بينما يتجسد العجز العربي في الوقوف ذاهلا أمام عمليات تهويد القدس المتسارعة، يكشف لنا الناقد الفلسطيني المرموق في هذه الدراسة عن أن الكاتب الفلسطيني استطاع بعد رحلة طويلة من التناول السردي لها أن يبلغ في رواية (قلادة فينوس) درجة عالية من النضج في التعامل مع المكان وبلورة حمولاته التاريخية والفكرية والفنتازية معا.

القدس المحتلة في السّرد الروائي الفلسطيني

من الاكتفاء بوصف المكان إلى محاولة توظيفه

وليد أبوبكر

(1)

أيّ حديث عن القدس، حين يتعلّق بالذاكرة أو الحنين، اللذين يرتبط بهما التعبير الأدبي بشكل عام، غالبا ما يختصر مساحة المدينة على الفور، ليحصرها في القدس القديمة، القدس داخل السور، بما لهذه المدينة الفريدة من خصوصية تعود إلى أسباب متنوعة، من بينها أنها تتشكل من مجموعة من العناصر التاريخية والدينية والثقافية المرتبطة بفلسطين، والتي تتآلف لتكون رمزا لهذا المكان المقدّس، بالمعنى الشامل للتقديس، مع أن هذه القدس، القدس الوجدانية، لا تشكّل إلا نسبة صغيرة من المدينة التي امتدّت واتسعت خارج الأسوار، منذ قرون عديدة. ولم يلتفت الأدب الفلسطيني إلا للقدس القديمة، وفي بعض الأوقات لأجزاء من خارج السور، لكنها تكاد تكون امتدادا لما هو داخله، مثل شارع السلطان سليمان القانوني، أو شارع صلاح الدين، أو شارع الزهراء، وكل شارع منها متصل بسابقه، بينما يبدأ أولها موازيا لأسوار المدينة. ومن الممكن القول إن القدس تشكّل هاجسا أوّل لدى أيّ كاتب فلسطينيّ، (وربما أيّ كاتب يعرفها)، وهو يتمنّى أن يكون قادرا على تقديمها في عمل أدبيّ مميّز، خارج نطاق الشعر، الذي لا تستطيع اهتماماته أن تخرج عن ذاتها كثيرا، بينما تكمن في نطاق السرد الروائيّ إمكانيات أوسع للتعبير، تناسب المدينة، أية مدينة، ومن خلال هذا السرد، غالبا ما يتطلّع الفلسطيني الكاتب أن تكون القدس جزءاً من نصّه.

لهذا السبب، قد نجد كثيرين جرّبوا، من باب المحاولة الجادة، أو توهّم المقدرة، وقد نرى بعض ما يحاول أن يقول شيئا عن القدس، ربما بنية حسنة، لكن السؤال الذي يبقى مرافقا لمعظم هذه التجارب يقول: في زمن السرد الروائيّ، الحديث نسبيا في اللغة العربية، والأقلّ عمراً في فلسطين من ضمن ذلك، والذي يتقدّم في مستواه الفنّي، وفي علاقته بالمكان: هل استطاع الكاتب الفلسطيني أن ينجز مشروعا سرديا يمكن أن يقال إنه يليق بالقدس العربية، أو يطاول قامتها، كمكان تاريخي ومقدّس، أو مكان مهدّد بالتهويد؟

في الحديث عن موقع القدس القديمة المحتلة في السرد الفلسطينيّ، لن نميل إلى رصد تلك المحاولات الأولية التي يصعب أن تنسب إلى فنّ الرواية، لأنها تقترب من مذكرات شخصية إلى حد ما، سجل فيها بعض أبناء القدس ـ مثلاً ـ شيئا عن نكبتهم إثر ضياع المدينة، كما فعل نبيل خوري أو ناصرالدين النشاشيبي، ولا عن الذين لمسوا القدس من خارجها وحسب، في طريق اهتمامهم بالكتابة عن مدينة أخرى، هي مكانهم الحميم، كما فعل جبرا إبراهيم جبرا، الذي لا نستطيع أن نتلمس القدس في كتاباته كما نتلمس بيت لحم، ولا عن الكتابات الساذجة المنتشرة في بلادنا، ومن بينها ما يحاول التسلّق على مكانة القدس، أو محنتها، وتسخيرها لصالح ما يكتب، دون وعي بالكتابة ورسالتها. وفي هذا الباب أسماء كثيرة وكتابات عابرة كثيرة، لا تستحقّ التوقف عندها، أو الإشارة إلى أمثلة منها، حتى من باب الإحصاء. ما سنتوجه إليه، هو محاولة النظر في كتابات جادّة، أنتجها كتاب جادون، كان واقع القدس هاجسهم، فكتبوا ما يؤهل ما كتبوا للانتساب إلى الكتابة الأدبية، وما يؤكد أن أقلامهم لا تتطلع إلى القدس لغرض شخصيّ، يكون خارجا عن سجايا الكتابة ومقاصدها، حتى وإن كانت العاطفة هي التي أملت ذلك في بعض الأحيان.

*     *     *

في البداية، يمكن الإشارة إلى توجهين عرفهما السرد الفلسطيني، الذي لم يُعرَف كثير منه قبل "النكبة"، وتضاعف إنتاجه مرات عديدة بعد "النكسة"، ما جعل معظم الناس كتّابا بعد أوسلو: التوجه الأول هو ذلك الذي افتتحه إميل حبيبي في الكتابة عن المكان الفلسطيني، وحظي بالانتباه النقدي، حين سرد أسماء القرى الفلسطينية التي دمّرها الاحتلال الإسرائيلي تدميرا كاملا، حتى لا تضيع هذه الأسماء ولا مواقعها، من الذاكرة الجمعية الفلسطينية. هذا الطريق الذي اعتبر في حينه جديدا ومميزا لكتابة حبيبي، والذي اعتبره كثير من الكتاب طريقا لا بدّ منه، ينظر إلى مثله عادة، كعلامة مسجّلة في الأدب، أو ملكيّة فكرية، معنويّة إلى حدّ كبير، مثل كلّ فتح جديد في الكتابة، وبالتالي فإن كلّ من يسير في الطريق ذاته، أو كلّ ما يسير، لا يصحّ أن يعتبر أصيلا، لأنه يدخل على الفور في باب التقليد.

أما التوجه الثاني، فيتمثل بسبق القصة ـ المقدسيّة خصوصا ـ إلى الاستناد إلى وقائع مقدسية وأماكن. كان "مقهى الباشورة"، بين يدي خليل السواحري، فاتحة لهذا التوجه، الذي كرّسه محمود شقير في كثير من كتاباته القصصية، ثم وجد بعد ذلك من يتابع الطريق من الشباب، على قلة ما نشر من ذلك. هذا التوجه لا يستطيع أن يكتب رواية القدس، أو رواية عن القدس، لأن القصة تعمل على أن تكون لقطة مقرّبة بليغة، في شأن محدّد، أو فكرة بذاتها، ولا تستطيع ـ إلا نادرا ـ أن تتحوّل إلى مشهد بانوراميّ شامل، لا بدّ منه لرواية عن القدس، كمكان شديد الثراء في كلّ تفاصيله وأحداثه، وشديد التأثير في كلّ من يعايش هذه التفاصيل والأحداث.

