليستطيع النهوض والسباحة إلينا، لقد أخبرنا بأن جيش الحيوانات القادم سيحتوي عناصر مشوهة وإن المدد الذي سيصلها سيتمرد على الوصول بسبب ضعف إدارته وقصور مهمة خلطة اللوز والعسل!

تشاورت أنا وأخي بشأنه فقلت له:

ما رأيك هل نبقي عليه معنا؟

قال أخي:

كلا سوف يكبر معنا ويأكل من طعامنا ولن نجدله مكاناً، ثم ما يدريك أنه سينقض علينا..؟

زرع أخي الشك في رأسي تجاه الحيوان المتبقي، وما أسهل زراعة الشكوك في العقل النامي، إنه كمد اليد إلى الأنف في الظلام، سرعان ما قمت لأقتله ولما جئت أطبق عليه، تحلل جسمه إلى ماء لا حياة فيه، ذهبنا إلى وجودنا الخاص بنا وتركناه مسفوحاً أسفلنا وكأنه بصاق رجل عملاق علينا.

في منتصف الليل وقبيل دخول وقت صلاة الفجر سمعنا حاملتنا تطهر نفسها من الغزو الحيواني الجائر وتنظف ساحة المعركة من إخوتنا القتلى ومن آثار فرس النهر.

لا مرد لقضاء الله فإما أن نكون نحن القتلى أو هم حسب إرادة مقررة في هاتيك الساحة الحربية.

بعد ارتفاع الظلام ذهبنا لننام منهكين من صراع البارحة الحامي، فقد كانت ليلة طويلة، طويلة جداً، أطول من ليلة دون عشاء.

*   *   *   *   *

سبحت قطعة أحلام بائتة من رأس حاملتي حتى رأسي، رافضة الدخول إليه مع استحالة عودتها إلى منشئها، لهذا مضت تتقلب وهي لابد تدخل برأسها أو برأسي لكي تُحلم وإلا لحدثت فوضى في حياتينا لايمكن تجنب عواقبها، كانت قطعة الأحلام تلك تشبه أرضاً مقطوعة بموسى حلاقة خرجت من الخارطة، وهذه الأرض قامت على بقعة زيت كبيرة، فلما قُطعت انقلبت ولما انقلبت إذ بشعبٍ يحيا تحتها كما يحيا الدود أسفل الصخرة المتروكة على الأرض زمناً.

وإذ بكل شيء في حياة هذا الشعب بالمعكوس، وإذ به يموت وهو يظن نفسه حيًّا وإذ برائحته النتنة تفوح وهو يتساءل عن مصدر الرائحة، وإذ بطيف يأتيه في الموت فيخبره بأنه ميت منذ سنوات، وأنه الآن فقط شم رائحة موته.

وبدلاً من أن يعلن موته تستر عليه حتى ينتهي كأس العالم، وينتبه الناس له، فمضى يفرش الأرض بالمعطرات لكيلا تذهب الريح فتعقف أنف العالم المتفرج نحوه فترتبك من ثم فرجته، وإذا ما طالت فرجة العالم مات ميتته الثانية فتفرج الناس عليه ميتاً ثم انصرفوا، ولم يشأ أن يخبرهم لكيلا يزعج فرجتهم، لكم يبدو هذا الشعب متفانياً على حساب نفسه، وكأنه فعلاً شعب الأحلام غير اليقظة!

شعب ليس له مثيل في التاريخ ولا في المريخ!

هذا الشعب لأنه الميت الوحيد في دنيا الموت، فلا نسخة ولا شبيه ولا شريك له، كلا، ولا، ويستحيل، وعلى الإطلاق، أخذته العزة بنفسه وأخذته وأخذته حتى نسي نفسه في الموت... أعني نسي أنّه ميت وهي ما تزال تأخذه وتجرجره!

*   *   *   *   *

جاءني ملك الموت ليقبض روحي الصغيرة الجربة، ذات وعكة صحية ألمَّت بحاملتي فقلت له:

تريث، أريد أنّ أعيش وأسهم في بناء الوطن وفي تخليص شعبي من الأمية وفي القضاء على الأمراض الفتاكة، وتنشئة جيل يرفع راية العلم وينزل راية الترهات، أريد أنّ أشارك في زراعة الأرض البور، واستثمار ساحلنا الطويل، وترشيد الاستهلاك، وتنظيف البلاد، وتوعية الناس، وإنشاء المصانع، والقضاء على البطالة، والارتفاع بالمستوى الفكري والاقتصادي للناس، وإعداد كوادر وطنية مدربة في شتى فروع العلم وخلق مواطن يفكر ولا يلجأ للتخمين والاعتقادات والأحكام السابقة، أريد أنّ أرى بلادي وكلّها ربيع وحياة ونظافة وخلق وعلم، وتألق وتقدم وسبق.

بكى مني ملك الموت حتى خلتني قبضت روحه!

ترى هل بكى لعلمه بأن حياتنا ستكون مكرسة لعكس ما قلته، أم لأنه قبض بلادنا كلها منذ زمن بعيد ولا علم لنا به، وبالتالي فمحاولتنا الحياة كبقية الخلق محاولة فاشلة لا موجب لها...؟!

وهل تراه تركني دون قبض لأن روحي كانت جربة بالفعل وخربة، أم لكي يعطيني درساً لن أنساه عندما أجرب بنفسي فضل الموت على الحياة التي تنتظرني..؟!

ليت ملكاً آخرَ غير ملك الموت يجيبني... أقصد ملوكنا الذين يستطيعون الإتيان بخوارقَ لا يستطيعها الملوك الروحانيون، يأكلون النار، ويتحولون إلى ليوث، ويعدّون أسنان الكلاب وهي تنبح، ويمشون حفاة على الزجاج، ويخرجون الدبوس من البحر، ويمررون قطيع جمال من سم الخياط، ويحولون الذكر إلى أنثى والأنثى إلى لاشيء.

لا تنسَ لهم كرامة بيعك وشرائك وأنت أمامهم دون علمك بهم!

*   *   *   *   *

يقززني رأس عمتي المليء بالقمل، الذي تفليه حاملتي كلما جلستا للراحة والكلام، القمل في رأسها كثير، وحاملتي تخشى أن ينتشر في عائلتها النظيفة فتتطوع من فورها لتفلية رأس العمة المزدحم بكثير من حكايا الناس.

العمة لا وقت لديها لحكِّ شعرها وإن حكَّت قالت:

اللعنة، إن القشرة تحفر رأسي!

يعيش القمل على دم العمة، فلا يكفيها أن زوجها يمتص دمها حين يشغِّلها لديه مزارعة ومربية أبقار ومنجبة أطفال وممرضة لوالدته المسنة وربة بيت وزوجة تمتعه وتحفظ له العقب الصالح وتغسل له قدميه من عفونة حذائِهِ العسكريِّ الذي لازمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية!

تأتي العمة لزيارة أمها المقيمة في بيت أخيها في الأعياد، حيث يرخي زوجها سراحها في هذه المناسبة وفي الوفيات فقط، فتستغل الفرصة وتمكث حتى يأتي هو لأخذها بعد شهور يكتشف فيها غياب اليد العاملة، ولعلها أيضا الحاجة لتنظيف أمه وتدبير شؤونها.

رأس العمة مقرف، تشن عليه زوجة أخيها حملات بالمنظفات والمطهرات والكيروسين حتى تبيد ما فيه من بيوض القمل، ولما ينظف يأتي زوجها مستأجراً عربة نصف النقل لنقلها فتستزرعه من جديد لديه.

العيد لدينا عيد لتنظيف بيئة العمة (رأسها) من القمل، الخوف كل الخوف من أن يسكن رؤوسنا هذا الطائر الأسود الكريه فيستحيل الخلاص منه.

حاملتي كلما زارتها العمة خصصت لها ـ بينها وبين نفسها ـ وسادة وفراش وغطاء ترميها بعد مغادرتها، وسارعت إلى حلق رؤوس الصبيان (صفر) وألبست البنات طاقياتٍ لإخفاء الشعر، ولأنك لبيب تفهم كل شيء عن القمل ولأنك صرت واحداً منا وعلينا عليك أن تفهم بأن هناك نوعاً آخر من القمل ربته العمة في جسدها لم يكن بوسع زوجة أخيها الاحتيال له أو مصعه بأصابعها، نما على ذاك المثلث المظلم الذي يصف به الناس رحمتهم ببعضهم البعض واصلين وموصولين (صلة الرحم)!

لا يمكن إسداء النصح بشأنه إذا كانت... لأنه سوف يكون!!!

*   *   *   *   *

الرجل المجنون ثانية.

أعني أنّه جنّ من جديد...

الملك مازال هو نفس الملك منذ كان جدي حياً، حكم المرحوم جدي، وارتحم أبي في ولايته، وجننت أنا وهو مازال كما هو، والعالم سعيد كما جعله هو، بدليل إنني ولدت وولدتم أنتم أيضاً، والملك يضع رأسه على ركبتين لجذعين مختلفين في نفس اللحظة، ذاك الحمار الذي ترونه يمشي بصبر وجلد، حولنا والده وجده إلى (شاورما) منذ زمن غير بعيد، أي حين توجعت به أمه، ولعل ميزة هذا التخطيط أنه يمنح البلد حميراً جديدة بصفات إنسانية.

لا تحك رأسك... نعم أنت، أنت ومن سواك هنا؟!

ماذا يقول لك رأسك الضامر..؟

إن سكرتم فعدوا القنينات في الصباح، وألبسوا النعال حتى تأتيكم الأبواط، ولا تطلقوا الطائر لتجروا وراء ريشه، وقدموا سبتاً لتجدوا أحداً، وخذوا حقكم ونصف الباطل، ولا تطيلوا السلك لتضيعوا الإبرة، ولا يغرنكم كبر عرجون فيه اللمعان وفيه المرارة...

ها ها ها هاي

*   *   *   *   *

بدأت الجينات الوراثية المعنية بالتذأب تتخمر، الخلية تنقسم وتنتشر مثل الشر، أخبرتني الفطرة بأنه يجب ألا أكون هكذا بلا ذؤيب، فالشرُّ مطلبٌ رئيسٌ للبقاء وإن أردت الدخول للدار الدنيا فيجب أن يكون لي نصيبي من الشر، اعترضت في البدء، ثم تعرفت على الذئب الذي سيسكنني أوقات الغضب والحقد والعداء والحسد والغيرة والجوع، كان صغيراً مثل حبة الأرز وكحبة الفول له قدرة على الانتفاخ إن استنقع.

ناعماً من الخارج، له مذاق البارود من الداخل، سينمو قبلي وأنمو في ظله، لأني سأحتاج فيئه وضروسه، فضروسي لن تكون قد ظهرت بعد... أنا من دونه دودة لا تصنيف لها.

العفو منك... لن أتمكن من قول المزيد عنه، أنا الآن أتألم جداً فالذيل طفق في البروز، والأمر يتطلب خروجي من شكلي الإنساني!

من الأفضل ألا تراني ولا تسمعني في هذه الحالة!

*   *   *   *   *

مادامت الحياة جميلة فما الداعي لأن ينبت لي ذئب خاص بحمايتي واستعدائي؟!

كان عالماً غامضاً حقاً فوجئت بصورته فيَّ، كنت غير قابلة لوجوده معي سواء في حاجة أم بغيرها، إنه كشعر الجسد ينمو وهو غير مرغوب به.

أتصور نفسي جميلة بدونه لكنهم يقولون في العبر بأننا به نزداد جمالاً واختيالاً وقوة، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ومصمصت عظامك الكلاب، وهذا ما سوف يحدث فعلاً إن اخترت لذاتك وجود الدجاج!

*   *   *   *   *

رأيت مناماً وأنا أنام منذ ستة شهور في ظلمات البطن، ربما كانت عيناي مفتوحتين تشاهدان الحلم وربما لا، إن كل شيء في الظلام ممكن وممكن الظلمات أكبر من ممكن النور!

كانت أختي تضربني بلا مبرر وتحسدني لقمتي ونظرتي وكلمتي وجلستي ومشيتي وكل شيء فيَّ...

رصاص عباراتها وكلماتها القاتلة يُدمي إنما بلا دم ظاهر ومضامين خطابها تفرز نوعاً من السموم لا يمكن تصنيفه كيميائياً.

لم أفهم لمَ هي كذلك مادامت قد تخبطت في هذا الوعاء المعتم قبلي، ومصت ذات الثدي دون شريك..؟!

ظلام الرحم لم ينورني لكي أفهم، لربما ستعطيني ظلمات الحياة فيما بعد التفسير الملائم لتوجهاتها العدوانية المظلمة نحوي!

*   *   *   *   *

يبدو أنّ الشاب الذي أحبته قد نشأ في عائلة لقنته القليل من التفاهة، فالعائلات لم تعد تربي أولادها منذ زمن طويل، حيث تتركهم قبالة التلفاز محملين البث المرئي مسئولية تربيتهم علي خير وجه، وقد كانت المُحبة محظوظة وأمها داعية لها كما يجب أن تدعو الأمهات ليلة عيد، فاللقمة التي آتت من نصيبها قصت بالسكين ولم تنتزع نزع الاصطفلينة أو تمتلخ ملخ اللحمة من الفريسة، إن الكسرة التي قسمت لها تعهدتها يد خباز ماهر بالخبز فدافعت عنها بالغربال، من صراصير المخبز ودهيمة الدقيق(73) وذباب المستنقع الموجود أمام الفرن وأصابع الفران الزئبقية.

هذا ما رأيته من عالمي فيما يخص بخت (فاطمة بنت امشوهنة الو شامة)(74) مع من سيكون زوجاً لها على الرغم من أن بيئة اليتم والفقر التي تربت فيها جعلت الناس يستضعفونها، والبيئة التي تربى فيها جعلت الناس يستقوونه.

نصيحة.. إذا كانت أمك لن تتزوج رجلاً بعد موت أبيك أو طلاقها منه، فعليك أنّ تجعل ذئبك أكبر حجماً منك لكي يسعك رد ظلم الناس لك لكونك تربية امرأة وشّامة أو دلالة أو خطابة أو قابلة أو خادمة بالأجرة أو نامصة أو طباخة مناسبات أو (.....) في حال لم يسعفها الفقر بإحدى تلك المهن التي يحتاجها مجتمع الناس ويزدريها في الآن نفسه!

