تقرير من المغرب
الاحتفال بالجسد في مهرجان بني عمار زرهون
تحت شعار "لننهض بالتراث اللامادي للهامش" نظمت جمعية قدماء تلاميذ بني عمار زرهون فعاليات مهرجانها السنوي في دورته الثامنة دورة الكاتب والمفكر المغربي الراحل: عبد الكبير الخطيبي "أيام 17 ـ 18 ـ 19 يوليوز 2009" حظي هذا المهرجان بمتابعة إعلامية كبيرة، لكن للأسف فقد ركزت وسائل الإعلام على كرنفال الحمير من ندوة وسباق السرعة ومسابقة أجمل حمار، في حين لم تنل فقراته الثقافية والفنية الأخرى نفس الاهتمام والمتابعة الإعلامية رغم أهميتها، لذلك سأختار من بين فقرات هذا المهرجان الذي ذاع صيته، فقرة فنية أراها جديرة بتسليط الضوء عليها، وهي فقرة الأمسية العيساوية التي قدمتها الطائفة العيساوية العمارية (كان الموعد مع خرجة الطائفة الحمدوشية العمارية في اليوم التالي). انطلقت "خرجة" الكائفة العيساوية مساء يوم الجمعة 17 يوليوز بعد صلاة العصر، من مقرها الذي توجد به ملابس ومعدات الفرقة بإحد الدروب الضيقة للقصبة، حيث حضر الجميع في الموعد مرتدين جلابيبهم البيضاء وعمامتهم الشرقاوية الصفراء.. ومن لا يتوفر منهم على لباس وزع عليه لباس جديد اشترته الجمعية للفرقة العيساوية احتفاء بهذه المناسبة.. رجلان يعزفان على المزمار "الغيطة"، في تناغم تام بينهما إذ يرددان بواسطته مقطوعات شعرية صوفية تصاحب نغمات المزمارين، إيقاعات على ثلاثة طبول صغيرة الحجم ينقر عليها من الجهتين، وأربعة دفوف لها نواقيس.. هذه هي الآلات المستعملة في العزف.. يتقدم المجموعة رجال وشباب القصبة وهم يرقصون على نغمات وإيقاعات الجوقة الموسيقية.. تاركين للجسد حريته في التعبير عن مدلولات الأشعار والإيقاعات التي تذكي الحماس في النفس، وتحقق ما يعتبره قدماء الإغريق إلهاما أو حلولا إلهيا، ينتهي بالجذبة والإلهام الناتج عن آلة المزمار، التي يرجع لها الفضل في خلق تلك الرقصات التي يقول عنها أفلاطون بأنها أصل جمال الجسد ونبل الطبع، وعلى عكس الاعتقاد الشائع الذي يفسر الجذبة بتأثير الطبل على الدماغ، يعطي أفلاطون الأولوية للمزمار بالرغم من دونيته في نظره، فهو آلة الجذبة بامتياز. ودونية المزمار ووضاعته تتجلى في كونه الأداة الموسيقية التي تستعملها الفئات الدنيا لخلق أجواء النشوة والعربدة والتهتك.. وطقوس الجذبة هاته ضاربة في القدم وهي بلا شك منتشرة في جميع المجتمعات، وتأخذ شكل وطباع وعادات وتقاليد المجتمع الذي نشأت وترعرعت فيه، وحتى إن تم استيرادها من مجتمعات أخرى فإنها لا تلبث تتكيف مع المجتمع الجديد. وهذه الرقصات والإيقاعات التي تؤديها الطوائف العيساوية والحمدوشية وغيرهما من الطوائف التي لا شك أنها تكيفت مع دخول الإسلام للمغرب، كما هو الحال في باقي أرجاء المغرب والمشرق العربيين. أما في الجزيرة العربية فنعلم الدور الكبير الذي لعبه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب في وأد هذه الطقوس والاحتفالات بدعوى أنها بدعة وضلال. استمر الحفل ما يزيد على الساعتين يجوب أزقة ودروب القصبة.. دون أن يكل الجسد أو يمل.. اللهم تعب شيخ كبير في السن الذي بدأ لي في أول الأمر وهو يرقص مع الشباب بكل همة وحماس، والعرق يبلل جميع جسده، وكلما أحس الشيخ بالعياء، سبق الموكب على بعد أمتار وجلس ليستريح ريثما يصل إليه الجمع ليشرع في الرقص من جديد بعد أن أخذ قسطا من الراحة إنه المعلم العربي التسولي، أحد شيوخ الطائفة العيساوية العمارية المعروف برقصته الخاصة والمتميزة التي تأخذ ألباب المتابعين عندما كان في ريعان الشباب.. والنساء والفتيات اللواتي يتفرجن من السطوح وعبر فتحات الأبواب على ماذا يتفرجن؟ وماذا يشاهدن..؟ أعلى العازفين أم على الراقصين..؟ أم على المرافقين للموكب؟ لا أشك في أن الفرجة لا تقتصر على البعض من الكل.. وأن النساء في متابعتهن لهذا الموكب يرقصن جسدهن أو ترقصهن أجسادهن، وهن تتفاعلن مع الموسيقى في حشمة ووقار.. كابحات جماح انطلاق الجسد على عكس الحال بالنسبة للرجال والشباب الذين لا يتركون الفرصة تمر دون استغلالها جيدا في جعل الجسد يتحرر من كل ما هو دنيوي وينتعش بروحانية لا يحسها إلا من يزاولها في الميدان وأما م العيان.. إن الجسد في الدراسات الفكرية العربية عامة لم ينل حقه في دراسته والاهتمام به، ويعود ذلك لكثرة المحاذير التي كبلته وقيدته، كيفما كانت هذه المحاذير دينية أو أخلاقية أو اجتماعية. لذلك ظل الجسد في مرتبة بصرية دونية، بدون بذل أي جهد لفهم الجوانب الدلالية، والأخلاقية والمعرفية والفلسفية التي ينطوي عليها مفهوم الجسد.. على عكس ما حدث في الغرب منذ عصر النهضة حيث احتفي بالجسد أيما احتفاء، يقول دافيد لوبرتون: "كتب تاريخ الجسد في مجتمعاتنا الغربية منذ عصر النهضة، ضمن عملية تطورية لإطار تقني وعملي ميزه عن الإنسان، نزع عنه القدسية واختزله في نزعة ميكانيكية غريبة". (ص 39 ـ مجلة عالم الفكر ع 4 مجلد 37 يونيو 2009). إن الدراسات العربية أعطت اهتماما كبيرا للروح على حساب الجسد، رغم أن أحدهما لا غنى له عن الأخر، فلا روح بدون جسد، ولا جسد بدون روح. إن منظمي مهرجان بني عمار زرهون الذي يديره الشاعر والإعلامي محمد بلمو منذ ثمان سنوات، يقدمون نموذجا متميزا في رعاية هذا التراث ومنحه ما يستحقه من الاهتمام والمساحة والجهد والتطوير، وهذا ما يحسب لصالح هذا المهرجان، كما تحسب له رعايته واحتفاؤه الفريد بالحمار ككائن قدم ويقدم خدمات جليلة للإنسان دون أن يقابله هذا الأخير إلا بالاحتقار والإجحاف والسخرية والعنف والاستغلال المتوحش. كاتب وسيناريست مغربي
تحت شعار "لننهض بالتراث اللامادي للهامش" نظمت جمعية قدماء تلاميذ بني عمار زرهون فعاليات مهرجانها السنوي في دورته الثامنة دورة الكاتب والمفكر المغربي الراحل: عبد الكبير الخطيبي "أيام 17 ـ 18 ـ 19 يوليوز 2009" حظي هذا المهرجان بمتابعة إعلامية كبيرة، لكن للأسف فقد ركزت وسائل الإعلام على كرنفال الحمير من ندوة وسباق السرعة ومسابقة أجمل حمار، في حين لم تنل فقراته الثقافية والفنية الأخرى نفس الاهتمام والمتابعة الإعلامية رغم أهميتها، لذلك سأختار من بين فقرات هذا المهرجان الذي ذاع صيته، فقرة فنية أراها جديرة بتسليط الضوء عليها، وهي فقرة الأمسية العيساوية التي قدمتها الطائفة العيساوية العمارية (كان الموعد مع خرجة الطائفة الحمدوشية العمارية في اليوم التالي). انطلقت "خرجة" الكائفة العيساوية مساء يوم الجمعة 17 يوليوز بعد صلاة العصر، من مقرها الذي توجد به ملابس ومعدات الفرقة بإحد الدروب الضيقة للقصبة، حيث حضر الجميع في الموعد مرتدين جلابيبهم البيضاء وعمامتهم الشرقاوية الصفراء.. ومن لا يتوفر منهم على لباس وزع عليه لباس جديد اشترته الجمعية للفرقة العيساوية احتفاء بهذه المناسبة..
رجلان يعزفان على المزمار "الغيطة"، في تناغم تام بينهما إذ يرددان بواسطته مقطوعات شعرية صوفية تصاحب نغمات المزمارين، إيقاعات على ثلاثة طبول صغيرة الحجم ينقر عليها من الجهتين، وأربعة دفوف لها نواقيس.. هذه هي الآلات المستعملة في العزف.. يتقدم المجموعة رجال وشباب القصبة وهم يرقصون على نغمات وإيقاعات الجوقة الموسيقية.. تاركين للجسد حريته في التعبير عن مدلولات الأشعار والإيقاعات التي تذكي الحماس في النفس، وتحقق ما يعتبره قدماء الإغريق إلهاما أو حلولا إلهيا، ينتهي بالجذبة والإلهام الناتج عن آلة المزمار، التي يرجع لها الفضل في خلق تلك الرقصات التي يقول عنها أفلاطون بأنها أصل جمال الجسد ونبل الطبع، وعلى عكس الاعتقاد الشائع الذي يفسر الجذبة بتأثير الطبل على الدماغ، يعطي أفلاطون الأولوية للمزمار بالرغم من دونيته في نظره، فهو آلة الجذبة بامتياز. ودونية المزمار ووضاعته تتجلى في كونه الأداة الموسيقية التي تستعملها الفئات الدنيا لخلق أجواء النشوة والعربدة والتهتك..
