تقارب الشاعرة الأردنية في هذا المقال، جزءا من عوالم الشّاعر الفلسطيني محمّد حلمي الرّيشة. في قراءة لأشعاره تتأمل قدرته على صناعة تفاعل خاص للنصّ الشّعري، بتكثيف بليغ وقدرة على إخصاب اللغة والصور.

قراءة سيميائية في قصة «أعمق من الوسن»

للسعودي حسن علي البطران

جميل حمداوي

توطئة:
يعد حسن علي البطران من أهم كتاب المملكة العربية السعودية الذين ساهموا في تأسيس القصة القصيرة جدا وتجنيسها فنيا، بل يعتبر أيضا من الكتاب القلائل الذين جربوا التقنيات السردية الحداثية في قصصهم القصيرة جدا. وقد أصدر مؤخرا مجموعته الأولى في هذا الجنس الأدبي الجديد، وكانت تحت عنوان: "نزف من تحت الرمال"(1). وقد خصصنا لهذا المبدع الشاب كتابا مركزا في نقد قصصه القصيرة جدا ودراستها دراسة ميكروسردية، وعنوان الكتاب هو: "خصائص القصة القصيرة جدا عند الكاتب السعودي حسن علي البطران"(2)، ويعد هذا المؤلف في رأينا أول كتاب يتناول القصة القصيرة جدا بالسعودية درسا وتحليلا وتقويما. هذا، وسنحاول في هذه الدراسة مقاربة قصة قصيرة جدا لحسن علي البطران تحمل عنوانا اسميا مركبا ألا وهو "أعمق من الوسن" يتكون من الإسناد الاسمي المحذوف والمركب الحرفي للتأكيد والتقرير والإثبات حجاجا واستنتاجا.

ومنهجيا، فلقد لقد اخترنا التمثل بمبادئ المقاربة السيميائية الشكلانية اعتمادا على خطوتين إجرائيتين ألا وهما: التفكيك التشريحي والتركيب البنيوي مع الاستفادة من نتائج التحليل النفسي الفرويدي.

1 ـ النص المنطلق:
يقول حسن علي البطران في نصه الإبداعي الجديد "أعمق من الوسن" المنشور في الموقع الرقمي "مجلة الفوانيس"(3)، وهو من جنس القصة القصيرة جدا:

"يفرش ذيله كطائر طاووس..

يقترب منه وتتلاطم السحب وتهطل الأمطار.. يتلاعب بثدييها.. يسجل ثلاثة أهداف في مرمى البرازيل ويُقذف بالحجارة. تغلق أمامه أبواب المدينة ويمنع من الدخول...

يصحو من نومه وثيابه مبللة".

2 ـ مرحلة التفكيك:
تستند قصة حسن علي البطران إلى مجموعة من الأفعال المضارعة المتعاقبة والمتراكبة بناء وحذفا وإضمارا، وهي: يفرش، ويقترب، وتتلاطم، وتهطل، ويتلاعب، ويسجل، ويقذف، وتغلق، ويمنع، ويصحو... وتدل هذه الأفعال على زمن الحاضر وهو زمن الفعل والإنجاز والتحرك الدرامي. وتحمل هذه الأفعال دلالات سطحية وعميقة تقربنا من اللقطات السينمائية الديناميكية الدالة على المواقف الحركية ذات المنحى الصراعي والكوريغرافي. كما أن الجمل ذات طابع فعلي، وهي جمل بسيطة ذات محمول فعلي واحد، لأن الغرض منها هو الاختصار والتكثيف والاختزال.

هذا، وتتجمع القصة في مجموعة من الأفعال النووية الدالة والمعبرة عن الصراع المشهدي الذي يتكون من اللحظات الدرامية التالية:

وهذه اللحظات الدرامية قد تكون واقعية مباشرة وقد تكون لحظات لاشعورية مجازية ورمزية تقع في اللاوعي والعقل الباطن كما تؤشر على ذلك عبارة القصة: "يصحو من نومه وثيابه مبللة" التي تتكون من أفعال ثلاثة: النوم والصحو والتبول في الثياب. وهذه الأفعال تتركب أيضا من متواليات سردية متعاقبة منطقيا وكرونولوجيا سببا واستنتاجا: متتالية النوم، ومتتالية الصحو، ومتتالية التبول، وهي كذلك لقطات سينمائية ومشهدية تعبر عن صيرورة طفولية حالمة ومعقدة ومكبوتة.

