يتناول القاص والناقد العراقي هنا موضوع التجريب الرقمي في الكتابة الأدبية ويتقصى جدليات العلاقة بين النسق الأدبية والإمكانيات الجديدة التي تتيحها التجربة الرقمية بما تنطوي عليه من إمكانيات للتغاير والتفاعل بين النص والمتلقي

التجريب الرقمي في النسق الأدبي

تساؤلات في جدوى الخطاب الرقمي

عباس خلف علي

المقدمة:
قبل أن نتحدث عن القصيدة الرقمية، أو النص الرقمي في محموملاته الإشارية والأدائية، في طبقات بنائه الفني، وعن مدى اختلافه كجنس أدبي عن بقية الأجناس أو الفنون التي بدأت تتسلق الشبكة العنكبوتية، لابد أن نشير إلى إن مسعى هذا المقال يصنف بالدرجة الأولى إلى حقل وجهات النظر، التي اختلفت في طروحاتها، وتباينت في عروضها عن الموضوع، وشككت في فاعلية النص الأدبي الرقمي، إزاء فاعلية النص الطباعي/ الورقي، وباعتقادنا المتواضع، أن أي نموذج إبداعي لا ينفصل أساسا عن لغته وهويته مهما أختلف أو تنكر لوضعه الطبيعي، لأنه في النهاية يحاول أن يجرب مكونات الأدب بآليات جديدة، وهذه ليست سبة أو مسلبة أن تؤدي القصيدة أو أي عمل إبداعي آخر وظيفته وتعبيره بطريقة مختلفة، ولكن السؤال الأهم الذي يشغل بال أي متتبع لهذا الموضوع، هو كيف يتم تقييم هذا الجهد؟ وبعبارة أخرى إذا انفردنا بالنص وحده، وعزلناه عما يقوم به نظام الحاسوب ماذا يحصل؟ إن الشكل الذي يتخذ من الأيقونات وحدة أشارية، هل ستضاعف من طاقة المعنى كمؤثر حسي وجمالي؟ أم إن النص سيفقد هذه الجمالية التي استعارها لتؤثر سلبا على قيمة النص وثراه المعرفي والإنساني؟

إن طرح مثل هذه الأسئلة وما يدور خارجها أو داخلها حري بنا أن نفهمها على الأقل بشكل جاد وليس كما يدعي البعض مضيعة للوقت، لأن ما صنعته ثورة الاتصالات الحديثة في العالم وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص لا يمكننا تجاوزه بسهولة أو إهماله، بل إن المشاركة والإسهام فيها صارت جزءا من الحياة الفكرية والأدبية التي لامناص لنا في الحرص عليها. وربما هنا من يسأل، أثمة فرق بين المجلات الرقمية والصحف والنشريات والدوريات على مختلف ألوانها وأشكالها، وبين النصوص الإبداعية التي تنشر عبر شبكة الانترنيت، والتي يقر أصحابها بأنها مخصصة شكلا ومضمونا لهذه الطريقة من النشر، أي النشر الالكتروني. وبحكم إطلاعي المتواضع على بعض النصوص المد بلجة في هذا النظام، وجدت ألآلية الإلكترونية تلعب دورا أساسيا في تشكلات النسق الأدبي، أي إن الشكل يتداخل بقوة فارضا هيمنة على السياق النصي وبمجرد خطأ بسيط في الاستخدام يختلط كما يقال الحابل بالنابل، وبذلك يفقد المعنى ويلتبس الفهم، وعلى الرغم من أن هذا ليس العائق الوحيد، نجد أن الحركة الذهنية التي تلعب دورا مهما في تشكيل تصوراتنا كمتلقين، يسيطر عليها الأداء الوظيفي، وبذلك نفقد أهم ميزة يمكن أن يوفرها العمل الإبداعي في هذا المجال.

ربما لن تبقى هذه الأعراض طويلا، أو إنها تذوب وتختفي مع مرور الزمن، ولكن الأهم من ذلك يبقى السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل أن النص التكنولوجي أو نص التكنلوجيا كما يسميه البعض هو نص المستقبل؟ إننا في هذه الورقة لم نكن محللين لهذا النموذج أو ذاك، بقدر التعبير عن وجهة نظر كما أسلفنا، وهذا لا يمنعنا أبدا من إبداء الرأي والمناقشة، والخوض في غمار التجربة التي تسعى لبلورة نصوصها وإخراجها من حيز التساؤل والشك والريبة إلى واقع الراهنية والتداولية.