(2)

وصف المدينة ليس سهلا، وهو يحتاج إلى معايشة طويلة ولصيقة، وإلى معرفة علمية بطرق وصف الأمكنة، وربما إلى تفرّغ كبير لهذا الشأن، ما زالت القدس تنتظر أن يقوم به فريق متخصص، رغم كل ما كتب عنها عبر جميع العصور.

لكن الانطباع الذي لا يحول، يمكن أن يكون كافيا في حالتنا التي تتطلع إلى القدس كمكان روائيّ محتمل، يمكنه أن يعزّز العمل الروائي ذاته، بأن يفتح أمامه احتمالات الحركة المكانيّة والزمنية معا، إضافة إلى ما يأتي به من كشف صريح للمزاعم والأساطير التي تحاول أن تُقدّم كوقائع، ومن دعم لعروبة المدينة التي يبذل الاحتلال كلّ جهد ممكن، بما في ذلك ما يشار إلى أنه يقوم به من ممارسات لا تعفي ما يكمن تحت سطح الأرض، بهدف الإيهام بارتباط ماضي القدس، بتاريخ مخترع، يبرّر ما يجري من تهويد لحاضرها الأليم.

وبالرغم من تعدّد أبواب القدس، التي تنفتح على مناطق مدروسة من السور الشامل الذي يحتويها، وتوصل إلى مواقع لها أهميتها داخل المدينة، مثل المسجد الأقصى (باب الأسباط أو باب المغاربة)، وكنيسة القيامة (باب الخليل)، إلا أن الدخول إليها، كمدينة، غالبا ما يبدأ من (باب العامود)، أوسع أبوابها، وأهمّها انفتاحا على تفاصيلها، كما أنه ينفع كطريق نحو كلّ الأماكن التي تنفتح عليها الأبواب الأخرى، ويخلق انطباعا بأنه يشكل نقطة البداية، في الهندسة القديمة التي قامت عليها المدينة، التي يبدو أن تفرّعاتها رسمت انطلاقا منه. بعد فسحة صغيرة ودرج عريض، يقف الداخل إلى المدينة القديمة أمام اتجاهين يشكلان أطول شارعين رئيسين فيها، الأول يميل قليلا نحو اليمين، والآخر نحو اليسار، بزاوية بينهما أقرب إلى الزاوية الحادة، وكلّ شارع تتفرّع منه شوارع وأزقّة وأدراج، تكاد تشبه المتاهة في تعقيدها، بالنسبة لمن لا يعرفها.

لكنّ كلّ جزء من هذه المتاهة له طابعه، كحارة ذات سمات مشتركة، أو كسوق متخصصة، حتى من خلال الأسماء التي تحملها، بنوع محدد من التجارة. وكلّ هذه الشوارع متقاطعة متواصلة، تتجه في النهاية إلى أبرز الأماكن في القدس، من الطريق إلى الأقصى، إلى طريق الآلام التي تتعرّج وتتجه غربا حتى توصل إلى كنيسة القيامة، حيث تلتقي مع الشارع الذي استقلّ عند المدخل الأول، ليشكلا معا دائرة غير منتظمة تحيط بالمنطقة التي تضمّ أهمّ أسواق المدينة، وأهم ملامحها المعمارية، خارج إطار المشهدين الدينيين الرئيسين.

ويتواصل كل شارع أو زقاق مع غيره بشكل يحمل منطقه الواقعي، ليكون التعرّف على المدينة مقنعا بأنها تشكّل وحدة واحدة، قادرة على أن تستوعب التنوّع الذي يميزها إلى حدود مذهلة، لدرجة أن أية محاولة للتأمّل، لن تتردّد في تشبيهها بوحدة روائية، ذات حبكة متينة، وشديدة التداخل. لكنّ أي جزء من المكان لا يكتفي بانتمائه إلى هذه الوحدة، فهو في داخلها، وكجزء منها، يملك ثراءه الخاص: إنه لا يشكل مجرّد هامش في لوحة، ولكن خصوصيته تمنحه أهمية كبيرة داخل هذه اللوحة، مثل كلّ الأجزاء الأخرى. إنها خصوصية تجيء من التاريخ: فكلّ حجر تقع عليه العين له تاريخه الممتدّ في الأزمنة. ولا يكون الحديث هنا عن تاريخ غابر أو مزعوم، أو عن مجرّد أساطير، لكنه حديث عن تاريخ ما يزال مستمراً، يحمل أسماء من صنعوه، بدءاً من كنيسة القيامة التي بنيت مع مطالع التاريخ الميلادي، مرورا بالمسجد الأقصى الذي أقيم مع مطالع التاريخ الهجري، بعد ذلك ببضعة قرون، وصولا إلى التقسيمات التي وضعها صلاح الدين الأيوبي على شكل أحياء أو حارات، لعسكره القادم من أطراف الدنيا، وللطوائف التي خصص لها أماكنها العادلة في المدينة، بعد أن حرّرها من الصليبيين. وما زال الجزء الذي لم يهدمه الاحتلال من هذا التقسيم، قائما حتى الآن، بأسمائه القديمة ذاتها، وما زالت تملأ الطريق إلى كلّ حارة آثار من أرادوا تخليد أسمائهم بما عمّروه في القدس، من المماليك جميعا، حتى سلاطين العثمانيين الذين لم يقصروا في إضافة بعض لمساتهم، حتى وإن قصّروا في حماية المدينة من الاحتلال البريطاني الذي مهد للاحتلال الصهيوني بعد ذلك.

لكن الأمر لا يتوقّف عند حدود التاريخ، فهذا التاريخ اتخذ مساره إلى الأمام، وانعكست حركته على المدينة ككلّ، تنوعا سكانيا ما يزال على حاله، لأن القدس قد تكون أكثر مدن العالم تنوّعا في سكانها، فبالإضافة إلى موجات كثيرة من البشر حلّت فيها عبر التاريخ، مهاجرين أو غزاة، تبرز التجمعات التي توزع فيها جيش صلاح الدين إلى حارات، ما جعل لكل منبت أو طائفة في القدس حارة، مكوّنة من شوارع وأسواق وأدراج وأزقة، وبيوت لها طابعها الخاص، وأناس انصهروا في الوضع الفلسطيني، لكنهم ظلوا يحملون بعض ما جاء به أجدادهم من ثقافة، ساهمت في التنوع الثقافي للمدينة، وفي التقبل الثقافي أيضا، مع أن هذه الحارات تضمّ من السكان من تتدرّج أصولهم وألوانهم بشكل مثير: إنها تبدأ من لون الأفارقة المميز، وتنتهي عند لون الأرمن، على سبيل المثال. كما يتداخل كلّ ذلك مع أمواج الزائرين، حجّاً وسياحة، (ينتفي من ذلك المحتلون الدخلاء، الذين يشكّلون بقع نشاز في اللوحة)، ما يضيف تنوّعا آخر إلى هذه المدينة، لا يملكه غيرها من المدن، حتى وإن حمل تشابها في بعض السمات.

