تتعدد دلالات الاتعتاق في قصة القاص العراقي وتتكشف لنا سواء من محاولة الشخصية المصابة بالصرع الانعتاق من الصورة التي يسجنه فيها الآخرون، أو الانعتاق من سطوة الأب الرافض والغاضب لوجوده، أو انعتاق الشخصية نفسها من أي وضع تستقر فيه وتجريبها الدائم للمتناقضات.

الأنعتاق

أحمد غانم عبد الجليل

جائتني أمه باكية، تندب حظها وتعض شفتها السفلى غيظا، تتوسلني البحث عنه في أي مكان يمكن أن يفر إليه بعد عراكه مع والده غليظ القلب الذي لم يبال بحدة بلائه، تلك الصعقة الكهربائية التي تحتل جسده الثقيل، ترجه بشدة، من شعر رأسه المنتصب حتى أخمصي قدميه المرتعشين، أربعة رجال بالكاد يستطيعون تكتيفه، خامسهم يكبِر ويذكر ما يحفظ من أسماء الله الحسنى في أذنيه الممتقعة ككل ذرة في وجهه حد الازرقاق، تتردد أنفاسه بقوة تنفض آخر قواه... ينفث تمتمة كلمات بالكاد يقوى على نطقها، تغور في الآذان طلاسم مستوحاة من لغات بدائية أو هلوسة صوفية، يتدثر بتجليات عوالمها العلوية من فترة لأخرى، ثم يفر من روحانياتها القدسية فراره من نارٍ ترسم ضفائرها الوضاءة في ثيابه، يفيق على وجوه لا يتعرف عليها إلا بعد حين وإن كان وجه والدته الناحب، يداها الحانيتان تحيطان برأسه المصَدعة فوق الفراش، تخفقان كجنحي حمامة تحاول انتشاله من حافة الموت الرهيبة...

عيثت قدماي في مكانهما دقائق عدة قبل ولوجهما فناء الدار، عبرت ظلمة الحديقة الشفيفة، مستدلا بنور ضعيف تشف عنه ستائر غرفتها الوردية، لم تواتني جرأة النقر على الشباك المغلق، تسكن أصواتهما حفيف الشجر، رجفة أوراقه الخضراء، تنداح مع قطرات مطر مباغتة، ضمخت رطوبتها جفاف الآثل الناعم، وددت افتراشه لبعض الوقت دون تفكير بأي شيء، لا قلق الوالدة الحزينة ولا غواية صديقي بعشيقته المطلقة، وكأني في أرضِ خلاء لا صاحب لها...

لم يكن يود لارتعاشاته فوق لدانة جسدها الملسوع بسمرة مشاكسة لأعين الرجال التوقف، حتى الإغماء ربما، يرجو فراقه للأبد، ذلك الجني الذي كانت والدته تحدثه قرب رأسه في جوف الليل، تظنه من يتسلط على جسده ويشل حراكه، يسكن رأسه ويملي عليه تصرفاته، يحيله إلى الجنون، بصراخه، بعصبية مخيفة، لا تصدر عن صبي في مثل عمره، شروده الطويل حتى في المدرسة, مما أدى إلى اشتكاء بعض المعلمين منه...

أيقظتني هزة يده من إغفاءة أسكنت رأسي إلى جذع شجرة عتبقة، تثاءبت طويلا وأنا أمسح البلل وقتامة الخجل عن وجهي، رمقني حانقا على جسارة تلصصي على خلوته القصية عن عالمه من جديد، كتم فمي بكفه وسحبني بسرعة إلى الخارج...

