في مدينة الإسكندرية لا تنتهي مفارقات شهر أغسطس التي يتأملها القاص المصري في مراحل زمنية متباينة. وتكشف تلك المفارقات عن تحولات والتغيرات التي طرأت على المجتمع المصري من خلال تتبع القاص لمتغيرات الشهر من عام لآخر.

أغسطس.. صديق الطفولة والحرية

على عوض الله كرار

الشوارع العرضية فى الشمال السكندرى مستقيمة، بلا التواءات، نحو البحر...

البيوت والفلل والقصور والفنادق الموازية لتموجّات الكورنيش، واطئة، تسمح للهواء بحرية التسكع والتجول كيفما شاء... والبنات بعضهن يعشقن مواكبة الزمن سنة بسنة. وبعضهن يفضّلن التأخر عنه قليلا. وحتى هذه الـ (قليلا) تختلف من بنت لأخرى. كان الزمن زمن الميكروجيب الذى لم يستطع قص بضع سنتيمترات من قماش لابسات المينى جيب الذى لم يستطع بدوره قص مسافة أربعة أصابع ملتصقة من جونلات مافوق الركبة التى لم تستطع هى كذلك أن تغرى جونلات ما تحت الركبة بالصعود إليها.

وما أن يمضى أغسطس صديق الطبيعة والكيمياء الملتصقتين بالروح التى يصيبها الملل والإعياء من طول مشيها داخل شهور النحو والصرف والبلاغة والحساب، حتى يعود اغسطس مرة أخرى ماشياً بأشواقنا لمياه البحر التى تستقبلنا بأحضانها بعد ما انتهى هواؤها من تجفيف مياه الشمس المنسابة فوق أجسامنا الآخذ ة فى العودة إلى براءتها الأولى: بحر ورمل وهواء وسماء ممتدة بلا عمارات تكتم أنفاسها.

لمَ أغسطس فحسب؟ وعن يمينه صديقه الحميم يوليو، وعن يساره صديقه اللدود سبتمبر.

لمَ أغسطس فحسب؟

يوليو ملتصق بقلق أمهات يقتتن من قلق أولادهن تلاميذ الشهادات العامة، وسبتمبر ملتصق بالاستعداد لمرحلة دراسية تالية.

أغسطس هو وحده المتحرر من القلق. مَنْ نَجَحَ نجحْ، ومَنْ سقَطَ، سقَطَ، ومن له دور ثان فى مادة أو مادتين سيتمسك بعنوان كتاب كارنيجى (دع القلق وابدأ الحياة) فيكفى يومان للمذاكرة قبل امتحان المادة، أنه بالفعل شهر الفسحة الحقيقية بين قلقيْن مؤرّقين فى حدّهما الأ دنى،وكارثيين فى حدّهما الأعلى.

بعد انتهاءعام دراسى منضبط فى صحوه ونومه (إذ ْ لم يكن الفضاء قد تحول بعد إلى مصنع كونى ينتج النت والفضائيات والفيس بوك والمدونات والبلوجزات و..........

بعد إنتهاء هذا العام تتشجّع بعض جونلات ما تحت الركبة متخلصة مما يخفى تلك الركبة، وتنتقل عدوى الشجاعة المحسوبة إلى بعض من جُونلات مافوق الركبة المتلمسة مراهقة المينى جيب، اذ تتركه بعض صاحبات الصيف الأسبق على حاله مطمئنات إلى ما ستفعله السنتيمترات القليلة التى أضيفت لأطوالهن، فتتحول نفس الجونلة تلقائياً من مينى إلى ميكرو. فاذا اعترض الأب، قالت الأم:

ـ ماهيّه نفسها الجونله اللى كانت لبْساها قدام عينيك

وإن جادلها صدّته:

ـ خلاص إدينى فلوس أنزل أنا وهيّه أشترى لها قماش جديد نروح بيه للخياطه.

وطبعا ياما فى الجراب يا حاوى من إجابات:

ـ فكّى التَنْبه اللى تحت الجونله وخللى الخياطة تتْنى نصّها وتخيّطه.

