يقدم هنا القاص السوري شخصية "رسول" غير المتصالح مع العالم من حوله، والذي يرى أن أحلامه أو رؤاه ستتكسر على صخور معوقات الواقع الذي يحاصره. والراوي لم يستطع أن يقدم له إلا الإصغاء له وتفهم رؤاه لكن حتى هذا لم يفلح في إنقاذ رسول من مصيره المأساوي.

رسول

عبد الباقي يوسف

عندما أعلنت المحطة المحلية نهاية برامجها, تجاوزت ساعة البلاد منتصف الليل بساعة. لبثت أصغي للحن النشيد الوطني متأملاً رفرفة قماش العلم, وبغتة انتفض جسدي كله من استغراق في محراب هذا الطقس إثر وقوع دقات خافتة على بابي الخشبي في الغرفة المطلة على الشارع, تملكني شعور غريب بالوجل من خطر مباغت على وشك الوقوع, أدركت المعنى الحقيقي‏ لسخافة أن يعجز الإنسان عن رد فعل يدفع عن حياته خطراً يراه، أن يستسلم بصمت مرغماً. قفزت نبرات مضطربة من صوتي: مَنْ.. من؟!‏

توقف الدق. غدا السمع في ذروة استعداد لتلقي نبرة صوت من الكائن الذي فجر حالة الفزع في أعماقي. وبدت كل ذرة في كياني تلح على حاسة السمع لتأتي بنبأ مطمئن إلى ثورة الهيجان التي ألهبت البدن والروح. لبثت حالة الانتظار قائمة ونظري مسمر في ممسك الباب مترقباً وقوع شر عظيم. بعد دهر من الانتظار عاد الدق الخافت وكأنه يصدر من أنامل طفل، رميت نبرات تسعى إلى ثقة الرجولة: من أنت؟!‏

امتزج الدق الخافت بصوت كسير استقبله السمع بالكاد: أنا.. أنا..‏

دفعني السمع إلى قبضة الباب لتمييز نبرات المجيب وخرجت مني نبرات سائلة: من أنت؟‏

عاد الصوت الكسير مردداً: أنا.. أنا ثم عقب بعد هنيهات: أنا رسول.. رسول.‏

بدا هذا الصوت كخزان ماء بارد رش على جسدي: أأنت رسول حقا.‏

ـ رسول... رسول.‏

أجل إنه رسول الذي تعرفت به منذ سنتين في إحدى الحدائق العامة، كنت جالساً أتناول قطعة مثلجات، فسلم علي شخص وجلس يتحدث في الأدب العالمي، ويعدد الروايات التي قرأها.‏

قلت: حقاً أنا سعيد بمعرفتك.‏

لم يمكث طويلاً فنهض يردد عبارات اعتذارية لطيفة على قدومه إلي بدون معرفة سابقة، فكررت امتناني على بادرته وقد نهضت أمد إليه كف الوداع على أمل لقاء قريب. عندها هز رأسه وقال: سأزورك في البيت قريباً إن لم يزعجك هذا.‏

هززت كفه بكفي: هل تعرف البيت؟‏

ابتعد ملوحاً بكف الوداع مرة أخرى وهو يردد: أعرفه جيداً يا صديقي.‏

أظنها عشرة أيام مضت على ذلك اللقاء الخاطف حتى رأيته يطرق بابي بخجل ويتمتم: هاأنذا وفيت بوعدي وزرتك في البيت، أرجو أن يكون الوقت مناسباً بالنسبة لك. أذكر أن الوقت كان بعد عودتي من العمل بدقائق معدودة، وكأنه كان ينتظر دخولي البيت ليلحق بي. ولم يكن الوقت مناسباً لأنه موعد تناول الغذاء والاستمتاع بقليل من شاي مع نشرة أنباء بعد الظهيرة الرئيسية، ثم الغفوة على صوت المذيع وهو ينتقل إلى النشرة الاقتصادية التي لا تعنيني. جلست إلى مائدة الغذاء وأنا أدعوه لإشراكي في الوجبة الشهية الجاهزة التي أحضرتها للتو من المطعم. قال: تغذيت وجئت، وتقدم لا ليشاركني الطعام، بل ليشاركني الجلوس على مائدة واحدة وبين لحظة وأخرى يمد يده إلى قطعة صغيرة من صدر الدجاج ويتناولها كمن يتسلى بحبات بزر قبل النوم. من يومها بدأت زياراته تتواصل إلي في أوقات وأماكن مختلفة، فأحياناً يأتي إلى البيت في صبيحة يوم عطلة رسمية، وأحياناً يأتي مساءً، وأراه مرات يأتي لمقر عملي يجلس ساعة، يشرب الشاي ويتحدث عن رواية جديدة قرأها، أو عن رأيه في انتخابات مجلس الشعب، عن نبأ يكون حديث الساعة، ويصادف أن نلتقي في شارع ما، أو بجانب واجهة مكتبة يتأمل عناوين صحف ومجلات، فنمشي في بعض الشوارع إلى أن أقضي حوائجي، فيحمل معي ما أشتري من أغراض للبيت ويمكث إلى وقت متأخر من الليل.‏