إنّهم يقولون: الثوب كم والبنت أم، وثلثين الولد للخال والخال والد، وهناك الكثير مما لن يأتي على بالك.

فتريث ولا تستعجل القدوم إلينا!

*   *   *   *   *

إذا قرّرت أن تعيش بسبع أرواح بعد أن يكتب عليك الموت بالولادة، لا تحلم كالآخرين، فقلوب قومك ضيقة على الأحلام، وعقولهم لا تعترف بأي أحلام عدا التي تُرى والمرء نائم، اذبح نفسك من الدّاخل على أنّ تسمح لها بالنظر في اتجاه لم ينظروا إليه، ولا تقرأ كثيراً فالمكتوب على الجبين ستراه العين، والمداومة على القراءة بعيداً عن الجبين لن تبقي لك عيناً تقرأ بها مكتوبك حين يجيء وتتعرف بها على لونه.

ولمَ العجلة؟

البس ساعتك ولا تنظر إليها، فالوقت زينة كتلك التي تملأ سماء الأعياد لا شيء منها على الأرض.

وإذا كبرت فاعشق بيديك فقط، واغسل قلبك بالبنزين لكي يلمع، ونبه امرأتك أن تقبل كعبيِّ طفلك لكيلا تفوته أكلة شهية مطبوخة في الصين أو موزمبيق أو عند الجيران، وتكلم مع قومك بلغتهم، فالعالم لا ينقصه مجانين!أراك كبرت... من العيب أن تكبر وأنا لم أنهِ كلامي معك بعد!!

عيب..عيب..عيب أن تكبر في ظروف كهذه.

*   *   *   *   *

لقد نامت المرأة ونام الرجل، ونام طابور العيال ونام الزمن.

لأجرب أن أجوب في الأرجاء وأرصد الحياة.

آهٍ لقد وطئ ظلي على أصابع قدميِّ فسرى تيار كهربائي في جسدي، حملني ظلِّي ومشى بي، أنا الآن مصلوبة على ظهري أرى العالم في خطوط مستقيمة رسمها الذين نظروا قبلي، مرَّ ظلِّي على الكلاب التي تملأ البلد شمت لحمي، تناهشتني، هرب وتركني لها، لحسن الحظ أن كلاب جارنا التي تحرس ملكه مازالت صاحية، هي التي دافعت عني من الكلاب البشرية، وأعادتني إلى ظلمات بيتنا سليمة.

الرابعة فجراً عاد ظلي منهكاً ممزقاً يلعق جراحه.

قلت له ماذا جئت تريد أيها الغريب..؟

ركع أمامي وقال:

لقد بحثوا عن الفتحات فيَّ ثم عيروني بك!

في الصباح تقيأت حاملتي سائلاً مراً فأرسلت في طلب القابلة تسألها عما يكون يا ترى..؟

قالت العجوز:

ييه!!... لقد قذفتي مرارتك!!!

*   *   *   *   *

إن "السّرّ سرار"

هكذا تقول حاملتي حين لا يروقها شيء من بعلها، وهي تعني أن العرق دسّاس إذ أن بعض سلوكيات صاحب السلسول تتشابه مع ما كان يصدر عن جده محمد ولد زينوبة، فهو محبّ للنظام والنظافة ولا يرعوي عن نقد شؤونهم العائلية وتقاليدهم الحياتية أمام الأغراب، وحث زوجته لتتعلم أساليب العيش الإفرنجي ولا يتحرّج من التصريح بندمه على عدم الزواج من امرأة إنجليزية تدعى (اليزابيتا) أجليت مع ذويها، حينما أوشكت علاقته بها أن تذهب بعيداً وتأخذ شكلها الأبدي.

أكثر أيامها من التّفكير في شكل أولاده، خاصة من ناحية الدّيانة، لأن فتاته لم تكن على دين محدّد حتى بالنسبة لعقيدتها وذلك ما قلل من فرصتها في الاقتران به رغم حبها له واستعدادها للقفز من دين لآخر من أجله، لكنّه كان متخوفاً من هوائيتها ومزاجيتها، خشية أن يأتي يوم تقفز فيه إلي رجل آخر فيلاحق عار القفز السريع أولاده منها، في مجتمع لا يرحب بالأغراب على الإطلاق، فما بالك بالقافزين!

إن استلقى صاحب السلسول واضعاً رجلاً فوق الأخرى واستمع لبعض الأغنيات ذات النفس الطويل، فتحت حاملتي أي موضوع وان كان يجلب الغم ّ، كي لا تحدثه نفسه بشيء!

إنها تعرف نوعية الأحاديث التي تدور بينه وبينها وإن كان لا يخبرها، فهي بحاستها على الشم تتلقى ردود أفعال تلك الأحاديث الخفية بصدر غاية في الاتّساع.

إن أكثر تلك الأحاديث شراً هو السّفر إلى مصر لاستعادة لحظاته الهاربة.

ليلة الأمس عندما كان يأخذ نفساً بتلك الاستلقاءة، لم تجد موضوعا، فكلمته عن قرة العنز والليالي السود(75)، نام على جنبه بعدما انتهت من بث تشويشها، تنهد بهدوء ثم قال:

وحده منهن الليلة!

*   *   *   *   *

في عرس عمي (اصميدة) كان حظ حاملتي سيئاً فأحد إخوتي مرض بالنّمنام أو السليم (الحصبة) فلزمت حاملتي الدار لتسقيه الأشياء الحلوة وترعاه لئلا يتغطى وتلبسه ثياباً حمرًا وتشربه الماء بالتّمر الهندي.

انتهى العرس وحاملتي في الحجر الصحي مع طفلها الأحب سمي والدها.

ولما شفي أخي وخرج للريح، أخطرت حاملتي بعرس (غزلان) ابنة أختها، ففرحت أيما فرح خاصة وأن غزلان (عنست) ببقائها في دار أبيها حتى الثانية والعشرين!

لكن ظل لغزلان عزاءً يقول " الزّيزة والموت ما عليهن فوت " لهذا ستفرح غزلان المسكينة أخيراً بالزّواج الذي ـ لحسن حظها ـ يسبق إليها الموت!

للمناسبة، أعدت حاملتي أردية الحرير التي سترتديها وملأت شيشة بالزيت المقطر، وأخرجت من صندوقها عقد المحلب والعنبر ودقت في الهاون بمساعدة أختي ذات التاسعة، مستلزمات اللبزة(76) من الحمص والقرنفل والورد والحلبة وكعب الطيب وزق الحمام!

عدا إن أعراض البو صفير بدأت تتجلى على أختي (سدينة) في اليوم السابق لدق اللبزة، فأرغمت حاملتي (سدينة) على شرب نقيع الكمون، وفتح منخاريها لعصير كرموس الحمار(77) لتجلية الصفراء سريعاً، حتى أوشكت لتتعافى على النهيق!

كانت حاملتي غاضبة وحانقة وكاظمة لآيات حزنها بسبب ظروف العرس الغزلاني، لذلك سمعتها تحدث نفسها تلك الأيام بأن (القز ون ما يفرحش مرتين)(78).

*   *   *   *   *

إنّه الرجل المجنون ثانية، يجمع القشّ والعلب الفارغة وأعقاب السجائر، يستند في الحرّ الشّديد إلى الحائط وينادي محمدا وعليًّا.

يا محمّد يا عليّ... الطريق كلب إذا كانت طويلة ومملة وقاسية ومخيفة وسخيفة وغليظة وثقيلة على القلب.

والطريق بنت كلب...

إذا كانت متعبة وجافة وشرسة وموحشة وفيها بين كل مطب ومطب مطب.

وإذا كانت الطريق كلباً وابنته فإنّ ابن الكلب هو من يستقلها وهي كذلك!

هل عرفتم الآن من الكلب وبنت الكلب وابن الكلب؟

*   *   *   *   *

حلمت بجهنم..!

إنها مفاجأة لا تحتملها الطفولة، أليس كذلك؟!

لكن طفولتي الصّابرة تحملت المشاهد بقلب جسور، كانت شوارع جهنم مثل شوارع بنغازي، وبيوتها مثل بيوت اجدابيا وناسها مزيج من هؤلاء وأولئك وغيرهم ممن في الجوار، ومقاهيها مثل مقاهينا المقفلة من قبل الحرس البلدي ولجان التطهير ومدارسها مثل مدارسنا تتجول حماراً بينها منذ العام الابتدائي الأول لك وحتى الثانوية العامة، إنها تمكّنك من ستر غباوتك إلى أن تجد عملاً بالواسطة أو محلاً تجلس فيه، فالستر مطلوب من المؤمنين والمؤمنات على بعضهم البعض، ومن ستر مؤمناً في الدنيا ستره الله في الآخرة.

مدارسنا ساترة من الطراز الأول، مدارسنا ستدخل الجنة، فلا تخف وتقدم نحوها، فالمدرسة الابتدائية تعلم الطفل الصراخ والترديد الأعمى، وفي طابور الصباح تعلّمه نباح مفاهيم مطلقة أكبر من دماغه الذي لا يمكنه تخيل شيء أبعد من شطائر الفاصوليا بالكرشة ومفروم الكبدة والبيض بالهريسة العربية(79).

فلا معنى لما يردد لأكثر من نصف ساعة يوميًّا مختوماً بسؤال عن جيل من نحن؟!

وهل يليق بمواطن صالح ألا يعرف من هو بعد قضاء حقبة زمنية طويلة في وطنه؟!!

بعد ست سنوات تستجيب السماء مرغمة للفأل الذي يرددونه كلّ صباح: (للوراء در) فيمشون للخلف... ويتسع بلعوم الطفل ويطول لسانه ويتعلّم ضرب رفاقه وتعتاد قدميه الوقوف في أول طابور من طوابير حياته المستقبلية، ينتقل بعدها إلى إعدادية الهروب من الحصص، وضرب المعلمين غير المحليين، ليقينه بعدم وجود محمية طويلة عريضة كقبيلته تحميهم في الغربة، ولعدم جدوى القانون أمام قوة العرف وأكتاف القبيلة وشواربها.

يتعلّم الإمساك بخناق المعلم هو وزملاؤه، ووضع سكين في خاصرته ليعطيهم أسئلة الامتحان محلولة!

ويعطيها لهم محلولةً ولا ينجحون حتى في الغش!

فإن كتب للمدرس البقاء، سيشحذون منه السجائر ليدخنونها في استراحة الإفطار، وليكن هذا أول درس من دروس الرّجولة التي يستكملها إنسان الغد بألفاظها ومصطلحاتها وسلوكياتها ودهاليزها في المدرسة الثانوية المجاورة، المرحّبة به كثمرة تجاوزت صعوبة المرحلتين السابقتين.

لتسر الأمهات فقد كبر الأولاد وظهرت شواربهم ودنا خيرهم، ولينم الوطن قرير العين، مطلقاً بالونات الأحلام في عالم الخلود الأبديِّ، في النّعيم الخاص به الذي لن يحسد عليه..

أعني نعيم الجهالة..!

*   *   *   *   *

كل مساء من المساءات التي تكون العمّة حاضرة بها، تستلقي حاملتي في المنور متوسدة ذراعها أسفل ضوء القمر بعد أن تكون قد نظفت رأس العمة من ثلث محصول القمل، نمت قليلاً وتركتها تحدث إخوتي عن (نقارش).

قالت العمة:

كانت (نقارش) تحبّ أخاها أكثر مما أحبّ والدكم الآن، وذات يوم خرجت لها عفريتة قوية من أرض البيت هددتها بالموت إن لم تتوقف عن حب ذلك الأخ معها لأنّ العفريتة كانت مغرمة به، ونظراً لخوف (نقارش) على حياة شقيقها احتالت لتنجي أخاها، فقدمت أصابع خروف للعفريتة على أساس أنها أصابع أخيها الذي أهدته لها لترضى عنها، ولما رأت أن العفريتة اقتنعت بقولها قدمت لها باقي مكونات الخروف على أنها كافة ممتلكات شقيقها الجسدية كافة، وهكذا أنقذت (نقارش) شقيقها من حب العفريتة المسيطرة.

رأيت أشقائي يذهبون لمهودهم مكشرين وكأن النهاية لم تعجبهم، سمعت أحدهم يقول للآخر:

مش لو كانهي خلتها تأخذه راهي فكتنا منه ومن طرايحه؟!

فيرد الصّغير الآخر:

فكنا يا راجل مرات يطلع يعفرت!

وقبل أن يحط النوم في عيونهم لا أدري عمن يصدر هذا السؤال:

لست أعلم ماذا أحبت العفريتة فيه..؟

*   *   *   *   *

إنه أشبه بحلم وليس بحلم...

في ليبيا تكره المرأة أخت زوجها مهما بلغت من المودة والعطف عليها وعلى أولادها، وتعاملها معاملة الخادمة مستندة لدستور العلاقات الأبدي الذي ينص على أن الرجل يقدم زوجة اليوم على أخت الأمس، الزوجة تتفرعن ولا تدخر جهداً في نفث سمومها بسرية مطلقة عن زوجها لتكسب ثقته في حسن أعمالها واتجاهاتها نحو أخواته.

ويكبر اليقين بنزاهة الزوجة وخبث الأخت عند الفهيم..!

في ليبيا الأخوة ليسوا أخوة حتى وهم أحرار من نير زوجاتهم فما بالك إن تزوجوا!

ومن يسلف شيئاً يرد له سريعاً على ألا يكون ذلك خيراً.

الزوجة فرعونة، وإن لم تكن في يوم السبت فرعونة سوف تتفرعن يوم الأحد.

الزوجة التي تكيد لأخت زوجها، تكيد لها هي الأخرى زوجة أخيها عند أخيها، فسبحان الله كيف لم تفهم الأنثى في ليبيا درسَ من يقدم سبتاً يجد أحداً..؟!

وفيما يشابه الحلم أرسلت بصري إلى عورتي باحثة عن العلاقة بيني وبين الآخرين، كيف ستكون على ضوء الجهاز التناسلي الذي زودتني به الطبيعة.

