جيلٌ يرحـل ونصٌ يقـيم

ديوان «لهذا أرحل» لصبحي موسى

شوكت المصري

إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قـدروا         ألا تفـارقهم فالراحلـونَ هُـمُ

هكذا طرح المتنبي منذ مئات السنين وجهةَ نظرٍ خاصةٍ في رحيلٍ من نوعٍ خاص، رحيل المقيم لامتناعه عن التعايش مع من يقاسمونه وجوده، ومكوثَ الراحل المستمسك بجوار من لا يمنعونه الفراق عنهم، ليبقى الرحيل حدثاً متعلقاً بموقف الراحل مما يودعه وليس بطبيعة الحدث الذي يقوم به. والرحيل حدثٌ متعلقٌ بثلاث مفردات: المكان (مِن وإلى)، والزمان (الواقع والمنتَظَر)، والشخوص (الأنا والآخرين)، وما طبيعة تلك العلاقة التي تنشأُ بينها جميعاً إلا دافعٌ إما للإقامةِ والتعايش وإما للرحيل والانفصال. وها هو صبحي موسى أحد شعراء قصيدة النثر المتميزين يقدم لنا في ديوانه الأخير (الصادر حديثاً عن "الدار للنشر" بالقاهرة) رؤيةً جديدةً لرحيلٍ جديد، لكنهُ رحيلٌ له ألمه الخاص وأسبابه المتشابكة، رحيلٌ لم تقم به الأنا وحدها لكن أنوات أخرى شاركتها ذلك النزوح إلى حيث لا مكان، بعد أن ضاق كل شيء، أو كما يقول "موسى" في نصّه:

"هنا لا أمان ولا صدق   أبعد من حدود الجسد"

لقد حمل لنا ديوان صبحي موسى الأخير فلسفةً خاصةً وشموليةً في الوقت ذاته، وقد اكتسبت تلك الفلسفة شموليتها من نجاعتها وقدرتها على التعبير عن همٍّ جماعيٍّ تُصوِّر ذاتٌ فردية جوانبَه المختلفة وتنفذُ إلى أعماقه وتحلِّقُ في فضاءِ عتمته متحسسةً بصيصَ أملٍ تشتَّتَ لتعلن بعد فقدها له رحيلها المدوي. إنهُ رحيلُ جيلٍ كامل لم يجد في مكان حلمهِ سوى خارطةٍ حدودها الضياع والغياب وتضاريسها التسلط والصلف والهيمنة، خارطةٌ كل ما تحمله من تاريخ مشرّف يخبت أمام حاضرٍ معيب مفتضح هلاميّ.. هكذا ودونما مقدمات قرر ذلك الجيل رحيله ولكن بعد أن يتركَ علامةً على وجوده الذي كان، علامةً ربما تتكفَّل وحدها بإثبات نسبهِ وملكيتهِ ووجوده كله، وقد كانت تلك العلامة هي القصيدة، ورغمَ كونها قصيدةٌ جديدة ومغايرة إلا أن مغايرتها تستند إلى قوة مغامرتها بكل شيء حتى بتلك الذات التي كتبتها، تلك الذات التي رفضت تنميطها ونمذجتها فقررت الخروج حتى على نفسها، لقد رأت في الشعر خلاصاً حريٌ بالتحقق فسبرت أغواره ولكن وفق وجهةٍ جديدة ملؤها المعاناة والألم فهما كما رأى ذلك الجيل قوام الشعر، يقول موسى:

" لا أحد يعرف الشعر أكثر منا، ولا أحد يصدق أننا نقول شعراً أفضل مما يقوله العظماء،

ليس لأننا نملك ما يملكونه من اللغة؛ ولكن لأننا الذين نملك المعاناة".

لقد كانت هذه المعاناة بالفعل المكون الأساسي للكتابة وهي ذات السبب الذي دفع إلى الرحيل، إنها حدثٌ مزدوج: ظاهره الرحمة (القصيدة)، وباطنه العذاب (الرحيل).