كل حديث رسول يدور حول: السياسة، والدين والأدب حتى بدا لي أنه لا يجيد الحديث بجملة مفيدة عن غير ذلك. وأتعمد في لحظات الملل من هذا التوجه الدائم لمسار الحديث إلى تغييره لمسار حياته الشخصية، علاقاته مع الجنس الآخر، فيتهرب بطريقة غاية في الذكاء تجعلني أكف عن إلحاحي غير المباشر. وأظنه يعد ذلك مضيعة للوقت والصوت في أمور خاصة، بينما هو يسعى لنقاش المواضيع الكبرى التي تعني المجتمع برمته. مددت يدي إلى المفتاح وصوتي يسبق فتح الباب: رسول.. رسول.. أما زلت واقفاً هناك، تعرف بأني أعيش وحيداً ولا أفتح لأحد بعد الواحدة ليلاً، قل شيئاً لأتأكد بأنك رسول.. هل يصلك صوتي.. أأنت الذي هناك.. أهو أنت الذي يقف وراء الباب؟‏

تناهى صوته خافتاً، ولكن كهدير وقع على مسمعي: افتح يا صديقي.. لن يكون هذا غيري.. أتسمع، هذا صديقك رسول، إن لم تكن مهيئاً لاستقبالي في هكذا وقت مزعج سأعود.‏

أدرت المفتاح في القفل، وسحبت قبضة الباب بحمد الله إلى الخلف، ليفتح فم الغرفة ويبتلع رسول كما ابتلعني وينغلق بأقصى سرعة.‏

ـ آسف يا رسول، كنت قلقاً لأنك لم تزرني في مثل هكذا وقت متأخر من قبل، وظننت أن أحداً يقلد صوتك. قعد بكبرياء مهزوم والانهاك مع سمات الهزيمة يصرخان في وجهه، يا له من مشهد مؤلم، هذا الكائن البشري دوماً كئيب، يستاء من المجتمع كله، لا أعرف ماذا يريد بالضبط، وهو ذاته لا يحدد هدفاً معيناً لنفسه. رفض الثروة الطائلة التي أصابته من ميراث والده ولم يستثمرها، رفض المجتمع عندما شرع له ذراعيه، رفض الدين وثقافته الدينية تؤهله لأن يكون فقيها بارزاً في المدينة، رفض السياسة وثقافته السياسية تؤهله لأن يكون رجل سياسةٍ بارزاً في الدولة، رفض العمل في المجال الأدبي وثقافته الأدبية تؤهله ليكون مشروع ناقد مهم.‏

أمام الحيرة التي تنتابني في شخصية هذا العزيز، أتساءل وأنا أنظر إلى استغراقه في عمق السكون: هل رسول ينظر إلى شيء، ولا يريد أن يفضي لأحد عما ينويه؟!‏

