إن الناظر في عالم الرواية قد يشغله خاطر التمعن في أشكال الحكايات الواردة فيها. فالملاحظ تراوحها بين نماذج متنوعة منها على سبيل المثال لا الحصر، شكل رواية الحكاية الأم، حيث تدور الرواية حول حكاية أم ذات تتابع زمني محدد في حيز مكاني معلوم، ويكون للمؤلف الدور الأسمى، وهو الشكل الذي تعبر عنه الرواية التقليدية بامتياز. في المقابل توجد الرواية متشظية الحكاية، التي قامت على فكرة أن تشظي العالم المعاصر يتطلب بالضرورة تشظي بنية الحكي على سطح الرواية. وهنا يبرز دور القارئ في تجميع أطراف الحكاية، وفهمها بحسب ما لديه من معارف وتصورات وبحسب ما يستوعبه من عالم النص ذاته. ولعل أبلغ الأمثلة على هذا النوع من الرواية ثلاثية ادوار الخراط "رامة والتنين" و"الزمن الآخر" و "يقين العطش". بينما خرج من عباءة رواية الحكاية الأم، شكل الحكايات الكبرى التي يجمعها هم فلسفي وسياسي مشترك على نحو ما نجد في رواية " أولاد حارتنا " التي تحكي حكايات الأنبياء الكبرى في إطار الصراع بين القوة والحب، وفي ضوء التعبير عن نموذج تطور المجتمع البشري الوارد في نظرية عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، حين رأى أن تاريخ البشرية ينقسم إلى ثلاث مراحل من التقدم الشامل هي المرحلة الدينية ؛ والمرحلة الميتافزيقية، ثم المرحلة العلمية. وفي المقابل تتسع قماشة الفضاء الروائي ليضم شكل رواية الحكايات الصغرى المتعددة. وفي هذا المستوى، سوف نجد أبرز النماذج أعمال جارثيا ماركيز المتنوعة مثل " الحب في زمن الكوليرا " أو " مائة عام من العزلة "، إذ تعتمد الرواية على حكي عدد هائل من الحكايات الصغرى المدهشة، وتضيع فكرة البحث عن حكاية أم يمكن تتبعها وتتبع مساراتها وتقلب أحوال الشخصيات فيها.
أما الرواية الحالية فمشغولة بالحكايات الصغرى حقا لكنها تبنيها على غرار بناء الحكايات الكبرى. وهذا ما قد يوحي بتقليدية بناءها الروائي. إنها تنهض على نموذج مغاير للنماذج السابقة. تتضافر فيه حكايات صغرى لشخصيات متعددة مع حكاية صغرى هي حكاية الراوية "مها".
تقول الراوية عن شخصيات حكاياتها: "ظهروا كالأطياف أمامي هؤلاء الذين عشت أسمع حكاياتهم وأسير خلفهم كأنني أسير خلف نداهة، عشت اسمع أصواتهم داخلي، اقبض على ملامحهم حتى لا تفلت مني أو تنمحي من ذاكرتي سواء من رايتهم أو من رسمت وجوههم من خلال الحكايات التي سمعتها عنهم. ملأوا فراغ البيت، بتفاصيل حياتهم، ووضعوا أمامي مصائرهم، في حكايات اشعر أنني عشتها منذ اللحظة التي وضعتني فيها الداية ". معبرة بذلك عما تشغله الشخصيات وحكاياتها في حياة الراوية، حيث تتداخل حكاياتهم مع حكايتها التي تبدو طوال الرواية مغفلة أو مسكوت عن الحديث عنها باستفاضة، موحية بأنها مجرد شاهدة عليها لا أكثر ولا اقل، حين تقول: " كنت مجرد مشاهد من الخارج" (96)، أو أن تقول: "شاهد على حكايات لم أعشها ولكنني سمعتها".
إنها حكايات تؤدي وظيفة واحدة. فهي ميراث تركته الأم تستعيده الراوية وتؤنس نفسها به. ميراث وقفت منه من الخارج، وملأ عليها فراغ البيت بعد موت الأم. والحقيقة انه ميراث يحكي حكايتها. فلن يفهم القارئ مغزى حكاية منها إلا بما يورده الراوي الضمني implied narrator على لسان " مها ".