ولعلّ من أبرز ما في القدس، بعض ما لا يسهل نقله بالنسبة لمن لم يعشه: إن للقدس نكهة خاصة، تعلق بالنفس بمجرد العبور إلى داخلها، ثمّ لا تفارقها بعد ذلك. ويمكن لكلّ من عرف القدس أن يصادق على وجود هذه النكهة المركّبة التي تثير الحواس جميعا، بقوّة لا تقاوم. وهي تتشكّل من عناصر حسية ومعنوية، يصعب فهمها أو حصرها، تتميز وسطها الرائحة المنبّهة كإطار، لتحمل في ثناياها كل ما تشكلت منه القدس عبر التاريخ المتراكم. وحين يكون الحديث عن تجربة شخصية، فسوف أشير إلى ما كرّرته كتابة وقولا غير مرة: لقد غبت عن القدس ثلاثين عاما، بعد أن عايشتها بضع سنوات، كانت متعتي فيها أن أدخل من باب العامود قبل أن تصحو المدينة، وأن أشرب قهوتي في المقهى الذي يقع في الزاوية إلى يساري، وأن أراقب المدينة تنفض عنها غبار النوم، ببطء أول الأمر، ثمّ بحماسة شديدة بعد ذلك. وفي الغربة التي طالت كثيرا، كنت أشعر بالغياب عن القدس على وجه التحديد. كان لديّ ذلك الإحساس بأن طائرا نزقا يرفرف بجناحيه في القلب، لا يستطيع أن يهدأ. وحين دخلت القدس بعد ذلك، وعدت إلى المقهى قبل أن تصحو المدينة، شعرت بالطائر يهدأ، وبأن سكينة حطّت في القلب. لكن التحوّل ـ الذي لم يكن متسارعاً في ذلك الحين، كما هو عليه اليوم ـ كان يوحي بأن ذلك يحدث لزمن لا يستمرّ طويلا، وبأن القدس ستكون بعيدة من جديد، بالحصار والتهويد الذي يستمرّ منذ أعوام، ما يجعل ذلك الطائر يكاد يفقد روحه خارجها.

(3)

القدس، في تنوعها، مدينة لا مثيل لها، أو هي، في الإطار الذي نتحدث عنه، مدينة يقف أمامها الروائي الجادّ برهبة شديدة، لأنه يكاد يراها عصيّة على التعبير، وهو ما يجعل السؤال المطروح ينزاح خارج البحث عن رواية القدس التي كتبت أو ستكتب، كما كتبت روايات عن غيرها من المدن، إلى السؤال الذي يقول: هل يمكن أن تكتب رواية القدس، أم أن الصحيح هو: هل يمكن أن تكتب رواية عنها؟ هل يستطيع كاتب أن يتوصل في عمل فني روائي إلى حجم هذا التنوع الذي تتشكل منه المدينة، أو إلى قدرة على أن يستوحي شكلا روائيا منها، كما يفترض هذا الفن، حين يكون المكان مؤثرا؟ سوف نفاجأ بأن كثيرا من المدن الفلسطينية والقرى، اتخذت الأعمال الروائية منها أمكنة روائية، أكثر مما حدث للقدس، ربما لأن هذه الأمكنة أقلّ تركيبا، وواقعها يتّسم ببساطة يسهل التعامل معها، أو ربما لأن السرد الفلسطيني لم يبلغ مدى عميقا من التركيب أيضا، حتى يستطيع من خلاله أن يحيط بالقدس.

بل سوف نفاجأ بأن السرد الحديث، منذ الاحتلال، لم يقترب كثيرا من القدس كمكان روائي، وأن بعض من كتبوا، كان مرورهم الفعلي بالقدس عابراً، وأن قلّة منهم فقط، على قلتهم، هي التي خبرت تنوّع القدس بالمعايشة التي تساهم في جعل التعبير بليغا. ومع أن كلّ ذلك لا ينفي أن القدس جزء من التكوين الثقافيّ والوجداني لكلّ فلسطيني، إلا أن الالتصاق بالمكان له أهميته المعروفة في التعبير السرديّ.

*     *     *

في روايتين من رواياتها، مالت سحر خليفة نحو القدس. رواية "الميراث" ـ دار الآداب ـ بيروت، 1997 ـ لم تكن عن القدس، ولكن بطلة الرواية عبرت بالقدس غير مرة، بسبب الصلات العائلية التي تربطها ببعض قاطنيها، ولأنها تحمل الجنسية الأمريكية التي تتيح لها أن تدخل القدس دخولا شرعيا لا يتاح لغيرها من الفلسطينيين من خارج القدس، إلا تسلّلا.

لكن هذا العبور كان سياحيا إلى حدّ كبير، حتى من وجهة نظر الراوية، "لأن القدس للسيّاح، وأنا طبعا، رغم أصلي وفصلي وديني الحنيف، مجرّد سائحة مغتربة" (ص 77). وقد جاء الدخول استجابة للذاكرة القديمة للوالد الراحل، الذي "ساعات كان يحكي عن القدس" (ص 34)، وهي طفلة. كما جاء تلبية لدعوة من الأرملة الصبية للوالد الراحل، المقدسيّة الهوية، مع أن الزائرة لا تتذكر الآن من القدس سوى "ساحة الأقصى والقبّة وبلاط حجري وأقواس وأعمدة من فضة وماء المتوضى كذوب الثلج في الحنفية أيام الحر". إنها "القدس القدس، إيه البلاد! سقى الله عَ هديك الأيام"، كما يقول لها أحد كبار السنّ، متحسّرا على ما آلت إليه المدينة.

وفي الزمن الجديد، زمن أوسلو، الذي صار فيه الطريق إلى القدس سفراً (ص 55)، تتحدّث الرواية عن القدس وصفا، وتحرِص بقصديّة واضحة على أن تذكر الأماكن بأسمائها، لمجرّد الذكر في الغالب، من باب الخليل إلى الدباغة والمصرارة ودرب الآلام، ووادي الجوز الذي تتيح زيارته خروجا عن السياق، للحديث عن القدس الجديدة التي يقع الوادي فيها، باعتبارها خارج السور، لا القدس الغربية التي هي من نصيب اليهود (ص 76). وحين تتوصل إلى أنها اكتشفت القدس، تكون قد رأت فيها "الأودية والزيتون، وحديقة جامعة تبشيرية لها ردهات تنتهي بأدراج عريضة وقطاين وأزهار مشعّة خلف زجاج طويل عريض... (وَ) الأقصى بقبته اللامعة ومآذنه وسور القدس ومبانيها ذات التاريخ" (ص 78). أما ما يحدث داخل ذلك كله وحوله، فإن الرواية لا تتعمق فيه.

ولعلّ من المناسب الإشارة إلى ثلاث ملاحظات تخصّ هذه الرواية التي لا تقدّم القدس بطريقة مميزة: الأولى تتعلق بورود تجاوز يصعب قبوله في السياق، حين تشير إلى أن زوجة الأب أعادت ترميم "تراس" بيتها (ص 137)، دون أن تفسّر كيف أتيح لها ذلك، أو تشير إلى قوّة تملكها، أو تتوسّط لها عند المحتلين، حتى تقوم بعمل من المعروف أنه لا يسمح بحدوثه في القدس تحت الاحتلال. إن في الإشارة إلى حدوثه وكأنه أمر عادي، ما يصبّ في صالح المحتل، غير المتسامح في هذا الأمر، وهو الذي لا يمنح تصاريح للبناء أو الترميم، ويقوم بهدم البيوت بحجّة أنها غير مرخصة، حتى وإن كانت قائمة قبل كيانه. أما الثانية فهي تتعلق بذلك التعامل الخطابيّ العاطفي في النظرة إلى القدس، واعتبار أن "القدس لنا، ومن لا يعرفها ليست له" (ص 154)، وهو تعامل أضاع القدس حتى الآن، بينما الثالثة، وهي أهمّ ما في الرواية التي تنقد الواقع الحالي بحدّة، فتتمثل في رفض التعايش مع الاحتلال، من خلال الفعل لا القول، وذلك عن طريق إسقاط الجنين الذي حملته زوجة الأب صناعيا من نطفة إسرائيلية، في مستشفى إسرائيلي.