فترد الأم العليمة بالخطط الافتتاحية للشطرنج الذى يجيده زوجها:

ـ لون التنيه حيكون مختلف عن لون الجونله

ـ ليه؟

الغسيل والشمس بهّّّتوا شويه لونها عن لون التّنيه -

*    *    *  

الحوار الفائت ليس هو المهم طبعاً فى حكايتى مع أغسطس.. لكن أولاً:

هل هناك فرق بين حرفىّ الجر (مع) و(عن)؟... الحرف الثانى كان يداعبنى.. لحظة تثبيته فوق الورق صار (مع).. لماذا حدث ذلك؟.. من حين لحين تأخذنى (لماذا) هذه إلى محلات البقالة السكندرية المُغرمة بتعليق براويز خلف بعض زجاجها ورقة مطبوعة بـ (ملك الملوك إذا وَهَب. لا تسألن عن السبب)، وهذا ما حدث: أردت أن أكتب (حكايتى عن أغسطس) فجاءت (حكايتى مع أغسطس).. لم أهتم بالبحث وراء ما فعلته نفسى المتواطئة أحياناً مع كائن آخر يساكننى دون دفع فاتورة النور حتى.. لا وقت محدد لإضاءته.. فى أى لحظة يغمرنى بنور سطوعه المفاجئ يَعمى بصرى لتنفتح بصيرتى التى لا سلطان لى عليها.. كان من الممكن أيضاً أن أكتب هكذا (حكايتى فى أغسطس).. لعنة الله على حروف الجر. إنها تربكنى.. لم أهتم يوما بمقولة أساتذة اللغة العربية بأن حرف الجر يجر بلداً بكامله وراءه. الآن أهتم.. وسأغفر لها ما تسببه لى من ارتباكات طالبا منها ـ جميعا ـ أن تجر (كزمار مدينة هيملن بألمانيا) نصف قرن بحاله، حتى تصل الى وسط البحر، وتُلقيه للحيتان.

كنتُ سأرتكب جرماً لو إخترت الصيغة الثالثة للعنوان (حكايتى فى أغسطس) فأغسطس ليس صندوقاً، والصندوق يلزمه غطاءً وقفلا،اغسطس هو طارد الناس من صناديقهم الأسمنتية، بل من ملابسهم أيضا، كما أن حكايتى هذه ليست ثروة مادية أخشى عليها من السرقة التى لو أراد لصّا أن يفعلها فسيفعلها (سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا).

اللفظة الوحيدة التى هى من مقاس (عن) و (مع) و (فى)، وقادرة على جر بلد بكامله وراءها نحو النجوم هى لفظة (حُب) ولكن الحب انقلب إلى (بَحْ) أى: خلاص، مافيش، انتهى.. حرف (الباء) لن يظل طيلة عمره تابعا لحرف (الحاء). وحا. شى. حواوشى يا شعب حُرّمت عليك شواطئ بَحرْك مادمت غير منضو تحت قبيلة نقابية، وكان لهذه القبيلة بضع مئات من الأمتار مقتطعة من البحر والشط، وكلها نقابات لبرجوازيين جُدد.. من لم يستطع التملّص من طبقته العمالية الفلاحية له الآن منطقة مجانية صغيرة فى (جليم): اصبحت الآن متحفا حيّا لشواطئ الأسكندرية فى العقود الوسطى من القرن العشرين...

شكراً لأصحاب فكرة المتاحف البشرية!!.

وان لم تكن تابعاً لنقابة برجوازية لك أيضاً شواطئ (سيدى بشر) و (ميامى) لكنها ذات رسوم مالية باهظة ما كُنت تدفع عُشْرها لأُغُسْطسيك الذى ذهب ك (كلارك جيبل) مع الريح، ولم يعد ولو على سبيل التجربة كمواطن المخرج محمد خان.

تسقط كل حروف الجر. وليس فحسب: مع وعن وفى.. ويحيا الظرف المكانى.. بفتح الظاء التى يمكن أن تكون (ضمن سياق حكايتى) مضمومة أيضاً. فى هذا الظرف المكانى المحتشد بالظُرف كانت حصيرة الصيف واسعة كما وَرَدَ فى أمثالنا الشعبية، وكان أغسطس هو طبليته المستديرة التى تتوسط الحصيرة، فيما نحن أولاد المنطقة وبناتها متربعون حوله نتخاطف حريته منزوعة القلق من عيون بعضنا البعض، رغم وفرة أطباقه الموضوعة فوقه وفوقها تلال مما طاب ولذ من حريات كاملة الأوصاف.. وقتها كانت أغنية كامل الأوصاف لعبد الحليم فى علم الغيب.. فعلاً تسقط كل حروف الجر.. ويحيا الظرف المكانى:

فوق: طلعت فوق السطوح أنده على طيرى.. حلاوتك يا بداره...
تحت: تحت السجر يا وهيبه ياما اكلنا برتقان مع محمد رشدى...
تمارين الرياضة الصباحية بالمدرسة الابتدائية:
فوق. تحت. أمام. جنب.فوق. تحت. أمام. جنب. فوق...