فالراوي يمارس نوعا من الخداع السردي حين يعنون فصول الرواية بأسماء الشخصيات المتعددة التي تسرد مها حكاياتهم، ثم يغير مسار السرد متجها إلى حياة مها وأحداث مرت بها. بما يوحي جماليا بالرغبة في كسر القص التقليدي الذي ينهض على التشويق والتناسق في البناء والإغراق في الحكي وتوسيع رقعته ورقعة المساحة المخصصة للشخصيات، ببناء تداخل بين القص التقليدي لسير الآخرين من جهة موضوعية خارجية وسرد المذكرات الشخصية من زاوية ذاتية تعبر عن عواطف مها تجاه الآخرين.ويوحي على مستوى دلالي بالتداخل بين حياة هؤلاء وحياة مها. وقد يبدو هذا الانحراف الجمالي نوعا من القص المجاني الذي يمضي دون غاية، كأنه نوع من الثرثرة الفارغة التي لا يخرج القارئ بمعنى أو بعلاقة منه. لكن تلك النظرة هي قراءة ذكورية لنص يناهض الاستبداد ويواجه الإحكام والنظامية ومنطق العقلانية السردية.
إذ يفترض منطق العقلانية السردية أن يكون السرد: متناسقا، مركزيا، موجها لغاية، وعام. بينما تمضي السردية هنا في تيار مخالف. في اتجاه ما تسميه ليندا هاتشين بأدب " خارج المركز ". فالسردية غير متناسقة، بل متداخلة متضافرة في تناقض، حيث تتداخل حكايات أهل القرية مع حكايات أهل المدينة، حكايات النساء بالرجال، حكايات الفقراء بالأغنياء، الجميلات بالدميمات، زمن الماضي بزمن الحاضر، زمن انفتاح المرأة بزمن انغلاقها وتخلفها، عالم التقاليد والخرافة وعالم الفوضى والتدين الشكلي، عالم المتعلمين مقابل عالم المتعالمين أو أنصاف المتعلمين.
فالسردية هنا لا مركزية وغير موجهة لغاية موضحة المعالم وتدور في عالم شخصي أنثوي وتتحرك بحرية بين حياة مها وحياة الأخريات الريفيات. حيث نجد أن العلاقات الحادثة بين قصة مها أو حاضرها مع حاضر الأخريات، هي علاقات اندماج وتفاعل متبادل. فالحدث المتعلق بمها ينبئ وبه نفهم القصة التي يسردها الراوي الضمني حول احد أقرباء الأم أو أصدقائها. وسواء جاء الحدث أو الأحداث في بداية الحكاية أو نهايتها، فإننا نتمكن بالنظر في دلالته من فهم وإدراك الدلالة المحورية للحكاية المذكورة. ومن خلال تلك الحكايات تفهم مها ذاتها وترى العالم بشكل أوضح.
فالبدء بحادث مولد مها هو تمهيد تكشف فيه ملك الشخصية الرئيسية في الفصل الأول من الرواية، تكشف عن رفضها للأنثى كمصدر للعار والفضيحة. ثم تروي الراوية مأساة ملك مع التقاليد الأبوية في الريف التي تصدق رواية الذكر وتكذب رواية الأنثى، فتحولت من جراء ذلك من صورة الفتاة البرجوازية الوديعة إلى صورة الأنثى المسترجلة أو صورة الإقطاعية المتنمرة التي تذل الفلاحين وتعاملهم كلصوص. وفي الفصل المخصص لابن الخالة أحمد، تبدو القصة حكاية تدور حول شاب سرقت حياته امرأة أخرى. ولا تتضح الدلالة المحورية للقصة إلا في النهاية حين تبين الراوية علاقة الأم بالأهل وارتباطها بهم. فمأساة سرقة طبقة لأحلام طبقة أخرى، وانهيار نمط العمل من التدرج في النضال اليومي إلى نظام عمل يعتمد على الكسب السريع والمفاجئ. إنها حكاية تعبر عن الانتقال من عالم الألفة والارتباط بالأهل إلى عالم القصر الموحش، عالم الوحدة الذي تعاني منه بطلة الرواية المحتملة.
