أتاح لي مهرجان القصبة السينمائي مشاهدة العديد من الأفلام التي كنت أرغب في مشاهدتها، ولعل من هذه الأفلام بشكل خاص، فيلم (أمريكا) للمخرجة شيرين دعيبس، والتي حضرت افتتاح المهرجان في مدينة رام الله وكان فيلمها هو فيلم الافتتاح. الفيلم يقع تحت خانة تصنيفه كفيلم روائي، وبذلك يخرج عن إطار الأفلام الوثائقية التي اعتدناها بشكل واضح في السينما الفلسطينية، فالأفلام الروائية قليلة ومحدودة، وربما أن الوقت الذي تحتاجه مع ارتفاع التكلفة وضعف الإمكانات تلعب دورها في ذلك. قصة فيلم "أمريكا" بسيطة تتلخص بالحديث عن امرأة (نسرين فاعور) تسكن رام الله وتعمل في مؤسسة مصرفية، تعاني مشكلات أسرية بسبب طلاقها وزواج طليقها من امرأة أخرى، لديها شاب في سن المراهقة (ملكار معلم). ترى زوجة طليقها في محل لبيع الخضار فتصاب بتوتر شديد وتغادر المحل فوراً. تتلقى الموافقة على البطاقة الخضراء من أمريكا عشية حرب الخليج سنة 2003، فتناقش ولدها الذي يشجعها على السفر ويرى في الهجرة مفتاح الفرج والفرح والمستقبل. تتردد قليلاً، ولكن ولدها يلح عليها ويقول متحدثاً عن والده: لقد أخذ قراره كيف تكون حياته، فلنأخذ نحن قرارانا، فتتخذ القرار وتذهب إلى بيت لحم مع ابنها لزيارة أمها وشقيقها ليكون السفر من هناك. تصل أمريكا ونشاهد سوء التعامل في المطار من رجال الأمن والجمارك. نرى الانبهار بأمريكا. تبحث عن عمل يناسبها فلا تجد إلا العمل في مطعم بخدمة الزبائن والتنظيف. ولدها ينجرف قليلاً إلى حياة الشباب الأمريكي؛ مخدرات وتدخين، ويواجه مشاكل عنصرية كما تواجهها أمه وأسرة شقيقتها المقيمة هناك.
هذه هي قصة الفيلم الذي رأيته، وحقيقة وجدت أن هناك الكثير من القضايا بحاجة إلى نقاش؛ فالسيدة لا تعاني من مشاكل مالية صعبة، فهي موظفة مصرف تكفل لها وظيفتها حياة معقولة، بينما يظهر الفيلم منذ البداية مشكلتها الاجتماعية، وبالتالي فإن الهجرة لأسباب مالية غير وارد، ورغم مشاهد الاحتلال على الحواجز واضطهاده للمواطنين، فهذا ليس بالسبب الكافي للتفكير بالهجرة، فالاحتلال يسعى جاهداً لتنغيص حياة المواطنين لدفعهم لمغادرة الوطن، ومع هذا نجد الشعب يتمسك بأرضه ووطنه، فلذا لم أجد في الفيلم أن هناك أسباباً مقنعة لهجرة هذه المرأة وولدها، حتى في فكرة تأمين مستقبله الدراسي، فالدراسة متوفرة بالجامعات الفلسطينية بشكل كبير، ولم أجد إلا أسباباً اجتماعية ركزت عليها المخرجة في المشهد الأول من الفيلم. مسألة أخرى بحثها الفيلم وهي معاناة أسرة شقيقة بطلة الفيلم من خلال إقامتهم في أمريكا، فهم يتعرضون للتمييز العنصري الذي يصل إلى حد التهديد بالقتل على خلفية حرب الخليج والعراق وأسامة بن لادن، وتقول شقيقة البطلة (هيام عباس): هنا لا يميزون بين العرب، فكلنا مستهدفين، وفي الوقت نفسه الذي تمكنت المخرجة بقوة من الإشارة إلى هذه المعاناة، فقد أشارت إلى معاناة المهاجرين من خلال انخراط الشباب بالحياة الأمريكية البعيدة عن تقاليدنا وعاداتنا من خلال ابنة الأخت الشابة، ومن خلال ابن بطلة الفيلم، ومن خلال الطفلة التي لا تتكلم إلا بالانكليزية ولا تتكلم العربية، رغم أن أهلها عرب ويتكلمون العربية، وهم يحنّون إلى الوطن، وظهر ذلك بالعديد من المشاهد الرمزية ولعل أهمها تنشق أخت بطلة الفيلم للزعتر وقولها: ما أجمل رائحة بلادنا، ومتابعة زوجها الطبيب (يوسف أبو وردة) للأخبار العربية، وتحسّره على البلاد وذكرياتها وحلمه بالعودة، في الوقت الذي تكون ردة فعل بطلة الفيلم سلبية تجاه هذا الحنين، فتقول لأختها: لكم خمسة عشرة سنة مهاجرين، ألم تنسوا؟ وتطلب من زوج أختها أن يخفف متابعة الأخبار العربية حتى لا يتعب نفسه.
