تقارب الشاعرة الأردنية في هذا المقال، جزءا من عوالم الشّاعر الفلسطيني محمّد حلمي الرّيشة. في قراءة لأشعاره تتأمل قدرته على صناعة تفاعل خاص للنصّ الشّعري، بتكثيف بليغ وقدرة على إخصاب اللغة والصور.

ينقشُ في الأمواج ويحلّقُ مع سربِ حمامٍ بارد

عائشة الحطّاب

كيفَ لي أنْ أعيشَ في هذهِ البُرهةِ، وأرى أيَّ شجنٍ يمتلكُ الرّوحَ، ويشدُّ بأصابعهِ على حَنجرةِ الشّاعرِ حينَ ينسابُ الشّعرُ عفويًّا؟! أيّةُ كلمةٍ قادرةٍ على أنْ تَختزلَ في جَنباتِها كلَّ هذهِ الأطيافِ القُزحيّةِ الملوّنةِ؟! كيفَ لي أنْ أفتحَ أبوابَ الخيالِ على كلِّ هذهِ الكلماتِ السّاحرةِ أمامَ مرئيّاتِ البصرِ الدّاخلي؟! كيفَ لي أنْ أكتبَ عنْ هذهِ الأبجديّةِ الشّعريّة؟! أعودُ، كلَّ مرّةٍ، بدهشةِ الاكتشافِ، وروحِ الإعجابِ بهذا الامتدادِ الرّائعِ لجوهرِ الكتابةِ المضاءةِ بأنوارِها المعرفيّة، والتي تُشِعُّ علينا في سياقٍ حضوريٍّ لشخصٍ عرفَ كيفَ يدخلُ باستعارةٍ مستمدّةٍ من العملياتِ الإدراكيّةِ لأتساءلَ هنا: هلِ الشّاعرُ مجنونٌ، أمْ عقلٌ متهيّجٌ ومخيّلةٌ غريبةٌ، تمكّنهُ من رؤيةِ ما لا يراهُ العقلُ الهادئُ؟ هلْ يعيشُ نوبات جنونٍ كي يبدعَ، وينقلَ بصرَهُ منَ السّماءِ إلى الأرضِ، وهوَ بالكادِ يستطيعُ أنْ يجسّدَ ويخلقَ من لا شيءٍ شيئًا؟ هنا سأدخلُ في مدارِ الرّحيقِ، وفي عمقِ الرّوحِ المائيّةِ، لأتوقّفَ هنا كثيرًا لأجدَ هذهِ المرأةَ/ الأنثى تسكبُ صوتَ غنائِها العفويّ، إنّها النّسمةُ الرّقيقةُ التي داعبتِ الرّيحَ.

"أَتَتَبَّعُ قِنْدِيلَكَ فِي بَاطِنِ كَفَّيَّ
أَمُجُّ ذُبَالَةَ زَيْتِ الْوَقْتِ
تَوَقَّفْ فِي بَهْوِ الرَّوْحَةِ
كُنْ
عَطِرَ الدَّمْعِ
ضَرِيرَ الْقَسْوَةِ
مَأْلُومَ الْبُعْدِ"

ينسابُ الماءُ الشّعريُّ هنا بعدَ كلِّ هذا التّعب. كيفَ توقّفَ في بهوِ الرَّوحِ؟ وكيفَ اكتشفَ أنّ عطرَ الدّمعِ مطرٌ رائعٌ؟ أيّةُ عيونٍ كانت تروي ظمَأه؟

"أَشُدُّكَ نَحْوَ قِرَاحِ الرَّاحِ
اِشْرَبْ
يَتَشَاعَلُ فَحْمُ الْوَرْدَةِ مِنْ رِيقِ الْقُبْلَةِ"

كمْ منَ الأحبّةِ اجتمعوا حولَ ذُبالةِ فانوسٍ ينوسُ مفتوحًا على فضاءٍ بلا حدود! وحدَها الكلماتُ كانت تنيرُ ظلمةَ المكان.

"بِصَفَحِاتِ شَغَفٍ
وَتَوَهَانِ قِنْدِيلِي
أَقْرَأُ كِتَابَهَا الْجَسَدَ
بِأُمِّيَّةِ ارْتِبَاكِي".