إنه كائن شفيق محبوب من قبلي، أحياناً وهو يتحدث بعمق في موضوع جاد، ويستغرق في انفعال حاد يشوبه بعض انضباط، استمتع بحديثه الذي يرفع آلاماً عن كاهلي ويستبد لها بنشوة غامرة، يا له من كائن جبار ـ رغم عذوبته ورقته ـ قادر على التأثير في مستمعه فأثب وأطبع على خده قبلة: أشكرك، يقاطع حديثه، ثم يستأنف سياق الموضوع حتى يشبعه أمثلة، ولا أظن أن أي أستاذ جامعي يمتلك ما يمتلكه رسول من قوة وحجة وقدرة هائلة على التأثير والإقناع. لا أخفي أن هذا الرجل معلم كبير، يعلمني خصالاً ومزايا طيبة، وهذا ما يدفعني لإظهار كل مشاعر الاحتفاء به والإفادة من استنارة روحه، رغم أن هذا الصداقة العميقة معه تعرضني للنقد من بعض أصدقائي الذين لا يجدون فيه إلا رجلاً متطفلاً على أموال وأوقات الآخرين، فيزعجهم في بيوتهم وفي أعمالهم بحضوره والعزف على أسطوانة اضطهاده ذاتها والتي ملّوا منها، فمن الأفضل لهذا المتطفل أن يجد لنفسه عملاً ينتج من خلاله نتاجاً مادياً، يكون بمثابة هدية منه للمجتمع الذي يطعمه ويكسوه ويكتب له ويدفئه ويكيفه ويطببه ويسمعه الأغاني والموسيقا ويقدم له المواصلات، هذا المجتمع الذي أنجبه وأرضعه وغسله يوماً يوماً، وشهراً شهراً، محا أميته. وبالتالي يأتي هذا المتطاول فيتطاول على أرباب نعمته فيقذعهم ويوصمهم بالعار والجهل والتخلف.‏

ولكن نقاشه الجاد عن/ عدالة قضيته/ كما يسميها ولا يبينها، يجعلني أدع ما أسمعه من هؤلاء عن سلبيته مهب الريح، فأراه مثالاً للنقاء الروحي في نفسه تنمو بذرة نظرية كبرى لسوف تأتي أكلها يوماً ما، فأرجو في قرارة نفسي أن يتبنى أحد رعاية هذا الرجل حتى ينتهي إلى ما ينظر إليه، فإن عزة نفسه لا تمكنه من السؤال حتى لو قضى جوعاً، وكم من مرة يمضي مسافات طويلة تحت الشمس ولا يصعد سيارة نقل عامة لأنه لا يمتلك أجرة التنقل من حي إلى حي، ويأبى السؤال وإظهار خواء جيبه، وكم مرة يُدعى إلى وليمة، لكنه يبدي شبعه وهو في واقع الأمر أكثر الناس حاجة لتناول قطعة من لحم في وليمة، وليس هو، لكني ألمس هذا الواقع عندما أكون برفقته.‏

رسول وحيداً وكجندي بلا بندقية يواصل كفاحه وسط أناس من غير زمانه لا ينتمي إليهم، يمضي غير آبه بغمز ولمز ونظرات شفقة ترمقه من كل صوب، فهو أيضاً يبادلهم نظرات أكثر شفقة بهم وهو يرمق ديكوراتهم وسذاجة نفوسهم.‏

هكذا استطاع أن يصفي حساباته مع الجميع ويسخر من كل أفراد المجتمع، لا تعجبه نشرات الأخبار، خطب الجمعة، ديكورات القادمين من القرى، المراكز الثقافية، التلفاز، لذلك لا يقوم بعمل، لا ينتج شيئاً، ولا عجب أنه حتى الآن لم ير من تقبله زوجا. يعيش في غرفة ضمن بيت أسرته، لا يسمح لأحد أن يدخل غرفته لامن طرف الأسرة ولا من الأصدقاء ولم يسبق لي أن سمعت شخصاً قال: زرت رسول في بيته. وعندما أتحدث معه في هذا الأمر يقول: أهلي الذين لا يحترمونني، لا يحترمون أصدقائي أيضاً، لا أستطيع أن أقدم شيئاً لزائري. وإذا سئل أي شخص من أسرته أو من الحارة عن أحواله يقول دون تردد: رسول امتلأ بالعقد وغسلنا يدنا منه، وفي أحسن الأحوال يقول: رسول جن من كثرة قراءاته، لم يعد يستوعب ما قرأ ففقد صوابه، كان الله بعونه، أما هو فيقول عنهم: هؤلاء مجانين يعيشون في عصفورية، أرفض الانتماء لهذا المجتمع الناقص، لكنني مجبر، أعلم بأن هناك خطأ حدث بولادتي في هذا المكان الذي أعيش فيه غربة كاملة ولا يربطني أهله بأي انتماء.‏