*     *     *

ولا تتحدّث رواية ليانة بدر "نجوم أريحا" ـ دار الآداب، بيروت 2002 ـ عن القدس، كما يشير عنوانها بوضوح، وهي لا تخرج في توجّهها نحو القدس عن رواية "الميراث"، لكنّها تنمّ عن قليل من المعايشة التي تشير إلى علاقة خاصة بالقدس، تبدأ من موت الأم في بيت مقدسي (ص 75)، إثر عذاب طويل مع المرض، ليبدأ مع فقدانها أول انهيار، وأوّل رحيل، سوف تلاحق الرواية تحوّلاته بعد ذلك. وتختار الرواية أيضا طريق الوصف الذي لا يخرج عما هو تقليدي ومعاد في هذا النوع من الكتابة، لأنه يركّز على المعالم الرئيسة والمعروفة في القدس، ويكاد يوقف الحدث الروائي، ليشبع كلّ موقع وصفا عاديا لا يدخل في لحمة العمل السرديّ، ولا يرقى إلى مستوى الشعر. ومن هذا المنطلق، تصف الرواية "أقواس الحرم الشريف. عين ستنا مريم. كنيسة قيامة الابن. جدارية كنيسة الجثمانية الملوّنة. أحجار باب خان الزيت، وزوايا حارة النصارى" (ص 194). وكما سبق أن ذكر الاستيطان مرورا عابرا في "الميراث" (ص 97) فهو يذكر بطريقة مشابهة في هذه الرواية أيضا (ص 194).

لكن "نجوم أريحا" تبدو أكثر التصاقا بالقدس، وهي تدخل ـ ولو قليلا ـ في تفاصيل حياتية تتجاوز وصف المكان، لتتعامل مع خصوصيات الذين يعيشون فيه. وإذا كانت طائفة الأرمن، وما تعرّضوا له من تهجير في الماضي، أخذت حيّزاً كبيراً من اهتمام الرواية ببعض سكان القدس، بسبب انعكاس مأساتهم على ذهن من يعايشهم، وبتعرّض الآن لمثل ما تعرضوا له، فإن الحديث عن بعض طبائع الناس في القدس يقرّب المدينة من النفس، خصوصاً عند الحديث عن كرم البيت المقدسي، وعن باعة التين الشامي في باب العامود، وعن المطبخ المقدسي، الذي يعمد فيه أهل القدس وحدهم إلى"حشو كلّ أنواع الخضار بالرز" (ص 23)، من القرع إلى الكوسا والباذنجان الأسمر والبتيري والخيار والبندورة والبطاطا وورق الدوالي ولسان الثور والحمّيضة، وإن كان ذلك لا يستطيع أن يعني أن بالإمكان اعتبار هذه الرواية رواية القدس، أو رواية عن القدس، لسبب بسيط، هو أنها لم توظّف المكان المقدسيّ، ولا سكّان المكان، داخل النص الروائي، الذي استطاع أن يقدّم أريحا، مكانها الحميم، بشكل أفضل.

(4)

من السهل ربط دخول القدس في رواية سحر خليفة "صورة وأيقونة وعهد قديم" ـ دار الآداب، بيروت 2006 ـ بحكاية مرّت عابرة في رواية "الميراث"، عن راهبة "كانت حلوة، مثل القمر، كانت شفافة سماوية، وعيناها أيضا بلون البحر. كانت من قرية قرب القدس" (ص 62) وحدث أن تعلّقت بالأب الذي كان أجيراً في محلّ لبيع التحف الشرقية (سنتواري)، ما جعلها تهجر الدير من أجله، وتحظى بإعجاب الناس بجمالها من ناحية، وبرجولته من ناحية أخرى. هذه الراهبة سوف نجد أوصافا شبيهة لها، في مريم، بطلة رواية "صورة...": فهي صبية جميلة جدا، تعيش مع والدتها في منزل يكاد يشبه الدير، وهي فوق ذلك تتردّد يوميا على الكنيسة، في قرية قريبة من القدس، عادت إليها لأن أهلها في المهجر قرّروا إبعادها، بعد أن وقعت في غرام راهب هناك، وأخذت تطارده، ثمّ ظلّت تحافظ على صورته، باعتباره حبّاً لا يموت، ولا يتكرّر. وهي صبية تكاد تضيع منها لغتها العربية، كما كادت تضيع من الراوية في "الميراث"، التي كانت عائدة من المهجر أيضا. ولأن الفتاة ترتبط بعلاقة عميقة مع مدرّس انتقل إلى العمل في القرية، هربا من زواج مدبّر في القدس، فهي تصبح مؤهّلة للدخول إلى القدس، أكثر مما سبقت الإشارة إليه، خصوصا وأنها تبدأ من تاريخ سابق على احتلال القدس، الذي وجده المدرّس مناسبة للهروب من مسؤوليته تجاه الصبية، بعد أن حملت منه، ومن خوفه من إخوتها الذين هرعوا من المهجر لإنقاذ الشرف الرفيع. وكما عادت بطلة "الميراث" وحيدة بعد أوسلو، بحثا عن ميراث تركه والدها الذي ارتبط بزواج أخير، يعود بطل "صورة.." وحيداً أيضا، وفي الوقت نفسه تقريبا، وثريا مثل كثيرين ممن عادوا، ليبحث عن نقيض ما تبحث عنه المرأة: فهو يبحث عمن يتسلّم الميراث الذي تجمّع لديه في الغربة، عن طريق البحث عن جنين تركه في رحم المرأة التي أحبّها وخذلها (بطريقة تذكر بمسرحية "مهاجر بريسبان" للكاتب اللبناني الفرنسي جورج شحادة)، فظلّت تحول بينه وبين كلّ من عرف من النساء في المنفى، علاقات أو زيجات، دون أن ينجب من يرثه.

تدخل هذه الرواية مدينة القدس أكثر مما فعلت "الميراث"، وتتحرّك داخلها، وهي تحمل دهشة الصبية القادمة من المهجر، لتكون أقرب إلى الدخول السياحيّ، فهي تتقافز أمام الأماكن التي تتكرّر من جديد: من باب العامود، حيث تتحوّل كليا من مريم القروية إلى ماري، "سائحة مجنونة مذهولة تشهق وتصيح" (ص 45)، وتدخل محلات السنتواري، حيث "تنعف الدولارات" (ص 47). ثمّ تمضي مع الرواية إلى داخل الأزقة "المكتظة بطوفان البشر. سوّاح ورهبان وقرويين وحجاج وتجار من كلّ الجهات، وبسطات محمولة على عجلات يجرّها باعة من كلّ الأصناف، موز وتمر ومشمش وتفاح وسفرجل وذرة وحاملة وتمرية. ثم بسطات بلا عجلات، حلاوة سمسم وحلاوة لوز وبيض وفلافل وشعر البنات" (ص 56)، كما لا تنسى أن تدخل الأقصى والقيامة، وأن تصف كلا منهما ببلاغة لفظية، قبل أن تنتقل "إلى الدهليز ثم الشارع تحت الأقواس، ثمّ أدراج ملتوية وبلاط حجري ومصاطب ثمّ بوابة حديدية لدير آخر" (ص 55)، وهي في كلّ ذلك لا تخرج عن دائرة وصف المكان، بينما يظلّ الفعل الروائيّ لذلك لمكان غائبا، باستثناء ما نتج من حمل بعد النوم في نزل تابع للدير الذي لم يجر وصفه كمكان للفعل، وإنما استمرّ الوصف العادي للقدس في الليل، من ساحته العلوية. أما الحمل، فهو يكاد يكون صدى للحمل الاصطناعي في مستشفى هداسا، وإن كان هذه المرة بجينات فلسطينية، مسلمة/ مسيحية، مقيمة/ مهاجرة.

