مرّةً أخرى يدعونا الفنان التشكيلي المغربي عبد الله الحريري لنصاحبه في خطوة جديدة على طريق مغامراته الإبداعية، نحن الذين مشَينا معه جلّ خطواته السابقة، نتأمل ونقرأ ونسأل ونكتب ونحاور بل ونتعلّم منه معنى الإنجاز الفني، ومعنى أن يتشكل كإرهاص أو كفكرة أو كوميض قبل أن يتكون ويتشكل ويتخذ له شكلا وعنوانا وحضوراً في فضاءات العرض. هذه المرّة، يواصل الحريري نفس السّير الدّؤوب، نفس الإقدام الحثيث ممتطيًا نفس القطار، وإن كان يُغيّر الآن رصيف السّفر.
هذه المرّة يذْهَب عميقا في تجريد خطابه التشكيلي كأنه يحاول أن يتخلّى عن سوابقه التقنية والجمالية بما فيها " اللَّعنة" الكاليغْرافية الجميلة التي ظلت تطبع شخصيته الفنية والثقافية، وذلك من أجل بناء لغة بصرية خالصة لا تُمثل بالضرورة المظاهر المرئية المباشرة للفضاء الملموس وتعبيرات العالم الخارجي.
إنه ينْأى عن تجاربه السابقة فيما هويَمْنَحُها امتداداً طبيعياً، رحباً ومفتوحاً على المغامرة والتجريب. كأنه يُوسع التفاصيل التجريدية التي كانت تشكل في أعماله الماضية خلفية أو وعاءً لشغَبه الكاليغرافي (الحروف وعلامات الشّكل). كأنه هاربٌ من الأشياء الملموسة إلى الأشكال الخفيفة وسطوة اللون وشساعة المساحة مُحْتَفياً بها في حدِّ ذاتها.
ورغم ما قد نراه من استمرار حروفي شبه مَخْبُوء هذه المرة، يبدو واضحاً أن الحريري اختار أن يجرّد أمتعته وخطابه وذاكرته، كأنما هو ينتقل من حياته المرئية إلى حياة أخرى لا مرئية. يريد أن يمضي بعيداً في تجريب إمكانياته الإبداعية ليقدِّم لنا عالمًا نعرفه ونفهمه ويمكننا تفكيك وتركيب حروفه وعلاماته على مقاسنا.
صحيح، ثمة نفس اللّمسة، نفس اللطخة اللونية، نفس المَحْو، نفس الاشتغال التّفصيلي للفنان " الرْقاَيْقي". ولكن الحريري مع ذلك يوحي في هذا المعرض بأنه يتخلّى عن علائقه بالمرجعية البصرية المحسوسة التي اعتادت أن تُلقي بثقلها في عمله، وظل وفياًّ لها منذ زمن.
فلا محاولة للإيهام البصري هنا، وإنّما نحن أمام تجريب جمالي جديد مختلف وجرّيء، على الأقل في مسار الحريري نفسه، هذا الفنان الذي بات يدرك، ومنذ سنوات، بأن عليه أن يخرج من نفسه أكثر ليتخلَّصَ من إكراهات النّمْذَجة والتَّمثُّل التي التصقت بعَمَله.
واضح أنها نقطة انطلاق أخرى في الحياة الإبداعية للحريري. علينا أن ندرك ذلك ونتأكد منه. وهو يحقق بهذه الخطوة الجديدة انزياحا جماليا عن نفسه وتحدياً لمتخيله الشخصي. ولعل ما تحتاجه الحركة التشكيلية المغربية راهنا هو مثل هذا البحث المتواصل عن أفق مختلف وأشكال جديدة. لو أن كل فنان تشكيلي مغربي حقيقي يغامر باستمرار خارج شرنقته المعهودة لأنقذ نفسه من احتمالات المأزقية، فطوّر نفسه وطوَّر التشكيل المغربي.
لقد قلت وكتبت دائما أن قوة الحريري الكامنة هي أنه يقدم دائما عملا فنياً "لامُكْتمِلاً" رغم امتلائه التقني والجمالي وتحققه الإيقاعي الجميل الناعم. ومعناه، أن الحريري يقدم باستمرار " عملاً مفتوحاً". إنه يمارس حُريته كاملة في تعديل العالم الذي يعيشه عن طريق اللون والشكل والإيقاع. كأنه يهرّب إلينا عالمه السري في هذا المعرض، يقتسم معنا قصيدته البصرية لندرك معه العالم شعرياً.
هناك فقط أثر لواقعٍ مَّا، وَقْعٌ مرئي لوجهٍ مَّا، لجسدٍ أسود بعيد، لقضبان بعيدة...
كأنه يلون الغيم البعيد المعلّق في سقف العالم
كأنه يؤاخي الضباب مع خياراته اللونية.
