في هذا الحوار المهم حول وضع قصيدة النثر العربية، يكشف الشاعر والناقد التونسي المرموق، وأحد أبرز كتاب (الكلمة)، عن حالة الشعر العربي المعاصر عامة، والشعر التونسي خاصة، ويبلور عبر حساسية شاعر، وقدرة ناقد على التحليل المعمق، حالة الشعر العربي الراهن في تونس.

حوار مع الشاعر التونسي نزار شقرون

قصيدة النثر أشبه بديمقراطية فتية في مجتمع استبدادي

يعتبر نزار شقرون واحدا من الشعراء القلة الجدد في تونس ممن يهتمون بنصاعة قصيدتهم بعيدا عن الضجيج، وإضافة إلى كتابة الشعر تبرز عنايته الفائقة بالنقد التشكيلي والجمالي. شغل رئاسة تحرير مجلة «شمس الجنوب» سنة 1995 منتج في إذاعة صفاقس منذ سنة 1993 وعضو اتحاد الكتاب التونسيين. صدر له: هوامش الفردوس (1990-شعر)، تراتيل الوجع الأخير(1993-شعر) إشراقات الولي الأغلبي (1997-شعر) رقصة الأشباح (1999-مسرح) ضريح الأمكنة (2002- شعر) محنة الشعر(2005-نقد)، معاداة الصورة (2009-نقد فني)، مكاشفات الصورة ( 2010- نقد فني)، نظرية الفن العربي (2010-نقد فني).

 

** كيف يمكن تقييم المشهد الشّعري التّونسي الرّاهن في وسط ما يبدو للمراقب البعيد المحايد اضطرابا و تداخلا؟

ـــ لا يمكن فصل المشهد الشّعري التّونسي عن المشهد الشّعري العربي، قد تكون هناك خصوصيّات محليّة في السّياق الملفوظي للتّجربة الشّعريّة في تونس، وهي سياقات متّصلة بوضع المغرب العربي ككلّ، أكثر من اتّصالها بالمشرق، ولهذا يبدو للنّاظر المتعجّل انزواء هذا المشهد على نفسه، وانفصاله عن الحركيّة العامّة للسّاحة الشّعريّة العربيّة، وقد يشاع بأنّ المشهد يحتاج إلى تكامل الرّؤية وشرطها الرّئيسي احتواء تجارب لا نصوص، وتيّارات أكثر من ومضات فرديّة، وهو وضع يعيشه المشهد الشّعري في المشرق لأسباب تاريخيّة دون شكّ. ومن المفيد القول بأنّ ما عاشه الشّعر في تونس في الحقب الأخيرة ليس بعيدا عن أسئلة الشّعراء في المشرق، وهنا أسوق ثنائيّة  مشرق/ مغرب من زاوية لا مركزيّة، ولكن ربّما يحتبس سؤال ماكر في كلّ طرح من هذا النّوع مفاده هل استطاع المشهد الشّعري التّونسي أن يصوغ أسئلته الخاصّة، أو أن يفرض على الشعر العربي أسئلة جديدة، أم هو شعر يتلقّى أكثر ممّا يقلق، ويهضم تجارب الآخرين أكثر ممّا يجذبها إلى مناطق جديدة؟ هي أسئلة مشروعة بل من خلالها يمكن أن نحدّد مدى نجاعة ومردوديّة كلّ مشهد شعري في المنطقة العربيّة.