هناك مسألة أعتقد أن ظهورها الرمزي كان خاطئاً، فقد ظهر الصليب في رقبة أخت بطلة الفيلم، وهذا أظهر وضوح الديانة، بينما المعاناة في الوطن شاملة لكل أبنائه بغض النظر عن ديانتهم، فجميعنا تحت الاحتلال نتعرض للاضطهاد والقتل والأسر، والجميع رافضون للاحتلال بغض النظر عن الديانة، وأرى أن إظهار الصليب قلل من شمولية الحدث على مستوى الشعب الذي يعاني من الاحتلال، ولا ننسى أن بعض الأقلام المأجورة كتبت في الماضي أن المسيحيين أقل ارتباطاً بالوطن، وأنهم هم الذين يهاجرون ويتركونه نهباً للاحتلال، بينما نجد أن الاحتلال الذي يسعى لتدمير الأقصى، هو نفسه من حاصر كنيسة المهد وقصفها بمدافع الدبابات وقتل فيها محاصرين مسيحيين ومسلمين، ولم يوفر كنيسة القيامة بإجراءاته القمعية، وفي الوقت نفسه نجد أن والدة بطلة الفيلم ترفض فكرة الهجرة بالمطلق حين تدعوها ابنتها لذلك، وتتمسك رغم عمرها وشيخوختها بالوطن. لذا فإبراز هوية الدين لم أجدها موفقة في الفيلم.
في خلال أحداث الفيلم نرى لقاء البطلة مع يهودي أمريكي من أصل بولندي، يصبحون أصدقاء ويقف بجانبها مع ابنها في مشكلة تواجهه، وهي إشارة واضحة أننا لا نعاني من مسألة العداء لليهودية كدين، فهي من الأديان السماوية الثلاث، ومشكلتنا مع الصهيونية كفكرة سياسية تتخذ من الدين وسيلة وستاراً، واليهود عاشوا بيننا منذ القدم باحترام. حين يفكر الابن بضرورة العودة بسبب المشكلات العنصرية التي تعرض لها، وتأكيده في الحوار أنه فلسطيني وليس أمريكياً، نجد البطلة تقول لابنها: يجب أن تصمد فأمريكا ليست لهم وحدهم. وسؤالي: لماذا لم تطرح فكرة الصمود في الوطن بدلاً من فكرة الهجرة والإصرار عليها؟ بحيث أنها استقالت من عملها في وطنها وقطعت جذورها فيه، ورغم أن وضعها في العمل والحياة الاجتماعية بين أهلها وفي وطنها كان أفضل، ففي مشهد تكرر مرتين في الفيلم وأثناء عمل بطلة الفيلم في المصرف الذي تعمل به، نرى مروحة الهواء تجعل الأوراق تطير وتتساقط عن المكتب، كأنها إشارة واضحة إلى فكرة الهجرة وطيران البطلة من وطنها إلى وطن آخر، وبدل وظيفة محترمة إلى وظيفة لا تحتاج مؤهل علمي.
الممثلين أتقنوا أدوارهم بطريقة متميزة، ولا يمكنني إلا أن أشير إلى قدراتهم الإبداعية في التمثيل، والمخرجة بذلت جهوداً كبيرة يشار إليها بإيجابية، هذه الجهود التي استحقت بجدارة الحصول على جوائز دولية، وإن كان لا يعفيها ذلك من إبداء الملاحظات ومناقشة الفيلم، والموسيقى في الفيلم كانت موفقة جداً، خصوصاً في المشهد الأخير الذي جمع الأسرة مع المهاجر اليهودي، دلالة على أن الشعب الفلسطيني لا يميز ضد اليهود كبشر ودين.