ولعل تلك المعاناة لم تكن دافع هذا الجيل وحده للكتابة فقد رزحت الأجيال السابقة عليه أيضاً تحت نير تلك المعاناة المستمرة، والتي مثّلت لديهم دافعاً للثبات والمقاومة الدائمة، فقد انسربت فعاليات مقاومتهم داخل كل شيء بدءاً بنصوصهم التي حدت نحو التمركز حول تقنياتهم وانتهاءً بمواقفهم ومواقعهم التي رفضوا الرحيل عنها ولو بالموت،  لكن موقفهم ذاك اكتسب وجاهته بناءً على أملٍ مستمر في غرس نبتة حلم يستطيعون قطاف نواتجه يوماً ما، أو ربما يجني قطافه القادمون بعدهم.. هكذا فعل أمل وعبد الصبور والبياتي ودرويش وهكذا يفعل ويعلن مطر وأدونيس وبقية المرابطين على ثغور الحلم الأكبر الذي ولدوا على ضفافه.

لكن الأمر اختلف تماماً على كافة الجوانب والمستويات والأصعدة، فقد فَقَد الحلمُ جماعيته واتساعه وروعته، عبثت به الأيدي واستظل المرتزقة بشجيراته وامتصوا عصارته فسقطت وريقاته وذبلت ثماره ليفيق الجيل الحالي (جيل قصيدة النثر) على اللاشيء الممتد.. جيلٌ أُسكنَ الهامش في كل شيء ورأى بعينيه العبث بمتن كل شيء؛ فوضع على عاتقه فضح كل شيء بدءاً بمعاناته وانتهاءً بإعلان رحيله المبكر. ولم يكن حضور التفاصيل اليومية في نصوص ذلك الجيل إلا موقفا ضداً تجاه قسره على سكنى الهامش؛ لذا قرر أن يجعل من هامشه متناً يفرض حضوره على الجميع إن لم يكن بفعل المعنى وسعة التخييل فبقوة النص وإمكانية التأويل. ولم يكن ذلك مطلقاً على حساب الناتج الجمالي أو الدلالي للنصوص لكن المفارقة الحقيقية تكمن في استهدافهم إعادة طرح مفاهيم جديدة كان الشعر أقلها حدةً إذا ما قيس بجملة التحولات التي عرفها ذلك الجيل سواءً على المستوى الاجتماعي، أو الثقافي، أو السياسي، أو الفني بكل تأكيد، ذلك الأخير الذي قرروا صياغته والتفرد به بعد أن قُسِروا على قبولِ تهميشهم على كافة الأصعدة الأخرى.

لهذا قرر صبحي موسى الرحيل والخروج هرباً من اللاشيء العام ولو إلى اللاشيء الخاص، فهذا سيكون في النهاية قدره الذي اختاره هو، ليصبح الهروب موقفاً استراتيجياً تتبناه الذات للإعلان عن رفضها لوجودٍ نافٍ مهيمن أو كما يقول "موسى" :

" هو الهروبُ يا أبي ولا فضلْ ، هو اله ـ ـ ـ ـروبْ ،

ففي أرضِ الله الواسعةِ نقطَعُ المسافاتِ ونحتسي

الترابَ ، ولا نصنعُ من عظامنا خبزاً لأح ـ ـدْ . "

هكذا في أربعةَ عشرَ نصاً شعرياً يقدم لنا صبحي موسى بانوراما رحيلٍ متنوع، رحيلٌ تقاسمه بالقسط ذاتٌ وآخرون، حيث أفرد الشاعر سبعةَ نصوصٍ لرحيل ذاتٍ مجهدة لعلها أناهُ التي أُنيبت عن جيلٍ بأكمله، بينماً رصد في سبعةٍ أخرى رحيل الآخرين على تنوعهم واختلافهم واقترابهم وابتعادهم وشموليتهم واختصاصهم، رحيلٌ مفاجئ أو بطيء،  صامتٌ هادئٌ أحياناً، أو صارخٌ مضطربٌ أحياناً أخرى، ولكلٍ إيقاعُهُ المتنوع الذي يستمر حتى النهاية تاركاً دوياً متداخلاً في خواءِ الصمت بعد رحيل القارئ أيضاً.

