تتراوح مراكش لدى الروائي المغربي بين ذكريات يحن إليها الراوي وبين محاولة رؤية واقعها بإشكالياته الآن، وهي تراوح في مكانها لاتريم بينما يمور العالم من حولها وفيها بالتحولات. ويصير طرح الأسئلة التي تثيرها كتابة النص والعقبات التي تحد من تشكله دافعا لإعادة النظر في رؤاه عن تلك المدينة وفضائها الدلالي.

لمن تُفتح الأبواب؟ (رواية)

ياسين أبوالهيتم

حكايات حومتنا

                              إلى اللذين ستنفغر أفواههم من المفاجأة لذكر حكاياتهم..
                              إلى اللذين سيقع بين أيديهم هذا الكتاب 

الحكاية الأولى:
أصابت شمس الصباح مشارف السطوح. استكفّ عزيز ثم سرح بصره في الأفق(1). لاحت له بيوت المدينة العتيقة وقد تصاعدت أشجار سامقة من معظمها. دروب متلاحمة، مآذن فارعة وقباب خضراء تنداح في كل الجهات... ومقبرة مترامية تربط أجداثها الماضي بالحاضر..

بلغ عزيزاً هتاف البتول منبعثاً من عقر الدار:

ـ عزيز هل نظفت الخمّ؟

لم تنتظر جواباً فأردفت:

ـ نظف الخمّ أولاً وغَيّر الماء، ثم انثر الحب للدجاج.
ـ سأفعل يا جدتي..

مضى زمن طويل دون أن تصعد البتول السطح. لعلها أصبحت تخشى أن ترتقي في درجات السلم العتيق، وهي التي كانت تتخطى برشاقة خشبه المتآكلة المثبتة في جانبي الركن. ذهب بها الدهر فصارت عجوزاً شمطاء يذكرها الكبير والصغير بالخير. دعابة في وقار. كثير كلامها أمثال. وأصرت على إبقاء حفيدها عزيز لديها حين رافقت وحيدتها مريم زوجها سعيد الجباس إلى السعودية.

رفعت البتول عقيرتها وهي تسقي أصيصاً من الحبق:

ـ ألم تنه العمل بعد يا عزيز؟
ـ جدتي! جارنا السي علي يزلج سطح داره..

قالت في حدة وقد استبطأته كثيرا:

ـ انزل حالاً وكفاك لعباً، يكاد النهار ينتصف وما تزال غارقاً في عبثك..

أذعن عزيز لكلام جدته ونزل من فوره. ولما انتهيا إلى المطبخ، قرصت العجين بأصبعها، وقالت:

ـ يوشك جدك أن يرجع من السوق. احمل الخبز إلى الفرن، وطالب "الراجي الفران" أن يقدمه..

وعطف عزيز عنها ورائحة الخميرة تزكم أنفه..

الحكاية الثانية:
الله أكبر.. الله أكبر..
ينادي إسماعيل للصلاة كدأبه كلّ يوم. صوت جهوري مفعم بالإيمان يتسكّب من مئذنة الجامع ثم يفضي إلى الأرجاء. ما أعذب ترديده حين يتلو من "دلائل الخيرات" قبيل أذان الصبح والشبابيك مفتوحة في وجه البدر تنشد نسيما في هجير الصيف، فيلج منها هتاف إسماعيل إلى مسامع بين النعاس واليقظة معطّراً بعبق الحبق، فيثير شعورا حالما في النفوس!

ربع القامة. جثته مائلة إلى الضخامة. شديد بياض البشرة. منتفخ الأوداج في غير غضب. حثيث الخطى حتى إذا نجم للصبيان هرعوا إلى سبيله فحملوه على الوقوف ويده تتقاذفها الأفواه، وهو يكرر قائلاً:

ـ حفظكم الله لآبائكم يا بذور الخير، ونقّى طريقكم من الشوك..

خليق بأن يحظى بحب الأطفال بين رجال الدرب. طالع بشوش لا يسع المرء إلا أن يتفاءل به خيراً. وغاية الصبية أن ينالوا استحسان عجوز يحظى بتقدير الكبار. وحفيده عزيز في زهو ظاهر من ذلك.