وكأي فاعلية سابقة في نشاط الإبداع، كما لمسنا ذلك في شعر التفعيلة أو قصيدة النثر أو في رواية النص أو النص المفتوح نجد أن التلقي لم يكن ساكنا أو محنطا أمام أنزياحات لقوالب جاهزة، تعرف عليها وتعرفت عليه. فمثلا يمنع ديوان شعر لأودونيس من معرض الكتاب في مصر، لأنه يمثل بشكل صارخ قصيدة النثر التي يعتبرها هي المتنفس الحقيقي للقصيدة والفضاء الدلالي الذي لم تستوعبة لا القصيدة العمودية ولا قصيدة التفعيلة، كما أن روايات عربية كتبت بطريقة مغايرة عن المألوف، وصمت بأنها تتجاهل القاريء، أو تستغفله بأنزياحاتها الفكرية والفلسفية. والأبعد من ذلك تتهم بانحيازها أو إنجرارها إلى الحداثة كتقليد أعمى لتيارات الغرب ومناهجه ومفاهيمه، وبذا أصبح النص الحديث يتأرجح بين سندان الواقع الذي أنتجه ومطرقة الحقيقة التي يواجهها. وهذا في الواقع يضعنا أمام أمرين لا ثالث لهما:

الأمر الأول: يفترض ألا نشكل أبوة على النص، أو سلطة سابقة عليه، وإفساح المجال أمام الأشكال الأدبية للتعبير عن وحداتها التجنيسية.

الأمر الثاني: علينا أن نقر بأن مجتمعنا جزء من هذا العالم، وأننا إذا لم نتنفس من هذه الرئة لايمكن أن نتفاعل مع ذاتنا فقط، من دون هذا الفضاء الواسع في التجربة الإنسانية والفكرية والمعرفية.

وفي ضوء ما تقدم نكون قد وفرنا أو ساهمنا بخلق حراك ثقافي ومناخ صحي للحوار والمناقشة وتحليل النصوص واكتشاف الطاقات المبدعة بدل من إحباط محاولتها وإجهاضها قبل أن ترى النور، إذ أن معيار النص لا يقاس على ما يسخره له جهاز الحاسوب مثلا، أو ما يوضع على الورق، بقدر ما يحمله النص من دلالات وعلامات يكون هو المسؤول عن بلاغها ذهنيا.

الصورة والإشارة الرقمية:
هذا البلاغ بحد ذاته قد وفره علينا جاكوبسن بقوله، إنه وحدة تفسر سياق الاتصال بين المرسل والمرسل إليه، علما إنه أوضح في نمط نظريته التواصلية من إنها تعتمد على عدة دعائم منها الرسالة، السنن، السياق، آليات الباث التي تشترك عناصرها لغاية واحدة هي الإبلاغ، وهنا حري بنا أن نسأل ما علاقة الإبلاغ بالصورة، وكيف يتم كشف بنيتها المنتجة، وبمعنى آخر، هل ثمة علامة مميزة لصيغة البلاغ؟ وهل يمكن اعتبار البلاغ إشارة، إن الغاية الوحيدة من طرح هذه الأفعال المتسائلة، هو أننا نريد أن نصل إلى لب الموضوع الذي يوضح العلاقة مابين النص والشكل الرقمي «إذا جازت لنا تسميته» من جهة وبين المشاهدة/ التلقي من جهة أخرى، وبما أن الشكل يلعب دورا رئيسا في مفهوم الرسالة/ الخطاب الرقمي، وإن الحركة، أي الأيقونة، ضمن متنه تجسد أبعاد ورموز النص، وبواسطتها تنفتح الإشارة، أو تحيلنا إلى موضوعة الخطاب، وبذلك نحصل على قيمة الأفعال المتسائلة التي تخطر على بالنا، ومن خلالها نكتشف، من أن للرسالة/ الخطاب الرقمي، مفاهيمه المتداخلة أصلا مع الشكل، والذي يقترب في تركيبته البنائية من وظيفة الصورة المرئية على الشاشة، وعلى هذا الأساس نرى أن الشكل في الخطاب الرقمي مزدوج الوظيفة، كما هو الحال في الخطاب السينمائي، إذ أنه في الحالتين يحاور المضمون في أبسط تقدير. وازدواجيته أي الثنائية التي يعملان عليها متجاورة ومتقاربة في الخطابين، حيث نجد أن الأيقونة + المؤثر الصوتي يحيلنا إلى النسق، كذلك الخطاب السينمائي، حيث نرى فيه أن زاوية الكاميرا + الإضاءة تحيلنا إلى فهم الصورة، ولكن ما يؤخذ على هذا الترتيب هو طريقة الوظيفة والأداء لكل منهما.