" فثمةَ شيءٍ صغيرٍ ضائعٍ لم نَرَهُ منذ رحيلنا

ربما كنا نحنُ هذا الذي

لا تعيدُهُ الرصاصاتُ الفارغة".

لقد افتتح موسى ديوانه بمجموعةِ نصوصٍ أطلق عليها "ما تبقى من جثتي"، تلك النصوص تحمل رؤيةَ ذاتٍ مثخنةٍ بفوضى الإنسان، ذاتٍ رافضةٍ لهيمنةٍ فجة يرزح تحت نيرها العالم كله، هيمنة قطبٍ أوحد حوّلَ كلّ المنجز الإنساني إلى خدمةِ وجوده السافر، لتصبح الشرعيةُ ستاراً وهمياً يخدمُ مصالحه فقط. لقد حمَّل موسى نصوصَهُ برؤيةٍ خاصةٍ تتمثلُ موقفاً جمعياً مما سميَ بحرب الخليج ثم مشروع الشرق الأوسط الجديد، رؤيةٌ قوامها رفضٌ لا ينتصرُ لفئةٍ على حساب أخرى بقدرِ ما ينتصر للإنسانية عموماً، إنهُ رفضٌ للتسلط وهيمنة القوة والديكتاتورية وجنون القتل:

"... اِسمي؟!

فقدته هناك

كان يجلس بجانبي ، يتناول الشايَ

ويحكى عن طفولته وسط الحصارِ

وحلمه أن يصبح ديكتاتوراً ذات مساءْ؛

لأن هؤلاء وحدهم  هم القادرون على منحنا اسمًا".

لكن موسى لم يقتصر في نصوصه تلك على ذلك الموقف الإنساني العام، لكنه حمّل نصَّه برؤيةٍ لها أبعادها القومية والإقليمية الخاصة، تلك الأبعاد التي يحاول عبر نصِّه تسجيل موقفٍ منها، ذلك الموقف الذي أُجهضت فعاليته مسبقاً نظراً لتوجّهٍ رسميٍ لم تكن تلك الذات يوماً ما من بين شواغله مطلقاً؛ فقررت تلك الذات إعلان موقفها الرافض له، يقول موسى : 

" قالوا كونوا قردة وخنازير، كونوا قاطعي طرق أو حاملي قرب لعابري السبيل،

كونوا موتى وهراءً، فأمركم لا يشغل أحداً،

لأننا نفصِّل خارطةً في حجم راحة اليد، لا تتسع لبقائنا وبقائكم معاً". 

ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل نفذ موسى إلى كنه المواجهة بين المستعمِر والمستَعمَر، وفنّد مفرداتها، إنها قوةٌ مسلحةٌ غاصبةٌ قاتلة تواجه الحياةَ ذاتَها بكل مفرداتها وتفاصيلها، تلك التفاصيل الضعيفة على كثرتها؛ لا لشيء إلا لأنها تواجَهُ بفردية الموت الطاغي:   

" قلنا: هم مسلحونَ ونحن عزَّلْ،

هم مسلحونَ .. ونحن نمتلك بيتاً، ومصطبة، وموقد شاي،

وعصيًا نضرب بها الأرض كي نوقن أننا أحياء".

ولم يكن ذلك النفاذ مبنياً على رؤيةٍ آنيّة منبتّةٍ عن الماضي، لكن الذات امتلأت يقيناً بضرورة استنادها إلى ماضيها وتراثها ودون مزايداتٍ فجّه، وقد تبدى ذلك تماماً في ذلك التضمين الذي توسل به النص في أكثر من موضع، ليس فقط تأكيداً على تاريخ تلك الذات المبدعة، ولكن شهادةً على أحقيتها في ذلك التاريخ والتراث وتعزيزاً لموقفها ورؤيتها لقضاياها المعاصرة، يقول موسى عن الاستعانة بالقوات الأجنبية ضد العراق، والتي خلّفت استعماراً جديداً ربما لن ينتهي:  

         " آه يا أصدقاء... ماذا سنقول للمتنبي، هل اشترينا العبدَ ولم نشْرِ العصا معهُ؟!"