اشتهر إسماعيل بحضور كل الولائم التي يبلغه ذكرها. وقلما تقام وليمة ولا يتحسس خبرها. في العرس، في العقيقة، وحتى في المآتم تجده أول الحاضرين. ولم يكن يلقي بالاً إلى دعوة أو غيرها، فلربما كانت تلك هفوته الوحيدة التي طالما نكست عود كبريائه. لَمّة من الناس ورائحة طعام قادتاه يوماً إلى أحد الدور، غير أن البوّاب انبرى له وهو يهمّ بالدخول.قال إسماعيل في عجل:

ـ من أهل العريس.
ـ ما شاء الله!لقد جرتَ عن طريقك يا شيخ.

جرّبَ أن يقتحم البيت عنوةً بيد أن البواب تصدى له من جديد، وقال:

ـ اذهب قبل أن تدعي قرابتك للفقيد، فما أخال الأمر يصعب عليك..

الحكاية الثالثة:
السكون يعمّ الزقاق، ولا يكدر صفاءه إلا جلبة يحدثها صبية يلعبون الحجلة أمام دار الحاجة مينة. نحن في رمضان والوقت ضحى، والكبار ما يزالون نيام. نظرت الحاجة مينة من خصاص الشباك، وقالت:

ـ صباح الخير يا أولاد. سأنزل فوراً، لا تذهبوا..

الحاجة مينة امرأة طيبة. ترملت قبل أن نشهد زوجها الحاج الطاهر. ولدت ثلاثة أبناء:عبد السلام ويشتغل في متاجر الثوب، حمزة مدرس القرآن في الحضار(2) وعبد الجليل يعمل ذبّاحاً في المجزرة، وبنتاً في فور الشباب تدعى حياة.

فتحت الحاجة مينة الباب فدلفنا وراءها حتى بلغنا باحة الدار. كانت قد بسطت حصيراً فرشت عليه بعض اللّحف. تحلقنا حول مائدة عليها زبادي فارغة. وما زالت الحاجة مينة تتحسس أخبارنا:

ـ هل تحسنت صحة اللاّالبتول يا عزيز؟
ـ وأنت يا أحمد، أما تزال مشاكساً كعادتك؟.

وما زالت تسأل حتى جاءت حياة بقدر فحم من فرط الطبخ فيه. وضعت حياة القدر على المائدة، وجعلت تصب الحساء في الزبادي. كانت تلبس غلالة بيضاء لا يكاد طرفها يستر الركبة. وكلما انحنت على المائدة تتلصص عيناي ردفيها وقد بانت تقاطيعهما ونهديها النافرين المتراقصين. أرقبها وصدري اترع بشعور جياش رغم فارق السن. والمرأتان لا يخالجهما شك في عدم ظهورنا بعد على عورات النساء..

الحكاية الرابعة:
رغم صغر سنها كانت كثيرة الحركة، شقية مندفعة، حديثها أكبر من عمرها. وكانت هذه الطفلة النحيلة سبباً يرغب الجارات عن زيارة بيتهم، وعلى الخصوص إن كان لهن أولاد في مثل سنها. فرغم حسن نيتها أحيانا كثيرة فهي لا تتلكأ عن إذاية الآخرين، وتلجّ في عراكهم لجاجةً تترجم طاقتها المتدفقة. ومثلما أزعجت البالغات بسلوكاتها فقد نفر عنها الصبية إلاّ من كسب صداقتها عن مضض.

سقطت يوما في بئر البيت، فعلاَ صراخ النسوة، ولطمت الخدود... ومازلن كذلك حتى نادتهنّ من البئر:

ـ لا تخفن أنا بخير..

تسابقت النسوة إلى فوهة البئر، فتطاللن وأعناقهنّ من فرط الهلع ممدودة. لاح إليهن شبحها وهي تصعد معتمدة على جوانب الجبّ.

ولما اطمأن الجميع إلى خلاصها، قرصت جارة لحمة فكها وقالت مازحة:

ـ ثمة بقية في عمر الشقية.