كان الظلام في البطن شديداً فلم أرَ شيئاً لحسن وسوء الحظ معاً.

لكم أنا أسفة سواءً جئت أنثى أم ذكراً، وسواءً صرت فاعلاً أم نائبَ فاعلٍ أم مفعولاً به أم مفعولا لأجله!

كل الأشياء عرضة للاشتباه بها باكراً جدًّا.

وطالما نوع الجهاز التناسلي الذي يتبعه المرء هو من يتحكم بالروابط الإنسانية ويديرها في اتجاه المصلحة الخاصة، لن أستبق شيئاً قبل معرفة الكيفية التي سأتبول بها.

*   *   *   *   *

قال لها:

مازلت أحبه رغم المحاولات اليائسة التي تبذلينها لإقناعي بنسيانه.

قالت له:

ما فات مات فلا تذكرني به.

وتنهدت حتى ظن زوجها أن أحدهم يدق بابهم كل ليلة في اللحظة التي يعلم فيها خلودهم للنوم..!

كانت ستنام بعدما أرضعت صغيرها ووضعت له زجاجة الحليب الإضافي بجواره.

قال لها:

الحب هو العلامة الفارقة التي لن تتخلصي منها ما حييتي.

قالت له ودموعها على خديها:

فات الأوان الآن.. تزوجت من رجل لم أره إلا يوم زفافي، وسافر هو إلى بلاد الله الواسعة، ربما يكون قد نسيني بالنساء اللاتي سيراهن هناك، يقولون بأنهن يمشين سافرات ويعملن مع الرجال، ويتأخرن في العودة للمنزل.

قلت له:

هيه هيه، قم وأنصت لما يجري فوقنا.

كان نائماً وتوازنه غير محفوظ لم يرع لكلماتي، فدفعته عن طريقي واقتربت لأسمع المزيد.

قال لها:

لقد ظلمك أهلك بتزويجك إياه، فأنت لقمة أكبر من فمه، لكن أتحسبين شيئاً انطلى عليَّ، إنك تحبينه رغم ارتباطك بهذا الخنزير المشخر بجانبك، ورغم أطفالك الذين يزيدون عاماً بعد الآخر منه، في محاولة لإيجاد رابط قويٍّ يربطك إليه، كلما أوغلت في العمر التصقت صورته بذاكرتك فكيف الخلاص منه..؟

إن ابنك الذي قلت لزوجك بشأنه (إذا كان المولود ولداً فأني أرغب بعد إذنك أن أسميه على اسم المرحوم والدي) ولم يكن المقصود أباكِ كما ظن الجميع، بل كان المقصود حبك الأول والأخير، ألا ترين بأن ذاك الابن هو أحب أطفالكِ إليكِ؟!

قالت له:

اسكت بالله، اسكت بالله..

قلت له:

قم واشهد حقيقة قلب هذه المرأة القاسية، فربما احتجنا لهذه الحقيقة ذات يوم في صراع الأجيال بيننا.

رد عليَّ وهو يلكزني بقدمه على فمي دون قصد:

أيها الأبله، أيَّاً كانت حقيقتها فهي ستصبح أمك وعارَكَ، لا قدر الله.

قلت له:

ألا يعدُّون الحبَّ عيباً اجتماعياً كبيراً هناك، إلى حيث سنمضي؟
قال:

سمعت شيئاً من هذا يتردد في الطوابير العالمية الوافدة إلى الدار الدنيا قبل أن نفترق معها.

قلت:

ولم َ تراهم يعيرون العاطفة، ويتعايرون بها ومنها؟

قال:

لخصاصةٍ بهم تخصهم وحدهم ربما أو لغريزة حب التنابز بينهم..؟ لست أدري حقاً، دعني أنام أفضل من المجادلة في عقيم الأمور.

ألصقت أذني به لأتجسس عليه بعدما قطعت هي الاتصال معه بإرضاع طفلها والغناء له، مضى يدندن أغنية شجية يقول فيها:

أنا قلبك أيتها المرأة المسكينة

أنا النابض لك الذي يرفضون صوته

رغماً عنهم أقول كلمتي

أنا من تستعملني نساؤهم بالسر ولا أفضح أحداً

أحبّ وأحبّ وأحبّ

هذه هي مهمتي

أيتها المرأة التي تنيميني

فكري في أمري قليلاً

كما أفكر بك

أنا جائع لمن أحببته

وسأنكمش مثل زبيبة إن لم أجده

ولن أمنح نفسي لسواه

لم استشرك لحظة نبضت به وانبضني

الشكر لذاك النّور السرمدي الذي يسمّونه الحب
الشكر والبقاء له..

الشكر والبقاء له..

في الإبان ترنّمت حاملتي لئلا تسمع صوته، قائلة:

عزيز عوزوني فيه   م البخت ناس مني ونا لهم(80)
م البال وين ما ننساك   يجيبك منامي ياغني
مستوه في الخلا والد وج   من فاهق اقدم صيورني
كان فيك باقي دمع   أبكيبا علي وع القدم
من يومن مشو لولاف   ونحنا الواسعة ضايقتبنا



نظرت إلى نفسي من الداخل، تحديداً لذاك الشيء الصغير الكبير، مخمنة في قدره الذي سيسوقني إليه، كان وادعًا في القطمير الشفاف الذي يغطيه، بت أنظره حتى حانت ساعة مولدي، فاكتشفت أنه لم يولد معي ولم أولد به، ولما حاورته أخبرني بأنه يولد دائماً فيما بعد ويموت أيضاً فيما بعد!

*   *   *   *   *

نشط اللاوعي داخلي فسال من أطرافي، وصعب عليَّ التحكم به كان أشبه بالعجين المخمر الذي نساه أصحابه في الوعاء، كان يتألم أمامي من أشخاص لم أعرفهم، وفهمت بعد لأي أنه يتألم من الحياة بشكل عام، وأولئك الأشخاص ما هم إلا عينات ستصادف أي مخلوق حيٍّ، كان اللاوعي يفيض مثل صنابير المياه عندما تنفلت بعطب مفاجئ، وأنا ألملمه بيديِّ الصغيرتين عاجزة عن فعل شيء أكثر من مد اليدين.. كان يئن هاذياً، دنوت منه أكثر فأكثر فسمعته يقول لنفسه:

ـ أنا من أكون؟

ولماذا جئت؟

وكيف جئت؟

من أنا؟

أنا من؟

وما هي مهمتي في هذا الكون الوسيع؟

إن لم أكن أنا الآتي في تلك اللحظة، فمن كان سيحل مكاني..؟

وماذا سيكون شكل بديلي وطبعه وتفكيره؟

ألا يمكن أن يكون هو أنا المكرر..؟

أم أنا مكرر غيري..؟

ترى لو خلقت طائراً، فأيَّ طير سأكون؟

بندقية من ستترصدني؟

وأي حيوان آخر سيطاردني ليأكلني؟

وكيف ستكون نهايتي..؟

وإن كنت حشرة، فمن أي أنواع الحشرات سأكون؟

خنفساء تخشى قصر الأجل، أم ذبابة تجلب العدوى والنوم والنقمة عليها، أم صرصاراً يزهو بشهرته وصوره المطبوعة على علب المبيدات؟

أم نملة لا تُتسفد، أم نحلة تركض بإلحاح لتعطي جني عمرها لشخص مرتاح؟

وإن كنت حيوانًا فأي حيوان أنا؟

حرباء تتخفى من الموت بالألوان أم ضفدعة تخاف التمدد على طاولات التشريح أم ديناصوراً يكافح الاندثار، أم غزالاً مرتجفاً يركض إلى قدره في بطن السباع، أم تمساحاً يسلخون جلده لصنع حقيبة وحذاء نادرين؟

أم عنزةً ترتع في أعالي الجبال يسرقها رجل يوصم أحفاده فيما بعد بسرقة الماعز؟

أم حيواناً منويًّا لرجل يسفحه في غيرما موضعه؟

وإن كنت نباتاً فأي نبتة سأكون؟

نبتة من النباتات اليومية التي يفرمونها لحشو المصارين والتزلف لأمعاء فلان الفلاني لكي تستحي عيونه أو يلتوي لسانه، أم من تلك التي يزينون بها الدور ويرفعونها في وجه المرض ويجففونها على ذكرى الأموات؟

أم من تلك التي ترسل السموم كما يرسلها الآدميون، أم من تلك التي تنمو في أعماق الظلمات، وقلما علم أحد ماذا يحدث لها، أم من تلك التي يبخرونها لتفريق المحبين، أو تقوية الباه، أو زرع الفشل، أو إحداث الفتن، أو طرد الحسد، أو جلب الهوام، أو محاربة الصرع، أو إدرار الحليب، أو إخماد النزوات، أو ربط الأزواج، أو تهدئة الصبيان..؟

وإن كنت هواءً فأي نوع سأكون..؟

هواءَ مدخنة، أم فرن أم مدفأة، أم مروحة، أم رئتين، أم مسامات، أم مؤخرة آدمية، أم هواء ثقب نافذة أم باب، أم هواء شفتين، أم هواء أشجار، أم هواء مكيف، أم كتاب، أم طائرة، أم سشوار، أم منشفة آلية، أم عادم سيارة، أم هواء تيارات بحرية أم جبلية أم صحراوية..؟

أم هواء صافرة في ملعب من ملاعب الحياة غير المحدودة؟

وإن كنت تراباً، فترابَ أيِّ أرضٍ سأكون؟

تراباً أرضيّاً يداسُ يومياً، أم تراباً في صحراوات نائية، أم على سطح كوكب غير مرتاد، أم تراباً يحمل فوقه ماءً، أو يطير في الهواء إلى جهات غير معروفة..؟

ترابَ ذهبٍ أم ترابَ سوقِ خضار،ترابَ أفرانٍ أم ترابَ مقابرَ، أم ترابَ عفسة قدم يطلبه السحرة لرصد الحركة، وتحريك القالب في اتجاه القلب أو عكس الاتجاهين؟

تراب للقمامة أم تراب للزراعة..؟

ترابَ ساعةٍ أم ترابَ زمن؟

وإن كنت ناراً فأيَّ نارٍ سأكون؟

نارَ ولاعة أم بوتاجاز، حطب أم حريق، مصنع أم وقود، مدفأة أم حرب، شمعة أم فحمة، نيزك أم قلب..؟

أما لو كنت حبًّا أو حزناً أو خاطراً يعتمل في الوجدان، فكيف سيكون شكلي وفعلي..؟

خاطرة حب سأكون أم خاطرة بؤس؟

ماذا كنت؟ وماذا سأكون؟ وبعدما أكون ماذا سيحدث لي؟

وبعد أن يحدث لي ما سوف يحدث لي، ماذا سأصبح؟ وإلى أين سأذهب وماذا سأكون؟!

وإن لم أكن أي شيء من الأشياء فماذا تراني كنت سأكون؟!

انتبهت لنفسي إذ شربت حاملتي محلول (المصيَّر) الكاوي فتلاشى اللاوعي من محيطي، فشكرت الله أنه لا ينشط باستمرار، وأنه شبه معدوم لدى الكثيرين هنا، ولا يتوفر الوقت لسماعه لدى آخرين، ومعبر عنه في ثقافة الشعب (بالعقل) ويستعملونه عندما لا يستطيعون الإفصاح عن انفعالاتهم الحقة، ما معناه ألا لوم عليَّ مما يأتيني منه وما يأتيني به، بل اللوم على ما يُدخل إليه.

*   *   *   *   *

خطرت لي فكرة تمثيل دور طفل صغير في عائلة ليبية، راودتني الفكرة حين كان منزلنا فارغاً وحاملتي نائمة تشخر، وأنا أحاول اختبار ملكاتي العقلية.

كان لي أخ توأم، وكانت أمنا لا تملك حليباً يكفينا في صدرها، فذهبت لمؤسسات الضمان الاجتماعي تتسول لنا حليباً معلباً، فقيل لها إن الضمان تخاصم مع الشركة المتعاقد معها لأنه لم يسدد ما عليه لها، لذا عليها الاتجاه للصيدليات الخاصة فهي ربما تملك شيئاً من آخر شحنة حليب دخلت البلاد قبل ثلاثة أشهر، إلى أن يسوي الله الخلاف المالي بعد سنة على الأقل مع الشركة المصنعة!

واتجهت فوجدت طوابير لا تعد ولا تحصى من البشر يلتمسون علبة حليب واحدة لأطفالهم، كان الطابور كافراً بالنظام والسلوكيات المتحضرة والذوق، لفقدانه الأمل في كل شيء فما يحدث يشيب الرضيع، وعلى ذلك فالآباء أمام مشكلات كثيرة منها:

الأولى إشباع أطفالهم وحمايتهم من الجوع، والثانية: شراء الصبغة لمواراة الشيب الذي اعتراهم، فهل تراهم يملكون النقود..؟

والثالثة أن يكونوا أكثر صبراً من أيوب، فالصبر المطلوب منهم ليس ذاك المقرر على الأنبياء، بل الصبر الذي إن تعلمه الشخص العادي حوله إلى نبي لا كرامة له في أرضه.

كانت الصيدليات تبيع القليل من أنواع حليب الأطفال بأسعار خيالية لا يمكن أن يدفعها والدنا، ولما كنا صغاراً وجياعاً وأبونا فقيراًَ، ودولتنا غير ندية معنا، أصبنا بالاكتئاب المزمن، فشنق أحدنا نفسه بحبل المشيمة المدفون في ركن البيت ومات الآخر حيًّا!

قُهرت أمنا فينا فاعتزلت الفراش لئلا تزيد عدد الليبيين الجياع، لذلك باضت بقية أولادها بيضاً!

تراجعت عن هذه الفكرة التي أوحى لي بها خلو البيت ونوم حاملتي، فعدلت عنها بسرعة، وقمت بركل حاملتي في بطنها لتصحو، فنومها يعني أنني سأرى بعينين صاحيتين ما ستراه هي في خيالها خلال النوم، وما يجب أن تبحث له عن تعبير في اليقظة.