فالمشهد لا يتحدّد بكمّ الشّعراء أو بسيولة التّظاهرات الشّعريّة والتي أضحت سعريّة أكثر. من متطلّبات المشهد حيويّته في اتّجاه سؤال الشّعر نفسه، ولهذا قد تجد حركيّة إعلاميّة وإعلائيّة لمشهد ما دون أن يفرز ذلك رجّة في حركة الشّعر العربي، إنّ ما نقيس به المشهد هو محرار الأسئلة التي يطرحها على الكتابة الشّعريّة، ومن هنا قد أوجز ما يشاع عن"الاضطراب والتّداخل" في المشهد الشّعري التّونسي بأنّه وليد تضاؤل سؤال الشّعر، قياسا بهيمنة لكلّ تمظهرات اللاّشعر في المشهد، فقد غلبت الكتابات العجولة التي ترتجي الوجاهة الدّعائيّة، وخفت نبض الكتابات التي تحفر نصوصها بهدوء، في ساحة شعريّة مضطربة ترفع شعارات سياسة الشّعر أكثر من رفعها لشعار الشّعر نفسه. وساد "الإبهام" في الكتابة بمثل ما ساد الإبهام في المشهد، فكلّ شيء متّصل، وسادت البلاغة العقيمة إلى درجة نفور القارئ، فقد فهمت الحداثة باعتبارها الانقطاع مع التّلقّي، بمثل ما هي انقطاع مع القدامة، وسادت أيضا "القصيدة الأحجية" وتخضرم الوضع الشّعري. وخضعت السّاحة الشّعريّة لشروط إنتاج مستهجنة، حيث الكلمة الفصل للولاءات وللانتماءات الدّعائيّة، والإخوانيّات ولتسونامي الكتب "الشّعريّة" التي عوّمت سوق الكتاب بالبضاعة إلى درجة التضخّم السّعري. لكنّ هذه الملامح المضطربة أليست مشاعة بين العرب وأعدل الأشياء توزّعا في المشهد العربي عامّة؟ ما نحتاج إليه في تونس هو تقييم النّتاج الشّعري من الشّابي إلى اليوم وهذا يعني استدراج الحركة النّقديّة وتوضيب تصنيفات وإضاءة التّجارب التي من شأنها أن ترسم سؤالا جديدا فبدون نقد لا يمكن دفع المشهد وإخراجه من اضطرابه.

** ما هي الينابيع الأساسيّة التي كوّنت تجربتك الشّعريّة؟

ــ لقد دخلت الشّعر من الاسم، مثلما يدخل الخيط في الإبرة، وعرفت منذ طفولتي المبكّرة اسم نزار قبّاني قبل أن أحذق لقبي، وسارعت إلى الارتواء من معين تجربته، وتعلّمت البعد الانقلابي في الشّعر من صولاته، وأدركت الثّورة في الشّعر والحياة على يديه، ولكنّني سريعا ما غادرت موطن الوليّ العاشق في اتّجاه متمرّدين آخرين، هكذا تدربت على استقدام النّبض المتمرّد إلى عالمي. لقد كان لقائي بشاعرين أساسيّين مصدر تحوّل في تجربتي، فمنذ ربع قرن عصفت بي كتابات بودلير ورامبو، لا أستطيع أن أنكر ما لهذين الماردين من تأثير على كوني الشّعري، حتّى وإن غابا اليوم في تجربتي غيابا لغويّا، فإنّني أحيانا أراهما في نبرتي الصّاخبة، في درجة هذه النّبرة وهي تسخر، تتمرّد، تتجرّأ، تقبل بالسّير مع العاصفة. كان ولعي بالشّعر الفرنسي لا حدود له، قرأته وعاشرته بالفرنسيّة طبعا، كنت أكره قراءة المترجمات إنّها لا تعبّر عن خيانة فتلك مسألة دارجة، بحثت عن أنفاس الشّعر، هذا النّفس لا يمكن لأيّ مترجم عالمي أن يحوّله إلى لغة أخرى، فما نقرأه في التّرجمات هو نفَس المترجم، عندنا مثلٌ شعبي يقول "الطعام أنفاس" ويعني أنّ الاستجابة لشروط الطّهي لا تؤدّي بالضّرورة إلى إعداد أكلة شهيّة. كذلك الكتابة تحتاج إلى "الأنفاس" ولهذا ذهبت إليها، أسائلها، ما أبهى أن تراود الشّعر في لغته الأصليّة، إنّك تحيا معه في عمق التّجربة الأنطولوجيّة للشّاعر. في رحم الشعر الفرنسي قرأت قصيدة النّثر، وكنت أكتب قبل ذلك ضدّ العمود، لأنّني لا أؤمن بشكل "ديكتاتوري" على التّجربة الشّعريّة، ووجدت في الشّعر الفرنسي ما يعضدني نظريّا، بمثل ما وجدت في الحياة العربيّة السّورياليّة ما يسندني إجرائيّا. وتزامن ذلك مع تواصلي مع حركة الحداثة الشّعريّة العربيّة وانعطافاتها وخطوطها المتشعّبة، من نازك الملائكة إلى أنسي الحاج وأدونيس.