تروي العجائز هذه الحكاية التي حصلت لخالتي غيته لما كانت طفلة. أما اليوم، فقد سندت للستين سنة ولم تتزوج قطّ. فمنذ أن توفيت أختها وخالتي غيته تعيش منفردة بنفسها في بيت يغصّ بالقطط. وهي لا تمتّ إليّ بقرابة، ولكن وعزت إليّ أمي مذ وعيت أن أناديها بهذا الإسم كاملاً، والويل لمن يحتسب بقول غيته أو حتى للاّغيته! لسانها طويل وقلبها أبيض. بلا استئذان تدخل دور الدرب، ولا تميز دارها من دار جارتها. فحيثما ترتاح تنام، وأينما تستطيب الأكل تتغذى. ترجّلت في شبابها فشاركت أقرانها في لعب كرة القدم. وشاركت مراراً بدفّها في "الدقة المراكشية"، فرددت "العيط" ليلة العاشوراء حتى الفجر. ودخنت "السبسي"، وذادت عن أبناء الدرب دون أبناء الدروب الأخرى.

وما انقطع دأبها، ولكن بصفة أقلّ..

الحكاية الخامسة:
في ذات يوم وقع حادث لم ينتظر أحدٌ حصوله البتة. اضطرمت خصومة بين حياة وإحدى البنات في السقاية. وبلغ الحنق أقصاه، فقالت البنت وهي تتحرق من الغيظ:

ـ استقصي في أصلك أولاً أيتها اللقيطة!.

بهتت حياة وتجهم وجهها، ومع ذلك جهدت في الجدل وقد وقع في نفسها شيء من الريبة. ثم قفلت تستعلم الخبر حتى حصلت لها حقيقته..

بداَ الحزن على محيا حياة، فقالت الحاجة مينة:

ـ ماذا حصل يا بنيتي؟!

أخذت حياة بمجمع رداء الحاجة، وأخذت ترجّها وتقول باكية:

ـ لست بابنتك ولا أنت بأمي. لقد علمت كل شيء. لم خادعتني طوال هذه السنين؟

انتفضت الحاجة مينة كأنما صعقتها الصاعقة. وهوت على الأرض بلا حراك. ومنذ ذلك اليوم المشئوم، لم يرَ منّا أحد حياة.

وكذلك انبتّ السبب بينها وبين الأهل..

الحكاية السادسة:
بخطى ليست سريعة مشت خالتي غيته في زقاقٍ بالمدينة العتيقة، إنما يبدو من حركاتها أنها تجاهد نفسها في السير. وجهها المتجهّم وتفكيرها بصوت مسموع ينمّان عن حدث ذي بال حمله هذا الصباح الجديد. توقفت خالتي غيته قبالة عجوز تربعت مسندة ظهرها إلى الحائط، ترقب الغادي والرائح في ذهول كأنها لم تر إنساناً من قبل. اتفقا في القسمات التي لا تزال تحفظ عقبة من جمال ذبل، جسم أنحلته نوائب الدهر ولون بشرة يميل إلى السمرة، واختلفا في راحة البال وهدوء النفس. قالت خالتي غيته مستاءة:

ـ أتعلمين يا امرأة. لقد رفعوا ثمن علبة السجائر!
ـ ماذا تقولين؟
ـ تنبهي من سباتك. الواضح أنك لا تعلمين شيئا على الإطلاق..

الحكاية السابعة:
الشابّ من أبناء الدرب. قوي الجسد، طويل القامة، شديد السمرة، أجعد الشعر، أفطس الأنف، ينادى بولد حليمة. يكاد لا يمرّ يوم دون أن نسمع أو نشهد مشاجراته. يلاجّ خصمه ويتمادى معه في الخصومة حتى اهتابه الجميع. وإن حضر نزاعاً قائماً هرع إلى بيته وجاء بمسدّ(3) فيلوح به عالياً ويحلف مقطّباً:

ـ والله لأربطنّ من انهزم كي يذلّله الناس ويستصغروه..

ثم يقهقه هازئاً، ويستطرد وخطوط جبهته قد انحلّت:

ـ من لم يطق العراك فحسبه التفرّج..