تمسكتُ بدهاليز البطن أكثر فأكثر فأكثر خوفاً من موضوع الحليب.. حتى لاقت القابلة صعوبة في استخراجي!

*   *   *   *   *

وجدت أحد الذين دخلوا البطن قبلي قد كتب على جدار من جدرانه السادسة هذه الوثيقة التي أرابتني في الكاتب والمكتوب.

جاء في الوثيقة:

قد لا تصدق بأنني الآن راقد، وراقد إلى أجل أو إلى ما لا نهاية له، سأشرح لك كيف أناموني لتتجنب مصيري، كانت موانع الحمل غير معروفة، والمرأة ترغب في إيقاف الإنجاب لأن تواتر الولادات يرهقها وهي تريد زوجها ولا تريد العيال في نفس الوقت، لا أدري من علمها طريقة الترقيد، لعله الشيطان أو إبليس الحاجة أو الفقيه الذي يعايد جميع الناس من جميع الأمراض العضوية والنفسية المعقدة!

هناك من لا يقين له بالترقيد، إذ يقول إنه عملية مواهمة تتخابث بها المرأة الشيطانة حين تتلاعب بعرضها وهي ذات بعل، وتخشى الحمل من سواه، وهناك من يقول بأنه نتيجة جهل الناس بشيء اسمه انقطاع الحيض، وعمليات التنظيف التي تعقب الإجهاض حيث ينمو مرقد جديد للمرأة يمكنها من الحبل، فتظن بأن الحمل الجديد هو حمل سابق توقف عن النمو، لكن من ليسوا أنصاراً لهذا التفسير يقولون بأنه ادعاء شبه طيب.

يتم التنويم بخلطة من أعشاب الغابة تأكلها المرأة في أول أيام التخصيب لتوقف نمو البويضة، ولا تأكلها مرة أخرى إلا إن أرادت تنشيط البويضة في الرحم، أو إن أخطأت وأكلتها كلها أو بعضاً منها.

جاءت إحدى عجائزنا الحكيمات لحاملتي وعملت لها الخلطة فأوقفت نموي، عمري الآن كبير جداً لو أن سبيل نموي أطلق ربما أكون أكبر إخوتي الآن أو أكبر من الأولاد الذين ولدوا قبلي ومن رئيس الجمهورية الذي يرأسنا... بكلمات أخرى سيكون عمري عمر حاكم عربي يكبر عمر حكمه دون أن يكبر هو على الإطلاق!

أنا أعيش مرحلة الشيخوخة في بطن حاملتي العجوز التي صارت تخجل من إنجابي، لأن كبير أولادها أصبح جداً الآن...تصوروا أن تخطيء أو تخرف فتأكل من الخلطة الممنوعة عليها، حين ذاك سأعاود الحياة كالبيضة في جهاز التفقيس، وستنجبني العجوز ويكون أصغر أولاد شقيقي الذي يكبرني أكبرَ مني بعشرين حولا!!

ولكي يَعْلمَ الناس بنومي، فلا أنجب بعد موت والدي، وتتهم حاملتي بالزنى أو أنسب خطأً لزوجها إن تزوجت بعد أبي، تحتاط تقاليد تحنيط الأحياء لتلك الأمور فتحميني حاملتي، وتحمي نفسها بالمرور من تحت تابوت والدي حين يخرجونه من غرفته إلى القبر، فمتى مرت والدتي من تحت التابوت عرف الرجال المصطفون أمام البيت أن للراحل الكريم نطفة حية جُمدت أو أُجلت في البطن أو في الغشاء الرحمي للزوجة.. فعلى من يريدها زوجة ـ إن ترك لها العمر مجالاً لاتخاذ زوج جديد، أن يعرف بأنه سيربي يتيماً مات عنه والده من سنوات خلت، ربما كان سيصبح فيها هو واليتيم رفيقين لو ولد آنذاك!

انتهت الوثيقة.

ألا يمكن أن أكون أنا من حرر تلك الكلمات في لحظة ترقيد إجبارية فاشلة أو ناجحة، صادقة أو متوهمة؟!

ألا يمكن أن تكون أنت؟!

بدأت بالفعل أشك.

نصيحة... إن كنت راقدَ بطنٍ فابقَ راقداً أبديَّاً، فللدنيا أيضاً رقودُهَا المكنيُّ به عن لزوم الفقر، حيث يسمى الفقير بـ (راقد الريح) وهو من يفترش العراء ولا يملك شيئاً.

ألا ترى معي بأن راقدَ البطنِ خيرٌ من راقد الريح لو كان لك أن تختار بين الرقدتين هنا..؟!

*   *   *   *   *

تتوحم حاملتي على أكل الفحم ـ أكلت ما يعادل شجرتين من الفحم، تكفيان عائلة متوسطة في شتاء قارس.

جج

في بطنها عثرت على قطعة لم تتفتت فتتحول إلى دم أو براز أو تتجرد إلى فكرة أو معنى أو كرة حمراء أو زرقاء أو صفيحة معدنية كالتي يضعون فيها القمامة.

كان بوسعي إمساكها والكتابة بها لكنني لم أفطر على حب الحرف... يا للخسارة!

كانت أمامي فرصة كبيرة للتعبير عن الذات.

فحمة متماسكة وسبورة سوداء (ظلمة البطن) وحرية مطلقة وحصانة ضد الشجرة الغريبة التي تنتج صمغاً يغلق الفم للأبد... تلك الشجرة التي لابُدّ أن تهز جذعها الأمهات أثناء المخاض لكي يلدننا!

*   *   *   *   *

كان ثمة رسام يرسم الناس قبل اختراع التصوير، لم يكن على هذه الأرض مرآة يرى فيها الرسام نفسه، لازال الرسام بلا أوراق رسمية حتى يأتي من يرسمه أو تدخل هذه الأرض شقفة مرآة... كان الرسام يستعمل الفحم في رسوماته وكان السطح الممحو هو الوحيد الذي نجا من السواد الرسمي.

*   *   *   *   *

ازداد الوهم عليَّ بوجود شبيه لي يشبهني في كل شيء، وإن في الأفكار التي تدور في الرأس، فمثلاً إذا ما فكرت أنا بأن هناك عنزةً لها صديق هو في الأصل كلبٌ سلوقيٌّ، فكر هو بأن يجعل العنزة تفاتح صديقها الكلب في رغبتها بالخروج للبرية لشم الهواء، وإذا فكرت أنا أن أجعل السلوقيَّ يوافق لها على أن تحتاط من المخاطر، فكر هو في إن يخرج لها من قلب البرية ذئباً ينط عليها ليأكلها فلما تسأله: ما بك؟ يتحايل عليها بأنه إنما يبحث عن القبلة ليقيم الصلاة!

وإذا فكرت بأنها سألته الأمان فأعطاها، فكر هو أن يجعل الذئب يقول لها بأنها مدينة له بمعدتها، لأن أمه ـ رحمها الله ـ أوصته قبل موتها بأن لها ديناً عند العنزة هو معدتها، وإذا فكرت أن أجعل العنزة تسأله عن الشاهد من يكون، فكر هو أن يجعل الشاهد أنثى الثعلب صديقة الذئب، وإذا فكرت في أن الثعلبة الشاهدة قالت للعنزة بأن لها هي أيضاً ديناً عندها وهو معدتان وليس معدة واحدة، فكر هو بأن يجعل العنزة تختلهما في الكلام حتى يصلوا مكان صديقها السلوقيِّ، وإذا فكرت بأن أخرج عليهما السلوقيَّ ليطاردهما، فكر هو أن يجعل الثعلبة التي تجري في خط غير مستقيم تهرب ويهرب خلفها صديقها الذئب، وإذا فكرت أنا أن أجعل الذئب يقول لصديقته: (عوكري عاد يا شهادة الزور.. أنا انقول دوارة وحدة وأنتي تقولي اثنين..!؟)(81).

فكر هو أن ينام لكي يجعلني أنا أيضاً أنام، فهل نام حقاً، أم ترك إحدى عينيه مواربة نحوي..؟!

*   *   *   *   *

وإذا ما نام ونمت رأيت في المنام حطاباً يحتطب في يوم قاسٍ، فيمر به وزير يصطاد هو وحاشيته، فلما دنوا من الحطاب قال الوزير: ثلاثة لا تغنيك عن ثلاثة، وكان يقصد بالثلاثة شهور الحصاد، فرد الحطاب قائلاً:

(انسلف ونتلف ونرد في سلف)

قال الوزير لرئيس ديوانه: رُدّ عليه، فلم يدرك رئيس الديوان رداً، فلما وصل الركب إلى المدينة رجع رئيس الديوان للحطاب خائفاً وقال له:

سأُعزل من وظيفتي لعدم استطاعتي الرد عليك، أرجوك فهمني ما عنيته.

قال الحطاب:

أما (انسلف) فأعني بأني زوج امرأة لديها أولاد من غيري أعيلها وأعيلهم وما أفعله لهم اليوم سيفعلونه بي عندما أتقدم في العمر وأما (انتلف) فلي عيال من امرأة أخرى يستهلكون كل ما أرسله لهم لأنه بالكاد يكفيهم نفقة، وإما (نرد في سلف) فوالدي كبيران في السن وأنا عائلهما الوحيد، أرد لهما بعض ما فعلاه لي في صغري.

رأى الآخر الذي كأنه أنا أن ثمة رجلاً اسمه (بَشَره) يعيش في البرية ومن عادته أنه يخاف الخروج للخلاء ليلاً لقضاء الحاجة فلما أيقظ زوجته (ليخرى) وقفت تنتظره حتى ينتهي، وإذ هو هكذا نظر إلى السماء فرأى القمر مضيئاً قال لها:

(ها لقمره باهيه لضرب الرجال)

ويعني بأنها ليلة مناسبة للقتال والإغارة، فردت الزوجة قائلة له:

(اسكت ماخريت لوحدك يا بال تضرب الرجال!!!)

وعنت بأنه عاجز عن قضاء حاجته لوحدة فما بالك بحرب الرجال..!

ولأنّ ما عند الآخر كأنّه تماماً ما عندي، فقد اعتبرت المنام كلّه منامي وكان بودي لو أتخاطب معه فأعرف إن كان سيعتبر حقيقتي حقيقته وحقيقته حقيقتي..!

كان بودي أن أسأله لولا أنني وجدته سابحاً فيما وراء النوم وأنا موغلة جداً في الواقع!!

*   *   *   *   *

لعبنا أنا وأخي لعبة تقصر ليل البطن الطويل، يسمونها محلياً لعبة (قالا قالا) قانونها أن من لا يقول شيئاً ردًّا على قول الآخر يعتبر على الفور هو الخاسر.

قلت له:

تخيّل أنّ سكان هذه البلاد رُشوا بغازات الكذب والغش والاحتيال، فتناقلوها في بلازما الدم، حتى اندثرت الجينات الطيبة إلا قليلاً.

قال:

سيقولون هنا ـ كدليل على ذلك الاندثار التّاريخي ـ الطّيب الوحيد الذي يمكن الوثوق به هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمدٌ قد مات.

قال:

ماذا كنت قبل أن أكون نطفة..؟

قلت:

إذا كان الكلب متسلسلاً من فصيلة الذئاب، والدجاجة من النعام، والبرص من التمساح، والسحلية والعظاية والحرباء من الديناصور، والقطة من النمر، فسيبقى في السلوك والسمات الظاهرة للابن شيءٌ من جده، أما أن تصير إنساناً هكذا دون إرث ما فلا أستطيع أن أقول لك بخصوصه شيئاً، ما لم تكن هناك فكرة أقوى تقول..!

قلت:

تخيل أنك صرت دواءً لخفض ضغط الدم..؟

قال:

سأكون مقطوعاً على الدوام وغير منتظم التداول، لكي يرتفع ضغط الناس، ولكي تفتتح لي الحكومة التي تجلب الضغط مصنعاً محلياً في القريب.

قال:

وماذا لو صرت مرض السكري؟

قلت:

سأكون حكومة وحدي، وأقطعه على الناس في الأكل، على فكرة، كم وصل سعر جوال السكر في السوق السوداء؟

ـ ببندقية علي العبد(82).

قال:

لو أن ثمة آلة غير الوقت تجعلك زبيباً قبل أن تكون عنباً، وقمر دين قبل أن تكون مشمشاً، وقديداً قبل أن تكون لحماً، وإنساناً غير الذي أنت عليه حالياً، وأن تتغير وظيفتك الجسدية والنفسية، ماذا تختار أن تكون؟

قلت:

تلك الآلة..!

قلت:

تخيل أن تحتفظ بأشعة من شمس اليوم في دولاب ملبوساتك لكي تدفأ بها، وأن تقبض على جزء من سنا القمر وتستعمله بعد طلوع النهار، وأن تتمسك بالحبل السري الذي ربطك إلى أمك، وأن تكون بعد انقلابك إنساناً!

قال:

تخيل أن تتحول إلى مخلل بشري تأكله السباع إلى جانب فرائسها، وأنك تموت وتحضر موتك من الأول إلى الآخر، وترى نفسك وأنت تتحلل في التراب إلى دودة حقيرة أو ثعبان، هل ستأكل لحم الأموات من أقاربك الذين أكلوا لحمك وأنت حيٌّ، أم ستأكل لحم من لا تعرفهم؟

قلت:

أنقلب تمساحاً يسحق عظام رئيس القبيلة العظيمة، فما فعله فاقَ حد التخيل الممكن أن تستوعبه فكرة ما!

قلت:

أنت أسد هذه البلاد كلها، جعت والله الغالب على أمره، حتى انقلبت سماتك وتنافست الأسود العالمية على زعامة الغاب، فغلبت أقوى الأسود، واستغرب الغاب أن يهزم القط أسداً، هل ستقول لهم بأنك لست قطاً بل أسدٌ جائع..؟

قال:

ستعقد المفاجأة لساني.

قال:

من تراه يدق بابنا الآن؟

قلت:

امصورة العورة.

قال:

وماذا لو لم تكن هي؟

قلت:

بل هي، فهي ليس لديها بعد نظر بدليل أنها تأتي ساعة القيلولة.

قلت:

ماذا تعشى حمارك البارحة؟

قال:

فول مدمس.