كنت أشعر أنّ نازك الملائكة تستحقّ الاهتمام أكثر من أيّ كان، لقد عشت في عالمها بشعور المتعاطف وحدست أنّها لاجئة في ديوان الشّعر العربي، ولا أدري ربّما لم أكن محقّا ولكنّني أدرك معنى تسلّل الذّكوريّة العربية إلى الشّعر. أحسست أنّ طريق الشّعر يفد من ينبوع آخر غير الشّعر. فليست هناك زيجة مثليّة تولّدت عنها ولادة ما. ولهذا قرأت الفلسفة في حياتي أكثر ممّا قرأت الشّعر. وتوغّلت في الفنون التّشكيليّة والبصريّة أكثر ممّا تولّهت بالقصائد. كنت وما أزال أكتب ضدّ الفكر، لأجل فكر آخر، وأكتب ضدّ صورتنا لأجل صورة أخرى، بإحساس الثّوّار. أخذت من الفنّ قدرته على التّلوين دون أن يكون اللّون تزيينا وترصيعا للقصيدة. ومن التّكوين ملحمة بناء القصيدة كمعمار منفتح وحواري مع الحياة العموميّة، ومن الفكر الفلسفي بهجة الصّدمة الدّائمة والدّهشة. فنحن نحيا في مجتمعات مطمئنّة رغم رائحة الغليان. هل نحتاج إلى الفكر قبل الشّعر وقبل الفنّ؟ أيعني ذلك أنّ هناك سلّم لأولويّات ترتّب القصيدة في الخيار الأخير للتّغيير؟ نحتاج إلى حركة شاملة يكون الشّعر بعدها التّنبئي.

** تقوم قصيدتك خلافا للكثير من مجايليك على نصاعة في القول والأسلوب، هل بسبب الوزن أم بسبب مؤثّرات وقناعات أخرى؟

ــ الاقتراب من اللّغة الشّفافة نوع من المخاطرة فلقد تدرّبت طويلا على رمي النّرد في ساحات مجهولة كي أغنم بوجه اللّغة التي لا ترهب الحلول بأراض لا تعرفها دون خوف، هناك مسائل شائكة اليوم في الشّعريّة العربيّة من أساساتها مشكليّة اللّغة، اللّغة في الشّعر بعبارة المتصوّفة تضيق كلّما اتّسعت الرّؤيا، وفي الشعر تقوم العبارة مقام الحجر في جدار مرآوي، قد يكون خادعا في أغلب الأحيان، لكنّ معنى ضيق العبارة لا يتّفق مع انحباسها عن تأدية المعنى، ثمّة دلالة الاختزال والاقتصاد إلى درجة الشّحّ أحيانا في سبيل استبعاد الثّرثرة. فالعالم العربي مليء بالثّرثرة على كلّ المستويات، ودور اللّغة الشّعريّة تنقية كلّ القول العربي وغربلته. بل إنّ اللّغة تقول كلّ الوقفات الصامتة في هذا العويل والقهقهة في الآن نفسه، ولعلّها حين تقول الصّمت تكون أبلغ لأنّها تكشف المسكوت والممنوع والمخفيّ في طيّات الواقع والنّفوس. لكنّ اللّغة الشّعريّة واجهت مسلكين متباينين، انساق أحدهما إلى التّقريريّة الفجّة وانصرف الآخر إلى التّعمية، وفي كلا المسلكين خسر الشّعر معركته مع التّلقّي.

لاشكّ أنّ اللّغة كينونة هذا العالم وهي ليست بحوزتنا إلى درجة التّملّك النّهائي، فهي تؤجّر لنا غرفها في اللّحظة التي نتوهّم أنّنا نمتلكها ونلاعبها بلا هوادة وهي ليست مادّة بل هي شكل، لذلك يبقى تجلّيها حمّالا للدّلالة ولكن ماذا عن هذا السّيل اللّغوي الذي أغرق القصيدة العربيّة في حمّام الظّلام بدل أن تكون المفردة وضّاءة ومتمنّعة في الآن نفسه. لقد طالبتُ يوما بالكتابة في درجة الصّفر للبلاغة، ومع ذلك لم تسلم قصيدتي من البلاغة، ولكن أيّة بلاغة؟ أحيانا تقرأ قصائد فلا تستطيع استكمال الأسطر الأولى، يحلّ بك مغص حلقي. لأنّ اللّغة لا تنساب كالماء، ذلك هو أغلب ما يكتب الآن، وإذا كنتُ أبحث عن بلاغة سالبة فلأنّ أغلب شعر مجايليّ شحن المفردة الواحدة بكلّ الطّاقة النّوويّة للبلاغة، وأهدر مساحة التّواصل النّهائي مع القارئ. أتعرف أنّ هذا النّوع من الهجوم المدمّر للشّعراء لا يعترف حتّى بالموت الرّحيم للقارئ؟