كيف سأصيغ العنوان حينئذ؟ هل أكتب: حكايتى المرصوصة فوق أغسطس؟.. عنوان غير مستساغ.. فليسقط ظرف المكان، فليسقط..ولتسقط أيضا كل الظروف الاجتماعية والطقسية.. لم لا أقول: أغسطس حكايتى؟ فعلاَ لم لا أقول؟.. أغسطس حكايتى التى وصلت أصداؤها إلىّ الآن و بعد أن تخطيت الستيـ تى تى تى تى ن عاماً.

ولكن ليس أيضاً أغسطس هو المهم رغم صداقته الحميمة لطفولتى وحريتى، هو فحسب ظرف زمنى محدد (رغم تكراره السنوى) مضروب فى خلاط مع ظرف مكانى ثابت الجغرافيا متغيّر الحال. واشرب يا ولد.. اشربى يا بنت.. لم يعد بنيانكم الجسمانى من لحم أكتاف آبائكم.. بل من عصير ممزوج بأزمنة وأمكنة ليستا على حال واحد مثل عصير الموز المضروب باللبن.. للموز أنواع مختلفة المذاق.. وأماكن بعضها محلىّ. الآخر من بلدان أخرى.. واللبن أيضاً أنواع: جاموسى وبقرى وبُودرة ومغشوش.

المهم عندى الآن هو الهوى هوايا الذى لم يكن عبد الحليم والأبنودى قد وصلا إليه بعد. بل لم يكونا قد تعارفا سويا بعد.. الهوا (الذى آخره همزة فوق السطر) إن واجه البنت جسّد صدرها ومابين فخذيها.. وإن صدمها من الخلف جسد تكويرتها المختبئة تحت خصرها.. وان احتك بجنبها نحت لها بروفيلاً يلفت أنظار الماشين فوق الرصيف المقابل للكورنيش.. وان خرج طازجاً من البحر إليها مباشرة نحت بروفيلاً ترجرجت له قلوب القاعدين على سور الكورنيش.

لم تبال البنات بالهواء المندفع إن جاءهن مستقيماً.. ومن أى جهة.. ليس هناك ما هو أشهى من السنتيمترات العارية لما فوق الركبة.. تجسيد ما يعلوها لا يلفت.. ما يلُفت هو خوف البنت من أن تنفلت كمية من الهواء المندفع، وتمر من أسفل نصف الإطار الخارجى للجونلة مصطدمة بأسفل النصف الآخر ولكن من الداخل الذى يتكوّر مرتفعاً.. فإما أن تتوقع البنت المفاجأة وتستعد لها... أو يفاجئها ارتفاع طرف الجونلة. وفى كلتا الحالتين تبدأ نشوة الذكور الصغار فى التفتح والنمو الباديين على عيونهم وأفواههم وتمايلاتهم الجانبية نحو بعضهم البعض فى توافق مع ضغط أذرعهم فوق أكتاف بعضهم البعض.

كان الكورنيش هو الفاصل الحجرى السميك القصير بين بداية الكون البكر (بحر ورمل وسماء وأجسام بينها وبين استكمال العرى بضعة سنتيمترات) وبين تحالف ديمقراطى شعبوىّ لجونلات البنات المتنوعات فى شجاعتهن كما وكيفاً. التناسب العكسى هو ما يحكم العلاقة بين شجاعتهن وجونلاتهن. كلما أرتفعت الأولى، قصرت الثانية. والعكس صحيح طبعاً.. والشعار الأيديولوجى للجونلات هو: كل بقدر ما تستطيع من ارتفاع. ولكل حسب ما تجنيه من نظرات ذكورية تختلف عن بعضها البعض.