وتستحضر عملية البحث عن الأمّ وولدها في الذهن (بعد العودة) أسلوب رواية دان براون الشهيرة "شفرة دافنشي"، في البحث عن عائلة المسيح، وهي تمرّ بأماكن شبيهة، في القرية والقدس والناصرة. كما أن صدى "الميراث" يظلّ مرافقا لها معظم الوقت، ويوحي بشيء من التكرار، وإن تطرّقت في الحديث عن الاستيطان إلى ظاهرة أخذت تتصاعد كثيرا، هي ظاهرة استيلاء المستوطنين على بيوت المواطنين، أو على طوابق منها، في القدس، لتضيف إلى مآسيهم المتوالية ما تجلبه الجيرة الوقحة من مضايقات، ولتهدّد المدينة بفقدان هويتها الأصيلة، من خلال العمل على تهويدها.

لكن أهم ما في الرواية، هو ما يمكن أن يحال إلى رموز: ما جاء في "الميراث" فيه إشارة إلى أن طريق أوسلو، بسبب رفض الاحتلال لأي تنازل، وسلوك السلطة الذي لا حسم فيه، محكومة بالفشل الذي يسقط أي مشروع اقتصادي من أساسه، أما ما جاء في "صورة.."، ففيه تنبيه إلى أن من هرب من مسؤوليته يوم احتلت القدس، لن تستطيع عودته النادمة، بعد أوسلو، أن تحقق شيئا إيجابيا لصالح القدس. وما تسفر عنه تلك الليلة في النزل المقدسيّ، لا يكون سوى ولد سقط في التشوّه النفسيّ، مثل الجنين في "الميراث"، الذي سقط بالإجهاض، مع سقوط المشروع بكامله. لقد صار الولد شابا في "صورة..."، لكنه تعوّد أن يهرب من المسؤولية نحو الشعوذة، كما هرب والده نحو جمع المال، وكأن الرواية تشير إلى أن العجز طال من هرب، والتشوّه طال من بقي تحت الاحتلال، ما تسبب في تحوّل سلبيّ في القدس ذاتها، بسبب الهروب والتشوه والاحتلال، فصارت "القدس الآن، قذرة جداً، مهملة مهجورة كوجه عجوز، بعكس ما كانت أيام الصبا وشباب القلب" (ص 100). أما القدس، كمكان روائيّ، فظلت مجرّد خلفية تاريخية أو معمارية، تختفي وراء الأفكار التي تبدو وكأنها خارجة من الذهن مباشرة، لا من المكان نفسه، لأن القدس، حتى من وجهة نظر الرواية، ظلت "مليئة بالأرواح،.. مليئة بالأطياف.. مليئة بالتاريخ. وبيوت الناس في الزّاروب تشكّلها أقواس وحجارة تعي أحزان من سبقونا وهموم المسيح، وتعي الأديان والرومان وقبائل بدو ومدائن تحت الأنقاض وطبقات الأرض" (ص 100).

(5)

تحمل مجموعة جمال زكي القواسمي "شامة في السماء" (اتحاد الكتاب الفلسطينيين، القدس 1997) صفة القصص على غلافها، ومع ذلك، فإن التعقيد المكاني، وتداخل الأحداث، وتنوّع الشخصيّات، يجعل من السهل التعامل مع "الرّهان" تحديداً (ص ص 99 ـ 136) وكأنها رواية قصيرة، مكانها هو القدس، ويمتدّ زمان السرد فيها على مدى ليلة واحدة من ليالي الانتفاضة الأولى، بينما يرتدّ زمان الذاكرة إلى فترات سابقة، تنتهي إلى تشكيل الحدث الذي يجري. ترصد "الرهان" محاولة واحد من شباب القدس إلقاء زجاجات حارقة على جنود الاحتلال، الذين يحاصرون المدينة، ويطاردون شبابها، بالجيبات العسكرية والسلاح، لكنه في لحظة الفعل يتردّد، ويكتشف أن شيئا ما جعله ينسي علبة الكبريت، يشتبه بالتدريج أنه الخوف الذي أصابه، نتيجة ذكريات ارتبطت بما تنبأ به شخص "نتن"، يهادن الاحتلال من أجل مصالحه، وبسبب ذلك، يعمد بالتالي إلى التقليل من شأن الانتفاضة، ومن شأن من يؤمنون بها أيضا.

ومع أن "الرهان" تقوم في بنيتها على حدث ساذج، وتمنحه قدرة على التغيير، لا يستحقها، إلا أن أهميتها تكمن في أنها تتعامل مع القدس من واقع معايشة كاملة، وتكاد ترسم للمدينة خريطة أكثر دقّة مما فعلته الأعمال السابقة، وهي تحرص على أن تضع الأسماء في أماكنها، لا من خلال الوصف، وإنما من خلال حركة الشاب، وهو يحاول أن يختفي داخل الأزقة والحارات، عن عيون الجنود الذين يطاردونه، بعد أن تصوّر أنهم لمحوه عند "عقبة التكية". وبدلا من أن يتوجه بعد تنفيذ العملية إلى "سوق خان الزيت"، ثم يسلك طريق "عقبة البطيخ"، نحو "حارة النصارى"، يضطرّ لاتخاذ طريق "عقبة المفتي" (ص 99). هذه الأسماء الحقيقية والمتداخلة من القدس، تتوالى بعد ذلك، من باب الواد إلى باب المجلس، ومن طريق برقوق بجوار دير الأرمن إلى باب الغوانمة. ثم يرد بعد ذلك "باب حطه" وعقبة الراهبات وحارة السعدية، لتتباطأ الخطوات قليلا، قبل أن تصل إلى عقبة الدرويش، وباب الساهرة، وطريق المجاهدين الذي يصل باب الأسباط بطريق الآلام، ومن ثمّ نحو المدرسة العمرية، وممرّ صغير أمام باب الملك فيصل، قبل الانتهاء عند السور بين مقبرتين، ليتمّ الاختفاء داخل "فستقية"، في واحدة منهما.

هذه الحركة هي حركة هروب من مطاردة العسكر، ولكن ذكر الأسماء بهذا التفصيل مقصود بذاته، بسبب ما تمثله هذه الأسماء داخل القدس من ناحية، إضافة إلى ما تمنحه للمطارد من مساحات للتخفي، حتى يستعيد قدرته على الفعل. ومع أن الإطار الرئيس في "الرهان" هو المشاركة في الانتفاضة، إلا أنها تتوسع في مناقشة كثير من القضايا الوطنية والاجتماعية والعاطفية، بشكل مباشر من الحوار، ومن وجهة نظر طبقية صريحة، تدخل باب المبالغة المتنوعة في أحيان كثيرة، من مبالغة في الحبّ وفي الكراهية، إلى أخرى في الطمع، وفي البيع أيضا.