فالصورة السينمائية تعمل على وفق سياق الممكن والمحتمل أي أن مكوناتها تسعى إلى توليد معان للتصور والإيحاء ضمن فاعلية عناصرها إبتداءا من المؤثرات الصوتية، اللون، نوع اللقطة، الإضاءة، الحركة، وبذلك نكتشف أن جمالية الصورة تكمن في ما تتركه من انطباع في أذهاننا منذ لحظة المشاهدة، أي زمن الإرسال، في حين نجد أن الشكل في الأدب الرقمي خاضع كليا لجماليات النظام، صحيح أن المنتج يستطيع أن يتحكم بأداء هذه الآلية ولكنها في النهاية تفقد اللحظة التي تمنحنا إياها اللقطة.

صورة دوغما:
وأنا أتصفح القصيدة الرقمية للشاعر (مشتاق عباس معن) لا أدري كيف خطرت على بالي الصورة الرقمية لدوغما وهي باختصار شديد (مجموعة شابة انطلقت من فرنسا، مهمتها الأساسية هي أنتاج الأفلام الرقمية) ربما التشابه في استخدام الحاسوب، أو أن فكرة تطويع النص الأدبي هي التي جعلتني أنظر إلى هذه القصيدة من زاوية حركة دوغما، المهم، الصورة في شريط دوغما مبني على سلسلة من اللقطات المأخوذة عبر عدسة الجهاز المحمول، ومن ثم تدمج هذه اللقطات في عملية المونتاج (التقطيع) لتشكل في النهاية شريطها السينمائي الخاص، أي بعد أن تنتجه كاميرات مخصصة لهذه الأفلام، ولكي تصبح الصورة على قياس 35ملم سنرى ثمة شبح يتحرك، أو ملامح الصورة المتبقية، وإذا فرضنا جدلا إنها الصورة التي أرادتها دوغما، فهذه الصورة ماذا تريد أن تقول؟ ولذا دعت الروائي الألماني أنتر غراس أن يتساءل عن شكل الرواية التي تنقلها دوغما إلى السينما .. وهل هذه العملية شرعية في السينما؟ هؤلاء لديهم سؤال غريب، مفاده إن الصورة المشوهة التي يراها المشاهد هي تعبير صادق عن الواقع المشوه الذي يحيط به.

نحن هنا لا نريد أن نعلق على هذه المقولات بالسلب أو الإيجاب لأنها بالأخير تعتبر تيارات، وهي تحاول أن تبرر ما تريد قوله، ولكن يبقى السؤال الأكثر إثارة، من الذي يتحكم في هذه البرمجيات النظام أم الأبداع، وثمة سؤال أخر فيه نوع من المداعبة و السذاجة ولكن لابد من طرحه، وهو من يتفوق على الأخر، إذا ما عرفنا ببساطة أن الأدب قائم منتجه الإبداعي على ضخ أكبر عدد ممكن من العلامات والإشارات التي يحملها النسق لتشكل منه وحدة الصورة، أي بقدر موازي لما يحتاجه النسق من النظام الالكتروني/ التكنلوجي، وعلى هذا الأساس، تمتحن كفاءة المبدع في أنتاج الأدب الرقمي إن جاز لنا تسميته كمصطلح أو جنس أدبي يتباهى بمكونات تكنولوجية حديثة .

الصورة الذهنية:
إن الصورة الرقمية تولي اهتماما كبيرا بيسميائية التعبير بوساطة الشكل، وتحاول من خلاله أن تشكل علاقة برهانية لتجسيد علاقة الحرف بجماليات الشكل أيضا، ولتقليص الفارق أو تقريب المسافة بين التلقي/ المشاهدة، تتحرك المؤثرات الصوتية التي يمكن أن تشبهها بجرس الانتباه، إذ إن هرمونيتها المتغيرة بمثابة تقاطع ما بين نسق العبارة المتحرك، ونسق العبارة الثابت (جسد النص، المتن) وهذا التقاطع باعتقادي يشكل مركز لتوزيع الإشارة البصرية التي يبتغيها المنتج، ثم يضاف إلى ذلك البعد الآخر المتمثل باللون أو المنظر الذي يجسد لنا قيمة الحركة التعبيرية غير الظاهرة في النسق، وبهذا الاستدلال نكتشف رغبة الدوال في التحري عن المعايير الغائبة في عالم النص.