لا تأتي اللّغة الكريستاليّة ملتحفة بلحاف "الوزن"، فلا مجال في قصيدة النّثر للوزنيّة، قد تقصد "الإيقاعيّة" وهذا مرتبط بالذّات الشّاعرة، بوجودها المتعدّد، وليس بخضوعها لمشروطيّة البديع العربي ولا لوزنيّة مقنّنة. وقد يبدو أنّ الإمساك بتلابيب قصيدة النّثر في هذا الاتّجاه أمر محفوف بالمخاطر، نظرا ليناعتها فهي أشبه بديمقراطيّة فتيّة في مجتمع استبدادي، ولذلك قد نجد أحيانا عسرا في تحديد الجهاز الاصطلاحي. فأيّ معنى لـ"الإيقاع" خارج الدّرس القديم، وحتّى النّظريّات الإيقاعيّة الحديثة منذ فتوحات ميشونيك لم تنته إلى تحديد علمي خالص. إنّني أكتب بحثا عن نصاعة القول الشّعري، كمن يبحث عن بياض المفردات، عن اللّغة التي تقول الأشياء كما هي قبل لحظة التّصوير والتّحميض لأنّ كلّ هذه المراحل من شأنها إضعاف القوّة الصّوتيّة والدّلاليّة والذّوقية للعبارة الشّعريّة وهذا مشروع يرمي إلى إنزال الشّعر من القداسة إلى الدّنينة، حيث يتمرّغ في الواقع دون رغبة في تصنيم القول.

** كثر الحديث وطال عن قصيدة النّثر، ما هي يا ترى رؤيتك للالتباس الحاصل في هذا المجال؟

ـــ واجهت قصيدة النّثر مطاعن كثيرة منذ ظهورها في ساحة الشّعر العربي، لأنّها شكّلت الشّكل الأكثر ثوريّة في القول الأدبي. فالرّواية العربيّة مهما بلغت من تجريب فهي لم تستطع إثارة السّجال الذي دار وما يزال عندما يتعلّق الأمر بقصيدة عربيّة جديدة، ومناهضة للأبويّة وللإكليروس الشّعري العربي. أعتقد أنّ الجدل لم يطل بل مازال في بداياته، إنّه في بداياته لدى الشّاعر العربي الذي يكتب هذا الشّكل أيضا، فلا يمكن أن ننظر إلى حركة الجدل بمعزل عنه وكأنّه يملك الحقيقة الشّعريّة، بينما يعيش كلّ المجتمع العربي في دائرة الحيرة. وهذا ما يغيب على أغلب الباحثين في الموضوع. وعلينا مزيد تسليط الضّوء على هذا الجانب فالتّجربة الشّعريّة العربيّة في هذا الشّكل ما تزال لدى الشّاعر الواحد في محلّ البحث والتّشكّل لأنّ القانون الأساسي لقصيدة النّثر هو هذه الحركة المتشكّلة واللاّنهائيّة، وهذه السّمة تتوافق مع ما يعيشه المجتمع العربي من حالة بحث وتشكّل، حتّى لا تكون الحضارة العربيّة في غرفة الإنعاش.