يمثل الشاب المقاوِم ذلك الطرف الخيّر الفقير في المعادلة المطروحة، بينما يمثل قريبه الثريّ المهادن طرفها الآخر. الشاب ينقلب من الكراهية المطلقة إلى الحبّ المطلق لابنة قريبه الوحيدة، دون تبرير فنيّ كاف للحالتين. أما الفتاة موضوع الحب، فهي تلك التي أحبّها أخوه السجين، لكنّ والدها باعها لزوج ثريّ متأمرك، دفع ثمنها محلا لا يريده في شارع صلاح الدين، ليقوم الزوج بعد ذلك ببيع رحمِها، واستبداله برحم مريض، (بطريقة فيها كثير من السذاجة غير العلمية)، ما جعلها تفقد القدرة على الحبّ، قبل أن يقضي عليها المرض في النهاية، وكلّ ذلك يوحي بوجود افتعال للمآسي، كان من الممكن الاستغناء عنه، والاكتفاء بمتابعة المحور الأساسيّ، وهو الانتفاضة.

هذه المبالغة أضرّت بالعمل الذي يمكن أن تلاحظ فيه ملامح عن كتابة حقيقية عن القدس، من داخلها، تقدّم الانتفاضة كفعل إنساني، داخل مكان إنساني، بعيد عن صورته السياحية، التي لم تظهر قط، لأن الزمن لا يناسبها. كما أن القدس وظّفت في الفعل الدرامي، كمكان للاختفاء، ومكان للحلم، وفوق ذلك كمكان للتذكّر. فقد كانت كلّ وقفة في شارع أو عقبة، تمنح الشاب فرصة لاستعادة أحداث سابقة، تستكمل الأحداث، (وإن كان ذلك شيء من المبالغة التي لا تناسب حجم الوقفة في بعض الأوقات) وتعقد محاكمة داخلية قاسية، تشرّح طبيعة الخوف الذي يعطل قدرته. وحين يكون الاختفاء لساعات، في فستقية العائلة في المقبرة، تنتهي المحاكمة التي تمت بحضور جثة القريب الثريّ، الذي ظلّ يطارد الشاب، ويقهقه طويلا، حتى بعد وفاته، ليكرّس لديه تلك الحالة، من خلال فانتازيا ناجحة، سمحت تفاصيلها بتدخّل جثة الجدة في الفستقية، لتوجيه نصيحة تكون مناسبة للقضاء على الخوف، وهي نصيحة لها علاقة بالرهان القديم المتجدد: خفّف عن نفسك بأن تبول على جثّة الثريّ، لأنك كسبت رهانك معه، الذي كان يعطي من يبقى بعد وفاة الآخر، كامل الحقّ بأن يبول على قبره!

الفكرة التي قام عليها العمل جيدة، وتناسب المدينة المركّبة، ومع أن العمل تطلّع إلى أن يكون بحجم هذا التركيب، إلا أن المحاولة شابتها بساطة وتعجل، فتحوّل الصراع الطبقي داخل الواقع، بما ابتكره من رهان لا يناسب الحال، إلى ما لا تستسيغه الفانتازيا الجيّدة داخل العمل.لقد اقترب هذا العمل كثيرا من روح القدس، وهي تقاوم، وتجاوز النظرة السياحية التي حملتها الأعمال الأخرى، وخفض درجة النبرة العاطفية والخطابية، في الحديث عن القدس، كما أنه أضاف إلى ما سبقه عاملي الاحتلال، ومقاومة الاحتلال بقوة، إلا أنه في النهاية لم يتجاوز بشكل قطعي تلك الصورة التي قدّمت للقدس من قبل: القدس التي يُظنّ أن ذكر أسماء الأماكن المهمة فيها، يغني عن توظيف تلك الأماكن بنجاح، داخل النصّ السرديّ بكامله.

(6)

في رواية "قلادة فينوس" (وزارة الثقافة الفلسطينية، 2009)، لم يخطر في ذهن أماني الجنيدي أنها ستستقلّ مركبا سهلا في الكتابة، حين اختارت القدس، بكل التعقيدات التي ترافقها، مكانا تكتب عنه وله، بما يوازي هذه التعقيدات، وتخرج في المحصلة برواية مشبعة بروح القدس، وفيها كثير من التماسك الفني، في الوقت ذاته، ذلك التماسك الذي يتعامل مع القدس كمكان واقعي، وكمكان تخلقه الفانتازيا على حدّ سواء. تدخل الرواية ما تقدّمه من سيرة القدس عن طريقين للسرد، يشكلان معادلا فنيا لشارعي المدينة بعد باب العامود، لأنهما، رغم افتراقهما، يظلان مترابطين ضمن وحدة المدينة. أما الأحداث فتروى بتكامل تام، على لسان "امرأتين في امرأة"، بينهما تشابه مثل توأمين ـ بتاريخ ميلاد واحد، في مكان واحد، وباسمين متلاصقين: ريما / ديما ـ وبينهما تضادّ يصل حدّ التنافس، أو الصراع، بالأسلحة الإنسانية المتاحة، حتى فوق رقعة الشطرنج، لكنّ بينهما من الارتباط ما يصل حدود "التّخاطر عن بعد"، فيحفز واحدة منهما كي تتفرّغ للانتقام، الذي تنظر إليه كنوع من العدل، حين يقع ظلم على الأخرى، بعد أن يكون الرّجل الذي حمل واحدة على ترك القدس مات، والرجل الذي تزوّجته الثانية في القدس، لم يحتمل وجود الظلّ/ التوأم ملتصقا بها، يقف حائلا بينهما، فاختار الرحيل.

نقطة الانطلاق من الطور لا تجيء عفوية في الرواية، فالجبل الذي يحمل اسما مقدسا يمثل منطقة تجمع عربية خالصة، في القدس، وهي بالتالي نقطة انطلاق، تقضّ مضاجع الاحتلال الذي يصعب عليه تغيير واقعها، ولذلك تفشل محاولات التهويد، تماما كما حدث في منطقة التجمّع العربيّ في الجليل، التي أفشلت محاولات تهويده منذ النكبة. وتمثل حركة المرأتين خارج الطور نوعا من الحراك الفلسطيني الذي يرتبط أساسا بالقدس: هناك واحدة تحرّكت إلى الخارج، حين توجهت إلى رام الله، بالزواج والعمل، ما جعلها تفقد هويتها المقدسية حسب قانون الاحتلال الذي يترصد أية فرصة لسحب الهوية المقدسية من أصحابها، مع أن غياب الهوية لم يفقد المرأة ارتباطها بالقدس، حسب قانون الانتماء، ولذلك كان من السهل عليها أن تلبّي النداء وتعود، عندما شعرت بأن توأمها القديمة تدعوها.