كان كمن يبصق دخان سيجارته في وجه ريح تقبض على بقايا رذاذ منعش، ضم بعضها في كفة ثم رشها على وجهه المحتقن، وكأن حتى تلك النشوة الضارية قد استنزفت بريقها بين جوارحه، وتشبثه الأهوج بجسدها، وإن أخافها في البداية بعض الشيء، ورغبته الاستنشاق عبر أوردتها، عله يحظى بولادة جديدة بين أحضانها، ما عادت سوى خدعة أخرى، يهزأ منها بقدر ما يزحم رأسه المضطربة قنوط لا يخفف من شدة استفراسه غير نظرات الشبق السعيدة حد البكاء المتقافزة من عينيها النجلاوين، تبهره ارتعاشاتها، شهقاتها، التفاظ أنفاسها، يكاد يهمس في أذنها كما يفعلون معه خلال نوبات تشنجه المتزايدة، لأهون الأسباب ربما... نظراته تبحلق بالتواءاتها بين ذراعيه، من علياء سماوات تسبح في ثناياها روحه متحررة من جسد يداوم التدحرج فوق سفح جبل ينبثق من بين تمزقات أحلامه، مع كل انقلابة على وجهه يفقد أحد أعضائه، فلا يبقى منه سوى رأس كبيرة مشوهة الوجه، جاحظة العينين، تعتلي كومة أحجار تحف بها أرض مقفرة من كل جانب، يروى لي تلك الأضغاث مقهقها من بؤس نومه وصحيانه المرتعد اختناقا...

يحلف كل مرة ألا يعاود الذهاب إلى تلك العاهرة التي تمسح دموع فشلها في عنفوان فحولته، مشمئزا من مستنقع العبث الذي يخوض فيه، إلا أنه يعاود الكرة لدى كل أزمة تلازمه، تحضه على هجران الدنيا برمتها، دون أن يملك الشجاعة لذلك، يزورها أي ليلة شاء، يتحدى هاجس مباغتة جسده مفتول العظل ثورة جديدة، قد تطرحه بعد فترة ارتعاش لا سلطان له عليها جثة هامدة فوق دنس فراشها، أو تخلفها معتصرة الرقبة بين كفين متخشبتين... يتعاركان، يتشاتمان، بصوت عالٍ لا يكترث لإيقاظ والديها العجوزين متناوبي الغطيط منذ الساعة التاسعة، تخبط يداها أخيرا على كتفيه بميوعة تشكو فترات إهماله لها...

في اليوم التالي كان يقف في محل والده متحديا الجميع، دون أن يفر إلى عزلة جديدة قد تستغرق أياما وربما أسابيع، فقد تعلم أصول المواجهة بحسم، خاصة أمام والده الذي لا ينكر تحرجه من مرضه أمام التجار المتأسفين على شبابه العليل، تأخذهم في ذات الوقت الرهبة من حدة انفعاله غير مأمونة العواقب، كما كان يحدث خلال سنوات الدراسة، أو أثناء لعبنا في الشارع... وكأنها تتكرر أمامي من جديد، أول نوبة صرع شهدتها وبقية زملائنا، عيناه الجامدتان في مقلتيهما، تشابك أصابع كفيه بقوةٍ رجراجة، اهتزازة رأسه على الأرض، رفسات رجليه المتصلبة، كما لو كان يقاوم قوة خفية تحاول سحله نحو جبٍ عميق...

لم ينسَ أبدا وجع إساءة أيا كان، ولو بإيماءة، بمن فيهم شيخ الجامع الذي حضه بشيء من الغضب على عدم حضور صلاة الجمعة أمام المصلين بعد إفاقته من نوبة عاجلته لدى إلقاء الخطبة شبه المكرورة أسبوعيا، فما نال الشيخ الوقور إلا الشتائم والسخرية من مواعظ الأطفال التي لا يحفظ سواها وهو في طريقه إلى باب المُصَلى وسط غمغمة الاستغفار المتواصل، وإن كان ليس على المجنون من حرج، وصمة كلما أراد التبرؤ منها زادت التصاقا به...

أعلم أني كنت الصديق الوحيد لديه، رغم تعدد علاقاته بمن يشاركوه ساعات اللهو الصاخبة، يثرثر أمامي بما يشاء دون انتظار جواب، يسخط، يغضب، يصرخ، يشاجرني، تسوطه نظرات شفقة قد تلوح في حدقتي، فيتحفز لضربي، ولكنه يتراجع طالبا العفو بوداعة طفل يتوجس من البقاء وحيدا...

أبصرت ارتقاءه إلى جنان الفردوس ومن ثم انحداره نحو قرار الجحيم، بمتعة مغامر ينتظر الموت، بل يتمناه، في كل لحظة...