وكلّما اقتربت قصيدة النّثر من هذا المعنى الحارق كلّما تضاعفت صدقيّتها، ولعلّ الافتقار إلى هذا العمق هو الذي جعل بعض الباحثين الغربيّين يعتقدون بأنّ الشّعر العربي اليوم لم يعد يعبّر عن الحياة العربيّة. وما السّبيل إلى تحقيق هذا التّعبير غير السّماح لقصيدة النّثر بالتّشكّل والحياة. فلا يجب وأد التّجربة مثلما توأد الممارسات التّقدّميّة في مجتمع أمّي ورجعي. ويبدو أنّ أغلب ما يكتب اليوم ينسب إلى "قصيدة النّثر" وأقول عمدا ينسب، لأنّ كلّ جملة خارج ميزان الشّعر القديم أضحت تصنّف في خانة قصيدة النّثر، وكلّ بهلواني على حبل اللّغة ينسب إليها، وكلّ اللّوثة اللّغويّة والعربدة السّلوكيّة أصبحت من الخصائص المميّزة لهذا القول في رأي الجمهور. وهذا هو مكمن الدّاء، وأحد أسباب اللاّتواصل. هناك التباس دون أدنى شكّ وقد يكون معقولا فما هو عمر قصيدة النّثر قياسا بثقل قرون عمود الشّعر وما هو عمر المواطنة في المجتمعات العربيّة قياسا بعمر الرّعايا؟

وككلّ وليد جديد في أيّ جغرافيا ثقافيّة فإنّ قصيدة النّثر تحتاج إلى تراكمات كميّة ونوعيّة، تحتاج إلى تعقّل للمرحلة وإلى نقّاد ينصتون إليها، قبل أن يرمونها بالسّباب أو بالقنابل اليدويّة، وبدل المهاترات الفارغة لينكبّ النّقّاد على تجربة المرحلة الأولى لقصيدة النّثر، على كتابات جيل الرّوّاد فيها، ليُعملوا سمعهم إليها قبل كلّ شيء، فلا يمكن استعمال أدوات قديمة لاكتشاف قارّة جديدة. عليهم أن ينصتوا إلى البحر، أن يتعلّموا مغامرة النّقد، فتكون العمليّة النّقديّة متواشجة مع فعل الإبداع، وليست عمليّة مشرحيّة، ثمّ إنّ غربة قصيدة النّثر بدأت تتلاشى كلّما اتّسعت رقعة الثّوّار الذين ينظرون إلى الشّعر باعتباره قوّة  دافعة لحركة التّغيير في المجتمع، وليس قوّة تزيينيّة وتخديريّة للكيان العربي. قد يبدو أنّني أتّهم النّقّاد بتخلّف الممارسة إلاّ أنّني في الوقت نفسه أتفهّم أنّ قصور النّقد الأدبي العربي يعود إلى تخاذل آليّة النّقد العربية.

** أنت أستاذ جامعي أيضا. يظنّ البعض أنّ المعرفة نقيض للشعريّة. ماذا ترى بهذا الشّأن؟

ـــ ثمّة شريحة من الشّعراء الذين جمعوا بين الشّعر والدّرس الجامعي، وكما تعلم فإنّ التّعليم العالي يقوم على البحث العلمي أساسا، ولا أعتقد أنّ هذا البحث يتضارب مع مشروع الشّاعر. فالمعرفة ضروريّة للشّعر، وما ترديد عديد الكتّاب بأنّ الشّعر نقيض المعرفة، وأنّه يقوم على الإلهام وحده، ليس غير قول مسموم. لقد ولّت صورة الشّاعر الذي يختلي بنفسه في وادي عبقر، لتقبّل شيطان الشّعر، وهذه الصّورة وإن حملت معطى تاريخي فإنّها استحالت إلى ضرب من الاستعارة، ففي عصرنا لم يعد مناسبا أن يدّعي البعض الشّعر خارج مقولة المعرفة، لأنّ الشّعر والمعرفة وجهان لعملة واحدة. هناك شعراء تقاعدوا عن القراءة مبكّرا، وتحديدا إثر نجاح بعض قصائدهم فأصبحت علاقتهم بالمكتوب مرتهنة بالمعلومة التي توردها وكالات المشافهة العربيّة، فلا يتمتّعون بقدرة قرائيّة، ولا يبحثون فعلا عن تطوير معارفهم، هم لا يقرأون شعر بعضهم البعض، ولا يلتفتون إلى حقول فنّيّة ومعرفيّة أخرى، فكيف نريد منهم أن يرتقوا بذائقة النّاس وأن يكونوا مستقبليّين. ستمرّ على كتاباتهم حقب دون أن تتغيّر حتّى البهارات إلى أن تضحى بلا رائحة.