قلت:

دمسوك امدمسين، لبزو عينك بالطين ياحزارك يامزارك البارح ايش تعشا حمارك(83)؟

قال:

إنه بالكاد يحصل على وجبة واحدة، اسكت، اسكت واسمع ما تقول (امصورة العورة) لأمنا؟

قلت:

لا أستطيع السكوت لأني سأخسر.

قال:

لنعتبر ما تقوله (امصورة) داخلاً ضمن لعبة القيل والقال.

قالت امصورة:

هذه الدنيا معكوسة، كلما زرعت فوله ظهرت كوسة (مشراف بنت تقاوي أخت جندل بو حبلة) سلفتها خمسة وعشرين ديناراً فلم تردها لي، ولم تعترف بأن لي عندها شيئاً و (عطا الله) الذي عالجت ولده من الرمد بيديَّ هاتين بعدما جلبت له بعر الحمير، وكحلت به مآقيه ليستطيع المشي في زفة أخته معتوقة، تنكر لمعروفي حينما قلت له إن (الحاجة الساكتة) ولدت له بنتاً.

قال بغضب وهو يقفل الباب خلفه بقوة:

(الله يبشرك بطلاقك، وطلاق أمك)

لقد نسي قليل الخير بأنني جدة سبعة ذكور من أولاده!!

هؤلاء الناس لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، ومهما فعلت لهم من خير تناسوه، تصوري أن جد والده أيام الجاهلية الثانية دفن ابنته حية، ثم ذهب في المغرب ليستخرجها فلما قيل له لماذا (يا بودحقله) قال لهم وقد تداخلت (فيوزاته): ليس عندي بنات يبتن خارج البيت!! جن المجنون والله مثل جده الأول بسبب قدوم البنت السادسة!!

اسمعي ماذا حدث لبدرية؟ قولي لي ماذا حدث؟

قالت:

ماذا حدث لبدرية؟

جلب لها زوجها ضره مصرية، لكم قلت لها احكمي لجام التيس فمصيره هاجرك ومستبدلك، لكنها لم تعتنِِ بنصائحي، قفل الله باب مصر على رجالنا، فحتى أهبلهم تزوج ليكثر عدد المخبولين في البلد!

الناس التي تعاني من أولاد لها بلغوا سن الزواج وبهم خصاصة في عقولهم أو جسومهم وجدت مفتاح الفرج في فتح الطريق على مصر، إذ ما يكاد الواحد منهم يضع رجله هناك حتى يعود بعروس يضع في عنقها مسئولية الولد غير السوي، يقولون بأن الفقر هناك يجعلهم يقبلون على تزويج بناتهم دون إعمال بصر أو فكر في الآتي إليهم الذي لو كان فيه خير لما رماه الطير!

إنهم يتخلصون من حملهم الثقيل في ليبيا، ليبيا اسم الله عليها حلالة عقد.

زوج بدريه مثل (امجيحيد المكلوب) الذي لم يقبل نسبته أحد بسبب كلبه، ولما ذهب لمصر جاء بعروس أصغر منه بعشرين عاماً ومثل فلقة القمر!

ـ أين ذهب كلبه لما ذهب لمصر؟
ـ الفلوس تغطي عيوب التيوس!

أول أمس ولدت له ولداً لا يشبهه، وقد قالت لي وأنا أقوم بتوليدها بأنه هددها بالطلاق وحرمانها من الطفل إن استعملت أي مانع للحمل بالسر عنه، فهو يرغب في أن تكون له ذرية بالدزينة، واشتكت لي بأن المشكلة ليست في تكوين دزينة أو أكثر بل في الممهدات لها، فهو شرس وعابس معظم الوقت، ولا تعرف كيف تدخل فيه، إنه غير لطيف وغير نظيف، ولم يقل لها منذ تزوجته كلمة غزل واحدة، وكلما سألته لماذا لا يفعل، رد عليها بأنه ليس قليل أدب أو رخو مثل رجالهم، ولا يمكن أن تحكمه امرأة!

هو الآخر مجنون وجاحد، كلهم مثل كيس البصل، ليس من بصلة فيه لا تدمع العين!

قولي لي ماذا حدث لمجاور العبد؟

ـ ماذا حدث لمجاور العبد؟

تركنا امصورة العورة تلعب مع حاملتنا لعبتنا إذ كما يبدو لن يكون هناك رابح وخاسر سواي وأخي.

*   *   *   *   *

في ليلي البطني الطويل تمنيت أن أرى الشارع كما يراه أخوتي الصبية، اقتنصت فرصة مد حاملتي رأسها من وراء الباب لتكلم جارتها، فتمددت باتجاه الشارع لكي أرى هذه المشاهد تحدث في العالم الذي لم أنزل إليه بعد.

فتاة تنشر الغسيل اليومي في البلكونة الضيقة المطلة على المنطقة الشعبية المزدحمة بالسيارات والدكاكين، وسائق التاكسي الأربعيني الذي يقف بجوار الرصيف حتى ينزل الزبون لا يضيع الفرصة... يمد رقبته من السيارة ويرميها بعينيه متحسساً شيئه لعلمه بأنها من أعلى ترى جسده في السيارة كما يراه الله الذي لا يريانه، حين ترسل له شارة امتنان، تمضي الوقت في نشر ثيابهم الجافة أملاً في سائق أجرة آخر يمر.

طفل يسير ببطء على الرصيف حاملاً كيساً به خبز، يتفرج على المعروضات مكلماً نفسه بصوت عالٍ (كل يوم هم للمدرسة وأنا اللي انجيبلهم الخبزة... ظنا الكلب) ينسى نفسه أمام بائع الكبد، وينسى أخوته الذين ينتظرون قدومه بالخبز لكي يأخذوا شطائرهم ويذهبون للمدرسة، البائع الأجنبي يرتب الفاكهة والخضار في صناديق العرض لا ينتبه لذبابة خضراء كبيرة تتنقل بين الصناديق ثم تتبرز على حاجبه، الجزار القريب منه يغش اللحم المفروم بالبلاعيم والشحم والمصارين، ضابطاً الميزان على القياس الذي يريد،تقف حافلة بها ضيف لبيت مجاور سيتغدى من اللحم الذي باعه الجزار لرب البيت، مكتب تأجير السيارات يجلس به رجل بدين يطيل النظر في الكتاب الذي أمامه ثم يختل العامل معه ويتلاعب في عدادات السيارات،صبية من نفس الحي يكومون القمامة في المتسع الموجود أمام العمارات، الشرطي الذي ينظم عبور السيارات يرهقه العمل في الشمس الحارقة ومعاملة رؤسائه وعدم موافقتهم على منحه سلفة أو إجازة، يقف في ظل إحدى العمارات مغازلاً بعض المارات، أحدهم يمد يده لحقيبة امرأة كبيرة تمر فينهب حافظتها، سوف تتهم كنتها وأولادها بسرقتها، أولاد كثر يلعبون في الشارع يغشون بعضهم في كل لعبة طمعاً في فوز معنوي، رجل درويش متسخ الهيئة يجري خلفه الأطفال بالحجارة يصرخ بهم قائلاً:

(مهبول يا زارع الفول في فم باب المدينة... مهبول يا واخذ القول في صاحبه كيف عينه)(84).

تدخل حاملتي دون أن تنهي كلامها مع جارتها، زوجها يأتي ويخبرها أن ابن خالتها دهسته شاحنة بمقطورة، تولول فتنقطع كل علاقة لي بالشارع الذي رأيت.

*   *   *   *   *

حين كنت أنكفئ على نفسي كان هو يطيل ساقيه بمدهما حتى تلحقان بظهري، كان يهوى الدخول في حدودي ومشاغبتي بالركوب فوق ظهري لقراءة المكتوب على جبيني هل سأكون شقياً أم سعيداً، وما هو رزقي ومعاشي ونصيبي في الحياة، هل سأكون أفضل منه حالاً أم سيكون هو الأفضل مني..؟

كان مشغولاً على الدوام بمن سيكون أفضل مِنْ مَنْ؟

اخترع هذا السؤال ليتعذب به ويعذبني، لقد كنت متبوعاً بالتجسس حتى في عالمي الضيق هذا!

ذات يوم افتقدت ساقيه فحاولت الاستدارة نحوه لمعرفة ما به.

مات الذي معي منتحراً..

يا للمفاجأة!!

ماذا أفعل وكيف أتصرف لأخبر حاملتي بموته..؟

كانت الساعة السبعون بتوقيت الظلام... المرأة نائمة... فاجأها الألم... صحت رجلها النائم فعقد حاجبيه وشتم كثيراً مستخدماً جميع ما حصله في سنوات حياته من هذه الموسوعة المعرفية، نقلها إلى المستوصف فاستقبلتها السوريلا الإيطالية التي صعب التفاهم معها بغير الإشارة وإعمال الذهن... أدخلت المرأة ليراها الطبيب المناوب فاعترض الرجل على أن يشاهد أجنبي عورة زوجته.

أوشكت المرأة على الموت بين الطبيب الذي يبرطم على أن الحالة إنسانية ولا دخل لها بالديانة أو الجنس، وبين زوجها الذي يرغي ويزبد عن الرجولة والحشمة واستحالة الموافقة على أن تعري امرأته نصفها السفلي بينما يبقى وجهها مغطىً؟

نزفت المرأة، عاد الرجل بها للبيت، دمها وسخ بلاط المستوصف وكرسي السيارة، تركها في البيت تنزف وذهب ليحضر القابلة.

جاءت القابلة وأنا أشرق بدم الآخر حتى شربت منه، اتهمتني بأنني السبب، تراجع أخي عن قرار الموت لما رأى أن الموت أصعب من الولادة عليه وعلى أمه مقرراً الموت بعد أن نترك البطن بقليل، وهذا ما حدث أثناء ولادتنا.

بحثت القابلة عن الجثة، مسكت رأسي وسحبته بقوة تخلصت من قبضتها عند عنق الرحم... عندما أدخلت يدها مرة أخرى عضيتها، فاعتزلت من ليلتها العمل كمولدة، كانت تلك الحادثة سبباً في تغيير مسار حياة الحاجة (مرجوها) من قابلة إلى خاطبة، فلا أدري إن كان ذلك التحول في صالح الصالح الخاص والعام أم لا..؟

ستسألون من أين لي الأسنان التي قطعت بها يد الحاجة مرجوها؟

وسأقول لكم ما دامت الحياة في الخارج تشيب الرضيع فإن معاملة من مازال في الداخل تُثغر أسنانه قبل الأوان ليدافع بها عن حياته.

نصيحة... احذر نيات الإخوة، متحسساً لثتك بين الحين والآخر، ولا تنتظر أن يتحسّسوا شيئا أمامك.

*   *   *   *   *

الشيطان!!!!!!!

رأيته حين كان يزورها من الداخل، يقول لها موتك أفضل من حياتك، تسكت هي وتنصت له، يركز كلامه معها على جميع الأشياء الفاشلة في حياتها وعلى ما طمحت إليه ولم تحقق منه شبراً، تعلم بأنه أول من عرف بأنها تجامل عمرها الخالي من الفرح بأيّ شيء حتى الأولاد الذين أنجبتهم لم تستطع أن تحبهم كما يجب فما هم إلا نتيجة لزواج مرمم آيل للانهيار عقب كل ولادة... وبيتها بيت يحافظ الصبر على بقائه قائماً أمام الناس خوفاً من شماتتهم ليس إلا... إنّ أمها تقول لها حين تعرب عن عدم شعورها بالسعادة بأنها هي أيضاً لم تكن تريد والدها بعلا، لكنها حافظت عليها وعلى إخوتها من التشرد، فهي لم تكن تحب والدهم ولا أهله ولا قرعة رأسه، ومع ذلك غالبت الشيطان الرجيم ورجمته بأن صارت تنجب من رجل قدرها، لكي يحببها الأولاد في البقاء عنده ويعزونها عن آمالها الضائعة حين يكبرون، فتجد فيهم ما لم تجده في والدهم، وما لم يتوفر في عمرها الأول.

كان يقول لها في لحظات ما قبل النوم اطلبي الطّلاق وعودي لأهلك، لكن أخوتك وزوجاتهم سيعذبونك ويكرهونك في حياتك، ولن تري أولادك وبناتك، وستعيشين خادمة وجارية في بيت أهلك، ويكون مرخصاً للصغير والكبير استعبادك، وربما سيفرضون عليك زواجاً آخر تكونين فيه الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو... وإن وافقتِ فستتولى تعذيبك ضرتك وأهلها وأولادها، حينها لا مفر لك من ترك أولادك من زوجك الثاني إلا بالموت عن إرادة وتصميم، فلماذا تؤجلينه وتعذبي نفسك أكثر؟ لماذا لا يكون هو خيارك وخلاصك منذ البداية؟ وما قيمة الحياة التي ستعيشينها مادامت من أولها لآخرها ستنقضي في النكد والمشاكل بالإضافة إلى أننا في حياتنا الآخرة فيما بعد سنخضع للتعذيب سنخضع مهما كنا دراويش، فالخلاص من عذاب الحياة مقدور عليه، أما الآخرة فاتركي أمرها لساعتها، إن عذاب حياة واحدة أفضل من اثنتين.

إنّ (محمولة بنت حمالة) التي وجدت مشنوقة في زريبة البهائم ارتاحت من حياتها التي لم تسعد فيها بيوم هناءٍ وحيد.

و (اخديج بنت وافية) التي سكبت علي نفسها جالون الكيروسين وأشعلت النيران في جسدها، ارتاحت من نقيق زوجها الخرف وضربه إياها بالباكور(85) ومن معاملة ربائبها السيئة لها.

و (ابخاطرها بنت لهلوبة) الدلالة، التي عيرها زوجها بأمها ثم ضربها وقلعها من المنزل والملابس أمام الناس لاعتقاده بأنها ضاجعت رجلاً غيره وهي تضاجعه مخموراً، أحرقت نفسها أمام ولدها وبنتها بعد يوم من الحادثة.