(وماذا إن مت، وفي أي حاله كنت فيها، في يوم القيامة لن أحتاج إلى أي دفاع عن نفسي، أليس الله العليم الخبيربما تخفي الأنفس، وإن ذهبت إلى جهنم حتى، فسوف يكون ذلك جزاء عملي الذي صنعته بملء إرادتي، هناك يتساوى الجميع أمام سلطان العدل والرحمة المطلقين)...

عله قال ذلك وهو يترع من زجاجة بيرة لا يبالي بمدى تأثيرها على مرضه، فيما يتلبسني الخوف من نوبةٍ جديدة لا أدري كيف لي التعامل معها...

(في ذلك اليوم وبينما تذرفون عليّ الدموع، وأظنك وأمي المثقلة بعبء ولادتي أكثر من سيفعل ذلك، ستكون روحي حرة طليقة تزغرد فرحة خلاصها، سوف يفسح الله أمامها السبيل لترقص في السماء رقصة عمرها الوحشية قبل أن يخضعها لأي حساب).

كنت أخشاه أحيانا، خاصة عندما يهذي بمثل ذلك الكلام بنظراتٍ غائرة مضببة بدخان السيجارة التي تضمها شفتاه، وكأن المشهد يمثل أمامه بكل تفاصيله...

ظننته سيثور، يقلب الدنيا، يعريها، يسعد بفضيحتها في يوم زفافها، باعتبارها من ضمن ممتلكاته، ولكني وجدته يجلس في غرفته رائق الأعصاب، يستمع إلى موسيقى هادئة ويقرأ في كتاب شعر استعاره مني، لم آتِ بكلمة مكتفيا بمراقبته حتى أغلق الكتاب في تأفف ثم رماه نحوي على فراشه...

كل مرة يأتيني نهما لأكبر قدر من المعرفة، يأخذ كماً من الكتب تستثيره عناوينها أو أسماء مؤلفيها، لا ينفك بعد فترة أن يردها لي مكفهرا من كل ذلك الحشو الممل الذي يسطو على وقتي، سطره أناس لا يفقهون عن الحياة شيئا، استعرض من خلال سفسفاطهم عضلات دماغي أمامه وأمام الجميع...

ضحك طويلا من ذلك المغفل، عريس صاحبته، وهو يذكرني به وباللكمات التي نالها منه في المرحلة الثانوية، آخر عهده بالدراسة ومللها وضيق المواقف التي تعرض لها، ليسلم نفسه بعد ذلك إلى تسلط أبيه وشتائمه المتواصلة، يقذفها سم لسانه من خلف باب غرفته الموصود، تلعن اليوم الذي أبتلي به، وكذلك البطن التي أنجبته وما عرفت أن تأتي بغيره، يجيبها برعد صراخ يسمع الجيران، ثم يترك الدار حتى ينام الطاغية، كما اعتاد تسميته، حتى لا يأتي بجريمة تسلبه بقايا حريته...

في يوم جنازة والدته ظننت أني سأفاجأ به في مقدمة من يحملون النعش، ولكنه ظل محتجبا عن الأنظار، لا علم لأحد بمكان وجوده، إن كان حيا أم لا، رغم كثرة الأقاويل التي تناقلتها الألسن وراح الأب المكلوم بماله يتشبث بأذيالها، وقد مل من استجوابي عنه... تصيره تارة سكيرا داعرا، يستأجر كل فترة بيت لفتاة سرعان ما يملها ويتهاوى في أحضان أخرى، وتارة ناسكا في تكية من تكايا الصوفية، مجنونا يهيم في الشوارع متعثرا بخطى هذيانه والنقود، تلك الثروة التي سرقها بعد عثوره على مخبأها السري في الدار، تتساقط من جيوبه المهترئة، تاجرا يجني من الأرباح ما لم يحققها والده طيلة حياته، رغم كل ما حظي من دهاء...

كنت بدوري أصدق تلك الشائعات حينا وأسخر منها أحيانا أخرى، ولكن ما أكاد أتيقن منه أنني سوف ألتقيه من جديد...

أين، متى، في أي ظرف وأية هيئة؟... أسئلة متتابعة، لا تنفك حلقاتها عن التدحرج على عتبات السنين... 

11 ـ 6 ـ 2009 عَمان