لقد أجهض صبحي موسى وغيرُه من شعراء قصيدة النثر تلك المقولات الدارجة التي تتهم قصيدتهم بالخواء الموضوعي والمعرفي، إنها ليست كذلك مطلقاً وإن أوهمت مباشرتها اللفظية بذلك، فقصيدة النثر تتفرد بتقنياتٍ كتابيةٍ خاصة يأتي في مقدمتها الوصف التفصيلي، والمباشرة اللفظية، وإيقاعية الحدث، وهذه التقنيات ليست تعني بالتسلسل أيضاً غياب المجاز، والمباشرة الدلالية، والافتقار إلى الموسيقى، فالبون بين الأمرين شاسعٌ تماماً، فالمباشرة اللفظية مثلاً تختلف عن المباشرة الدلالية، إذ الأولى تعني شيوع اللفظ وليست مجانيته مما لا ينفي عمقه وقيمته التداولية، إما الثانية فتقصد إلى طبيعة بناء نسق المعنى وإمكانية انطوائه على بعد رمزي ومدى فاعلية تحقق ذلك البعد.    

 " أمي التي.. لم يكن المعلمونَ في زمانها ليقولوا

إن البحر أكبر؛ لكن النهر يأتي من السماء..

كانت تعطر نفسها كل مساء وترحل  حيثما الماء رحلْ".

 " كان المعلمون في المدرسة يقولون: إن الماءَ

نتاج  تزاوجٍ بين  الهيدروجين والأكسجين،

ويرمزون له ب ـ (H2O)

لكنها لم تصدّقْ،  فلا يمكن للحلم الكبير أن يغرقْ

ولا يمكن للأنهارِ أن تصبحَ  مجرد حرفين ورقم".

لقد استشعرت الذات الموسوية انتفاءها القائم، فقررت التواصل مع المنفيين والمهمّشين والراحلين، فما لبثت أن أعلنت وجهتها، تقرأ آثار الراحلين ودوافع ونواتج رحيلهم، تقرأ آلامهم وأحزانهم وأفراحهم القصيرة، فكانت الكتابة، وكان النص تواصلاً تعلن فيه الذات أحقيتها في تراث لا يستطيع أحد انتزاعه منها:  

" أنا الآن أعد رسالةً إلى أناس لا أعرفهم، فليس هناك ما يجمع بيننا

سوى أنني كلما جلست في الأماكن التي جلسوا فيها أرى أعمارهم التي تركوها،

أرى ترابهم، وأشجارهم، وقطع الأثاث التي نحلتها مقاعدهم، أراهم يقولون: اكتب لنا".

" هل يمكن هكذا أن ننسى من رافقونا طيلة السبل؟!

هل يمكن أن نعبر على أجسادهم كما لو كانوا محض جيف لا نعرفها؟!

... كنا نستحم على أيديهم، نعارك الأطفال على حسهم،

ونمشى في الظلمة دون خوف؛ لأنهم كانوا بداخلنا".

هكذا قررت الذات الموسوية التواصل مع الراحلين وقراءة رحيلهم، على تنوع شخصية الراحل وتعدد طرائق الرحيل، فتارةً يكون الراحل شخصيةً بسيطة يكشف النص عمق حضورها لدى الذات كأمه وأبيه الرحالَيْنِ إلى معرفةٍ بسيطةٍ أوّلية في مقابلِ عالمٍ معقدٍ مزدحمٍ خاضت غماره الذات الموسوية، أو أخيه الراحل موتاً تاركاً حياتَهُ المعلنةَ في كل شيء والتي تقرأ الذاتُ تفاصيلها عبر النصّ الشعري: 

" ها أنت تتسلل من بين الجدران والعتمة

كي تتشمم روائح الذين عبروا على جثتك

وبقايا أطعمتهم.. تتشمم سجائرنا ونكهة البرد

وانقطاع النسوة في انتظارك على أبواب الطرق".