و (اقبيل الهجالة)(86) التي كانت على قدر من الحسن، ضيَّق عليها إخوتها الخناق وذات مرة ضربها صغيرهم الذي ربته في حجرها لأن الناس في الحومة(87) يتحدّثون بأنّ له أختاً مطلقة جميلة تسرح وتمرح بين الدور، فرطم رأسها نهاية الجدار النافرة وهو يضربها فحدث لها نزيف داخلي ماتت على إثره تاركة طفلة يتيمة لأهلها الأرحام!

لقد ارتحن هن وغيرهن من الشقاء الدنيويّ فماذا تنتظرين؟ هل تنتظرين أن تسعدك الحياة بعد هذا الوقت؟!

ها ها ها ها اختصري عذابك، فلا السجن ولا السجان راحل.

ها... ماذا قلتِ؟

الشيطان يقول لحاملتي هذا الكلام وأكثر منه عن جدوى وجودها من عدمه، طيف أسود يأتيها دائماً قبيل النوم وهي تنصت له حتى تموت الموت الأصغر بالنوم، فترحل عنه وهو مازال يتحدث في أذنيها إلى الصباح.

أحاول أن أتجسس على قلبها ماذا يرد، فأجده مثل هاتف يدق في آخر الليل وحين ترفع السماعة لا تجد به حرارة!

أظل أفكر في كلام الطيف الأسود البشع مدى الوقت فهو وإن كان لا يتحدث معي فإنه يتحدث معي.

*   *   *   *   *

بوسعي الآن فتح عيني استعداداً للاندهاش من الحياة المقبلة، تعمل آلتي البصرية بشكل جيد، تلتقط المشاهد المقعرة والمحدبة الدانية والقصية بتمدد وتوسط وتجانب وتقوم بحفظها في الذاكرة القريبة والبعيدة.

إنهما عينان كعيني السمكة تحت الماء مبهورة وغير مجففة من الروح المباشرة للصور، رأيت الكرة التي تدحرجت فيها ضيقة ولا مجال بها للحراك، صارت تقترب مني المشاهد اليومية، اعتدت عليها شيئاً فشيئاً، شخير الرجل صاحب السلسول وشتائمه وصراخ أطفاله لما يجلدهم بالسوط السوداني المعلق في غرفة نومه دليل أبديّ على الحنان والدفء والعطف الأبوي، كنت أعرف أن الابن الأكبر يتسلل لغرفة النوم فيقطع الجزء الذي ضربه من السوط، لا أحد يعرف ذلك في البيت غيري، شيئاً فشيئاً قصر طول السوط وما قصر عمله، حتى لم يبق منه إلا موضع الكف لذا استغنى الرجل عنه باستعمال كفه فوريًّا إذ لا فرق بينها وبين السوط، اللهم إلا أن السوط يمكن حزه بالسكين وهي لا!

كنت أسمع المشاجرات والمهاترات بين حاملتي ونساء الجيران خاصة، عندما تمط رأسها من وراء الباب لتتدخل في حل مشكلة من مشاكل ابنها الأكبر مع أولاد الجيران، كنت أطل معها فأرى الشارع ثم ما تلبث أن ترد الباب وتنكمش وراءه إن سمعت رجلا يمر أو سيارة تقترب فيطبق عليّ ظلامها مجدداً فلا أعود أسمع غير بكائها الداخلي المكظوم المخبوء داخلها عن أمهاتها وأخواتها وشامتات الحي والأسرة.

عندما تسمع صوت الشكوانتة يوقظني من سباتي قلبها الدمي الذي يدق بإرهاق فوقي، إنّ له صوتاً مثل صوت الكلاشنكوف، تقف الشكوانتة ولايتوقف هو، يبقى مزعجاً مختنقاً طوال اليوم وأثناء النوم، ويكفّ سمعي عن السمع وبصري عن الرؤية حين تنقطع الكهرباء، ويمتد بيني وبينها سبعون ألف طريق مثل طريق فزان، بل أطول وأوحش لما يوشك صاحب السلسول على لمسها،تلك الفترة أقضيها أتخبط في عالم ما هو بالباقي وما هو بالزائل.

بعد عودتي إلى التواجد لا أستطيع تذكر شيء يروى، إنّه غياب موقوت ومؤقت يختفي فيه صوت القلب الطنان وأي حس، تفرغ الدنيا من أناسها ومن الحياة، إنها لحظة فراغ أبدي لا تدوم!

*   *   *   *   *

إنها مرحلة حبة القلب...

حيث تتبع منزلتك لدى منجبيك نوع الجنس الذي تنتمي إليه.

أفرغت المرأة بطنها مني وقال لها صاحب السلسول ما قاله من الإهانات التي لا مسوغ لذكرها فهي دامية وفقط، كما هو شأن الشتائم دائماً، رد عليها بضاعتها التي جاءت بها من المستوصف على يد القابلة الأسبانية الهاربة من حلبات ثيران أسبانيا إلى حلباتنا فإذ بالحلبات لا تختلف إلا في كون المتألم حتى الموت هناك ثور والمتألم هنا إنسان.

إن المرأة ليس بمقدورها التصرف في البضاعة المبغضة فالعودة للبطن مستحيلة لأن لي رأساً سيكبر ويثقل بالهموم والمواجع والرؤى، العودة إلى ظلمات البطن مطلب غالٍ لمن لا يريد عالم الضوء استقبالهم.

يوماً بعد آخر صرت أكبر في جوار المرأة على محاولة إقناع رجلها بي، فخرجت تحدثه بحكاية حتى ينظر إليَّ أو يهفو قلبه نحوي... يا رجل إن البنت حين تأتي الدنيا تأتي وهي خارج حبة القلب، بينما يكون الولد في تلك الطماطمة الكبيرة.

ألا يشبه القلب حبة الطماطم الكبيرة؟!

وعندما تكبر تدخل رويداً رويداً إليها ويخرج هو رويداً رويداً، انظرها إنّها تكبر يا رجل، فينظر إليّ وأنظر إليه، فإذ لا علاقة بين نظراتنا أو محتواها لا علاقة بين الخائف والخوف، بين الجلاد والمجلود، في عينيه رغبة بعدم الرغبة في أن أكبر، وفي عيني تساؤل خائب عن إمكانية أن يحب الولد عوضاً عن أخيه!

وعن الحب الذي يجيء رويداً رويداً بخروج آخر رويداً رويداً وكأنّ القلب الأبوي لا يستوعب الأعداد الكبيرة من الأبناء، كما يستوعبهم الرحم أو السلسول!

أو لكأن القلب مصران يظل يحشى من أحد جهتيه حتّى يخرج حشوه من الجهة الأخرى، القلب في ليبيا زائدة دودية، والعواطف حشو مصران أعور لابد من إزالته في النهاية!

على كل حال ابتسمت له بخوف ثم صرخت، وشعرت بأنني كلما نظرت إليه صرت أكبر بسرعة أسرع، وقد كبرت على ما يبدو حتى على حبة القلب التي لم يمكن لها احتواء حجمي، فالقلب غرفة يضيقها الليبيون لتناسب أبناءهم الذكور، ويمنع دخولها على الإناث، القلب في ليبيا غرفة قياس مخلوقات ذكورية لا يناسب حجمها حجمي، كما لم يناسب حجمي حبات القلوب الأخرى لكبار العائلة من الجدات والأعمام والخالات والعمات والأخوال كانت غرف قياسهم محدودة الحجم مسبقاً وليس لها رخصة دخول.

وهل توجد رخصة دخول للأرض اليباب؟

هكذا لم أجد أرحب ولا أوسع من عتبة منزلنا أقضي بها طفولتي الكبيرة، وأعيد منها جلسة البطن التي تعلمتها خلال الشهور التسعة أتفرج منها على أولاد الحارة وهم يلعبون السمكة(88) والنقيزة وكرة قدم الجوارب التالفة... لو أن القدر أذن أن أكون ذكراً لكنت أحسن من يراقص كرة الجوارب تلك، ويهزم بها شباك حراس المرمى في حيناً والأحياء المجاورة... إنما بعد أن حملت بين ردفي شيئاً أوصوني بأنه ثمين فعلي أن أحفظ غلاءه بوضع يدي عليه دائماً كي لا ينكسر...

هكذا كنت عديمة الحيلة، ويداي مغلولتان أبداً إلى حوضي!

*   *   *   *   *

جاءت مرحلة استئناس الأنفاس... أنفاس الآخرين من سكان المنزل الذي انتقتني المقادير للذهاب إليه دون إرادتي.

وجدت فلاناً وفلاناً وفلاناً إخوتي، وفلانة وفلانة وفلانة أخواتي، دخت في أسمائهم، ولولا معرفتي السابقة بكوكب الأسماء الذي أتينا منه بأسمائنا لقلت في نفسي من أين جاءوا لهم بالأسماء التي تكفيهم..؟

خلطت بينهم في أول علاقتي بهم فهم كثر والحبل مازال على الغارب.

قدّمت الشّكر لخالقي الذي أنجاني بمعجزة من الأسماء الليبية عريقة وغريبة الشراسة، ومن ماركات السيارات والعلامات التجارية التي يسم بها الليبيون وجوه أولادهم وأبدانهم، البنات على وجه الخصوص تزيينا لهن، مدعين أن الخربشة بالكحل وبالآلات الحادة على الجسد هي إحدى سمات الجمال للمرأة.

إنّهم يحبون النساء المخربشة أجسادهن باللون الأخضر، يرسمون على الجسد وكأنّه جدار أو سجاد يدوي يزركشونه ليطأوه في النهاية، وقد سارت أجيال كثيرة بهذه العادة المحرمة، ذاهبين بلحمهم الأخضر للآخرة، وبعلاماتهم التجارية والعسكرية والنازية والشيوعية والرأسمالية دون أن يكونوا على علاقة ـ وإن سماعية ـ بها في الحياة الدنيا!

طال سماعي للأسماء وحاولت التعرف على نفسي بينهم، وعلى مكاني ومنامتي وأشيائي فوجدت أنه يستحيل تحقيق الخصوصية معهم، نلبس نفس الزي ونأكل نفس الأكل، وننام ونصحو في نفس الوقت، ونزور الذين نزورهم معاً، ونغيب عنهم معاً، ويدير ويدبر حياتنا بماضيها وحاضرها ومستقبلها رجل واحد، لا تقدير عنده للفروق الفردية، إنها معيشة جماعية تبعث على السأم من الحياة حينما يكون هناك لصقاء بك كظلك.

بشق النفس عثرت لنفسي على مكان في زنزانتي الجديدة، بعد أن حصلت على لكزات من هذا ولكمات من هذه وصفعات من ذاك وعضات من تلك.

الحياة في المعسكر العائلي تجعلك ترتاب في الهدف الذي ستصل إليه سفينتكم في الأخير، والوجود القطيعي حينما يتعدى الظروف التي تستلزمه متحولا إلى حالة ملعونة من نظام اجتراري مشؤوم.

حصلت على الشهادة الابتدائية في الصمت المطبق وبرود الأعصاب والخوف من عقاب صاحب السلسول، كنت أرتجف في أول امتحان للخوف كلما سمعت سلسلة الشكوانتة تخر خرًّا على الأرض من مطلع الحومة وقبل أن يطل وجهها العريض علينا أخترق الباب إلى ركن قصي من البيت أتوارى فيه عن غضب (باتي) فهو كما هو في العادة لابد غاضب من الشغل، وكما هو فوق العادة لابد غاضب أبدي منا.

وكلمة (باتي)(89) في أساسها كلمة غاضبة انتزعها شخص مغصوب على الطّاعة من شخص مغضوب عليه.

المهم إن (باتي) بعد إيقافه الشكوانتة ينزع حزام بنطلونه وبشيء من اللغط حول مقترفات الابن الأكبر في غيابه ينزل به أليم الضرب فيعلو الصراخ ويشتد التصاقي بعظامي كأصلب شيء يمكنني الاتكال عليه في استنادي، لأن (باتي) لابدّ وأن يكون قد قتل كبيرنا فيما أظن، بناءً على الصوت المتقدم من الضارب والمضروب معاً.

وإذا ما قتل (باتي) كبير إخوتي بحزامه وهو يقوم بتربيته، فلن نتغدى ولن نأكل رز (البلاو) الذي تكمل الأم المشتكية طبخه بهدوء على صيحات ابنها الأكبر، الذي جفف ريقها طيلة غياب صاحب السلسول عن البيت.

إن مذاق رز (البلاو) يتحول في فمي إلي رز بلاء أو رز ابتلاء أو بلاوي بعد كل طريحة يحصل عليها كبيرنا، وينال بقيتنا جزءاً منها إن حضرناها، فنحن حينها كلاعبي الاحتياط بالنسبة لساحة التأديب المنزلية.

لقد بنى لنا رز (البلاو) والضرب أجساماً تتحمل المشاق، كان نصف دهن جسمي من الرز، ونصفه الآخر من قلة الحركة الناتجة عن عدم الحركة في البيت وطمس الوجود (إذا كان باتي موجوداً فأنا موجود ملغي) والعقاب هو الخوف الذي أموت منه، فأنا البنت الثالثة غير المحبوبة، البنت المرشحة لمزيد من عدم الحب إنّ أتت بعدها بنت أخرى!

لقد كنت وجلة من الحمل القادم لأمي، ما من مشكلة إن كان الوافد ولداً، بل المشكلة في ألا يكون ولداً، عندها ستحل بنا مصيبة نحن الثلاث الموجودات قبلها.

شاركت إخوتي في نبش أتربة الشارع بحثًا لوالدتنا عن دودة البر التي يقلبون بها حبلها، والتي يقال بأنها تستطيع تغييره لمن تكثر من إنجاب البنات.

حينما قاربت أمي على الولادة كنا ثلاثتنا أكثر قلقاً منها، أكثرنا من استجداء الله أن يكون القادم ولداً لتنفك عقدة (باتي) فيبتسم أو لعله يبتسم لشيء، لأمي أو لنا أو لبيتنا أو لواحدة منا، علها أنا... وعلّه يشكرني لأنّ وجهي عليه أفضل من وجه أختي التي جلبتني في إثرها بالرغم من عدم قناعتي أن يكون وجهي طيباً على الذكر الذي يأتي بعدي ولا يكون طيباً عليَّ؟!