جلس رسول بكآبة العالم في إحدى زوايا الغرفة متمتماً: سأجلس هنا ساعة وأنصرف. يبدو هزيلاً أكثر من أي وقت مضى، يتحول إلى هيكل عظمي، يتحدث ويرتجف بقوة، شعره مهوش وعيناه تبرقان في جزع. قلت: من أين أتيت؟ وحدقت في وجهه الذي علاه اصفرار حاد‏

ـ من الشوارع.. أشعر بتعب قاتل. وبدأ رأسه يهتز بعصبية‏

ـ ارتح يا أخي... لا أحد هنا.. الغرفة واسعة. وفي هذه اللحظة العصيبة وأنا أحدق فيه بكل ما لدي من قوة نظر خطرت لي فكرة أن رسول ملغوم بأفكار هامة، لكنه لا يقولها لأسباب خفية عني‏

ـ أشعر باختناق. قالها وهو يمد أصابعه إلى عروق حلقه: لا شيء يجدي.. أشعر بأناس يطوقونني طوال الوقت ويصوبون أسلحتهم إلي.‏

ليس ثمة أكثر من غمضة عين بينه وبين الموت، يبدو لي بأنه يموت الآن تذكرت أن أحد المسؤولين ذات مرة أجرى اتصالاً لتعيين رسول في إحدى الشركات، وبالفعل داوم في الشركة، ولكن ليس أكثر من ستة أيام، وترك الوظيفة قائلاً: يريدون إرضائي ببصلة حتى أتناولها وأموت، أنا أسمى من أن أنتظر أول الشهر لأتناول هذه البصلة. وقيل إن قائد المسؤول علق على حادثة تركه للوظيفة قائلا: يريد أن يأكل ويشرب وينام ويلبس ويركب سيارة ويسكن فيلا دون أن يبذل جهداً، وأن نعينه على تحقيق هذا التطفل، بل ونوفر له خدماً وهو عاطل عن العمل. لقد فقد صوابه منذ أن ترك جامعته في سنة التخرج.‏

لم يسبق لي أن رأيته على هذا الاضطراب، فكل ما فيه ساخن ومستنفر، يشتم، يلعن، يبكي بحرقة.‏

قلت: رسول القضية ليست قضيتك وحدك حدد لنفسك هدفاً وسر به.. ومرة أخرى تذكرت قول صديق له ولي: رسول رجل فاشل. إذا كانت لديه أفكار لماذا لا ينشرها.. هو ليس الوحيد الذي أفكاره بحاجة إلى بذل جهود فردية لتصل. وقال مرة ملمحاً على هذه الناحية بحضوره في بيتي: الشجاع هو الذي يبدع في عالم فارغ ويتصدى بأفكاره الرصاص.. ويفرض خلود أفكاره. العظماء غزوا العالم بالأفكار.. لم يتمكن أحد من غزو العالم بالسلاح.. الآن العالم مغزو بالأفكار كما كان منذ الإنسان الأول.. والكتاب الأول.. والكلمة الأولى. عندئذ أحس رسول بتوجيه الكلام إليه فقال بألم: آ.. يا ليتني أنجح في هذه المهمة رغم عدم قناعتي بها. هاهو رسول مرة أخرى يفتح هذا الجرح، ولا أعتقد أن أحداً في العالم يستقبله بحفاوتي، وأعترف بأنه رجل نظيف ونزيه، وصادق.. يدرك عمق الحياة.. إنه أستاذ كبير وكم أرجوه أن يكتب.. فكل إشكالاته ستحل إذا كتب ونشر، ومهما كانت كتاباته فسيجد من ينشرها له، إنه يقرأ فقط، يقرأ قراءة سلبية، أعني ما أعنيه بأنه قارئ سلبي، مثلما هو مواطن سلبي، مثلما هو فرد سلبي، مثلما هو مثقف سلبي بين شريحة المثقفين الذين لا يصوبون إليه غير نظرات شفقة. شعره الأبيض يتوقف، يصعد الصفار إلى وجهه النوراني المضيء، هذا الوجه الذي هو علامة على نقائه الروحي. يكفيه تسكعه في الشوارع وإدانته للواقع بكل أشكاله وألوانه والنظر إلى الآخرين بعين الازدراء والشفقة. فجأة نهض من زاويته: سذجٌ.. سذجٌ.. يا للعار.‏