أو رحيل الشاعر/النص الذي مثله "وديع سعادة"، كشخصيةٍ تركت آثارها داخل وعي الذات، لا لشيءٍ سوى لوداعتها في مواجهة كلّ من أرغموها على رحيلٍِ عن القصيدة مبكّر:

" رأيتُكَ؟!

نعمْ، فلا مجال للشكِّ  حين يحلم المرء بنبيٍ

أو يرى سيداً وديعاً يصافحُ الذين قتلوهُ

بأكثر مما ينبغي للوداعة أن تكون."

ولعل الذات الموسوية لم تجد من سبيلٍ لتحقيق قراءتها اليقينية الأكثر التصاقاً بأولئك الراحلين سوى إعلان رحيلِها هي الأخرى، ذلك الرحيل الذي تستحق نواتجه المغامرة بأيّ شيءٍ بل بكل شيء، وخاصةٍ التضحية بتلك الطمأنينة المجتزأة لإقامة هامشيةٍ مهددةٍ دوماً بالنفي المطلق:

" هل كُتب علينا أن نعد أجس ـ ـ ـاد الراحلين من أمامنا

ونحمّلهم السلام إلى الغربة التي قرروا الذهاب إليها؟! "

لقد كان رحيل تلك الذات المرتعدةِ إلى الكتابة وبها، رحيلٌ إلى النص؛ لأنه وحده حاملُ الخلاص الخاص، والناطق الأمثل باسم الوجود، والمعادل الوحيد لعدم الصمت ، ذلك الصمت الذي هو الموت وإن تعددت أقنعته التي توهمُ بحياةٍ شبه مستمرة:

" أيها الأصدقاء ما عاد بيننا ذلك العهد القديم، فقد سئمت الثرثرة، والمناورة،

سئمت قصائد الشعر، وسئمت الحكماء، واللحى الحليقة، والعيون المريضة بالصحف،

 سئمتكم.. ولا عقد بيننا على الصمت".

لقد قررت الذات الإفصاح عن وجودها، وحمّلت نصها أيضاً مسؤولية الإفصاح عن وجود أولئك الراحلين الذين سبقوها إلى هناك، حيث لا منفى ولا هامش ولا سقوط في بئر الإثم والنسيان، ورغم هدوءِ ذلك الرحيل الذي أعلنت الذات قيامها به، إلا أن قائمة الدوافع التي استندت إليها الذات في رحيلها تثير زوابع لا تنتهي حدتها، لأنها وبكل بساطة دوافعٌ يمكن أن تعصف بكل شيء:

" لست نادماً 

لأنني منذ جئت عولت على ألا أفرح

وقررت أن أترك نفسي  تنساب على الأرض

فلا شيء يمكنه أن يمنع رجلاً من الحياة

غير التحفظ والخوف".

" أرغب الليلة في أن أخرج. لن أثير الزوابع ولن أنفخ في الصور كما تتوهمون، لكنني

سأرحل بجسدي إلى الطرقات التي يتوهُ فيها كلُّ شيء، سأرحلُ حيث المستنقعات،

والبرك، حيث ضجيج الحياة، غيرَ مخلفٍ عناوين يطاردني فيها الذين يرون أنفسهم آلهة وأنا

عبدهم الكلُّ على مولاه، فما أجمل أن يسوح الإنسانُ بين الخرابات والبيوت،

 ما أجمل أن يكون ملاكاً يرفع ثيابه عن الوسخ".