هنا الكلماتُ قلاعٌ شفيفةٌ، وهنا شاعرٌ/ عاشقٌ ينتظرُ مطرًا، وما زالتِ النّظرةُ في مَرمى البصرِ والقلبِ والجسد، والصورةُ هنا ليستْ إلا إحساسًا خافتًا. هنا لا يتحدّثُ الشّاعرُ بطريقةٍ عاديّةٍ، بلْ من أبعادِ أعماقهِ العالية. أدخلُ في الفضاءاتِ الواسعةِ وأحلّقُ عاليًا عليّ أنْ أدخلَ الصّورةَ بجوهرِها الباطن، وأحرّكُ الخيالَ لكي أصلَ إلى نظرةٍ محقّقةٍ ومتطوّرةٍ باستمرار. بحثتُ في الآثارِ المكثَّفةِ لشاعرٍ عرفَ كيفَ يدركُ الصّورةَ الشّعريّة، وكيفَ يتناولُ العمقَ بعمقٍ وهو في عزلتهِ وأمامَ كتبِه، وكلُّ هذا كانَ في تفاعلٍ رائعٍ لخلقِ نصوصٍ شعريّةٍ تطيرُ عاليًا على بساطٍ من الرّيح. لقد أتقنَ الشّاعرُ السّباحةَ في فضائهِ الخاص، وخلقَ آثارًا ذاتَ أبعادٍ شاسعة، حيثُ كان واعيًا بقيمةِ كلمتِه، واثقًا من عبقريّةِ صُوَرِهِ شديدةِ الاعتداد، مؤمنًا بعظمةِ الرُّوحِ الإنسانيّة، ومدركًا القوةَ بعودتِه حاملاً كلماتِ الرّبيعِ الحافلِ بالرّؤى.

وضعَ الجسدَ (بينَ قوسينِ)، وأخطرُ المرئيّاتِ هو الجسد. إنّه المثَالُ بين الذّاتِ والعالم، وهو الوساطةُ الكونيّةُ الضّروريّةُ بين الرّوحِ والأفكار، والتي من خلالها يريدُ تأمَّلَ الذّاتِ لتعكسَ التّمثّلاتِ، وترسُمَ التّمجيدَ لهذا الجسد. سِجْنهُ في فضاءٍ معرفيّ لا يضيقُ به، فهو لا يملكُ غيرَ هذا الشّعورِ المُضني، ويدركهُ في ذاتهِ أولاً، ومن ثمّ في الآخرين. قدّمَ شعرَهُ كروحٍ خالصة، وانحازَ إلى نصوصهِ بكلِّ ما أُوتيَ من جهدِ الحوارِ النّسقي. هنا نجدُ الشّاعرَ قد أبحرَ في القصيدةِ الحداثيّةِ، حيث احتفظَ بأسلوبيّةٍ متميّزةٍ بالكثافةِ والإيجازِ (المكثّف اللُّغوي) ثمّ (الموجزُ اللُّغوي)، ومنَ النّثرِ الفلسفيِّ إلى الانسجامِ اللَّفظيِّ بين المغالاةِ البلاغيّةِ والعاطفيّةِ والغزارةِ والتّنامي، في نبراتٍ عميقةٍ بإيقاعِها المسهبِ بعمقِها الدّرامي. إنّها صورٌ بأفكارٍ سريعةٍ مكثّفة، جزئيّةٍ أو كونيّةٍ، ومضاءةٍ ببساطتِها وعفويّتِها كأنّها بريقُ ذاتِها. هذهِ الكتابةُ الجديدةُ في رحيقِها، وهذهِ الرّيشةُ الرّاقصةُ بمِدادِها تقولُ، فيما تقولُ، إنّ غايتَها القصوى أنْ تتجاوزَ الشّعرَ ذاتَه.

إنّهُ يشتعلُ شعرًا تحتَ ضَوءِ القلبِ، وقد غَرِقَ في أفكارٍ بعيدةٍ، في أصقاعَ بعيدةٍ، وفي صمتٍ يَفلَتُ من صميمِ قَلبِه. ينهضُ من عزلتهِ كلَّ صباحٍ متأجّجًا وقويًّا كشمسٍ صباحيّةٍ تطلعُ من جبالِ العتمةِ. حَلُمَ أنْ يسيرَ بمركبٍ محاطًا بالطّيورِ تُحلّقُ حولَه. أغمضَ عينيهِ، وأعطى للبحرِ الجائعِ شعرًا، كأنّ الشّعراءَ أنفسَهم يأتونُ من البحر. هناكَ الكثيرُ من الأشياءِ بين السّماءِ والأرضِ، وحدَهم الشّعراءُ حَلِمُوا بها، خصوصًا تلكَ التي تتماوجُ في الفَضاء. لمْ يتوغّل بكتابةِ الألم. يقول:

"لا أكتبُ في وقتِ الألم، لأنّه مدى لحظاتٍ ساخنةٍ وكاوية، فكيفَ يُمكِن الشّعرُ في وقتٍ كهذا، خصوصًا وأنّ هذا الوقتَ خارجٌ عن نطاقِ التّأملِ الشّعري، وخارجٌ عن نطاقِ الإبداعِ وديمومته؟!"

عاشَ التّمرّدَ كَمِثلِ الذي يطحنُ القمحَ ويجعلُه غبارًا أبيض، فمَن سيظنُّ أنّ غبارَه يأتي من القمحِ في بهجةِ الرّبيع المذهّب؟! سارَ فوقَ عينيهِ، وفوقَ رأسِه قربَ الجدارِ المتداعي تحتَ أَكَمَةِ الأشواكِ والخَشخاشِ. عاشَ أيّامَ قلقٍ عصيبةٍ في ظلِّ الحصارِ العدواني. ظامئًا أتلَفهُ عطشُهُ ليروِيَهُ من ثديِ الضّياء. طويلاً جلسَ مع نفسِه جائعًا محاصرًا، وحاملاً عناءَ الأرضِ في عينيهِ. يرتجفُ مع برعمِ الوردةِ. يفرطُ في الرّقة. يسمحُ لنفسِه بالرّكض فوقَ ذاتِه. لا تتّسعُ مساحةُ التّخيّلِ عندَ الشّاعرِ محمّد حلمي الرّيشة، فضَوءُ كلماتِه يكلّمُ كلّ ما هو مُعتم. هو مثلُ شلالٍ في سقوطِه. لغةُ الشّعرِ فيهِ متفجّرةٌ تتبركنُ في داخلِه، وحينَ تقرؤهُ تجدهُ رزينًا، ووديعًا، وعميقًا، واحتفاليًّا.

نقرأُ هنا كيميائيّةَ المرأةِ/ الأنثى بأيّةِ قوّةٍ تئنُّ، فمَنْ منّا يرغبُ أنْ يكونَ الآنَ في الخارج؟ جيّدٌ أنْ نكونَ الآنَ هنا نستمتعُ بارتعاشِ الكلمةِ/ الشّعرِ. يقول:

"لَمْ تَكُنْ أَوَانَ حَدِيقَةٍ
كَانَتْ مُوسِيقَا عِطْرٍ
اسْتَسْلَمَ دَائِخًا
لِحَفِيفِهِ الْفَاتِنِ".

كيفَ يُمكِنُ أنْ نخمّنَ ما حدثَ داخلَ الشّاعرِ بعدَ انتصافِ اللّيلِ العميق؟ هوَ كائنٌ ليليٌّ أيضًا. هلْ دخلَ رداءَ اللّيلِ الأسودِ، واختفى طويلاً في غياهبِ الأحلام؟ لا أحدَ في هذهِ السّاعة يمكنهُ أنْ يجدَ الطّريقَ في داوئرهِ المائيّة. يعبرُ الدّربَ الضّيّقَ ببطءٍ شديد. ماذا حدثَ هنا، بلْ هناك؟ صوَرُه الحرّةُ في التّدفّقِ والظّهورِ تجعلُ المرأةَ/ الأنثى لغةً بحدِّ ذاتِها. يُحدّدُ ويُجدّدُ جمالَها الأثيريَّ الذي تتوالدُ مِنهُ. ثمّةَ رفرفةُ أجنحةٍ، وثمّةَ صورٌ تَغرَقُ بينَ سيقانِ الحُلم، بلْ إنّها ظلّتْ تعرفُ طريقَها دومًا في صعودٍ وهبوط. ضَوءُ الشّمسِ يَسِنّ طيّاتِ الظّلام، وهي دومًا لا تكفُّ عن التّحليق. عِطرُ المرأةِ/ الأنثى في عقلهِ باللّغةِ المُثيرة. وجدَها تخلِقُ فيهِ عالمَها الخاص، المتجدِّدِ والمتغيِّر، وما هو مألوفٌ ومعتادٌ على سكبِ رحيقِ المشهدِ المتحوّلِ، مثلما قالتْ جوليا كريستيفا ذلك، لأنّ لها خاصيّةً انجذابيّةً، إذْ كأنّها تروغُ من محاولةِ الوعيِ الإنسانيِّ الإمساكَ بها، أو السيطرةَ عليها".