حينما نتحدّث عن مرحلة تأسيسيّة طويلة الأمد في ديوان الشّعر العربي الحديث فإنّنا نعني أنّ الكتابة خارج البحث لا جدوى منها، أو هي محدودة الفاعليّة، ولا يعني ذلك أنّ البحث متّصل بالجامعة فحسب، أو أنّ الشّاعر الجامعي هو رائد النّقلة النّوعيّة في القصيدة العربيّة، إذ نجد أحيانا أنّ التوجّه الأكاديمي يعتقل بدوره طلائعيّة الفنّ والشّعر. ولذلك فالشّاعر رغم انتمائه إلى النّسيج الجامعي، فإنّه ثوريّ على الدّوام ومعرفته قلقة. وحين يقع إجلال الشّاعر المنتمي إلى الجامعة، فذلك يعني حضور صورة أخرى عن شاعر اليوم الذي يحمل إرث بروميثيوس، وهذا لايقلّل من شأن الشّعراء الذين يفدون من مجالات أخرى، إنّنا نجتمع في إقرارنا بأنّ القصيدة ليست نزوة عابرة أو شطحة، بل هي بحث دؤوب. والمعرفة لا تقتل الشّعر، فذلك لا يحدث إلاّ مع أشباه الشّعراء، الذين تصبح كتاباتهم مجرّد تطبيقات لنظريّات ومناهج نقديّة، وهذا يعني أنّ التّسلّح بالمعرفة وتطويعها لصالح الشّعر معركة غير يسيرة بل تحتاج إلى قدرة إبداعيّة تشبه قدرة النّحّات الذي يحوّل الرّخام إلى منحوتة، ويفيد ذلك أنّ الشّعر صناعة بل صناعة ثقيلة في أطوار تكوين القصيدة. ولا أعتقد أنّ المعرفة تقتل أيضا البعد الانفعالي في القصيدة، فالشّاعر الأصيل هو الذي يحافظ على هذا البعد الحيوي، لأنّ المعرفة لديه ليست موضوعا مخبريّا، وإنّما جزء من وجوده وسلوكه اليومي وخبرته الحياتيّة.

** ثمّة في العالم العربي تجمّعات وإخوانيّات ومنافع متبادلة. أين الشّعراء التّونسيّين من ذلك كلّه؟

ـــ الشّعراء التّونسيون جزء من المشهد العامّ، وأعتقد أنّ المشهد الشّعري مشحون بالتّجمّعات التي ليست لها تأثير عميق على الحركة الشّعريّة. كما يحفل بالإخوانيّات، وهي سمات عامّة تقع في دائرة الصّراع الزّائف، ولا علم لي بتفصيلات هذا الواقع. فالبحث فيه هو من شغل علماء الاجتماع الذين تقاعدوا مبكّرا عن آداء مهمّتهم. قد ترى مثل هذا التّشخيص في المناسبات الشعريّة التي أصبحت على عدد الشّعراء في تونس. ففي كلّ محافظة هناك مهرجان شعري، وربّما في كلّ معتمديّة، إلى درجة نتوهّم فيها بأنّ الشّعر هو الخبز اليومي للتّونسي. ولكنّك ستلاحظ أيضا أنّ هناك أسماء تتكرّر في جميع التّظاهرات، بل هناك من يتفرّغ لها ويحترف الإلقاء في كلّ مكان، في إطار العمل المأجور. ويؤدّي ذلك إلى بروز منافع وصراع حول الغنائم. ويصبح إلقاء الشّعر نوعا من "الدّعارة" المغلّفة. وهو وضع عربي بامتياز ولذلك أتفهّم امتناع عديد الشّعراء عن إلقاء شعرهم على الجماهير التي تنصت بنفس تأهّب جمهور كرة القدم على رؤية مباراة تسجّل فيها أهداف، ويتلوها صياح وترديد للشّعارات. ويتحوّل فيها الشّعر إلى مشهد "ستربتيزي".