وطقوس الجذبة هاته ضاربة في القدم وهي بلا شك منتشرة في جميع المجتمعات، وتأخذ شكل وطباع وعادات وتقاليد المجتمع الذي نشأت وترعرعت فيه، وحتى إن تم استيرادها من مجتمعات أخرى فإنها لا تلبث تتكيف مع المجتمع الجديد. وهذه الرقصات والإيقاعات التي تؤديها الطوائف العيساوية والحمدوشية وغيرهما من الطوائف التي لا شك أنها تكيفت مع دخول الإسلام للمغرب، كما هو الحال في باقي أرجاء المغرب والمشرق العربيين. أما في الجزيرة العربية فنعلم الدور الكبير الذي لعبه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب في وأد هذه الطقوس والاحتفالات بدعوى أنها بدعة وضلال.
استمر الحفل ما يزيد على الساعتين يجوب أزقة ودروب القصبة.. دون أن يكل الجسد أو يمل.. اللهم تعب شيخ كبير في السن الذي بدأ لي في أول الأمر وهو يرقص مع الشباب بكل همة وحماس، والعرق يبلل جميع جسده، وكلما أحس الشيخ بالعياء، سبق الموكب على بعد أمتار وجلس ليستريح ريثما يصل إليه الجمع ليشرع في الرقص من جديد بعد أن أخذ قسطا من الراحة إنه المعلم العربي التسولي، أحد شيوخ الطائفة العيساوية العمارية المعروف برقصته الخاصة والمتميزة التي تأخذ ألباب المتابعين عندما كان في ريعان الشباب.. والنساء والفتيات اللواتي يتفرجن من السطوح وعبر فتحات الأبواب على ماذا يتفرجن؟ وماذا يشاهدن..؟ أعلى العازفين أم على الراقصين..؟ أم على المرافقين للموكب؟ لا أشك في أن الفرجة لا تقتصر على البعض من الكل.. وأن النساء في متابعتهن لهذا الموكب يرقصن جسدهن أو ترقصهن أجسادهن، وهن تتفاعلن مع الموسيقى في حشمة ووقار.. كابحات جماح انطلاق الجسد على عكس الحال بالنسبة للرجال والشباب الذين لا يتركون الفرصة تمر دون استغلالها جيدا في جعل الجسد يتحرر من كل ما هو دنيوي وينتعش بروحانية لا يحسها إلا من يزاولها في الميدان وأما م العيان..
إن الجسد في الدراسات الفكرية العربية عامة لم ينل حقه في دراسته والاهتمام به، ويعود ذلك لكثرة المحاذير التي كبلته وقيدته، كيفما كانت هذه المحاذير دينية أو أخلاقية أو اجتماعية. لذلك ظل الجسد في مرتبة بصرية دونية، بدون بذل أي جهد لفهم الجوانب الدلالية، والأخلاقية والمعرفية والفلسفية التي ينطوي عليها مفهوم الجسد.. على عكس ما حدث في الغرب منذ عصر النهضة حيث احتفي بالجسد أيما احتفاء، يقول دافيد لوبرتون: "كتب تاريخ الجسد في مجتمعاتنا الغربية منذ عصر النهضة، ضمن عملية تطورية لإطار تقني وعملي ميزه عن الإنسان، نزع عنه القدسية واختزله في نزعة ميكانيكية غريبة". (ص 39 ـ مجلة عالم الفكر ع 4 مجلد 37 يونيو 2009). إن الدراسات العربية أعطت اهتماما كبيرا للروح على حساب الجسد، رغم أن أحدهما لا غنى له عن الأخر، فلا روح بدون جسد، ولا جسد بدون روح. إن منظمي مهرجان بني عمار زرهون الذي يديره الشاعر والإعلامي محمد بلمو منذ ثمان سنوات، يقدمون نموذجا متميزا في رعاية هذا التراث ومنحه ما يستحقه من الاهتمام والمساحة والجهد والتطوير، وهذا ما يحسب لصالح هذا المهرجان، كما تحسب له رعايته واحتفاؤه الفريد بالحمار ككائن قدم ويقدم خدمات جليلة للإنسان دون أن يقابله هذا الأخير إلا بالاحتقار والإجحاف والسخرية والعنف والاستغلال المتوحش.
كاتب وسيناريست مغربي