تجلّدت حليمة وتغاضت عنه. فهو وحيدها على أي حال، وتخشى أن تخسره. منذ مات أبوه وهي تحيا من أجله. يجذلها مرّة ويكدّرها مرّاتٍ كثيرةٍ حتى ضاقت نفسها به. فالأرض تذرف حممها متى عظم قيظها.

الحكاية الثامنة:
ألفنا أن نبتاع كل صباح ونحن في طريقنا إلى المدرسة خبزةً محشوّةً بالفلفل المهرّس. وكان البائع شيخاً مسناًّ، بطيء الحركة، ضعيف البصر. فإذا شغل عنا،أنا وعزيز، بحشو الخبزة بفلفل محفوظ في قوارير قابعة بمؤخّر الحانوت، سرقنا بيضتين مسلوقتين وضمنّا فطوراً يليق بنهارٍ متعب وحافل بالنزق. وقبل انصرافنا نسأل البائع أن يهبنا قدراً من الملح. حرصنا على أن يبقى الأمر سراًّ بيننا كي لا يفتضح المستور. لكن لا أدري كيف علم أحمد بذلك، فقد قصد البائع ذاته ولجأ إلى الحيلة نفسها.

التفت البائع إلى أحمد ففطن للأمر. قال محتداّ عليه:

ـ لقد شككت منذ مدة في أمرك. لم تقنع ببيضة أو بيضتين أو حتى ثلاثة. وأسأل نفسي: ماذا تصنع بالملح؟!

الحكاية التاسعة:
ما أزال أذكر اليوم الذي حلّت فيه رقية بالدرب، لبثت وحيدة بمنزلٍ سميناه بالدويرية. ولطالما بعثتني من نومي قعقعة سطلها وهو يتذبذب بين يديها المرتعشتين. المرأة عجوز تقوّس ظهرها وانكمشت أساريرها، تبلغ من العمر عتياًّ في سمرةٍ بالغةٍ. ترقب بداية اندحار عتمة الليل أمام الفجر لتنقضّ وسطلها على سقاية الماء، فتظلّ تنتقل جيئةً وذهاباً في إصرارٍ وعنادٍ تتقاذفها السقاية والبيت حتى الغروب. يكفي أن يتفل أحدُنا على الأرض إزاءها لترجع إلى السقاية فتهرق ماء السطل وتملأه من جديد. صارت نكتة يتنذر بها أهل الدرب من جملة ما يتنذرون به. وفي غمرة إعجابهم واندهاشهم قالوا في إشفاق مصطبغ بتهكم واضح:

ـ رقية أصابها مسّ من بقائها وحيدة في البيت.
ـ عبثا تملأ آنية مخروقة تصب في فتحة المصرف الصحي.
ـ زوجها اللعين مكر بها حتى يلهيها عن الناس إلى حين عودته.
ـ بل هي هوسى بالنظافة.
ـ لاشك أنها تتهيأ لجفاف أخبرها الجنّ بموعده..

وبقيت رقية على تلك الحال تكلّم نفسها غالباً دون أن تأبه لكلام الناس إلى أن تركت الدرب رفقة أحد وجهاء مراكش.

وما فترت أفواه النساء عن ذكرها في المجامع، فقيل عنها الكثير بيد أن حكايتها صارت مضرباً لحسن الختام.. 

الحكاية العاشرة:
لم أعد أذكر بالضبط علّة ذلك الشجار. لكن ما أعرفه هو أن مشاجرة الأطفال ليست إلا عبثاً يفضح عقدة التفوق. جلجل عزيز في وجه أحمد من الغضب:

ـ لنحتكم إلى صراع يطأطئ رأس أحدنا إلى الأبد.
ـ سيعلم أهلنا بالأمر أو يتدخل أحد الجيران.
ـ فلنذهب إلى المقبرة إذن، حيث لا يملك الأموات حولاً لفكّ النزاع..

تصدرا كالأبطال حشداً يتضاعف متى اخترقا الأزقة المؤدية إلى المقبرة. وطوال مدة الطريق كان الصبية يهللون بأصواتٍ حادةٍ متصاعدةٍ ألهمت عزيمة صاحبينا خلا ما استشعرا من نظرات إكبارٍ من محترفي الشجار بالدرب. قال ولد حليمة متشدقا:

ـ البارحة كانا يخافان المرور ليلاً حذاء دويرية رقية، واليوم جسم عظم كتفيهما ويريد أحدهما خصومة الآخر. لسوف يأتي الغد برجالٍ حفظنا الله من شرهم..

