البيت الفلسطيني: حرمة أم استباحة

رسالة فلسطين الثقافية

فيحاء عبدالهادي

من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه باب بيته فهو آمن"

ليس آمناً من أغلق باب بيته عليه في فلسطين، وليس آمناً من دخل بيت أحد القيادات السياسية أو الفكرية أو الدينية. في قطاع غزة، ليس هناك أمن ولا أمان. لا يأمن الإنسان داخل بيته أو خارجه أو حوله. لا فرق بين عدو داخلي وعدو خارجي. كل يوجه فوهة دباباته وصواريخه إلى صدور المواطنين العزل. القناصة الملثمون يحتلون سطوح المنازل، ودبابات العدو تتربص على الأبواب، وتطل من النوافذ، لتطلق قذائفها في الوقت الـمناسب. العنف يتسيد الـمكان، والدم يسيل في الشوارع.إلى من أطلق الصواريخ على الـمنازل في غزة: أين حرمة البيت الفلسطيني؟!

هالني ما سمعت، وما شاهدت، وما قرأت، من مصطلحات، حول قتال الإخوة: الحصار، والدمار، وإطلاق الصواريخ، والاقتحام، وحرق الـمنازل، وتعطيل سيارات الإسعاف، والإجهاز على الجرحى دون رحمة، واستخدام الـمواطنين كدروع بشرية، وإطلاق النار على الـمسيرات الشعبية، التي تستهدف التوسط لإنهاء القتال. تعودنا ان نستخدم هذه الـمصطلحات، لوصف اعتداءات الاحتلال اليومية على شعبنا: شنت قوات الاحتلال، هدم الـمحتل عدداً من البيوت، شنت طائرات الاحتلال غارة على، اقتحمت مجموعة من جنود الاحتلال بيوتاً في البلدة القديمة. أما أن نستخدم الـمصطلحات عينها، عند حديثنا عن رفاق السلاح، وعن تنظيمات سياسية مسلحة، فهذا أمر يدخل ليس فقط في دائرة اللامعقول، والـمعيب، والـمخزي، والـمدان، والـمحرَّم؛ بل يدخل في منطقة إجرام العصابات الـمنظم.

ما هذه الثقافة الظلامية، التي تعشعش في عقول بعض أبناء شعبنا؟ هل هي وافدة علينا؟ وإذا كانت وافدة، فمن اين أتت؟ أين نشأت؟ وكيف انتشرت وترعرعت، حتى باتت تبيح القتل والتدمير والحرق والهدم، وارتكاب المجازر، باسم الوطن ومصلحته؟

* * *

حين كان النبلاء يختلفون، في القرون الوسطى، كان الفارس يدعو الفارس، إلى مبارزة علنية. كانوا يتبارزون بالسيف، بعد أن يحددوا الـمكان والزمان، بعيداً عن بيوتهم، وفي الهواء الطلق. حين يلتقون، يلتقط كل منهم سيفه، وتبدأ الـمبارزة، ذات القواعد الـمعروفة لجميع الشهود. وحين كان أحدهم يصطنع حيلة للقضاء على الآخر، كانت بقية الفرسان تنبذه، وينظر إليه على أنه خان مبادئ الفروسية.

* * *

ما هي قواعد الـمبارزة الآن؟ دلونا عليها. وما هي أدواتها؟ حددوها. ولتكشفوا وجوهكم، ولتواجهوا الأشياء بمسمياتها. فإذا كان الخلاف سياسياً فواجهوه بأدوات السياسة. وإذا كان الخلاف عقائدياً فواجهوه بالحوار حول العقيدة، وإذا كان الخلاف حول مواقع وامتيازات، فحلوها بعيداً عنا وعن حرمات بيوتنا، وحلوا عنا.
واسترشدوا بأخلاق النبلاء في خلافاتكم. أما إذا كان الخلاف على ما يمس قضيتنا الوطنية، فالحل هو الاحتكام إلينا، لنقول كلـمتنا في حقكم، بعد أن جفّ الحبر الذي وقعتم به اتفاق مكة، وجفت وعودكم، بالوحدة والتآخي والعمل الـمشترك. ليس هناك حل، كما أرى، سوى العودة إلى دولة الـمؤسسات. إلى العملية الديمقراطية، وإلى سيادة القانون، إلى الشعب، مصدر السلطات، حيث يحاكم القتلة، بعد إدانتهم من لجان تحقيق محايدة، تعلن نتائج التحقيق على الـملأ.

* * *

إلى من أطلق الصواريخ على الـمنازل في غزة: ما هي رسالتكم إلى الشعب الفلسطيني؟ أهو استعراض قوة؟ أم هيبة؟ أم سلاح؟ أم ثأر قبلي أو عائلي؟ هل فكرتم لحظة، في حجم الآثار السلبية للاقتتال، على نفسية شعبنا: شهدائه، ومعتقليه، في الوطن وفي الشتات؟ وماذا عن الأطفال الفلسطينيين؟ أي مثل أعلى سوف يحتذون؟ وهل يمكن أن ينتج هذا الجو الـمسموم سوى شخصية إنسانية غير سوية؟ من يتحمل رعب الأطفال، وخوفهم، وألـمهم الجسدي والنفسي؟ وأي قيم سوف ينشأون عليها. أي إرث سوف يرثون، أي إرث؟! وماذا لو وضع كل منا نفسه، أو ابنه، أو ابنته، أو شقيقه، أو شقيقته، أو والده، أو والدته، مكان أحد ضحايا الاقتتال الداخلي؟ هل يدرك حجم الـمأساة، ويبادر إلى الرفض، ورفع الصوت، والتحرك الجماعي الشعبي، لإيقاف الـمهزلة؟ أين أصوات العقلاء والحكماء؟ سمعنا وقرأنا بعضها؛ لكن الحاجة تبقى ملحة إلى تيار يضمها، قادر على التأثير، لا يكتفي بالـمناشدة والنداء؛ بل يعمل على بناء جسم ثالث ديمقراطي، يخاطب عقول الناس؛ لا عصبياتهم القبلية، ويؤكد على مبدأ حق الاختلاف؛ لكنه يبحث أساساً عن القواسم الـمشتركة، للعمل على دحر الاحتلال، وبناء دولة الـمؤسسات، ودولة القانون. نحتاج جسماً قادراً على الوقوف سداً منيعاً في وجه الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني، ضمن ترسيخ مبدأ الحوار الخلاق، الذي يستبدل استعراض القدرات البلاغية، بالـمشاركة في رسم السياسات. هلاّ أدركنا أن الحل ليس أخذ الثأر باليد، وأن دائرة الثأر يمكن أن تودي بالأخضر واليابس، بينما يمكن لـمؤسسة القضاء، أن تحقق العدالة للشعب بأسره.

* * *

faihaab@gmail.com