أما الأخرى، فتحرّكت إلى الداخل، إلى بيت جدّتها في حارة السعدية، حيث أخذت تتعرّض للتآمر الذي يهدف إلى تفريغ البيت من ساكنيه، وتوزيع "الميراث" على من لا حقّ لهم فيه، وهو تآمر ينتهي بأن تقدم تلك الصبية لحمها لمن ينهشونه، وبأن تعود الصبية/ التوأم أو القرين، حتى تكشف حجم التآمر، وتنتقم لضحيته، من خلال تداخل في الأحداث، في سرد يظهر فيه بكل وضوح، تعقيد شوارع القدس وحاراتها، كما يظهر فيه تواصلها الحميم أيضا. وكما حدث في الأعمال السابقة جميعا، ترد أسماء الأماكن الشهيرة في القدس، خلال السرد، ولكن في حالة مختلفة هذه المرّة، إذ لا توصف هذه الأماكن لمجرّد الوصف، ولكنّها تشكل جزءا من الفضاء الذي يجري فيه الحدث، كما تشكل جزءا من الإطار العام للعمل ككل، فالمرأة التوأم العائدة إلى القدس بعد غياب، حين تتوقف عند بائعة الخضار مثلا، تفعل ذلك لتسأل عن بيت توأمها، ولتؤكد من خلال ذلك أن سكان القدس معروفون لسكان القدس، كما أنها لا تغفل الإشارة إلى ما يحدث من تغيير مفتعل، بمجرّد أن تقترب من باب العامود، وتلاحظ الوجود الدخيل للنخيل، في أرض هي في الواقع أرض زيتون. وحين تكتشف أن بيت المرأة التوأم حدث فيه ترميم، لا تنسى أن تبرّر الحصول على تصريح بذلك تحت الاحتلال، فهو لم يتمّ بشكل طبيعي، وإنما عن طريق وساطة قام بها عميل للاحتلال.

أما رائحة القدس التي تملأ نفس المرأة العائدة بمجرّد اجتياز باب العامود، فلها شأن آخر: إنها "رائحة الطّهر المقدّسة"، التي تفتح بابا للدخول إلى فانتازيا يفرضها الواقع القديم والجديد للقدس، فالمدينة تعيش حياة واقعية مختلطة بحياة فانتازية مليئة بالأساطير والقناعات الغيبية، وسلوكيّات الاحتلال التي تستند إلى أوهام، ولذلك يتمّ التعبير المناسب عن كلّ هذا المزيج، بالكتابة التي يختلط فيها الواقعيّ بالفانتازي، كما يختلط الحبّ بالكراهية، والصدق بالكذب، والتسامح بالجريمة، والإبداع بالتآمر، لأنّ هذا الواقع مرتبط بكلّ ما قامت عليه المدينة من تاريخ حقيقيّ، ومن أساطير تحاول أن تفرض ذاتها كحقائق.

إن اختيار "قلادة فينوس" عنوانا للرواية جزء من هذا التوجّه: فينوس مثال الجمال الأسطوري بين النساء، تتماهى مع القدس، مثال الجمال بين المدن، في الوقائع والأساطير. أما القلادة، غير المرتبطة بإلهة الجمال الإغريقية، لأنها من الإبداع الخاص للكاتبة، فلها دلالات أعمق، فبالإضافة إلى ما تنشره من جمال على من تصل إليها، وإلى الاستكمال الفوري للجزء المفقود من لوحة رائعة في نهاية الأمر، فهي ترمز إلى الواجب الذي يوضع في عنق من يرضى أن يكون بحجم المسؤولية التي يتطلبها (الثأر أو العدالة أو كشف ما تجري محاولات لإخفائه عن طريق التقوّلات والكذب، على سبيل المثال)، حتى يستحقّ أن يحظى بالجمال الكامل للمرأة/ المدينة. كما أن تداخل الفانتازيا بالواقع يتمّ بانسيابية سلسة تنمّ عن وعي عال بما تعنيه الكتابة بهذا الأسلوب الحداثيّ لدى الكاتبة، ويفتح أفاقا جديدة للتعبير، يتداخل فيها العلم بالخرافة، وينطلق أساسا من التداخل غير المحسوم، لطبيعة عملية التخاطر عن بعد، كما يحدث بداية بين المرأة وتوأمها، حين تستقبل حواس الأولى ما ترسله الثانية من استغاثات توحي بأنها في مأزق، فتهبّ لمساعدتها، وهي تشعر بأن أطرافا متعدّدة تنهش لحمها، ولحم القدس، متصوّرة أنها سوف تنجح في قتلها، مع أن كلّ هذه الأطراف تفنى آخر الأمر، بينما تعود القدس ذهبية ولامعة، تتجدّد وتبقى (لتوحي بطائر الفينيق).

ولعلّ أبرز ما تقدمه الرواية من فانتازيا، بعد قلادة فينوس، هو "دمع عزرائيل" الذي يشكّل نوعا من الاختراق الذي تدأب الكاتبة على الوصول إليه: فالرسالة التي تركتها التوأم الراحلة كتبت بحبر سرّي، ليس سوى دموع ملك الموت الذي اختطفها في عيد ميلادها، بفعل يدور الشكّ أنه مباشر من قبل المتآمرين. وهي دموع لها خواصّها الفانتازية أيضا، لأنها قادرة على أن تفيض حتى تغرق العالم، إذا لم تغمر الرسالة التي كتبت بها في كوب من الماء، تشربه المرأة العائدة، لتكون هذه الدموع، عند الحاجة، برائحتها الغريبة الحادة، وسيلة للكشف عن كلّ الذين تآمروا على توأمها، وأساءوا إليها، لأنهم اشتهوها ولم ينالوها، فعمدوا إلى تشويه سمعتها بالأقاويل (التي توازي تماما ما يزعمه الاحتلال تجاه المدينة). إن دموع عزرائيل غريبة ومدهشة، وتكاد تكون مقنعة بوجودها الحقيقيّ، كما أنها موظّفة في الرواية بطريقة مؤثرة، تؤكد، مثل غيرها من تفاصيل الرواية، أن شيئا منها لم يكتب بعفوية، حتى وإن تجمّل بصورتها، وأن التأمل العميق كان يقف وراء الصور التي تطرحها الرواية، ويخلقها بتعب جدّي، ومتعة جدية أيضا، وهو تأمل يكشف عن نفسه في بعض المواقع بوضوح، مثلما يفعل عندما يردّد في وقت اليأس في المقبرة مع سكرتير الموتى الذي يطالب بموعد مسبق من أهلهم حتى يسمح لهم بزيارتهم: لقد هربوا منكم، فلماذا تصرّون على إزعاجهم؟ كما أنه تأمل يرى الطريق إلى الخيال في الواقع نفسه، لأن الضدّ يعرف بضدّه، ولأنّ الخيال موجود، والواقع موجود، وكلٌّ يوصل إلى الآخر. هما توأمان معا، ضدّان، لكن لا ينفصلان، فهما بالتالي لبنتان متساندتان في واقعية فانتازية، أو فانتازيا واقعية، أو واقع تراه العيون وكأنه خيال، كما يحدث عندما تدفن المرأة/ القدس جدّتها في حديقة المنزل، ذات ليلة عاصفة، لم يجرؤ فيها أحد من الجيران على الخروج لمساعدتها، أو لم يشأ، ولذلك دار الحديث عن ممارسة فعل شيطانيّ، مع أن الواقع يشير إلى أن الجدّة أعدّت قبرها مسبقا، وأن العملية تلخّصت في وصول الجثة إليه.