وعلى أي، فالقصة تتألف من تسع جمل مركزة في بنياتها التركيبية دلاليا ومقدصيا، فالجملة الأولى تحمل تشبيها حسيا بلاغيا يوحي بجمال الموصوف وبراءته الطاهرة الصافية ووسامته الرائعة "كطائر طاوس"، بينما يوحي المشبه بكونه كائنا حيوانيا "يفرش ذيله"، وقد يكون كائنا بشريا منكرا على مستوى الغياب يفترش لباسه وما يجر وراءه كالذيل كحال العروس التي تلبس ملاءتها البيضاء أثناء حفل العرس، فتجرها كما تجر الذيل، وهذا التأويل ممكن على مستوى التخييل المجازي. ويحمل فعل "يفرش" في طياته دلالات النوم والدفء وحرارة المكان بله عن معاني التمدد والاستلقاء في أوضاع متعددة تؤشر على وجود فضاء حميمي للانكماش والإيواء. ويمكن تلخيص جملة هذه اللقطة المشهدية في البؤرة الدلالية التالية: "الجمال يفترش الأرض في وضعية استلقاء".

وترد الجملة الثانية "يقترب" بكل مكوناتها النحوية التامة، فتحمل فاعلا منكرا ومفعولا به غير محدد، ومن المعلوم أن التنكير من مكونات القصة القصيرة جدا. وهكذا، يحيل القرب في هذه القصة على الصداقة والمودة والمحبة والميل الإيجابي والتواصل الحميمي والتعايش الحقيقي والاستعداد للالتحام والترابط الجدلي والاشتباك النفسي. ويعني هذا أن ثمة ألفة بين المتقاربين سواء أكان ذلك على مستوى الواقع أم على مستوى اللاشعور والتخييل الباطني.

أما جملة "تتلاطم السحب" فعلى الرغم من حمولاتها الطبيعية والفلكية المباشرة، فهي تؤشر سيميائيا على حالة التجمع والاستعداد والتداخل والتضام الطبيعي والتراكب التلاصقي، وتحمل السحب في معانيها دلالات الخصوبة والتوالد والحياة، أما تتلاطم فتحيل على الصراع الجدلي والطبيعي، وتحيلنا أيضا على عمليتي المد والجزر فتذكرنا بأمواج البحر وتلاطمها. وهنا، نستحضر مكون الماء والخصوبة في هذه العملية الاقترابية التي يتم فيها الاشتباك الطبيعي من أجل تحقيق التناسل والتواليد الإيروسي الإيجابي كما في الخطاب الديني (القرآن)، والفلسفي (أنبادوقليس)، والشاعري (غاستون باشلار). وتزكي جملة "تهطل الأمطار" دلالات هذه القصة المركبة المتشعبة دلاليا، فجملة "تهطل الأمطار" مؤشر حقيقي على الخصوبة والتوالد وانسياب الماء الذي قد يشبه المني بصفة خاصة، وبهما تتحقق الحياة الشبقية والإنسانية الطبيعية والفطرية سواء في المواقف الأخلاقية الملتزمة أو المواقف الرومانسية الوردية غير الشرعية التي توحي بالعشق والغرام والحب الإنساني أو الجسدي.

وإذا انتقلنا إلى الجمل الأخرى داخل القصة القصيرة جدا التي نحن بصدد دراستها ومقاربتها شكلانيا، فنبدأ مثلا بالجملة التالية: "يتلاعب بثدييها"، فهذه الجملة تذكرنا باللعب الطفولي، لأن الطفل يمر بمراحل منذ صغره لدى المحلل النفسي سيغموند فرويد كمرحلة القضيب ومرحلة الامتصاص والمرحلة الشرجية ومرحلة الكمون ومرحلة التبلور الجنسي. فهنا، نجد أنفسنا أمام مرحلة الامتصاص التي تنصب فعليا على مص الثديين باعتبار ذلك الفعل لعبا سيكولوجيا يحمل في طياته دلالات الحرمان وفقدان عاطفة الدفء والحنان الأمومي. كما أن الثديين في الثقافة العربية الإسلامية رمز للعطاء والكرم والجود والخصوبة، ورمز كذلك للأمومة والحنان والعطف البشري. زد على ذلك، أن أهم عضو في الجسد الأنثوي الجميل هو الثديان اللذان يعبران عن لحظة الانتشاء والاستعداد للاشتباك الإيروسي العاطفي.