قالها ودنا من الباب.. أمسكت به: ابق هنا.. أين ستذهب.. ارتح أنت منهار.. أجلس.. سنشرب حتى الصباح وعندها نشرب قهوة ونخرج.‏

قال ببؤس: لقد مللت الشرب والشتائم.. يا للهول. قلت وأنا ما أزال أمسك به: لكنها لحظاتك المنعشة الوحيدة لتي تكون رائقاً فيها... عندما تكثر في الشرب ويفلت لسانك.‏

قال: صدقني لقد حدث ذلك كثيراً إلى درجة أنه بات مبعث قرف لكثرة تكراره اللامجدي، أنا أبحث عن شيء آخر.. شيء غير موجود في هذا العالم الفارغ. ثم صوب إلي نظرة كبرياء وكأنه يصوبها لطفل رضيع: لقد شاهدت كل شيء ولكنني لم أجد ما أبحث عنه هنا، منذ خمسين سنة وأنا في التفاصيل التي لم تزدني إلا قناعة بضرورة الخروج من هذا السجن الذي بات أصغر من أن أستطيع تحمّل البقاء بين جدرانه الخانقة. عندما كنت في عمرك، كنت أقنع نفسي بأن هناك أشياء جديدة سأكتشفها ولذلك علي احتمال حتى الإهانة في سبيل ذاك الاكتشاف، يبدو لي بأنني عشت حياة البشرية الفانية كلها، لقد جئت لألخص كل ذاك الفراغ وأعيشه وأكتشفه.. لن أخسر شيئاً إذا أشرقت الشمس غدا ولم أرها، كم من صباحات مضت ولم أرها، لن أتسكع مرة أخرى في شوارع هذه المدينة ولن أرى نظرات الشفقة التي تتصوب إلي وكأنني متسول أتسول الحياة. لسوف أسير نحو جنازتي مسروراً.. لن ترك رسالة.. لن أترك وصية.. لا تخرج خلفي، لا تودعني، أرغب ألا يودعني أحد. وخرج بكآبة ويأس العالم.. أغلقت الباب واستلقيت على سريري.. صحوت في السابعة صباحاً وتذكرت ما حدث معي ليلة البارحة ظننتني كنت في حلم، هل كان رسول هنا؟ لا شيء يشير إلى وجوده ليلة البارحة. ارتديت ثيابي وخرجت إلى عملي في السابعة والنصف. في منتصف الطريق لفت نظري تجمع لموظفي وموظفات الدوائر الحكومية، وبعض الناس الذين يذهبون إلى أعمالهم حول ساحة الإعدام في المدينة، الساحة التي تشنق الحكومة فيها من تراه يستحق.. وقد سبق لي أن شاهدت أناساً معلقين من رقابهم وقد مالت رؤوسهم في هذه الساحة. دنوت من الحشد.. بدا الرعب يتطاير من وجوه الناس: من المشنوق؟.‏

سألت في سري.. وفجأة وقعت نظراتي على "رسول" أجل.. رسول.. وكأنه لم يكن معي قبل ساعات.. كان معلقاً من رقبته في ذات المكان الذي علق فيه الذين صدرت بحقهم هذه الأحكام وكنت أراهم صباحاً لدى ذهابي إلى العمل.. لم يكن بثياب الإعدام.. وبسهولة يميز الناظر إليه بأنه هو الذي شنق نفسه.. لم أسمع سوى عبارة واحدة محيرة تتطاير على ألسنة الحضور: "لكن لماذا هنا؟!"‏

بعد قليل وقفت سيارات أنيقة.. نزل منها أشخاص.. ابتعد الجمع إثر تدخل أشخاص بقبعات.. ودنوا من "المعلق".‏

اقتربوا منه.. أشاروا بأصابعهم، تم أخذ صور سريعة له. وبعد دقائق تقدم شخصان من ذوي القبعات.. فكا الحبل، وحملاه إلى سيارة.. تفرق الجمع في الاتجاهات والوجوه تحمل السؤال المحير ذاته: "ولكن لماذا هنا بالضبط؟".‏