** بين فترة وأخرى تقوم الدّنيا ولا تقعد بسبب الأنطولوجيّات والمختارات، وآخرها عملان عن الشّعر التّونسي. ماذا يمكن للمرء أن يقول؟

ـــ تعالت ضجّة الأنطولوجيّات أخيرا، كأنّ القوائم المعروضة لأسماء مرشّحة لجائزة نوبل؟ وكان آخرها عملان أحدهما للشّاعر المنصف الوهايبي، والثّاني لشخص أجهله، وفي كلي العملين اجتهاد، رغم أنّ العمل الأوّل يعدّ الثّاني من نوعه للمنصف، بعد مختاراته للشّعر التونسي التي صدرت في اليمن قبل سنتين. وأتساءل دائما لماذا كلّ هذا الصّخب الذي يتلو نشر المختارات؟ فهي لا تعدو أن تكون تعبيرا عن ذائقة أصحابها، وعلينا أن نحترم هذه الذائقة، أيّا كان تجديفها، وهي لا تمثّل بالضّرورة الخارطة الشّعريّة التّونسيّة، وأحيانا قد نجد فيها قصائد لا تعبّر حتّى عن تجربة أصحابها. حيث يمكن اختيار ما هو أفضل. فما بالك بتعبيرها عن مستويات التّجربة الشّعريّة التّونسيّة ككلّ. يمكن أن نفتح سجالا مطوّلا حول "فنّ المختارات" إن لزم الأمر. فما يزعج هو نوايا الإقصاء وتصفية الحسابات الشّخصيّة، أي اعتماد المختارات كمجال سلطوي للهيئة النّقديّة. ولكن إلى أيّ مدى يتحقّق الشّرط النّقدي في هذه المختارات، شخصيّا أثق في توفّر هذا الشّرط لدى الوهايبي، لأنّه لا يحتاج إلى مجاملة أحد، وليس من الذين يحملون القلم النّقدي لتصفية أيّ كان. وهذا لا يعني اكتمال مشروعه فهناك أسماء كان يمكن إدراجها في المختارات بمقابل بعض الأسماء النسائيّة خاصّة التي لا تمثّل إلاّ قاعدة "كوني أنثى تنالين صكّ الاعتراف الشّعري.." تكشف المختارات لحظة من لحظات الفعل النّقدي لذلك تحتاج اليوم إلى إعمال نقد النّقد و"المختارات التّونسيّة" تشترك مع المختارات العربيّة التي تثير الغبار والرّعود في الأوساط الإعلاميّة خاصّة.

** تتكلّم في كتاب لك عن"محنة الشّعر" هل الشّعر في محنة؟

ــ يحيا الشّعر دائما في المحنة بتفاوت في الدّرجة بين حقبة وأخرى، فالكتابة هي محنة ذاتٍ، قبل أن تتحوّل المحنة إلى حالة جنس بأسره. حاولت في كتابي مساءلة حقبة شعريّة في تونس، ما يصطلح عليه بمعركة الجيل التّسعيني، وناديت بالانتباه إلى ظواهر تدّعي الانتساب إلى الشّعر وهي بعيدة تماما عنه، ووقفت عند الملامح العامة لقصيدة النّثر في أسلوب يحتفي بالبيان الشّعري، أكثر من الارتكان إلى شروط الكتابة النّقديّة، واعتبرت أنّ الشّعر العربي يعيش محنا مختلفة؛ من أبرزها عجز النّقد العربي عن مجاراة نسقه، و تخلّف الشّعر عن مجاراة نسق المتغيّرات في الواقع العربي. إلى أيّ مدى استطاع شعر اليوم أن يكون ديوان العرب؟ امتدّت قضايا الإنسان العربي دون أن تجد لها تمثّلات شعريّة قادرة على حفر وجودها في الذّاكرة العربيّة، وأصبح الشّعر ضربا لغويّا مخبولا يعبّر عن عجز الذّات العربيّة على مقارعة أسئلة التّقدّم. إذا أردنا أن نخرج من هذه المحنة الطّاحنة فعلينا الإنصات إلى حركة المجتمع والتّبشير بأفق حديث، خارج الدّروشة، وتجاوز وضع الصّراعات الزّائفة والحرب الدّعائيّة التي يبقى فيها المتلقّي مشاهدا متأفّفا وساخرا من واقع الشّعراء لذلك فهو يستكين، إنّ أغرب ما يقع في مشهد الشّعر العربي أنّ الشّعراء التّقدّميّون غير منتبهين إلى ما استتبعته وضعيّة شعر اليوم من توجيه القرّاء إلى السّلفيّة الشّعريّة.