إننا بالفعل أمام لحظةٍ شعريةٍ خالصة تركت لتفاصيل ذاتِها التي تعيشُها الحرية في الحركة والوجود، وعلى الرغم من قدرة تلك الذات على صياغة مفرداتها نصاً واستحضارها في عمقها الدال وتجريدها من سطحيتها ومباشرتها البادية للعيان؛ إلا أن بعض نصوص ذلك الديوان قد استغرقت أحياناً في حشد تلك التفاصيل بصورةٍ أحالت النص الشعري إلى سردٍ محض للمفردات، بصورةٍ تجعل من الإطباق على عمق التفاصيل أمراً غير ممكن إن لم نقل شبه مستحيل. هذا ما حدث بالفعل في النص الثالث عشر من ديوان "لهذا أرحل"، والذي عنونَ له الشاعر بعنوان "رجلٌ لا يحبّ"، لقد احتشد هذا النص بلغةٍ لا ترقى مطلقاً إلى بقية نصوص الديوان، حدةٌ وصلت حد الهتاف التقريري، وإشباعُ حكيٍ يصل بالمتلقي حد السقوط من الإعياء، حالةٌ يبدو لي أن موسى لم يقبض عليها جيداً، أو يبدو لي بالمقابل أنه تعمّد الاسترسال السردي المحض فيها لحاجةٍ في نفسه لم ينجح في تبريرها نصاً، وقديماً قالوا بأن الشاعر يجوز له ما لا يجوز لغيره، وإن كنت أؤمنُ أن ذلك التجاوز محدودٌ ومحكومٌ نسبياً، إن لم يكن بتقنيات عامة يفترضها النقد أو التلقي، فبتقنيات الشاعر الخاصة التي يعتمدها داخلَ نصوصِه.

والغريب في الأمر أن هذا النص توسّط بين نصين من أفضل قصائد الديوان هما:القصيدة الأخيرة"لأنني لا أقدر على الحرب"، وقصيدة "كرسيٌ لا يريح أحداً"، تلك القصيدة التي احتشد فيها موسى بقدرةٍ لا محدودة على الحكي، تنثالُ عليها الشعرية من كل صوب وحدب، والتي تتمثلُ عرضَ شخصيةٍ مهمَّشةٍ غريبةٍ راحلة، إنهُ نجّارٌ لم يقدر على مواكبة عصرٍ لا يعرف سوى جبروت الإنتاج وجنون الاستهلاك؛ فاستسلم للموت حاملاً معه ألمه وحزنهُ وحسرته، لكنه لم يكن يدرك أن إخفاقاته التي آلمته ودفعت به إلى الاستسلام ستكون يوماً ما شاهداً على وجوده ورحيله ولو داخل نص ذاتٍ مرهقةٍ هي الأخرى، ذات شاعرٍِ يعلنُ رحيله على غلاف ديوانه "لهذا أرحل"، يقول موسى عن ذلك النجار المهزوم:

" حين رأيته كان حزيناً ومرهقاً، لأنه مثلنا لا يحب الموت، ولا يرجوه لأحد،

لذا طلبت منه أن يصنع كرسياً أقرأ من عليه الشعر والقصصْ،

فأحضر قادومه ومنشاره وقطع الشجرة التي كنا نستظل بها قائلاً:

منها كرسيٌ ومنها تابوت ينفع في السفر".

" يا لهذا النجار! لم يعش حتى يرى كرسيه وقد أصبح عرشاً، فحين أنجز مهمته ظل يصفقُ،

ليس من روعة العمل بالطبع، ولكن لأن الفكرة التي بحث عنها كثيراً كانت قد تبلورت في كرسيّ،

 فظل يرقص حتى مات".

" حين مات لم نكن بالبيت، وما كان لمن كفنوه أن يدركوا أن أفضل ما يدخل به نجار إلى قبره

كرسيٌ لا يريح أحدًا".