هنا نجدُ الشّاعرُ أيضًا كمثلِ المسافرِ يفقدُ أثقالَه، أثقالَ العزلةِ غيرِ العاديّةِ التي ينوءُ بها عقلُه ووجدانُه، وهو بالطّبعِ لا يفقدُها دونَ مقابلٍ، فالأدبُ العظيمُ يمنحهُ بديلاً عنها هو الشّعورُ الخفيُّ والثّريُّ بالدّهشةِ والغرابةِ يكونُ لهُ تأثيرُه الانفعاليُّ والوجدانيُّ القويُّ عليْه، وهو شعورٌ يثيرٌ خيالَه ويقوّيه، حيثُ نجدُه هنا أنتجَ لغتَه الشّعريّةَ بخبرةٍ وثيقةِ الصّلةِ بتلك الحالاتِ النّفسيّة. طويلاً جلستُ، وفي داخلي شيءٌ مضطربٌ لا يهدأُ. أتأمّلُ احتواءَ القصيدةِ كأنّها الشّمسُ التي تخرجُ من بينِ جبلين، ثمّ تنحدرُ على السّهولِ. ما كان غريبًا من هذا الشّاعرِ أنْ ينقشَ القصيدةَ في الأمواجِ، وأنْ يحلّقَ مع سربِ حمامٍ باردٍ، وهو الذي يهبُ أجنحتَهُ إلى القصيدةِ، ويعرفُ كيفَ يرقصُ على أنغامِ السّكونِ. كيف حلّقَ الشّاعرُ هنا طائرًا بملامحَ دافئةٍ؟ أدهشتني كتابتَهُ عن القصيدةِ، وعنِ الشّاعرِ. وقفتُ لحظاتٍ كثيرةً بصمتٍ أُعيدُ الكلماتِ المجلجلةَ العميقةَ متسائلةً: كيف أبهجَ الفراغَ؟! وكيفَ حدّقَ ببراعمِ اكتشافِه، وهو المتلهّفُ والعنيدُ؟! ريحُ الكلماتِ تعصفُ بهِ وهو في كلِّ غرائبيّته يخدشُ البياضَ. يقولُ:

"أَمَامَ هذِهِ المَسَاحَةِ المَرِنَةِ الْبَيْضَاءِ، يَقِفُ الشَّاعِرُ فِيَّ مَشْدُوهًا، قَلِقًا، وَمُجَرَّدًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُفَعِّلُ فِيهِ المُقَاوَمَةَ، إِلَّا أَنَّهُ يَقْبِضُ بِشِدَّةٍ عَلَى أَدَاةٍ صَغِيرَةٍ مُدَبَّبَةِ الرَّأْسِ دَامِعَةٍ، يَخْدِشُ فِيهَا هذَا الْبَيَاضَ الْجَافَّ، كُلَّمَا اهْتَزَّ الصَّدْرُ بِفِعْلِ انْتِفَاضِ الذَّاكِرَةِ عَلَى المَشَاهِدِ المُتَوَالِيَةِ لِلْأَلَمِ".