إذن من خلال هذه القنوات ينظر إلى الشكل كوحدة سابقة على مدلول النص، منه ندرك قيمة الإيعاز أو فاعليته لخوض راهنية المنجز، كيف، ربما يتبادر مثل هذا التساؤل في الذهن، إذ أن المقال في معرض ذكره للتقاطع يعني ثمة إشارة كوّنها المركز قبل أن يشترك بآليتها الشكل، بينما الحقيقة التي تحاول الورقة تأكيدها، من أن الشكل والنص متناغمان إلى حد بعيد في إرساء دعائم مكونات النص، وهذه الحقيقة ببساطة يمكن أن نحصل عليها، إذ أننا لو قمنا بعزل المحتوى النصي وجردناه عن بقية العلائق الأخرى التي اشتركت في صناعته .. ماذا يحل بالنص؟ أو ماذا يبقى للنص؟ وهل يمكن أن يؤدي وظيفته الإرسالية كما جاء به جاكوبسن في نظرية التوصيل؟ وهل أن النص سيتمتع بمزايا النص الورقي إذا جازلنا التعبير؟ نترك الأجابة الآن موقتا، ونقول إن الإبداع هو القاسم المشترك لأي عملية تجريبية، كما ورد ذلك في قول محمد برادة حول موضوعة العنونة، التي يتبوأ فيها شكل الغلاف، ويتخذه النقد مرادفا حقيقيا لمحتوى النص، ولذا نقول وبأختصار شديد إن النص الرقمي لايمكن أبدا أن يستغني عن آلية العلائق في المجسمات والمرئيات والمحسوسات التي ترافق عملية الإنتاج الأدبي، باعتبار كل هذه المكونات مع بعضها تجتمع لصياغة البناء الفني والمعماري للنص أو هندسته، ليس المقصود هنا هندسة باشلار وإنما المكون الجمالي الذي يساهم بقدر ما على استلهام الرؤيا وبلورة فلسفتها ذهنيا.

هذا ما وجدناه في محاولة النص الرقمي، أي إنه عبر قنوات متحركة وثابتة، بصرية ومحسوسة، يحاول فيها النص أن يعكس لنا جدلية المعنى أو ما يسميه جابر عصفور اللغة الثانية للنص، وهذا باعتقادي يخلق فجوات أمام تمدد النسق، أي إن الحركة التفاعلية البصرية تكون مهددة بالتمرد فيما لو فقدت أي من موادها التفعيلية الأخرى التي تساهم بشكل أساسي في حاضرة النص وجوهره.

نص الشاشة:
إن الصورة التي يجسدها لنا نص الشاشة تعتمد على مكونات جمالية لا تختلف كثيرا عما ذكرناه في النص الرقمي، ولكن الاختلاف ينصب في الدرجة الأولى على حركة تفاعلية نابضة وموشومة بالملامح، أي على ما تنتجه الصورة وما تختزنه من قوة تأثير على المشاهد.

يقول آلان روب، ثمة فرق علينا أن لا نجهله في السينما، إن الكتابة فيها تعتمد على لغتها الخاصة، أي أنك مشاهد قبل أن تكون كاتبا للمادة السينمائية، فالكتابة عبر النور ليس هي الكتابة على الورق، فللحقيقة أقول: إن هذه الإشارة وجدتها في كتاب الحقيقة والسينما لفرجينا وولف، صاحبة مشروع التداعي الحر أو تيار الشعور الذي جسدت فيه معان عديدة عن الانعزال والانزواء والانطواء التي تعرض لها الإنسان الغربي بعد تضخم الآلة وهيمنتها على الحياة العصرية، فأهم ما جاء في هذا الكتاب، هو أن على السينمائيين أن يتجنبوا ما نستطيع أن نحصل عليه بالكلمات، أي ثمة مزايا وخصوصية في الفن، سواء كان سمعي، بصري كذلك الكتابة على مختلف ألوانها وأشكالها فهي تتمتع بلا شك ببعض المزايا التي تؤهلها للاحتفاظ بخصوصيتها في البناء الفني وهويتها في التجنيس الأدبي. وكما يذكر د. صبري حافظ إن معيار النصوص الإبداعية ليس تصنيفها أو تجنيسها بل قدرتها على التخليق والتحليق في فضاء يستوعب أسئلتنا في نظرتها إلى إشكالية الواقع كي نستدل على الحقيقة التي تهبنا من خارجها إلى برهان.