وتمضى السنوات: 1960 ـ 1970 ـ 1980 ـ 1990 ـ2000 ـ 2010.. شهور قليلة وسأصل إليها.. أو هى التى ستوصّلنى إلى نهايتى.. أيّا ما كان الأمر.. مضت السنوات.. وإذْ بكل شئ يرتفع.. وكل شئ ينخفض.. ملابس الفتيات ترتفع إلى ما حول الرأس، وتنخفض إلى سطح ما يرتدونه فى أقدامهن.. البيوت هى الأخرى ترتفع محُجّبة ضوء الشمس فيما معاملات ساكنيها لبعضهم البعض تنخفض.. قيم المال ترتفع بينما قيم المودّة تكاد تنعدم. كل شئ فى ارتفاع. كل شئ فى انخفاض.. هى أشياء مثل الحُمىّ: جبهة باردة كالثلج تنقلب إلى شعلة نار تنقلب مرة أخرى إلى برودة مرتعشة.

والقوتان المتضادتان تقريباً متساويتان.. أى قوة منهما ستسحب الأخرى معها؟.. أم أنهما سيصلان معاً إلى قرار واحد هو أن تذهب كل قوة منهما إلى حالها أو يتعايشا معاً؟.. ماذا سيحدث بالضبط؟.. أو ليس بالضبط؟؟؟

*    *    *

لنهرب مرة أخرى إلى أغسطس الذى عرفته عارياً من الأسمنت المتحجّب به أحفاده من أغسطسيّّات هذه السنوات،ونتصاحب مع الهوا الذى خلع فردة الهمزة وانطلق حافياً معنا فوق رمل الشط وبلاط الكورنيش. الهوا ما زال يندفع. ننتظر مخادعته للبنات. أو تواطئه مع بعضهن.. ترتفع الجونلات القصيرة. تحتار البنات. يلصقن أفخاذهن وينثنين قليلاً لأسفل ممسكات بذيل الجونلات. وما أن يهدأ الهوا قليلا حتى يبحثن عن مكان خال فوق سور الكورنيش يجلسن فوقه. أو يستكمل بعضهن رحلة المشى فوق الرصيف وهن منتبهات لغدر الهوا المتحالف سراً مع عيون الأولاد. وبعضهن ينزلن بسرعة عبر سلالم الكورنيش قليلة العدد، إلى رمل الشط جاريات، كل منهن،إلى شمسيتها محتمية بعزوتها من الأهل وجيرانهم من ناس الشماسى الأخرى التى لا يخلو بعضها من بنت ترتدى المايوه الكاشف لمناطق الإثارة والإنارة وشطارة المداعبات الخفية الداعية بوضوح غير مفضوح لعقد صداقات شاطئية قد تطول لما بعد الصيف.. تنهض بنت من البنات اللاتى احترن منذ دقائق فى كيف يمنعن الهواء من كشف أفخاذهن للأوغسطسيين الصغار، وتسقط جونلتها المينى فوق الرمل. وتفك أزرار بلوزتها ببطء. انفلت لسان بالقول: أصحاب اللدغة أحياناً ما يكونوا على صَواب.. الأصل فى (زال) الأزرار هو (السين) وفك أزرار البلوزة يعنى فك أسرار الجسد سَتْتى سَتْتى وببطء واثق من نفسه.. كنت أُغار من هذا الولد صاحبى. يكبرنى بعام دراسى.. من أين يأتى بتعبيراته هذه؟.. بعد عدة سنوات فاجأنا بدخوله كلية الشرطة لاكلية الآداب.. ثم تم تعيينه فى وحدة إطفائية فى مدينة قُرب الاسكندرية. مدينة تقع مابين محافظة ريفية ومحافظة مدينية.. مثلما سور الكورنيش الفاصل بين مهْد الحياة وأسمنت العصر الحديث. الأولى تفصل ما بين مكانين. الثاني يفصل ما بين زمنين.. ما كان بحر (لوران ) أو (جليم) أو (سيدى بشر) بقادر على أطفاء نيراننا.. كانت تتحدى نيران أغسطس فى عزالظهر.. ونيران أسفلته كذلك.. حبك نار مش عايز أطفيها.. ولا اخليها دقيقه تفوتنى محسش بيها. نار يا حبيبى نااار. نار صحّتنى. نار خللتنى أحس الدنيا وأعيش لياليها.