أيُّ قلقٍ هنا يدعُ الشّاعرَ بآفاقَ متوازيةٍ؟ ما به ينهمرُ، وما بهِ يتمرّد؟ كيفَ يتسلّمُ المبدعُ مكتسباتِ عصرِه؟ إنّه الآتي من خلالِ معاناتِه، فأينَ يضعُ كاهلَ العقلِ المتطوّر في هذا العصرِ ومَن يُخاطب؟ صراعٌ عنيفٌ بداخلهِ لا ينتهي! وأينَ يضعَ نزعتَهُ التّشاؤميّةَ؟ وهل ينتهي الأمرُ بالمبدعِ إلى الانهيارِ (شَرِبَ السُّمَّ سقراط، وقُتلَ الحلاّج، وانتحرَ تراكل، وجنّ هولدرلين...)، غيرَ أنّ الشّعرَ لا بدّ أنْ ينتصرَ ويخلّد، إنّه التّيارُ القوي الذي لا يتقلّص بالعقلِ في جزئهِ التّجريديِّ والمنادَى بكافّةِ أشكالِه. هذا التّوتّرُ يشعرُ بهِ الشّاعرُ ويراهُ من خلالِ خصائصِه الجزئيّةِ، أو الجانبيّةِ، أو من خلالِ مُسبباتِه، كائنٌ يعيشُ حُرقةَ كبرياتِ الأسئلةِ، فهو إذْ تنازلَ عن ديمومةِ التّساؤلِ: مَن أكونُ؟ وإلى أينَ؟ كيفَ يضعُ الوعيَ بضرورةِ خَلْقِ المعنى، وضرورةِ عدمِ الوقوفِ في ذلك عندَ حدٍّ معيّنٍ. يقول:

وَلكِنْ، هِيَ مَسَاحَةٌ بَيْضَاءُ جَافَّةٌ مُمْتَدَّةٌ إِلَى مَا لَا يُرَى، وَهْوَ أَعْزَلُ إِلَّا مِنْ سِلَاحٍ مُدَبَّبِ الرَّأْسِ، دَامِعِ الْعَيْنِ، يَخْدِشُ بِهِ مَا يُثِيرُ قَلَقَهُ المُتَنَامِي.... إِنَّهُ يَنْفَجِرُ اشْتِعَالًا لِيُضِيءَ أَيَّةَ عَتْمَةٍ مَا، فِي أَيِّ مَكَانٍ مَا، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ مَا، فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يُطْفِئُوهُمَا، الشَّاعِرَ فِيَّ وَشِعْرَهُ، بِسَوَادِهِمِ الَّذِي يَذْهَبُ بِهِمْ بَعِيدًا دَائِمًا، فَيَبْقَى كِلَاهُمَا حَاضِرَيْنِ مَا دَامَتِ المَسَاحَةُ الْبَيْضَاءُ، وَمَا دَامَ يَخْدِشُهَا بِرُوحِهِ المُتَحَفِّزَةِ، هذَا الشَّاعِرُ فِيَّ". بحثتُ عن عمقِ الإدراكِ المحسوس. ركبتُ مجرى النّهرِ، فوجدتُ نفسي قطبًا يخضعُ لدراسةٍ داخليّةٍ باعتبارِها موضوعًا جوهريًّا تأمليًّا. عندما أبحرتُ مرّةً أخرى، رأيتُ اللّغةَ معاناةً، لكنّي وجدتُ الذّاتَ الشّاعرةَ في الشّاعر.

نفهمُ نبوءتَه بأنّ الكتابةَ رُقيٌّ إنْ أمكنَ لها أنْ تقومَ من خلفِ الزّمن. هو لا يقبلُ إلا أنْ يرى القرّاءَ يتناغمونَ بإيقاعِ الصّور، وفي وَتَرِ كلٍّ منهما الفنُّ الذي يحرّكُ الخيالَ بوساطةِ الألفاظِ. فهمَ أنّ مَهمَّةَ الشّاعرِ أنْ يُترجمَ المشاعرَ بالرّسم، وعليهِ أنْ يبحثَ عن التّصوراتِ والمعاني غيرِ المحدّدة. إنّه شديدُ الإلحاحِ كي تأتيَ في أعلى درجاتِ التّعبيرِ، وإنّ مَن يرغبُ في معرفةِ جوهرِ الإنسانية، عَليْه أنْ يبحثَ في الآثارِ الخالدة، مؤمنًا بأنّ التّواضعَ فضيلةٌ، لأنه وحدهُ القادرُ على إعطاءِ السّيادةِ إلى الشّعر، حيثُ يسمحُ للإرادةِ أنْ تتّحدَ بذاتها كإرادةِ الحياةِ، دونَ أنْ يعتبرَ ما يمكنهُ أنْ يدعمَ القوى التّوكيديّة في إدارةِ القوّة.

لقد وجدتُ الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة يصنعُ تفاعلاً رائعًا للنّصّ الشّعري، مبدعًا يتناغمُ بالصّورِ، مليءَ الكثافةِ والغرابةِ والانحيازِ إلى الجنونِ الشّعريّ الجميل!  

كاتبة من الأردن