تقرير من فلسطين

رواية من مجزرة رفح

قالت شهرزاد: نعمة علي المغاري

فيحاء عبدالهادي

ولما كان اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي الهمجيّ، على قطاع غزة الأبيّ، وصبيحة يوم السبت الدامي، السابع والعشرين من كانون الأول، من العام ألفين وثمانية ميلادية، وفي التاسع والعشرين من ذي الحجة، من العام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين هجرية، ونتيجة سلسلة غارات إسرائيلية جويَّة وقصف مدفعي، لم تفرِّق بين مقرّ حكومي ومقرّ مدني، على محافظة رفح/ يبنا، شنَّت بداية من طائرات "اف 16" و"أباتشي"، وبعدها من بطاريات المدفعية الإسرائيلية، التي أطلقت عدداً كبيراً من القذائف الهستيرية، باتجاه مناطق متفرقة شرق الـمحافظة؛ حدَّثتني نعيمة قالت، حدَّثتني الحاجة أم محمد المغاري، التي تناهز الستين عاماً، والتي تسكن في رفح/ يبنا، واللوعة تسكن صوتها، عن استشهاد ابنتها، التي لما تكمل الثمانية عشر من عمرها، خلال أكبر مذبحة في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، نفَّذها جيش الدفاع الإسرائيلي، وسمّاها "الرصاص المصبوب"، اعترافاً منه بالهجوم المدبَّر والمحسوب.
ما حدث أيها الجمهور السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن الصبية نعمة، ذهبت إلى مركز التدريس المهني التابع لوكالة غوث اللاجئين، وذهب إخوتها إلى مدارسهم. لم يدر في خلدها أن صاروخاً حديثاً في طريقه إليها، لينهي حياتها، ويحرم عائلتها من نسماتها. سمعت والدة نعمة صوت الانفجارات والقصف المحموم، وحمدت ربها أن ابنتها تدرس في مكان لوكالة الغوْث، التي لا يمكن لإسرائيل أن تقصفها، فتدمِّر سمعتها. ولأنها كانت مطمئنة على ابنتها وخائفة على إخوتها، بعد أن سمعت نبأ استشهاد ستة عشر شخصا من سكان رفح وحدها؛ طلبت من زوجها أن يسارع إلى إحضار أولادها من مدارسهم، حفاظاً على حياتهم، بينما بقيت نعمة في مركز التدريب، تنتظر العودة إلى بيتها القريب.
هاتفت نعمة أهلها كي تطمئنهم على وضعها، وتطمئنّ على أهلها، ثم عبَّرت عن سرورها لمغادرتها الدراسة قبل ميعادها، ومضت تتبادل الضحكات والمزاح، مع وفاء وآمنة وأزهار وكفاح. وبينما كانت تقطع الشارع لركوب الحافلة مع زميلاتها، يا سادة يا كرام؛ عاجلتها غارة جويَّة، أردتها مضرَّجة في دمائها الزكيَّة. كان الصاروخ عجيباً واسمه "جي بي يو-93"، حملته طائرة حربية إسرائيلية، من تطوير الولايات المتحدة الأميركية، وأهدته إلى جيش الدفاع الإسرائيلي، كقنبلة صغيرة القطر، دقيقة الصنع، خارقة للتحصينات، تحتوي على 722 كغم من المتفجرات، وطولها 57ر1م.
لم تهبط قنبلة الموت، على رأس نعمة المسكينة فحسب؛ بل أصابت صويحباتها، فأردت وفاء وآمنة على الفوْر، وأصابت آمنة وأزهار إصابات بليغة، وتفتَّلت القنبلة الذكية تزخّ في كلّ أنحاء القطاع، تذرع الشوارع بحثاً عن ضحايا؛ تبيد الأحجار والأشجار، وتنشر الويلات والدمار، وتقطع خطوط الكهرباء، وتهبط على المستشفيات والمساجد والجمعيات الخيرية، وعلى الملاعب والجامعات والمستودعات الطبية، وتعطِّل محطات الوقود، وتحرق المحال التجارية والبيوت، وتحصد النفوس.
وبعد أن أطلقت زفرة تحرق صدرها، فتحت الحاجة أم محمد قلبها، لتحكي عن ابنتها الصبية، ذات النفس الرضيّة، التي شيّعها الأقارب والأصدقاء والجيران بجنازة بهيَّة، هي وزملاؤها الذين درسوا في ذات الكلية، تحدَّثت عن ابنتها/ فاكهة البيت، المدفونة في قلبها، والتي تنادي عليها في الصباح، كي توقظ إخوتها، قبل أن تذهب إلى كليتها، وتنادي عليها عند عودتها، كي تساعدها في أعمال البيْت، من طبخ وغسيل وكيّ، وتنادي عليها في المساء، كي تحضِّر معها وجبة العشاء، وتساعد إخوتها في فروضهم.
حدَّثتني عن خوف ابنتها الصغيرة إيمان، وبكائها المرير، حين لا تستجيب نعمة لثرثرتها الليلية، وأسئلتها المتتالية الذكية، وعن نداء صغيرها محمد على شقيقته، كي يلعب معها، ويسمع منها الأغنيات والحكايات، وتساعده في فرض الرياضيات. حدَّثني والد نعمة، والقهر يدمي فؤاده، عن قرَّة عينه الصغيرة، وأحلامها الكبيرة، بأن تتخرَّج من كلية جامعية، وأن تشغل وظيفة اعتبارية، وأن تعيش عيشة هنيّة، مع رجل أمين، وتنجب البنات والبنين. قال إنه يحب البنات، ويرى أن تعليمهن حقّ وحياة، وتساءل إن كان يحق لكائن من كان أن يسلب حبيبته الحياة!.
وعادت والدة نعمة لتمسك دفة الحديث، أيها الجمهور السعيد، ذو الرأي السديد. أرادت أن تبوح، بما في قلبها من جروح. حكت عن هدوء نعمة، وعن عشقها للعب والرياضة والضحك، وعن حبّها للبطاطا المقلية، وكل ما يفتح الشهية، وعن إجادتها الرسم، وخاصة جنازات الشهداء، وهم محمولون على الأكتاف، وكأنها ترسم جنازتها، وو وووووووووووووو أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح!.