وهنا نوه رولان بارت، إلى إن لغة الأدب، تكشف عما وراءها فنرى في باطنها المعنى الغائب في ظاهرها وحتى الثنائية السوسيرية المعروفة (لغة، كلام) أي إن اللغة دائما تقول رؤاها للأشياء، أما الكلام فهو حضور تجربة اللغة، وهذا ما أكده القرطاجني من قبل في الجمع بين النص كنظام والنص كلذة، المهم من كل ذلك ما نريد أن نؤكده، إن نص الشاشة الذي تم اشتغاله في السينما الحديثة، والتي تضم نخبة من الروائيين المعروفين مثل كلود سيمون وآلان روب غرييه وآلان رينييه كانت فكرتها مبنية على إن ما يكتب إلى السينما يجب أن تكون كتابة مكتفية بذاتها، ومخصصة للشاشة، ولايمكن تداول هذا المنتج على الورق (أي ما يعرف بالكتابة التخصصية) وإن كانت السينما العربية قد دشنت مثل هذا الأسلوب على يد السينمائي المعروف (يوسف شاهين) إلا إن الرواية بقت تمثل القاسم المشترك فيها.

ومن هنا نفهم مدى حرص جماعة الفن الحديث أو السينما الجديدة، على سياق الخطاب ومنهاجه ومعياره في الاستدلال، فالآلية التي تتضمنها الصورة متعددة تعدد الممكن والمحتمل، وذلك يعني تحميل النسق البصري وما يحف به من تصورات وإيحاءات في لغة سينمائية تسعى إلى أن تتكلم عن الأشياء بفلسفة جمالية يسميها منذر عياشي أطروحة النص أو أطروحة المشهد أو أطروحة اللقطة، ومنها نكتشف آلية العمل الإبداعي، وكيف تم تحويل مركباته الأدبية إلى مكونات تداولية/ مرئية، ضمن سياق سلسلة من لقطات الشريط التي تنتج دلالاتها فنيا. ومسألة أخرى في نص الشاشة إنه لا يتقيد أبدا بدرجة التصوير إن كانت 8 ملم، 16ملم، 35 ملم كي نعرف الفرق بينها وبين دوغما في تجسيد فاعلية الحركة وأدائها على الشاشة، أو حتى النصوص الرقمية التي نراها على شاشة الحاسوب، إذ هنا تبرز القيمة الأساسية للتجربة ومدى فاعليتها في التأثير بغض النظر عن الوسيلة التي يلجا إليها المبدع .

وعلى ضوء هذه الحقائق، يفسر لنا نص الشاشة أنظمته الإشارية كاللون والزاوية والديكور والإنارة والمؤثرات الصوتية على إنها إشارات مزدوجة الوظيفة بين الفلسفة الجمالية التي تؤديها اللقطة، وبين الرؤية الإبداعية في سياق العمل الفني، بينما النص الرقمي يعود إلى النص الأدبي في ترتيب الوظيفة والعلاقة بغض النظر عن محتويات النظام الحاسوبي الذي تشكل فيه، ولذا يأخذ النسق قوته من مفردات سابقة على النص تتمثل في إرجاع أو انتباه أو عاجل، على سبيل المثال، وليس الحصر، أداة للقبض على لحظة الانتظار وتمهيدا للتوافق الشعوري إزاء ما يأتي من تحول مرتقب على وضع الخطاب. ومن هنا نرى إن النص الرقمي يجسد على الشاشة لغة الأدب بوصفه حاملا لكل أطيافه ومدلولاته وفيه الصورة حاضنة لهذا الإرسال وإن تعرض للتقطيع أو للتلوين أو للتأطيرأو أنساب النص مع المؤثرات الصوتية فأن الصورة الأدبية تبقى لغته الوحيدة المهيمنة في مكونات خطابه، وكما أسلفنا تعبر هذه الصورة عن مخزونها في رسم الملامح وإعطاء بعدا تخيليا تتجلى فيه فاعلية الكتابة وفعالية القراءة ومن خلال هذه الثنائية نتحسس حركة النص ومنظومته وجمالياته في ميدان التجربة وسياقاتها الفنية الجديدة.