نَهيل نسمات كرمية
هل يمكن للحنين أن يتوقف؟ كيف يمكن للشوق أن لا يشدني إلى أماسي شمال ضفتنا ونسماتها التشرينية؟ سؤالان جالا في خاطري وأنا أجول شوارع رام الله ودروبها في نهاية أسبوع عمل، قطفت بعضاً من ياسمينات متعربشة على الحيطان، تفيأت ظلال شجرتي المفضلة التي أسميتها بركة، فقررت التوجه للتمتع بالنسمات الكرمية، وكالعادة في التجوال حملت بعض الكتب، وآلة التصوير، وقليلاً من الملابس، وبعض الاحتياجات التي لا بد منها لغياب عدة أيام. ودّعت رام الله بحب ووعد بلقاء قريب. اتجهت بي الحافلة شمالاً. كان الخميس منتصف تشرين. كنت ألصق وجهي بالنافذة أهمس لكل شجرة، ولكل صخرة: أعشقك يا وطني.. تخدش عينيّ مشاهد المستوطنات التي تعتلي قمم تلالنا المسلوبة، والمستوطنون الواقفون خلف الدشم الإسمنتية، وجنود الاحتلال في أبراجهم ومواقعهم المحصنة، والحواجز والدوريات العسكرية، فأهمس لروحي: لا بد أن يشرق الصباح الأجمل.
تضمني أماسي طولكرم بحب، فأتنشق عبقها رغماً عن أدخنة مجمعات القمامة في مدخليها، ورغماً عن سموم مصنع الكيماويات الإسرائيلي الذي زرعه الاحتلال بجوار الجدار. أجول الشوارع الكرمية مستذكراً أماسي ناعمة دافئة، وتاريخ مدينة طولكرم ودورها المميز في الجوانب الثقافية والأدبية، والشعراء والكتاب الذين أنجبتهم هذه المدينة الجميلة. أتأمل بعضاً من المباني التي ما زالت تحمل عبق التاريخ وحكايات الأجداد. أمر بجوار جامعة فلسطين التقنية (خضوري)، فأتذكر زيارتي لها في السنة الماضية وروعة اللقاء مع إدارتها وطلابها. أصل إلى بيت (وسيم) أخي الأكبر، فنقضي السهرة بالدفء الأسري، وأحدثهم عن شعوري بالألم من تقصير البلدية بإهمال التشجير والشوارع التي تمتلئ بالحفر والأتربة، فتحيل شوارع المدينة إلى لوحة شاحبة أكل عليها الدهر وشرب، حيث تحولت إلى بقايا صور وبعض من الذاكرة، فأسمع منهم ومن غيرهم من الأصدقاء في الأمسيات التالية الكثير من الشكاوى والقهر، فهلا التفتت وزارة الحكم المحلي لشكاوى المواطنين واستمعت منهم وراقبت الوضع عن قرب؟ سؤال يلح في الذاكرة من عاشق للوطن يحلم أن يراه دوماً أجمل.
الجمعة قضيته في لقاء أصدقاء، في المساء كنت ألتقي أحبة من طلاب خضوري، ضمنا مقهى جميل مرتفع يطل على المدينة من الأعلى، فأتاح لي فرصة التأمل في أحياء المدينة من خلال نظرة أكثر شمولاً. من نهار السبت قضيت قسماً منه في مدينة نابلس مدعواً إلى الغداء في بيت صديقي الشاعر محمد حلمي الريشة وأسرته الجميلة، وأطايب الطعام من تحت يديّ الأخت أم باسل والكنافة النابلسية الأصيلة الشهية المصنعة في البيت، لأعود في المساء إلى طولكرم وأنا أرقب غروب الشمس وأقرأ بعضاً من أشعار الريشة.
الأحد وفي العاشرة والنصف صباحاً كنت ألتقي جامعة فلسطين التقنية (خضوري)، لقاء شوق ومحبة، فأجول جنباتها مع طلبة يعشقون جامعتهم ومدينتهم، البعض منهم تخرج وما زال انتماؤه للجامعة كبيراً، أحتسي القهوة مع الأساتذة عامر ياسين وماهر قمحاوي، ومن ثم يرافقونني إلى قاعة محاضرات حيث رُتب لي لقاءً سريعاً مع الطلبة تجاوز الساعة، تحدثنا فيها عن الإبداع الأدبي والفني وتجربتي الطويلة في عالم الكتابة وآلة التصوير، وقد فاجأني تلفاز السلام المحلي باهتمامه بتغطية اللقاء وإجراء مقابلة معي، فشكراً لهم الاهتمام بمحافظتهم ومتابعة أخبارها، كما غطت الزيارة مشكورة وكالة معاً ببث خبر الزيارة واللقاء مع الطلبة ورئيس الجامعة.