بعد نحو عشرين عاماً امتدت الغريزة الطبقية العفوية لفنان طالع من اللا علم واللاثقافة، اسمه أحمد عدوية وعبثت بتلك الأغنية الرومانسية على هذا النحو:

نار يا حبيبى نار.. فول بالزيت الحار

تلازمت أصداء الأغنية الرومانسية مع عفوية حركة البنت وهى تستعرض حيوية ذارعيها أثناء قلع البلوزة الُربع كم.. كل رُبع كُم ينقص هو دلالة فصيحة على تطور البنت من حياء طفولى إلى إحياء بضع درجات من الثقة بجسمها الذى بدأ يتنفس هواء أغسطس على راحته.. ويتمرغ على الرمل: أحد أصول الجسد.. بنت أخرى بدأت تعمل ما عملته البنت جارتها. كل بنت تستأنس ببنت أخرى وهى فى الماء تسبح وتتشقلب وتغطس وتعوم.. استعرضت هى الأخرى حيوية ذراعيها وهى تخلع عن صدرها بلوزتها ثم تنحنى ملتقطة جيبتها واضعة إياها والبلوزة فوق سلك من سلوك الشمسية ثم انطلقتا سوياً لقلب البحر الذى تضحك موجاته الفرحة بمعاكسة البنات له حين تنقض عليهن فى اللحظة اللاتى فيها يقذفن بأجسامهن تحته مرة، وفوقه مرة أخرى. لكن لماذا كان البحر يضحك وليس مع البنات قُلل يملأنها؟؟؟

*    *    *

كلما تذكرت المشهدين: مشهد البنات وهن فوق رصيف الكورنيش، ومشهدهن على شط البحر أندهش لتناقض ردود أفعالهن فوق الرصيف عن أفعالهن فوق الشط.. كلما تذكرت هذين المشهدين أندهش نفس الدهشة الأولى.. وعبر خمسين عام تقريباً.. هل لأنهن لا يرغبن فى أن يكونوا رد فعل. فذاك الأخير هو الذى يختار وقته، وكيفية عمله. واما انهن محكومات بالسياق المكانى.. نحن أيضاً كذلك.. إن انتقلنا بالمايوه للرصيف المقابل للكورنيش لشراء شئ ما. لا نلمح استغراباً فى عيون أحد. أو يزغدنا استهجان من لسان أحد.. وحينما لا نجد ما نبتغيه، نضطر للخروج نحو الشوارع الملتصقة بسكة ترام فيكتوريا، ومن هنا تبدأ نظرات الاستغراب والاستهجان والّتأفف.

ولكن بشكل سلبى. يظهر ذلك من العيون فحسب. فإن استكملنا المسيرة إلى حافة شوارعنا الشعبية. فياداهيه دُقّى: ياقليل الأدب يامُش متربّى. ياللى أمك زانية فيك. ويا. ويا. ويا. النظرات التى اكتفت بأن تتوالد فى شوارع الترام البرجوازية تفرّعت وتشابكت فيما بينها فى شوارع الترام الشعبية وكأنها تود صنع شبكة يصطادون بها المتوحش الصغير (بُوى) ابن (طرزان) ابن (أدغال أفريقيا). والذى يبدوأنه سقط من طائرة خاطفيه فوق شارع من شوارع التروماى، كيف سقط؟.

وكيف لم تسقط مدافع طابية (سيدى بشر) الطائرة؟ وإن حدث السقوط فكيف لم يمت؟ التبرير الأقرب إلى المنطق والواقع هو محاولات هروب (بُوى) من مطارديه فى الفيلم، ولمّا انسدت فى وجهه كل منافذ الهروب لم يكن أمامه سوى صالة العرض المظلمة يخترقها سريعاً إلى الشارع، وشاء حظه أن يكون هروبه فى أغسطس، وفى مدينة ساحلية، وفى مكان منها بينه وبين البحر 15 دقيقه مشياً على الأقدام الفتية.