ويتحول هذا الاشتباك الشبقي الجنسي إلى لعب واقعي حقيقي توهيما وتخييلا حينما يقول الكاتب في قصته منتقلا إلى سياق قصصي ودلالي آخر: "يسجل ثلاثة أهداف في مرمى البرازيل ويُقذف بالحجارة"، فيوحي تسجيل الأهداف في المرمى بالانتصار والزهو وتحقيق المراد من الاشتباك والتفاعل البيولوجي والنفسي، والمرمى هنا كذلك فضاء داخلي مقعر عليه يقع الانتصار والظفر والفوز، وتدل الإصابات الثلاث على انتصار كمي كبير على الآخر المنهزم. ونلاحظ هنا تقابلا في الصور وتماثلا بين لوحة الواقع الشعوري ولوحة اللاشعور الخيالي. وهذا التناظر يجعل من قصة حسن بطران مشهدا سينمائيا مركبا في لقطاته المتشعبة المتداخلة التي يتداخل فيها الواقع الموضوعي والواقع اللاشعوري. ويمكن أن يوحي اللعب الكروي بحلم الذات بالتفوق والشهرة وتمجيد الذات خاصة أن القاذف قد تفوق على الفريق البرازيلي الذي من الصعب أن ينتصر عليه فريق من الفرق الكروية المعروفة في العالم إلا بشق الأنفس. لكن هذا التفوق يتجاوز الدلالة المباشرة إلى الدلالة الإيروسية المجازية. وتحمل عبارة "ويقذف بالحجارة" دلالة على الانتقام والثأر، كما تحمل في السياق الإيروسي للقصة دلالات الحد والتعزير والمحاسبة والمنع ولاسيما إذا كان الفعل الذي قام به المكلف فعلا غير شرعي مثل فعل الزنى واللواط.

وينتج عن فعل "الانتصار على القوي وهزمه أشد هزيمة" مجموعة من العقوبات التأديبية الزجرية كقذفه بالحجارة رجما وحدا ومنعا مع تغريبه خارج المدينة كما تدل على ذلك العبارة المركبة التالية: "تغلق أمامه أبواب المدينة ويمنع من الدخول...". وينطلق الكاتب في قصته تناصيا من فقه النوازل والحدود للتعبير عن وضعية الحالم المتخيل الذي كان يمتلك لاشعوريا قدرة فائقة على الحب والاستمناء وتحقيق البطولة اللعبية. بيد أن هذه القدرات لم تكن فعلا حقيقية على مستوى الواقع، بل كانت بمثابة حلم منامي وتخييلي كما في هذه العبارة: "يصحو من نومه وثيابه مبللة". ويعني هذا أن جميع التصرفات التي قام بها الشخص هي بمثابة تعويض سيكولوجي للإحساس بالنقص والحرمان، وتعبير نفسي عن التسامي والاستعلاء.

وعليه، فهذه القصة تتوفر على النفس القصصي السردي الذي يتشكل من البداية والعقدة والصراع والحل والنهاية، كما أن هذه القصة تتكون أيضا من المتواليات السردية التالية: النوم ـ الاقتراب ـ التهيج ـ الاشتباك ـ القذف ـ الانتصار ـ العقاب ـ التغريب ـ اليقظة.

ويعني هذا أن شخصية القصة كانت تحلم على مستوى اللاشعور بأحداث متداخلة ومتشابكة متشعبة يتداخل فيها الواقع والخيال، والشعور واللاشعور، والوعي واللاوعي، والظاهر والباطن، والذات والموضوع. ومن ثم، فالشخصية تسترجع الأحداث الإيروسية والعلاقات الوردية غير المشروعة واقعيا من خلال الفعل الحلمي والاستمناء الانتشائي. وهكذا، يتقابل في النص القصصي الواقع والحلم، والحقيقة والخيال على مستوى إنجاز الفعل. والدليل على تخيل المشاهد وعدم واقعيتها هو استيقاظ الحالم من نومه مبلل الثياب، أي إنه كان يحلم حلما شبقيا قائما على الاستمناء والانتشاء الجسدي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الحرمان الواقعي والكبت الاجتماعي بسبب وجود الأنا الأعلى وهيمنة سلطة المجتمع.

وعلى أي، ينقل لنا النص القصصي حالة من الخوف يعيشها الكاتب على مستوى اللاشعور الخيالي تعبر عن رغباته المكبوتة وميله الشبقي نحو الأنثى، وما البطولة في القصة سوى مفتاح تخييلي للظفر بالآخر والفوز عليه انتصارا وإفراغا للمكبوتات المضمرة والصريحة.