في ليبيا القاعدة في الخير دائماً أن يذهب خيرك لغيرك، لكي يكون الخير خيراً بالفعل.

*   *   *   *   *

مرحلة العار
أتت مرحلة العار التي سمعت أخواتي وبنات الجيران يتهامسن عنها، وفهمت دون مناقشة إحداهن عنها، أن كل ما يكونني عار، أو أن جميع ما أنا عليه عار، الصوت، الجسد، الحركة، الظل، الخيال، التفكير، الحلم، الطموح، الهمس، اللمس، السكون، الأماني، الحب، وهذا العار المتكامل ينبغي عدم تعريته للآخرين، أو عرضه أو التباهي به أو الحديث عنه أو إشهاره أو أو... مجزءاًً ومجموعاً.

إذا كان باتي في مكان ما فينبغي علينا نحن الإناث عدم دخوله أو المرور به أو التواجد إلا لقضاء حاجة ملحة تضعنا في خدمته!

عليَّ أن أخجل من نفسي ومن جسمي، ومن هيكلي العظمي والفكري والنفسي ما وسعني الخجل... على هذا ربينا.

انفردت بنا أمي على صفحة الطعام فالذكور لا يأكلون مع الإناث، كانت ساعة الطعام هي الساعة الفعلية التي تهبط فيها قنبلة على وجداني فتمزقني نتفاً حتى يسع ملعقة شاي احتوائي، فيها أشعر بترمل أمي من الوجبة إلى الوجبة التي تليها.

ندخل غرفتنا ونلزم الصمت أو النوم ما إن يسمع صاحب السلسول الأخبار، وإن نام قفل التلفزيون غير الملون بعد صلاة العشاء، وأظلم المنزل حتى ننام بحكم أن الحياة في منزلنا اشتراكية.

تكيفت أجسادنا على الطاعة أكثر من عقولنا، وكثيراً ما لجمتنا هذه الأجساد المدربة على التقزيم إذا ما ساورنا جنون العصيان والتمرد، أو رغبة البحث عن الذات.

في الشتاء حين تمطر السماء مدراراً، يمتلئ خزان المياه الأرضي، فيحدث فيضان داخلي ننتبه له ونحن نيام، فنتصدى له من مراقدنا بالمكانس والمقشات وأدوات السحب، حتى ندفعه خارج المنزل، وكأننا نستكمل حلماً جماعياً طرق رؤوسنا بنفس المطرقة، الأولاد لا يسهمون في هذه الأعمال لأن النوم سلطان، فلا يحرك الأب ساكناً لمعاركة ذلك السلطان، مكتفياً بالعمالة الأنثوية التي تهب لعملية السحب وتنفذ على أتم وجه من التنفيذ.

إذا جاءت العطلة المدرسية سكنا بيتنا أكثر من ذي قبل، وحضرنا تعاقب الليل والنهار، أجزم بأن المكان الأفضل على سطح الأرض حتى الآن لمراقبة هذه الظاهرة هو بيتنا.

أما أول العلوم التي تم تلقينها لنا وتدريبنا عليها هي تربية الإخوة الذين لا فرق بين أعمارنا وأعمارهم (طفلات يربين أطفالا) ومساعدة الوالدة في شئون الذكور الذين لا يخدمون أنفسهم مادام الغرض من حياتنا هو خدمتهم في أي وقت!

كنت أظن أمي هي المسئولة كونيًّا عن زيادة عدد السكان في هذه البلاد، وأن الحكومة أوكلت إليها زيادة عدد أفراد القوات المسلحة، ثم عرفت بعد أن خرجت إلى الشارع بأن تلكم هي مسئولية جميع الليبيين تجاه أنفسهم خلال الأربع وعشرين ساعة.

كانت ليبيا بلداً فقيراً إلا من القمل والعث والبرغوث والنسل، والذي تغير في تقديري عندما دخلت إعدادية الصمت أن قناعتي بفقر الليبيين، تصل أيضاً إلى الملكات العقلية التي يديرون بها الحياة، وفي الثانوية اشتد بي مرض التشاؤم، فالإملاق قتلني من جميع الجهات ومن جميع مظاهر الحياة وإصرار الناس على ممارسة عادات الفقر والجهل، واعتبارها تراثاً مستمراً مميزاً لهم، ينبغي عدم التنصل منه.

إنهم يزاولون عاداتهم الفكرية الفقيرة بفخر منقطع النظير!

الآن وقد مر على وفاتي بينكم زمناً، اطلبوا لي الرحمة وإن كنت أعرف بأنها رحمة تفتقر إلى الملكات العقلية الراقية، وقد حمدت الله على موتي الباكر، حتى لا تقتلني المعاملات الرسمية وإجراءات التطعيم ودخول المدرسة والانتقال من مدرسة لمدرسة ودخول الجامعة وتجديد القيد واستخراج بطاقة شخصية، ومراجعة طبيب الأمراض الفلانية والعلانية، والوقوف بطابور تقسيم الملكية ومراجعة العيادات العامة وإجراءات جواز السفر وإجراءات السفر وبطاقات القيادة والجمعية وأوراق الضمان الاجتماعي وشراء أرض ومعاملة الضرائب وشراء سيارة وشراء منزل وولادة طفل وإجراء عملية زائدة دودية وخلع سن واستخراج الجنسية الليبية واستخراج علم وخبر وانتظار حكم المحكمة في موضوع ما وفض منازعة عشائرية واستخراج إعلان وفاة.

على ذكر إعلان الوفاة، إنه المستخرج الأوحد الذي كثيراً ما ختموه قبل وفاة صاحبه، إنه أسرع ورقة رسمية يمكن استظهارها هنا فطوبى لمن آتى أبى بها من إخوتي لأنه أعفاني أي والله من الوقوف بباب المسئولين أياماً غير معدودات، فرحم الله الموت والحمد لله الذي جعل هناك موتاً حين قرر أن تكون هاهنا الحياة!

*   *   *   *   *

إلى الآن تحدثت وكأني سأولد بنتاً... ألم تستغربوا ذلك؟!

إن مقدار المشكلات التي يعانيها المرء لما يقرر الله أن يولد ذكراً لا يذكر أمام من ستولد أنثى، فالذكر هو المسئول الأول عن المشكلات التي تصادفها المخلوقة أنثى من كل أطرافها الذكورية (الأب وفروعه الذكورية، الإخوة وفروعهم، الأعمام وفروعهم، الأخوال وفروعهم، ثم الزوج وفروعه أخوة وأبناء...).

لا يتصور حجم السلطة التي يملكها كل فرد من أولئك على كل امرأة على حده!

إنها في معظمها سلطة جائرة مع وجود قلة من الشواذ عن هذه القاعدة!

أما إن ولدت ذكراً فسوف يكون لي حرية بسط نفوذي على أمي وشقيقاتي وزوجتي وبناتي وعماتي وخالاتي وزميلاتي ما لم يتصدَ لي ذكر آخر ينافسني السلطة ويكون أدنى لهن مني، فأبي مثلاً أحق مني بالسلطة على العمات وابن العمة أحق مني بالسلطة على عمتي ما كان مستأسداً في وجهي، وهكذا فإن مقدار سلطتي على نون النسوة اللاتي يحملن شيئاً من دمي مربوطٌ بمقدار سلطة الذكور الأقربين لهن عليهن، وذلك وإن كان يضعف من قبضتي الحديدية عليهن إلا أنه لا يقطعها بالمرة.

إذا ولدت ذكراً فسأسافر كيف أشاء، وسأسطو على محارم الغير، وأعبث بها وسأعاشر المومسات وبنات باب الله حاصلا على متعتي دون زواج ودون عقاب، وسأشرب الخمر وأتعاطى المهلوسات وأسرق وأزنى بالمحرمات، وسأعيش دون تحمل مسئولية أحد، حتى نفس، ولن يكون بوسع أحد مطالبتي بقرش، وسأتخلص من مسئولياتي الزوجية والأبوية متى أردت دون أن يطالني القانون، ومتى أردت المال أخرجته من عين امرأتي أو ابنتي أو أختي أو خليلتي.

وسأرث نصيب أخواتي ومن لي عليهن حق ّالحجب، وسأظلم وأتجبّر وأسرق جميع أنواع السلطات في الحياة بما فيها السلطة السياسية من رئيسي أو مليكي، وسأكون ظل الله على الأرض، وسأحكم حينها على شعب من الذكور والإناث، ولن يستطيع واحدُ منهم مخالفة أوامري، وكيف يجرؤ ولي حق إنهاء وجوده أو خصيه أو كبه على بطنه متى أردت وكيف أردت؟ سأكون حرّ الإرادة أكثر منهم، سأطعمهم وألبسهم وأجلسهم كما أريد، وأركبهم الكراسي والسيارات التي أريد وسأدخل بينهم وبين زوجاتهم، وأعرف ما يسرون وما يعلنون وأملك ما يدعون ملكيته، سأجردهم مما يملكون ومما يطمحون، سأعلمهم المعارف التي أريد، وسأحجب عنهم مالا أريد منها، سأعاملهم كبهائم دون أن يجسروا على الاعتراض، أو فتح أفواههم بشيء، وكيف لهم أن يفتحوها وقد تربّوا في جحور إماء؟!

سأكون رمزاً لأعلى ما يمكن أن تصله قدرة بشر على التّسلط، وحينها سينهي أمري شيء ضعيف جداً بالنسبة لي، بعوضة أو ذبابة أو رصاصة أو دعوة إنسان صالح عليًّ!

لا تغفل ولاتكن مغفلاً... ربما كنت عكس تلك الصورة، أي من القلة الشاذة عن تلك القاعدة إن وجدت!

*   *   *   *   *

وصفت القابلة لحاملتي بعض النقوع(90) لتعجيل الطّلق (لم أتمكن من استقراء الأسباب الحقيقية لتعجيل وضعي في الدّنيا!) كانت حاملتي قد دخلت شهرها التاسع للتو وهي تجيد العد لعمر حبلها، عندما تشاورت مع القابلة، قالت لها بأنّ الأوان قد أزف، ووصفت لها خلطة الأعشاب تلك لجعل الطلق حاداً متّصلا، ولم تكتفِ بل ذهبت تبحث لها عند الجارات عن قديدة عيد أو دحية خميس أو سمكة رنجة، وكلّها من معجلات إرسال الأطفال إلى الدنيا ممن نجحوا في تحمل تسعة أشهر من الإقامة الجبرية الانفرادية في بيئات غير مؤهلة صحيا لحملهم.

ذهبت العجوز (تقاوي) لجارة مصرية تسكن بجوارنا تقصيًّا لسمك الرنجة المجفف عندها، استغربت (طاطا) الطلب ثم عندما عرفت دواعيه ناولتها قطعتين مقددتين، تبعث رائحتهما على السأم وانفجار الأوعية الدموية، لست أدري كيف اجتازت الحدود بالكيس الذي حوى الرنجة ولم يتم اعتقالها، أو كيف طارت الطائرة ولم توقعها الرائحة؟

تقيأت في بطن حاملتي وهي تسرع المضغ لي لكي يصلني السمك المفتت فأكره عيشتي فأبحث لي عن مخرج لا أجده إلا في تلك الفتحة الخامدة التي يربطون الحب والإنسانية إليها، وترتبط هي بكب الناس على وجوههم يومئذ في النار.

كانت (تقاوي) بُعيد انتهاء المضغ بقليل تسأل حاملتي (ها زادت اللية وإلا لا؟).

فتجيبها المرأة شبه السكرانة وهي تعرق وتتشنج شيئاً فشيئاً (حسني نبي نموت).

طريق مؤلم للمرور، وممر مظلم، وساعات اعتصار رهيبة، تستعين فيها المرأة بدحية الخميس، لأن الدجاجة باضتها في يوم مقدس، ومن أجل إعطاء انطباعات الجيدة عن أن عملية الولادة سهلة مثل بزق البيضة!

أما الاستعانة بقديدة من لحم خروف عيد الأضحى المبارك، فهي لاستدعاء قداسة العيد لرفع النزيف عن الوالدة، وفداء الأولاد، ونطح الطفل من البطن وبطحه إلى الدنيا... هذا لئلا ننسى أن تلك القديدة اكتسبت خواصَّ الكبش ذي القرون الملتوية في الإقدام والإحجام، يوم أن كانت جزءاً منه!

جاءت (تقاوي) بكل هذه المسهلات والمعينات التي ما بدأت في تجميعها من النسوة حتى علم الحيُّ بكل من فيه، أن موعد قدومي بات مسألة مغص ليس إلا... تفعل فيه الدّحية أو القديدة أو السمكة أو أعشاب الخلاء أو كلها معاً فعلها بي!

تحولت هذه المواد بعدما نزلت عليها العصارة المعدية الهاضمة،تحولت إلى مادة قلوية حارقة، أو كيماوية، من تلك المحظورة دولياً خشية استعمالها في أسلحة الدمار الشامل، وانبعثت منها رائحة غازية نفاذة، تدفعني إلى الوجود الذي لامناص من رؤيته بعد ذلك جميلا ً، إذا ما تم الاندفاع إليه بسلام!

عند مضيق الرّحم الحزين الذي لم يذق الحب مرة، ضاقت عليَّ شفتاه لُتقبلني، فضاقت أنفاسي، كنت بين رائحتين غريبتين، عدم القدرة على استنشاق الهواء وهو مادة غريبة عني، وعدم الرغبة في استنشاق الرنجة وما سواها، أفتش عن نفسي الذي ينقطع تدريجيًّا، كانت العجوز تدعك بطن المرأة لتعصرني خارجها، وترسل يدها في ممر الرحمة طلباً لقرعة رأسي، أدوخ، تصرخ المرأة فأفزع، تتنفس ببطء، العجوز تنهك وهي تقول لها (ادحمي وساعديني) أنا أغيب عن نفسي، أنا أتوه، أنا أتعثر في مائي ودمي ولحمي وتاريخي ومستقبلي وحاضري ومحفظة سماتي وكل شيء.