وتواجه الاثنان في المصرع، فساد صمت مطبق. وبدأ اللكم والركل والنطح بالرؤوس. فعادت الهتافات ألظى من السابق. واستمر هذا الصراع مدة من الزمن، حتى تهاوى عزيز وأحمد من فرط الجهد وكلاهما يسيل دمه.

ولا زلت أذكر رضاهما بحكم من حضر. فقد أجمع الحاضرون على تكافئهما. وأدهشنا منظرهما وهما متعانقين وكأن الحياة لا تحتمل إلا الحب أو البغض، الخير أو الشر...

الحكاية الحادية عشر:
المعلم علال أشهر إسكافي بالحومة وأوفرهم نشاطاً ومرحاً، بيد أنه ثمة ما يرغب الزبائن عنه في الآونة الأخيرة.

كان في حانوته يرقب الغادي والرائح حين أقبل عليه زبون يحمل نعلاً قد تخرق، وسأله أن يصلحه بقليل من الغراء. خطف المعلم علال فردة النعل من يد صاحبها، وفتق طرفيها بلا اكتراث وقال:

ـ يلزمك أن تبتاع قاعدة جديدة. ومن حسن حظك، أحتفظ بقاعدة مناسبة..

رمى المعلم علال على الخمسين سنة. وتأكد غير ما مرة أنه قادر على الفتك بأجسم الشبان رغم قصره البائن. وأعتقد ألاّ حظّ للصدفة في ذلك، فهنالك سرّ، أو أكثر، يمكّنه من دحر الوهن. الابتسامة لا تزايل محياه، وروحه لا تملّ من التنكيت في القول، والدعابة في الهزل، والتعقل في الجِدّ. وحين استفزه ولد حليمة قائلاً:

ـ أيها المعلم علال، أشم رائحةً تولد في البطن الملآن شعوراً بالجوع.
ـ لعلها منبعثةً من داركم.
ـ أرجح أنها منبعثة من حانوتك.
ـ وما شأنك بحانوتي يا ولد حليمة.
ـ البركة في طعام الجماعة..

حاول ولد حليمة أن يدلف إلى حانوت المعلم علال قسراً. تدافعا بالأيدي، ثم حمل المعلم علال في خفة ولد حليمة بكلتا يديه ورماه على مصطبة قرب الحانوت. أصيب ولد حليمة إصابة بليغة في ذراعه، فأسرع عبد الجليل وخالتي غيته لفكّ النزاع.. وقد اشتهر المعلم علال بنهمه الشديد في أكل السمك. وحين دأب أصحابه، وخصوصاً الشباب، على مجالسته في حانوته، فلم يكن يتردّدُ في قرع ناقوسه لصرفهم متى جاء الراجي الفران بطواية السمك.

وحدث أن لقيته في الحمام. وتحققت أنه شديد العناية بالنظافة. فقد غسل الموضع الذي جلس فيه مرات عديدة. ودون مبالاة، تنقل من مكان إلى مكان في رشاقة، فحكّ ظهره معظم المستحمين. وكنت واحداً منهم..

الحكاية الثانية عشر:
دعانا أحمد إلى لعب البليار فأجبنا دعوته والفرح يغمرنا. كم هو طيب هذا الفتى! ما أن يحصّل قدراً، قلّ أو كثر، من المال إلاّ ويشركنا في النعمة رغم أن سعيه لا يكتمل في غالب الأوقات. لحبنا الزقاق المعتم في أمسية من الأيام الصيفية القائظة حتى بلغنا صالة البليار. وقبل أن يدلف أحدنا إلى الصالة، واثبت سعاد أخيها أحمد من حيث لم نشعر بها. وأخذت بتلبيبه ونترته بشدة فهوى على الأرض. امتقع وجه أحمد وأحسّ بالحرج فسكت متحيراً. وحدجته أخته بنظرة شزراء، وهتفت به وهي ما تزال تشدّ قميصه:

ـ أيها النذل، لا أمان لك. ردّ النقود، ردّ النقود..