كل مكان بالأسكندرية كان له شروطه الواجب علينا احترامها علنا والتحايل عليها سراً. ومن ضمن هذه التحايلات ارتداء قميص فوق اللحم، قد يكون مفكوك الأزرار، أو بعض الأزرار الكاشفة عن امتلاك صدر احمد رمزى، لكن من منّا سيوافق على العودة واللحاق بنا حاملا قمصاننا؟. وإن لم نستطع التحايل وكسرنا علانية شرطاً من الشروط، ولم تأبه له العيون فهذا ليس معناه أن نكسر الشرط الثانى, وإلا فإن الحساب يجمع القديم بالجديد.. كن حكيماً. كن لئيماً. كن عليماً بالنفوس. الغريزة الصبيانية وحدها يمكنها أن تكون هؤلاء الثلاثة معاً: ا كسر شرطا واحداً وانتظر أغسطس آخر. أغسطسين آخرين. الصبر طيب. صبرنا أحسن دوا. للمبتلين (ومعرفش إيه) وأهل الهوى. لم يعد اسم النبى أيوب موجوداً اليوم مثلما كان فى زمن الليبرالية. أنتظر ثلاث أغسطسيات لا اثنين. حتى يألف الناس ما انكسر وكأنه ما انكسر. أو كأنه لا وجود له من الأصل. ثم اكسر الشرط الثانى, وهكذا.. لكن الخوف الذهنى غير الخوف الغريزى. الأول يدفع إلى التعثر. الثانى يدفع الى تجاوز المعضلة ولو بخسائر , بدلاً من أن يتحالف الخوفان معا. يحاول الأول أن يجنّد الثانى تابعاً له. تكتيكيا قد يقبل الثانى. الأول يتكتك من البرد لو شعر أن الثانى بدأ يحاول التحرر من التبعية. لكن الثانى لا يتعجل الأمور. يقبل التحالف بشروط الأول ليكسرا معا شرطا إجتماعياً صنعته أجيال سابقة. يكسراه شامخين. (يا أرض انهدى ما عليكى قدنّا) فإن حاصرتنا العيون. وأطلق بعضها الشرر نحونا. لاننتظر صدور الزمجرة من صدر أحد من أصحاب تلك العيون. نتراجع جع جع جع جع. ليس هذا فحسب. بل نتراجع ونحن محلك سر نعمل على تجبيس الشرط المكسور. بل ونصنع من أنفسنا عكازاً له حتى يلتئم الكسر ويشفى....

وهكذا استمرت مسيرة صبيان ما بعد أغسطس 1959. لم نكن نعلم وقتها أن ناصرنا بدأ منذ نحو سبعة شهور وأكثر فى كسر شروط الليبرالية المصرية التى لم نجدها واقعياً إلا فى شواطئ أغسطس. كسرها وقام بتجبيرها بأبواب عشرة لميثاق وطنى سندرسه فى وقت لاحق بمدراسنا الثانوية. كنا جميعاً فتيانا وفتيات نصنع الشرط فإن استوى نكسره. ثم نعمل له جبيرة من جبس. ونصنع من أنفسنا عكازاً يتكئ عليه حتى يشفى. وهكذا وهكذا حتى جاء زمن حمل فيه فريق من الناس كل الشروط فوق رأسه (ما صنعه الغير وما صنعناه نحن). تحول بعض هذا الفريق إلى خادمة يوسف إدريس الصغيرة الحاملة فوق رأسها تلاّ من صوان أثقل منها، ومع هذا لا تكل ولا تتعب ولاتستريح ولا تتعثر. بينما خلع الفريق الآخر كل الشروط من جسمه وصار طرزانا لا يملك إلا صيحة مميزة ترتج لها الفضائيات المملوءة بطيور وحيوانات الحكايات الخرافية والأسطورية، ومنها ما جاء منذ سنوات فى السلسلة الفيلمية (هارى بوتر). هذه القسمة التى ارتضاها ـ فى الظاهر ـ كل فريق، ولا يعلم الباطن سوى الله. نراها اليوم على رصيف الكورنيش. فى شوارع الجامعة والكليات. فى الكافتيريات. فى المواصلات العامة والخاصة. فى الأسواق. أينما سار المرء أو جلس. لقد انتهى أغسطس الذى أعرفه. أغسطس صديق طفولتى وحريتى. وحل محله أمشير جامع التناقضات الطقسية. كل طرف من هذه التناقضات له حصته الزمنية. لكن كل حصة منها ـ بخبث ـ تودّ الانفراد وحدها بالمكان. فإلى متى سيصمد أمشير أبو الزعابيب. بيب. بيب. أهلى. بيب. بيب. أهلى.