من أين يمكن أن ينبثق هذا الأفق التجريدي المفتوح للحريري؟
يمكننا القول ببساطة، إنه نابع من سيرورة عمله الفني ذاته، من تطوره الشخصي باحثا وقلقاً وحريصا على أن يتحول ويتجدد باستمرار. ولكن من المشروع أيضا، القول إن هذا الأفق يأتي من تفاعل الحريري مع محيطه التشكيلي المغربي والكوني الراهن، وعلائقه المتوترة مع اليومي بكل ما يحفل به من عبثية وخواء وهذيان وتفاصيل سديمية (خصوصا في مدينة معقدة كالدار البيضاء، يكبر فيها الغموض كل يوم، غموض المكان والأشخاص والوقائع...)، ثم مع الأشياء " المتناهية الكِبر" التي تعصف بالكيان الفردي والجماعي، عاصفة الزمن و عاصفة الموت مثلا.. وحتى عاصفة الحُب وغيرها من العواصف المفعمة بكل أبعادها الميتافيزيقية التي أضحت تستعصي على كل فهم أو تمثُّلٍ بسيط، فلا يُجيب عنها غيرُ السؤال والممارسات الجمالية العميقة التي تحفل بالسديم والضباب والغيم البعيد.
لذلك، يلُوذُ عبد الله الحريري باللون والضوء باحثا عن كيمياء الروح المعقدة. وأظن أن علينا، لنفهم هذا العمل الجديد، أن نستحضر مجموع تحولاته الكبرى الأساسية، أن نقرأها كمتتالية من نصوص حياته. كل نص بصري قابل لأن يُقْرأَ على حدة، وقابل لأن يُقرأ في علاقته بباقي النصوص البصرية الأخرى.
نتأمل. ننظر المساحة الملونة، بتشابكاتها، بأطيافها الجسدية الغامضة، بتقاطعاتها مع الأشكال الهندسية، وفي نفس الآن.. ننصت بآذاَنٍ مخبوءة لموسيقى صغيرة خافتة النّبرة تنساب كما لو كانت خلفية صوتية للعمل. هدوءٌ مهيبٌ، صمتٌ عميقٌ في هذه الأعمال يَشِي به اللَّون المتعدد النّاعم والمعمار السري للّوحة. والجميل أن الحريري يرسم بروحه الطّرية، رحيما بالمادة المخلوطة – الكيميائية والنباتية- متنقلا بين الأحجام المتوسطة والصغرى كشاعر يوّزع أنفاسه على القصائد المطوّلة والوجيزة. تلك عادته حين يعثر في المادة على ما به يرسم سديم الكون أو يقتحم ضباب الأبدية.
إنها مرحلة يصلها الحريري الآن بعد أن عَبَرَ محطات متعددة من التجريب الكاليغرافي (العربي أساسا، والأمازيغي واللاتيني أحياناً )، واستيحاء التركيب الهندسي للزّليج المغربي، والاشتغال الكلّي المطلق على اللون الأسود في شبه ارتماءةٍ مغامرة في الفراغ الهائل، وتجريب المادة اللاصقة محترقةً بالنّار. وهل ينسى المتتبع لمسار الحريري انخراطه الواسع الغني في الديناميات الاجتماعية للتعبير البصري، في الملصقات وأغلفة الكتب والعلامات التجارية واللافتات والجداريات...؟ هل نقول بأن المشهد الجمالي الأكثر تجريدا في مسار الحريري الذي يوفره لنا هذا المعرض هو خُلاصة أو تكثيف للمراحل السابقة؟ أم أن الفنان الذي امتلأ بكل ضجيج وتفاصيل محيطه العمومي آثَرَ الآن أن ينزاح بنفسه قليلا ليهيئ لنا القصيدة المصبوغة التي نستحق؟
ربما كان من غير المقبول بالنسبة للغة التشكيلية أن نتحدث عن مراحل وكأنّنا بصدد عملية ترتيب أو كما لو كنّا نتحدث لغة الآداب، لكن حساسية الحريري ليست ولم تكن في يوم مَّا محايدةً أو مفصولةً عن سياقها العام. إنها نتاجٌ لممارسة سوسيوثقافية مِؤكّدة، ولذلك كانت هذه الحساسية أحيانا عالية النبرة وأحيانا أخرى كانت خفيضة النبرة، شبه صامتة أو شبه خرساء، من حيث لا تفصح بسهولة عن معناها الجمالي والشِّعري والموسيقي، ومن حيث يصبح الدَّالُّ لا دَالاًّ ( insignifiant ) بإرادة خلاّقة تعرف أين تحفر عميقاً للعثور على الجميل.
لنقل إنها محطة يصلها الحريري بعد محطات. لنقل أيضاً إنه تيار جمالي شبيه بتيار ضوئي أو تيار مائي يجتاز المسافة، ويتقدم أماماً. أمامًا. أمامًا... وكأن هذا الفنان الجرَّيء يكتب سيرته اللونية القاسية. إنه انتصار آخر، صغير جميل ثري، يحقّقه الحريري في معركته المفتوحة واللانهائية مع نفسه. طوبى للألوان التي يمنحها عبد الله كل هذه الطاقة الهائلة من الضوء الكلام. فَلنُنْصتْ ونحن نرى.
شاعر من المغرب