ضاق أهله بخفة يده، فأهملوه وصغّروه وصارموه. ولم يعد يذاكره منهم أحد حتى يحيد عن غيه..

*    *    *

جعل أحمد يتجنب والده لكي لا يرى منه ما يكره. فكلما انحنى على يده ليقبلها لطمه السي عليّ ولقي منه السب:

ـ اغرب عن وجهي أيها الكلب!

وعبثاً يتقرب أحمد إلى أمه بالكلام الطيب وإبداء الحزن والأسف. وأخذ يحدث نفسه يوما: "ما بالهم تألّبوا عليّ جميعاً وكأنهم ينزّهون أنفسهم عن الخطأ؟!".

فقطع نداء المؤذن السي إسماعيل للصلاة من يوم الجمعة حبل تفكيره. فقام وتوضأ، ثم طوى السجادة ومضى للصلاة في الجامع. وصادف والده في باحة الطريق فتوجه إليه مغتبطاً مزهواًّ. وقبل أن يلثم يده هوت على خده في خفة، ثم صفعته اليد الأخرى على قفاه وهو غير مدرك لما يحدث، صاح السي عليّ بحنق:

ـ حتى السجادة أيها الحقير تريد بيعها!

أبلس أحمد وانعقد لسانه، وطفق يحدق بعينين منكسرتين في أبيه دون أن ينبس، فأردف والده مدمدماً:

ـ عدِ الآن إلى البيت، ولي معك شأن آخر..

برح أحمد مكانه وهو موقن ألا فائدة من الجدال..

الحكاية الثالثة عشر:
ركب السي عليّ الحافلة قاصدا عمله كما هو مألوف عادته كل صباح. أنيقاً في بدلته الجديدة صار، لكنّ تحليقة لحيته ومشطة شعره وحركاته لم تناسب البذلة التي أهداها إياه أحد الوجهاء.

أغافله أحد اللصوص أم تغافل عنه؟ المهم، فتش اللص جيوبه بدقة ثم انسلت وأعين الراكبين ترصده.

ولما نزل السي عليّ من الحافلة أخبره ذات الشخص بوجود ثقب في طرف بدلته. جعل السي عليّ يسبّ ويلعن في جنون، فبادره الآخر قائلا:

ـ أنا من خرق بدلتك بعقب سيجارتي، وما ألوم نفسي في فعلتي..

حملق السي عليّ فاغراً فاه من الحيرة، فأردف السارق بوقاحة:

ـ لماذا لم تضع نقودا في جيبك؟ لقد أفتتني فرصة زبون آخر.

ضرب السي عليّ كفاًّ بكفٍّ، وقال في توجع:

ـ آه يا ربي، أسرق داخل بيتي ومن أهلي فما العيب في أن أسرق خارجه ومن الغرباء؟!

الحكاية الرابعة عشر:
بالسويقة(4)، احترف الخامسي بيع الحريرة في دكان مجاور لدكان المعلم علال. أجاد طهي الحريرة فبلغ صيته الدروب الأقصاء، وغارت النساء على أزواجهنّ من حريرته. كثر زبناؤه فحدج الناس باستخفاف من عدم حيلة لذوق طعامه. ويوما عذل عبد السلام صاحبه المحجوب، فأدلم شفته متكلماًّ باللفظ:

ـ صه وحسبك مغالطة، أي خبرةٍ تتشدق بها وريقك لم يخالط حريرة الخامسي؟ أجاب المحجوب:

ـ أعرفك جيداً أيها الخبيث، تريد أن تشبّ نار الخصومة بين الأحباب. حتام شيطنتك هذه؟!

والتفت المحجوب إلى الخامسي، فأردف:

ـ لو أني أشرب الحريرة يا سيدي لكنت أول العارفين، لكن مُنع عني شربها وأكل السمك والبيض المسلوق..

سأل عبد السلام مقاطعاً في هزء:

ـ ومن منع عنك كلّ هذا الخير؟

أجاب المحجوب في هدوء

ـ ستعلمون ذلك في الوقت المناسب..