ما يقف وراء مثل هذا الطرح لا يكون إلا فكراً متأملا، متقدّما، يتحدّث عن قدس أسطورية ثابتة، في وجود قدس واقعية تتغير، وتفقد بيوتها واحدا وراء الآخر، وتفقد أهلها، وهويتها بالتدريج، لأن التسلل إليها يحدث كلّ الوقت، وبطرق عديدة مبتكرة، بعضها واضح ومكشوف، مثل سحب الهوية عند كلّ فرصة، وبناء حواجز الفصل التي تعيق الوصول، وبعضها الآخر خفيّ وتآمري، مثل زواج الجار من أم عامر، التي لم تعد بعد الاحتلال تخفي أصولها اليهودية العراقية، أو تداري نجمة سداسية تتدلّى من عنقها، بعد أن تسللت إلى الحارة عندما اشترت لها زوجا فقيرا، كان أجيراً عند خباز، ثمّ لم يعرف أحد كيف أصبح المخبز ملكاً له، ومثل "الموسوية" التي تزوّجها الأب عن طريق أحد عملاء الاحتلال، فضايقت المرأة/ القدس، حتى هربت عند جدّتها/ التاريخ، بينما أخذت القادمة الجديدة، وابنتها من زواج شاميّ سابق، تستغلّ ضعف الوالد/ السلطة، وتستغل حرص ابنته على كرامته، لتبتزّها، في حين تتهمّها بشتى التهم المسيئة، وتتآمر عليها، ثمّ تجرؤ على أن تنصحها بأن تدهن البيت القديم بالأبيض والأزرق (الرمز الصهيوني)، ولا تخشى أن تشاهد عند حائط المبكى، تؤدي الطقوس.

ولأن المرأة تتماهى مع المدينة، ولأن الأقوام الطامعين يتماهون مع الذكور، فإن التعبير عن الرغبة في الامتلاك يتحوّل لديهم إلى نوع من الجاذبية القاتلة، التي تجعل شهوتهم تفيض، فتجيئهم المرأة/ المدينة في أحلام يقظتهم ونومهم، مثيرة في فستان أحمر (كرمز للدم ورمز للحبّ معا)، كان هدية من فينوس، لكنها فشلت في ارتدائه، لأنها فشلت في شرط الحبّ الذي يسحبه من بين يديها في غيابه، قبل أن يصل إلى جسدها. الرجال في حياة المرأة/ القدس/ الباقية في مكانها/ المبدعة آفاقا بعيدة عن طريق الرسم/ الموهبة، كثيرون، لكن الحبّ واحد: كان مبدعا في اختراعه، لكن الحاسدين قتلوه طمعا في من أحبّ، وفي ما أنجز، فلم يبق من سبيل أمام المرأة سوى أن تستمرّ في الحبّ، تصوّراً، وأن تعيش زواجا فانتازيا، مع حبيب مات، وأن تستمرّ في المحافظة على عذريتها، (مثل بتول قديمة من بلادها)، ومع ذلك أن تنجب من هذا الزواج حبيبا صغيرا سوف يقوم باستكمال اختراع والده، وباستكمال دوره في كشف تاريخ المدينة، عن طريق استعادة أصواتها القديمة العائمة في الفضاء، بهدف تأكيد نسبها الحقيقيّ الذي يحاول الاحتلال أن يسرقه.

تدور هذه الأحداث المترابطة في الرواية بكاملها، حول فكرة واحدة تجري عملية تأكيدها، وتأكيد ما توحي به من دلالات متنوعة، تصبّ في الواقع المهدّد لمدينة القدس، وصالح القدس في المستقبل، وهي فكرة العمل على كسر حاجز الخوف (وحتى الحذر)، لأنه يقف دون الفعل، وهو ما تعلّمته المرأة العائدة في طفولتها من توأمها الراحلة، عندما اكتشفت هذه، عن طريق المغامرة الجريئة، نهاية لما كان يظنّ أنه مغارة، ليتضح أنه نفق، وأنه يفسر ما ظلّ غامضا حول الطريقة التي كان يتمّ بها تهريب السلاح إلى الثوار، وكانت تدور حول ذلك تخيلات غريبة، تكاد تنسب الفعل إلى الشياطين، حتى ثبت أن الطريقة واقعية، بعد أن أكّدت مغامرة تلك المرأة، المتميزة منذ طفولتها، كمعادل لصورة القدس الخالية من الشوائب، "أن الحذر لا يرينا نهاية المغارة". ومع أن التوأم العائدة إلى القدس، لتعيد العدل، سبق أن ادعت، في طفولتها، أنها صاحبة التجربة الجريئة في اجتياز النفق، إلا أنها عادت أخيرا إلى الصدق في رواية كلّ ما حدث، لتقتنع بأن "الخوف طريق للوهم"، ولن تسلكه أبدا، ولتقرّر أن تدخل المغارة الغامضة في القدس، لتكتشفها، وهو ما تقوم به فعلا، عبر حركتها داخل المدينة، واتصالها بمن أكلوا لحم توأمها، الذي يعود واقعيا آخر الأمر، ولا يؤكل، وذلك بهدف أن تعرّيهم أمام ذواتهم، وأن تعاقبهم على ما فعلوا، بطريقة تتناسب مع ما فعلوه.

وفي محصلة الأمر، يمكن القول إن في هذه الرواية تجربة ناضجة، يمكن اعتبارها رواية حقيقية عن القدس، تدخل أعماقها، واقعا وتاريخا وأسطورة، دون أن تتوسل إلى ذلك بغطاء عاطفيّ أو ديني، أو بنظرة سياحية، لأنها تقدم القدس كمدينة حقيقية، لها سماتها الخاصة التي يمكن أن تكون ملموسة، ويعيش داخلها بشر، مثل كلّ البشر الحقيقيين. مع ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض الهنات التي علقت بالرواية، وإن كانت لا تنقص من فرادتها كتجربة: يمكن للقارئ أن يشعر بشيء من صدى "الرّهان" مع الحركة داخل أزقة المدينة، وهو صدى كان يمكن تجاوزه، حتى وإن كان مبرّرا بأن الحديث يدور عن مدينة واحدة، شهيرة وضيقة، من طرفين يعرفانها جيدا. كما أن فكرة كسر حاجز الخوف كانت جزءا من حبكة "الرّهان" أيضا، ولكن "قلادة فينوس" تعاملت معها بطريقة أكثر نجاحا، وأكثر إقناعا.

أما اللحم الإنساني الذي يرمّم مكان القطع فيه، أو يلتحم على الفور، فقد سبق أن ورد ما يشبهه في تمثيلية غسان كنفاني الإذاعية، "جسر إلى الأبد"، التي نشرت في الجزء الثالث من أعماله الكاملة، في طبعتها الأولى، وهو الجزء الذي يضم مجموعة مسرحياته. لكن أبرز نقطة ضعف في الرواية تظهر من خلال محاولة إدانة المهندس الذي زامل التوأم الراحلة في العمل. فقد تمّ ذلك بطريقة لا ترتفع إلى مستوى ما تحقق فنيا من إدانة للشخصيات الأخرى التي كذبت، وكان كذبها يناسب ما تقوم به، بينما جاء كذب المهندس أضعف من أن يليق به، حتى وإن ورد من باب الإدانة، واستدعى التفكير بخلع الحذاء، لضربه به، لأنه ليس من المقبول لمهندس مثله، يكاد ينتسب إلى دنيا الفن، أن يتساءل مثلا: "من يكترث لهؤلاء المجانين الذين يسمّون أنفسهم "فنانين"؟ أو أن ترد على لسانه الأقوال المهينة التي وردت. وقد كان ممكنا الوصول إلى مستوى الإدانة، عن طريق مختلف، يناسب الوضع الثقافي والانتهازي لهذا المهندس.

وفي النهاية، يمكن القول إن الأعمال السردية الفلسطينية حاولت أن تتعامل مع واقع القدس بعد الاحتلال، فلمسته من الخارج أول الأمر، ثم تسللت إليه بنظرة سياحية، قبل أن تعيش هذا الواقع بكلّ تفاصيله، وأن تدخل إلى أعماقه بعد ذلك، معبّرة عن هذه التفاصيل، متأثرة بها، في الشكل وفي المضمون.