بعد اللقاء مع الطلبة وجولة في رحاب الجامعة، كنت على موعد لقاء مع الأستاذ د.داود الزعتري رئيس الجامعة، وهو أول من حمل هذه الصفة في تاريخها، وحقيقة فوجئت بشخصيته الدمثة وروح الشباب التي تتملك روحه، فأكد لي اللقاء ما كنت قد سمعته عنه من الطلبة ومن أصدقاء من أهل المدينة، حدثوني عنه حين علموا أن لي زيارة للجامعة. كان لقاءً رائعاً ضم إضافة إلى رئيس الجامعة، د. سائد ملاّك نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، ود. حلمي سالم مدير مراكز البحث، والأستاذ رشيد الراميني مدير العلاقات العامة، والطلبة شادي ورامي أبو شمعة وعبد الرحمن صباح، المشرفين على منتدى خضوري الإلكتروني مع زملاء لهم.
تحدث رئيس الجامعة عن أحلامه بتطوير أول جامعة حكومية، فأشار إلى جهود زملائه وتعاونهم في تحقيق الحلم، حلم جامعة تحمل إرثاً طويلاً منذ كانت الجامعة معهداً زراعياً متقدماً يحمل اسم (خضوري)، وأصبحت الآن جامعة تحمل اسم (جامعة فلسطين التقنية)، كما أشار إلى المشكلات التي تعانيها الجامعة خصوصاً أن الكل فيها يحلم بالعودة إلى وحدة أراضي الجامعة، فالجامعة وكما حدثني وكما تحدث الأستاذ رشيد الراميني تعاني من استلاب أراضيها، فهناك 200 دونم استولى عليها الاحتلال في سنة النكبة، وخمسون دونماً مصادرة لما عرف بمقر الارتباط العسكري، وسلطة الطاقة تستولي على مساحات أخرى وتحيلها إلى مستودعات، ووزارة الزراعة استولت على قسم من الأراضي، وجامعة النجاح أخذت قسماً كبيراً من أرض الجامعة بما فيها القسم الذي يحمل حجر الأساس، إضافة إلى مدرسة الصناعة، ومعاناة طلبة الجامعة كما أهالي المدينة من سموم مصنع الكيماويات الإسرائيلي، فهل سنجد آذاناً صاغية تعيد الحق للجامعة كي يمكنها التوسع والنمو وخدمة الوطن؟ وهل نجد اهتماماً أكبر بالجامعة كما فعلت جمعية أصدقاء خضوري الخيرية التي ساهمت ببناء مبنى سكن للطالبات، وساهمت بتشطيبات الطابق الثالث لمبنى الهندسة وغير ذلك من النشاطات الداعمة؟
انتهي اللقاء مع إدارة الجامعة ورئيسها بدون أن نشعر بالوقت، قدمت من خلاله لمكتبة الجامعة هدية، عبارة عن نسخة من كتابي فضاءات قزح، ونسخة من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد حلمي الريشة أرسلها معي هدية للجامعة، واعداً مكتبة الجامعة بتزويدها بكل ما يقدمه أصدقائي الكتاب والشعراء والمبدعين، وقبل لحظات الوداع خاطبني رئيس الجامعة بقوله: إن الجامعة تفتح أبوابها وقاعة مسرحها أمام الكتاب والأدباء والشعراء والفرق الفنية والمسرحية، لتساهم الجامعة بإعادة طولكرم بؤرة ثقافية متميزة، وإدارة الجامعة ترحب بالجميع، وتولي الطلبة والمنتدى اهتمام خاص، فودعته بحرارة وروحي تحمل في ثناياها احتراماً خاصاً لإنسان يحمل في داخله انتماءً رائعاً، لأزور بعدها بلدة إرتاح ومقام بنات يعقوب، أجولها وألتقط الصور لها.
وها أنا في رام الله في هذا الصباح الجميل، عيناي ترنو للقدس التي تستباح ويستباح فيها أقصانا، أعود إلى محبوبة تسكن مني الروح ولم تفارقني، واقعاً وطيفاً جميلاً، أستعيد ذكرى أماسي كرمية، ودفء خضوري، ونابلس وجيوس بلدتي، أحتسي قهوة الصباح مع النغمات الفيروزية (يا كرم العلالي عنقودك لنا، يا حلو يا غالي شو بحبك أنا)، فأهمس لطيفي ووطني ومدينتي.. صباحكم أجمل.