الوجود كرة ترتطم بي هنا وهناك أنا لست أجد كياني، تنقطع صلتي بالمرأة وتنقطع صلتها بالحياة أو توشك، أتحرر من الدحية ومن أيام الخميس كلها ومن المناسبات الدموية ومن محاولات الرحم خلق حب غير عبثي، ومما في البر والبحر من مخلوقات تيسر مشيتي للدنيا، ومن طريق عبد الله العابس، ومن قلب المرأة الذي يلحق بي ويشدني إليها، ومن اليد العجوز التي جعدتها صور من قبضت رؤوسهم وجرتهم إلى الدنيا، ومن اسم يتبعني بلا تيمن ولحظة حظ تتخطاني ولحظة بؤس تصيبني، وضجيج الأطفال الذين ينتظرون قدومي خارجاً لأكون أخاً أو أختاً لهم، ومن تاريخي الوراثي وخارطة صفات أبي وأمي وأعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي وجداتي وأجدادي، الظاهرة منها والمطمورة، الطيبة والخبيثة، التي تلاحقني بلا رأفة.

عالم آخر أكثر ظلمة لم أستطع فتح عينيَّ ورؤيته أو إنني لم أرد معرفة ما فيه، فالجهل به أفضل، أريد أن أصرخ فقط، أريد أن أبكي فقط لأني فقدت أشيائي وعالمي وكتابي غير المفتوح بعد!

أريد أن أعبر فلا أجد عدا البكاء أن أعود إلى حيث كنت، إلى الهناك الأفضل، حيث لن أتشيَّأ بما لا أحبُّ ولا أريد ولا أودُّ، حيث كل شيء طازجٌ كالصلصال يمكن تغييره ومحوه وإعادة خلقه، لا أريد، كنت أصرخ ثم اختنق صوتي، فشعرت بأنني أودع آخر شيء أحسه في، ودعته وخرجت كما أنا في وضعي الجنيني يضربونني على قفاي ليزيلوا أثر صدمتي بالمرور ومن المرور لكنها أبداً لا تزول، المرأة تتنفس ببطء وصعوبة، والعجوز ترتبك قائلة لأكبر أولاد المرأة ـ صبي في العاشرة ـ من وراء ستار الغرفة (اجري فيسع كلم بوك!).

أرى الصبي يجري دون أن يفهم شيئاً، يجري بصورة ذهنية ناقصة نحو هدف لا يعرف ما وراءه، لكنه يحسه بقلبه الطفولي، إنّه يدفع شرّاً سيقع بأمه وحملها كلما أسرع، يعدو بشكل أفضل، هذا كل ما لديه، يلهث، يتعرّق، يصطدم بالمارة، يسألون عن سبب عدوه الغريب، إنّه لا يلعب مع رفاقه فهو يعدو وحده، إنه يبحث عن وجه أبيه بين أناس سوق الظلام فيمنعه الظلام من تبينه، يخترق ضيق السوق وظلامه مسرعاً نحو الجهة التي يظنّ أنّ أباه يجلس فيها، إني أراه من فوق يقترب، يستدل على أبيه، ينقذ إخوتي به، وهو لم يتعرف عليَّ بعد، قلبه يضطرب، عيناه تمتلئان بالخوف من المجهول، ذاك الذي طرق بيتهم ليأخذ أمه وما في بطنها، إنه يجاهد للوصول إلى أبيه ليمنعا الزّائر المجهول المخترق بيتهم عنوة من الوصول إلى أمه وحملها قبلهما، ما أن يراه والده منفلتاً كالسهم حتى ينفلت قلبه إليه قائلا لرفاقه:

(محمد ولدي ونعرفه، فيه سو وراه..!!)

مفلتاً ما بيده صوب ابنه، يعثر وجه الابن على أبيه، ووجه الأب على ابنه فيلتقطه بصوت وجل عالٍ (كنك شنو فيه؟؟؟؟)

فيقذف الولد كلماته بحشرجة لأبيه، والناس كلهم أسماع (بوي بوي أمي أمي..!).

ولا يكمل إذ ليس لديه ما يقول بعدما نطق قلبه على لسانه، يفهم الرجل كلمات ابنه وصوته ويعي خوفه فيترك ماكان فيه وينطلق عائداً للبيت، قلب الصبي يواصل جولته ومعه قلب الأب هذه المرة، كأنما ذهب ليأتي بقلب أبيه ليحتمل معه قسمة كبيرة تدرك خطاه الصغيرة عدم مقدرته عليها بمفرده، أرى قلب الرّجل الذي تدفق لابنه بالرحمة والحب يبكي شيئاً يتمنى ألا يكون واقعاً (ربي... ياربي ما تخليش محمد وخواته بلا أم)، كانا يعودان وأنا أذهب، يقتربان وأنا أبتعد ومعي المرأة التي قال لي المجهول عندما صار معلوماً إنها أمي .أخذتني أمي أو أخذتها، فأمكنها لأول وآخر مرة أن ترى زوجها لا يريد رحيلها، يتمسك ببقائها، يجمع أطفالها ويرجوها البقاء، لكنها لا تجيب فقد صارت معي إلى عالمي الذي آتيتها منه، عندما وقفا بباب الدار سمعا صراخاً عنيفاً، لم أكن أنا وأمي لنلتفت إليه أبداً.

 بنغازي
2003/ 2004
     

فراغ الامتلاء

منذ قتل قابيل هابيل
وتدخلت الغربان في المسألة
تطورت المهزلة
مع السكاكين والفؤوس
والسموم والبنادق
والقنابل والغازات
والجراثيم...
لم يصبح شكل الأرض بنا
كعكة طبقية
ولم تعدم الحياة سبيلاً
للإبقاء على من ينجبنا!
كانوا يصبون إلى إفراغها
فامتلأت!!

nshatwan@yahoo.com
ــــــــــــ
(1) ـ الزورة: أول زيارة تقوم بها العروس لأهلها.
(2) ـ اللمات: جمع لمة وهي الاجتماع لمناسبة.
(3) ـ اللحوس: خليط من الألواز وزيت الزيتون يطعم للأطفال الصغار لشدّ عودهم
(4) ـ بو مخيلب وخي العويلة: انتفاخ معوي يصيب الوليد.
(5) ـ الكالو: كيس دهني غليظ يصيب الأقدام والأيدي.
(6) ـ الرّدايد: جمع مردود وهي ما يرده آهل الزوج لأهل الزوجة من هدايا وبالعكس.
(7) ـ الشوكة: هي زاوية المنزل من ا لشارع
(8) ـ هذه الجملة الافتخارية تقال عن الشخص الذي يحسن إدارة الخصومات.
(9) ـ الحزّاز: هو الشخص الذي يقوم بفك المتعالقين يدويا ويعني الآكل هنا الضرب من كلا الطرفين الذين يكيلون اللكمات لبعضهما.
(10) ـ الجابية:عبارة عن حوض مائي كبير يحتوى على المياه التي تروي الغروس.
(11) ـ مرض من أمراض الطفولة وهو نفسه البو مخيلب.
(12) ـ الحوازة من الحوز وهي المزرعة.
(13) ـ الخراف: مفرد خرافة وهي ما يروى من قصص خيالية على لسان الجدات وتجمع أيضاً على خرا ريف في العامية.
(14) ـ البسكل: ذيل من الشعر يتدلى من الطاقية ويشبه جديلة من الشعر الأملس.
(15) ـ البلغة: حذاء شعبي.
(16) ـ من مسميات المزرعة.
(17) ـ البازين والزميته أكلات شعبية والزيت الغاوي هو القديم.
(18) ـ الخلعة: صدمة نفسية عنيفة.
(19) ـ الفجرة: هي الفضة.
(20) ـ الرشاد: هو الحجر.
(21) ـ الزينقو: هو الصفيح الرقيق الذي تسقف به الأكواخ.
(22) ـ البراريك: جمع براكة وهي كوخ الصفيح.
(23) ـ هذه العبارة تعني أن المشرّد الذي ينام في الرّيح ليس له أهل أو صحب أو إخوان فالكل يتخلصون من معرفته والاعتراف به.
(24) ـ حصدة بركة: هي مربع معقول من محصول القمح أو الشعير أو نحوه لا يحصدونها بل يدفنونها بطريقة معينة للعام المقبل كبذار.
(25) ـ العافطة: هي النعجة والنافطة هي العنز وهما عربيتان.
(26) ـ الجزات: هي مجموعات الصوف التي تؤخذ من حلق الغنم في الصيف.
(27) ـ كرموس الهندي: هو ثمر نبات التين الهندي.
(28) ـ الكلمان: سجد أرضية معمولة باليد والعبي عامية وهي جمع عباءة.
(29) ـ السانية هي المزرعة في العامية.
(30) ـ الكارو: عربة يجرها حمار أو حصان.
(31) ـ الحدارة: هم المسافرون، وهي من انحدر إذا سار أو نزل أرضاً أخرى.
(32) ـ الغاوي: هو القديم.
(33) ـ الترني هو ولد الزنى.
(34) ـ هيان ابن بيان كناية عمن لا يُعرف أبوه.
(35) ـ الشنه: قبعة شعبية إما حمراء وإما سوداء.
(36) ـ الحوحزة عامية وتعني درجة عالية من التحين والتأهب.
(37) ـ اتملمز: أتحرك حركة الهلام.
(38) ـ عام صابة الحمير: عام حرث فيه على الحمير
(39) ـ تجريدة حبيب: ملحمة قتالية أهلية حدثت في العهد العثماني.
(40) ـ زلزال المرج: زلزال حدث في ليبيا عام 63م
(41) ـ عجاج شهير في الذاكرة الشعبية
(42) ـ طيحة الطير: كناية عن سقوط الطائرات في الحرب العالمية لأول مرة.
(43) ـ عام الحلبة: من أعوام الجوع التي لجأ فيها الناس لأكل الحلبة.
(44) ـ إشارة لنظرية النشوء والارتقاء.
(45) ـ قنان البخت: خبز صغير في حجم قبضة اليد يعمل للطالع.
(46) ـ المهاق مرض يصيب العيون وتصبح منه الأهداب بيضاء.
(47) ـ تطلق كلمة المحولة على المرأة التي تحولت من رجل لآخر.
(48) ـ صندوق بوطقه: صندوق حديدي مزخرف يستخدم لحفظ الأغراض الشخصية.
(49) ـ ولد أم بنت، تأليف جاك برشن، ص20.
(50) ـ الأشدو: هو ماء النار.
(51) ـ هذا التعبير قريب في معناه من التعابير الدالة على أن من يشب على شيء يشيب عليه.
(52) ـ نسبة إلى العالم مندل مؤسس علم الوراثة.
(53) ـ منخاص البو جنب: يعني ألماً بأحد الجانبين.
(54) ـ أسماء أطعمة ليبية.
(55) ـ الفتاشة: خرافة تقول بأنّها عفريته تفتش بطن من لا يأكل من عظام ذبيحة عيد الأضحى.
(56) ـ النقيزة: لعبة بنات شعبية
(57) ـ الفرنجية: قطعة من حجر تستعمل في لعب النقيزة.
(58) ـ المرزية: من الرزية وهي البلية، المصاب بها مرزي.
(59) ـ الصدقة هي ما يؤكل خلال أيام العزاء.
(60) ـ الجبيرة: هي ما يجعل مكان الجبس من مواد شعبية.
(61) ـ طبيبة عرب: تعني طبيبة شعبية.
(62) ـ الجرد: هو العباءة التي تلتف فيها المرأة عند الخروج، يطلق عليها في نواح أخرى من ليبيا تسمية الفراشية.
(63) ـ القعمول والكريشة: طبيعيات ربيعية تؤكل، والقعمول من الشوكيات أما الكريشة فعلى العكس.
(64) ـ سوق الظلام سوق شعبي.
(65) ـ الزلوف: مبلغ من المال تتبادله النساء في زياراتهن لبعضهن.
(66) ـ جهاز الفضيل بوعمر: جهاز لأعمال النّظافة والصّيانة العامة.
(67) ـ من مناجاة الطرق الصوفية للولي الصالح عبد السلام الأسمر لفك الضيق، وفيها إشارة لكساء بركته وكرامته الأخضر.
(68) ـ الزرقينة: مادة صبغية زرقاء.
(69) ـ البراج: هو العراف.
(70) ـ الدلالة: هي البائعة المتجولة بين البيوت.
(71) ـ تسرت: أي يضيق فرجها عند احتواء العضو الذكري!
(72) ـ البكوشة: تعني الخرساء.
(73) ـ الدهيمة: هي دود الدقيق الصغير.
(74) ـ الوشامة: هي الواشمة التي تدق الوشم أو الوسم.
(75) ـ الليالي السود وقرة العنز: أيام باردة تبدأ الأولى في 14 من شهر 1 وتبدأ الثانية في 14 من شهر 2.
(76) ـ مادة تجميلية ملينة تستخدم لتطرية البشرة!
(77) ـ كرموس الحمار: نبتة وبرية برية تشبه حبة الزيتون الكبيرة.
(78) ـ هذا المثل الشعبي يؤكّد أنّ اليتيم ليس له حظ من سعادة!
(79) ـ الهريسة العربية: مقبل من معجون الفلفل الأحمر والزيت والثوم.
(80) ـ قصائد شعبية من البيت الواحد تسمى في ليبيا غناوة العلم.
(81) ـ عوكري: تعني انعطفي يمينا مرة ومرة شمالا خلال الجري أو المشي.
(82) ـ مثل يضرب للكناية عن الغلاء.
(83) ـ ياحزارك لعبة شعبية ليبية.
(84) ـ قصيدة شعبية.
(85) ـ الباكور: هو العكاز.
(86) ـ الهجالة: تعني المطلقة.
(87) ـ الحومة: هي الحي او الحارة.
(88) ـ السمكة: لعبة من ألعاب الأطفال.
(89) ـ باتي أى كلمة من أصل ليبي قديم تعني ملك (باتوس) كما يقول هيردوت والسين زائدة، وهي ذات صلة باللقب الفرعوني بتي الذي يعني ملك (أ. د على فهمي خشيم، بحث كاليماخوس القوريني شاعر المدينتين).
(90) ـ النقوع: هي التسمية المحلية لأي خليط عشبي يستخدم في علاج شيء ما وهي بالعربية النقيع.