في حين جاءت قصة الخالة روحية في مسار مركب ومعقد. تبدأ بالست خضرة رمز الاستكانة إلى الواقع والعزلة عن العالم. وشخصيتها تذكر الراوية بوحدة الخالة روحية وجلوسها أمام شبكة الصيد. ولا نفهم حكاية روحية إلا بنهاية الفصل حين تستحضر الراوية ما حدث لملك التي سعت لتلبية رغبتها ومقاومة جماعتها المرجعية بالزواج من شبيه حبيبها الأول. وهكذا نعثر على نقطة الالتقاء بين روحية وملك في تحديهما للجماعة وإصرارهما على نيل وإشباع ذاتيتهما. هذا التبادل والحس المشترك تدلل عليه شواهد أخرى بالرواية. فحين تجد مها أن المجنونة بطلة الفصل المعنون بـ" الست المجنونة"، أنها جنت بسبب ضياع أملاكها منها. تعود إلى البيت وتبحث في أوراقها عما يثبت أملاكها.
كذلك ما يلف شخصية الماضي لا يطالها بمفردها. فهاجر التي عانت من سجن الشحات لها وسرقة عمرها، يتم التمهيد لحكايتها بسرد مشاعر البطلة وخوفها من المكان المغلق. بل ويمتد السجن ليشمل الجميع، وتتحقق رغبة البطلة في تحرير الخالة هاجر، باستحضار حالات أخرى لشخصيات تحررت من سجنها الخاص. فنهاد تتحرر من سجن القصر والوحدة داخله، وملك تتحرر من شوقي، والإفراج عن " وديع " المناضل اليساري ". فالفصل كله يدور في فضاء فكرة السجن وتسوره الرغبة في التحرر. وهكذا يكون الحاضر مجالا لتحقيق رغبة لم يكتب لها التحقق في الماضي.
وهو ما يتكرر بحذافيره في حكاية نعيمة. فالفصل المخصص لها، يبدأ بتعبير الراوية عن ضيقها من أعراض الدورة الشهرية وتعاملها الواقعي معها كشعور بيولوجي لا غير، دون أن تحمله أي معاني أيديولوجية، وهو ما ينبئ عن شخصية نعيمة التي جاءت على النقيض ؛ مشغولة بالدورة الشهرية وتنظر الزواج على أحر من الجمر. فإزاء واقعية البطلة وتصوراتها المادية للوجود، نجد صورة نعيمة الحالمة المتوهمة. إنها صورة امرأة تصنع عاملا من الخيال، عالم جنسي مكتمل. في حين ترفض الراوية هذا العالم، وهو ما يتأكد في نهاية الفصل ذاته: " انتبهت إلى أن حقائب جهازي ما زالت موجودة فوق الدولاب وتحت السرير... تنفست بعمق... لقد تأخر كثيرا تخلصي منها، سوف أحملها لألقي بها في النار المشتعلة في المصلحة قبل أن تنطفئ."
وهكذا عبرت هذه الرواية عبر التداخل الضمني بين حياة البطلة المحتملة وحيوات البطلات والأبطال الآخرين، عبرت عن الخروج عن الجمالية التقليدية والاستبداد السردي الذي ينم عنه منطق السرد العقلاني المحكوم بقبضة حكاية كبرى ممتدة. فبالرواية خروج عن عالم الوحدة بالاندماج في عالم الآخرين، وعن النظامية والروتين بالتراوح بين القص الموضوعي لسير الآخرين والقص الذاتي للحظة الراهنة.
فالرواية أكسبت حكاياتها الصغرى طابعا تقليديا بالانصياع لجماليات التتابع الزمني والتشويق والوصف التسجيلي لملامح الشخصيات وللأمكنة والحرص على تسجيل الوقائع والعادات الاجتماعية، في مقابل جماليات أخرى هي التشظي في القص والمجانية في استحضار الشخصيات واستخدام السخرية والتعويل على التفاصيل الأنثوية الخاصة والتقطيع إلى مشاهد، تعبيرا عن الرغبة في إثبات التناظر الحاصل بين عالم الأمس المأسور بين أسوار التقاليد الأبوية والمال في مقابل عالم اليوم المحكوم بقبضة الروتين الشكلي والمال والتدين الظاهري.
كاتب من مصر