وجاور دكان الخامسي، الذي تفرد في وقت مضى بالجناب، حانوتان لبيع الحريرة. فقل الزبناء، وتكمشت بحبوحة الرزق. فخرج الخامسي ذات أصيل يزمجر حين ضاقت به نفسه:

ـ أيها الـ.. لما سبقتكم إلى فتح دكان الحريرة حسن أن يبيع أحدكم التمر، والآخر يبيع البيض المسلوق، أو المشبك...!!

الحكاية الخامسة عشر:
وقفتُ في حلقة بجامع الفنا. تحدث صاحب الحلقة في إسهاب عن علم التنجيم وقدرته على قراءة الكف، سمعته يقول لجارتنا رقية وهو يسلمها شيئا كالحر.

ـ دسّي في مخدة محجوب هذا الحجاب، ولسوف تنفك عقدته ويبطل كيد غريمه. ابنك مسحور وعلة إصابته بالسحر هي ثقته البريئة..

ولشكّ في نفسي وجدتني أومئ بيدي إليه. فرغ من بعض المتحلقين فخاطبني قائلا:

ـ أنت فلان ابن فلانة..

حدس اندهاشي فقال في تحدّ أكبر:

ـ وطالب علم من المهد إلى اللحد.

الحكاية السادسة عشر:
باحت رقية والدة محجوب إلى أمي بسرٍّ مكتومٍ

ـ طالما تحيرت من بقاء محجوب وحيداً في غرفته يحاور نفسه. فينعزل عنّا طويلاً في غرفته الدامسة غالباً غير آبه لمن ينادي به أو يدقّ بابه. وقد اعترف إليّ مؤخراً بأنه متزوج بجنية، وقد أمرته الجهر بدعوته..

أخرجت رقية نفساً مديداً ثم استطردت:

ـ يبقى الكلام بيننا أيتها الحميمة ستر الله عورات أبنائك..

قالت أمي:

ـ عيب هذا الكلام، فلستِ في حاجة إلى توصيتي بولدي..

قضى محجوب في العزوبة زمناً طويلاً وقد سند للأربعين سنة ولم يتزوج بعد بإنسية. بائن القصر، أبيض البشرة، كثّ الشارب، حالق اللحية. يشتغل عوناً بالعمالة. وكلما رجع من عمله يقصد حانوت المعلم علال، فيدور حديث الجلساء حول الولاة والعمال والقوانين والرشوة... فيُفاض في المناقشة حتى يُفرغَ من صلاة العشاء بالجامع، فيقوم محجوب إذا نجم والده قدور الأعمى واقفاً على عتبة الجامع فيأخذ بيده ويقوده إلى الدار.

وقد كان محجوب مهيباً موقراً من لدن الجميع حتى جهر بالقول:

ـ يا عباد الله، إن زلزالاً سيضرب المدينة ليلة السابع والعشرين من أبريل (نيسان) المقبل. فمن حنّ على نفسه وأهله فبلاد الله واسعة..

والواقع أنه بدأ بأهله فنصح لهم في إشفاق، ثم جلسائه بحانوت المعلم علال، فسائر الناس. وعظ الناس فرادى وجماعات، فآمن بعضهم به وكذبه بعضهم، وسخر منه الشباب على الخصوص.

قال له عبد السلام مستفزاًّ:

ـ سمعت أنك تجمّد الماء. إنّا ذاهبون إلى بحيرة السدّ بعد غدٍ، فجمّد مائها إن استطعت. نريد أن نتزحلق على الجليد.

رفع محجوب عقيرته قائلاً:

ـ أيها الناس، إن أصاب مكروهٌ هذا المعتوه، فلا يلومنّ إلاّ نفسه..

وانبرى لإسماعيل المؤذن، كان ذلك في الأسبوع الذي سبق ليلة الزلزال الموعود، قال محجوب:

ـ إني أحبك يا إسماعيل، وهذا ما دفعني إلى معاودة التحدث معك. سافر وأهلك إلى أخيك، والزم مدينة فاس حتى تفوت ليلة الزلزال.
ـ إن ما تقوله يا محجوب ضرباً من ضروب الغيب. والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى..