إن صبحي موسى الذي يمارس الكتابةَ الأدبية بكافةِ أجناسها وأنواعها منذ أوائلِ التسعينيات وحتى الآن، والذي يمتلك مشروعاً أدبياً جديراً بالوقوف أمامه بكلِّ حرصٍ وتقدير وحذر - لم يعد ذلك الكاتب المجزأ هنا وهناك، فبعد أن استنزَف مجازَ الشعر في أكثر من خمسة دواوين أطفأ أولُها "يرفرف بجانبها وحده" جمرَ الرغبة في النشر وإعلان الوجود، وتنوعت البقية بين الاستغراق في خصوصية الذات في" الغرفة المغلقة، وسياحات جلال الدين" وبين استقراء الشخوص والأحداث التاريخية وإسقاطها على الواقع المعيش في "هانيبال"، وبعد أن سكب شهوةَ الحوار المضطرم بداخله في أربع أو خمس مسرحياتٍ سياسية واجتماعية وتاريخية أذكر منها:" جمهورية يان ، وأوراق الجد، وحصة تاريخ، والأوراق الأخيرة"، وبعد أن جسّد فتنته بالسرد والحكايا في خمس روايات مفعمةٍ بالأساطير والوقائع والشخوص توّجها بعملٍ روائي قيد النشر هو:"أساطير رجل الثلاثاء"، يبدو أنه عرف وجهته بالفعل بعد كل ذلك، واستطاع تخليص رؤيته النوعية في الكتابة من شوائبها العالقة، وهو التخليص الذي ربما افتقر إليه كثيرون من مناظريه وأبناء جيله، فقصيدة النثر تعاني بالفعل من عدم تحققها نصاً بشكلٍ حقيقي، لأنها نصٌ يدفع الكثيرين إلى الاجتراء على الكتابة، وزعم امتلاك القصيدة، وهو زعمٌ لا يستطيع الفصلَ في مدى صدقه وحقيقته سوى مستقبلٍ ليس ببعيد.

ها هو "صبحي موسى" الذي لا ولم ولن يرحل، يعلن إقامته داخل نصّه/قصيدته، ورحيله عن سواها، متمثلاً قول الشاعر المصري الكبير "عفيفي مطر" :

 " أعلنت ميثـاقَ الإقامةِ بالرحيـل،

وتركتُ وقعَ خطايَ في سرِّ الشجر".  

هاهو موسى يقيمُ في رحيلهِ أيضاً، طارحاً رؤيةً شعريةً جديدةً لرحيلٍ (وإن لم يكن جديداً في طبيعته كحدث) فهو جديدٌ في دوافعه ومفرداته ونواتجه، رحيلُ من أُطفِئَ أملُهُ فأوقد شمعةَ نصِّه، ومن سُلِبَ حُلمُهُ فأيقظ ليلَ واقِعِهُ، ومن أُسكِنَ هامشَ أرضِهِ فأعاد ترتيب فضاءِها، طارحاً كلّ شيءٍ داخلَ حيّز المساءلة، لم يبرئ أحداً ممن قاضوه هو وجيلَهُ، حمَلَ الضعفاءَ والمنسيين والمقهورينَ داخلَ نصّه، حملَ أحلامهم وغيابهم وأماكنهم ومنافيهم، أراد لهم الوجود فوق أرضهم فأحصى رمالهم تواريخهم وذاكرتهم بكلّ ما فيها ومن فيها من آخر الحلم إلى أول الظُلْم ، ومن آخر الكتابة إلى أول القراءة.. هكذا بين لعنة الصمت وجحيم الكتابة هتف صبحي موسى بكلّ ما لا يملك من وجود، معلناً رحيله إلى هناك ، حيث الشعر والقصيدة والنص، حيثُ كلّ ما يستطيعه من وجود:

" كنا صغاراً يا أبي؛ نسعى حفاةً تجاه العَلَمِ والطابورِ والمدرس،

ونردد بلا وعىٍ: تحيا البلاد البعيدة .. تحيا البلادُ التي تعني الوطن .

و في العسكرية كنا نضرب بأقدامنا الأرضَ فنزلزلها، ونعدُّ البلادَ في قلوبنا- قرانا

التي لا نعرفُ مواقعها على الخريطةِ، هكتاراتِ الرمل التي تحاصرنا من كل صوبْ،

شكلَ الحديقة التي نحلم بامتلاكها، وجهَ الجنرال الذي سخّرنا للعمل في بيته.. نحصي كل شيءٍ ونهتفُ:

(يحيا الوطن الذي لا نعرف مداه

يحيا الوطن الذي لسنا كلنا فداه..)".