3 ـ مرحلة التركيب:
وهكذا نصل إلى أن قصة حسن علي البطران قصة مركبة سينمائيا قائمة على تناظر الصورة الومضة وتماثلها مشهديا، كما تتأرجح اللقطة القصصية بين الواقع والخيال، والانتقال من لحظة النوم إلى لحظة الصحو، أي من لحظة الموت إلى لحظة الحياة، ومن لحظة السكون إلى لحظة الحركة. ومن ثم، فالقصة من حيث التركيب متشعبة البناء ومعقدة التوليف، تتكون من لقطتين مغايرتين: لقطة التغزل بالطبيعة ولقطة الانتصار في اللعب، بيد أن اللقطتين معا كل واحدة تكمل الأخرى دلاليا وسيميائيا. ويتضح لنا من نسيج النص أن الجمل القصصية تتعاقب بسرعة تتابعا وتراكبا للتأشير على سرعة الإنجاز والصراع، وإن كان هذا التعاقب على مستوى الظاهر مشتتا بفعل الانزياح والتخريب الدلالي وتمزيق اللوحات دلاليا ومرجعيا على الرغم من وجود الوحدة الموضوعية والعضوية على المستوى النفسي والشعوري والبنيوي.

وتتحول الشخصيات القصصية إلى عوامل طبيعية وكائنات بشرية مغيبة غير قابلة للإنجاز الواقعي، لذالك، تلتجئ حلميا وخياليا إلى التعويض والتسامي لإثبات الذات واقعيا وموضوعيا. كما أن الشخصيات غير خاضعة للتسمية، بل يقيت حبيسة التنكير والتكنية والمجاز. ويظهر لنا محور التواصل العاملي أن الذات العاشقة تريد أن تحقق رغبتها الشبقية والسيكولوجية عن طريق الظفر على الآخر لإرضاء غرائزها الشبقية وأهوائها اللاشعورية الدفينة ومشاعرها الظاهرة لكنها تواجه قوى المنع والزجر التي تتمثل في سلطة المجتمع وسلطة الأنا الأعلى.

أما فضاءات التخييل، فنجد الفراش الذي يحيلنا على الغرفة والانتشاء الشبقي والإيروسي، وفضاء الطبيعة الدال على التهيج والتوالد والخصوبة، والمرمى الذي يدل على مكان الهدف وتحقق النشوة ولذة الفرح والظفر، والبرازيل التي تحيل على البلد المستضيف وفضاء التخييل الحلمي، والمدينة التي تحمل في القصة دلالات التغريب والنفي والزجر.

ونلاحظ فنيا قلة الوصف تكثيفا واقتضابا واختزالا مع التركيز على القصصية والأحداث الإسنادية الرئيسية وإهمال الأفعال الثانوية والأجواء التكميلية، كما يقرب هذا الحجم القصير النص الذي بين أيدينا من جنس القصة القصيرة جدا تكثيفا وإضمارا واقتضابا وومضة. علاوة على ذلك، تتميز القصة بأبعادها المجازية والرمزية والتجريدية القائمة على الغموض الفني، والانزياح، والإيحاء، والتكنية، والمشابهة. وبالتالي، تنتقل القصة من الواقعية الحسية إلى التجريد الرمزي، وترتحل من عالم السكر والانتشاء إلى عالم اليقظة والصحو. ويمكن أن تكون هذه القصة على مستوى التأويل والافتراض القرائي مجرد تجربة عرفانية صوفية وجدانية تعاش على مستوى الخيال والمنام مادامت فيها مراوحة بين لحظة السكر ولحظة الصحو أو الانتقال غيبيا من لحظة اللاوعي إلى لحظة الوعي.

خاتمة:
تعتبر قصة "أعمق من الوسن" من أروع قصص حسن علي البطران بسبب غموضها وتجريدها وطابعها التركيبي المتشعب والمتداخل. ويمكن القول أيضا إنها قصة سينمائية مركبة، ولقطة مشهدية وامضة، وصورة معبرة دراميا طافحة بأحداث حركية تحيل على مجموعة من العوالم الطبيعية والشبقية واللعبية التي تحيل على اضطراب نفسي عميق ومترسب لدى الشخصية المحورية التي تعاني من الحرمان والنقص والكبت وفقدان الحنان الأمومي ناهيك عن غياب الشعور الإنساني السوي. إذا، فالكاتب يستذكر في هذا النص المركب الشقي طفولته الواعية واللاواعية من خلال الإتيان بأفعال لاشعورية طبيعية وشبقية ولعبية تعبر عن رغباته المكبوتة ومشاعره المقموعة على مستوى الذات والموضوع.

ناقد من المغرب
ــــــــــــ
(1) ـ حسن علي البطران: "نزف من تحت الرمال"، إصدارات نادي القصيم الأدبي، بريده، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 2009م
(2) ـ جميل حمداوي: خصائص القصة القصيرة جدا عند الكاتب السعودي حسن علي البطران، دار السمطي للطبع والنشر والتوزيع والإعلام، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2009م
(3) ـ حسن علي البطران: "أعمق من الوسن"، قصة قصيرة جدا، مجلة الفوانيس الرقمية، 2/ 5/ 2009م.