وعن مراكش، رحل المعلم علال وأهله إلى الدار البيضاء، ورحل الجيلالي والراجي الفرّان وعبد الجليل الجزار، ورحلت خالتي غيته.. ولم يرحل أحدٌ من أهل محجوب. وهو حاملٌ حقيبته يريد ترك المدينة، مازال يعظ الناس.

وجاءت الليلة المرتقبة. وفي الحقيقة ساور الخوف أغلب الباقين. وضرب الليل. وانتظرنا. وأرقنا.

وجاء الصباح. أضاء الصبح وأشرق دون أن يقع شيء.

رجع محجوب بعد يومين. لقيه ولد حليمة ساخراً:

ـ خابت نبوءتك يا حبيبي.
ـ لم يفتر لساني عن الدعاء لكم..

الحكاية السابعة عشر:
عُرف أحمد بين التلاميذ بشغبه الشديد رغم سحنة الوقار الخدّاعة البادية على محياه. وما أزال أذكر يوم الامتحان الموحّد، يومئذ ضُبط متلبساً بالغشّ من قبل الأستاذة المكلفة بالحراسة. فقالت وهي تنزع كتاباً من تحت فخذيه:

ـ ماذا تفعل؟
ـ أستعين به.
ـ الصحيح أنك تغشّ نفسك وأصدقاءك. فالاستعانة بالكتب،أيها الغاش، على الامتحان تكون خارج الفصل..

قال محركاً سبابته في غيظ:

ـ أنا لا أغشّ أحداً.
ـ عجباً لك، ألم تستحي من نفسك؟
ـ الحرب خدعة..

ويوم الإضراب، شارك التلاميذ المضربين بعزم وإيمان فكسّر من زجاج النوافذ ما لم يطش حجره، وهتف بما حفظت ذاكرته من الشعارات. وكان يصدح بالبيتين الشعريين:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي    ولا بد للقيد أن ينكسر

ينكسر.. ينكسر.. ويظل يردد هذه الكلمة مادام يرمي الزجاجَ بالحجر..

الحكاية الثامنة عشر:
بقاعة الدرس، كنتُ أتحدث همساً مع صالحٍ عن أمورٍ لم أعد أذكرها اليوم. وبغتةً سكت صالحٌ متحيراً. كادت مقلتاه أن تطفران على محجريهما. وأنشأ يفتش، والارتباك بادياً عليه، في جيوبه. ضرب كفاًّ بقبضة الكفّ الأخرى، وغمغم:

ـ أفّ. مرغتُ أنفي في التراب.
ـ ماذا حصل لك؟
ـ نسيت صورة معلقة على جدار بالمرحاض، ولا شك أن والدتي ستطّلع عليها..

الحكاية التاسعة عشر:
مضى على هذا الحديث ردحٌ من الزمان. جاءت الحاجة مينة إلى السي التهامي، صاحب متاجر الثوب، تتشكى من تصاريف الدهر، وحمل الأبناء الذي ينوء به كاهلها. فأدرك مطلبها وحذق تنزهها عن السؤال. وكذلك حقّ عليه أن يستعمل بكريها عبد السلام صوناً للجوار وعرفاناً بفضل زوجها الراحل الحاج الطاهر، حامل كتاب الله والمفتي في مسائل الناس ومدرس القرآن في الكتّاب. أجل، مضى على ذلك زمنٌ طويل. ولع السي التهامي بعبد السلام واحتلّ من قلبه موضعاً مكيناً. شبّ واكتسب تكنيك التجارة من حساب وجدال ومضاربة وأخلاق السوق... وأصبح السي التهامي لا يعقد بيعاً أو شراءً دون أن يطلب منه المشورة.

وذات يوم، وفي صحن دار السي التهامي، تحدثا طويلاً فقال هذا الأخير:

ـ ألم تنوِ بعدُ الزواج؟

أجاب عبد السلام وقد أزاغ بصره إلى الأرض من الحياء:

ـ قريباً إن شاء الله.
ـ وهل اهتديت إلى بنت الحلال؟

قال عبد السلام وقد تجرد من حياءٍ يعسّر نطقه:

ـ الحقّ أني فوضت إلى والدتي الأمر.
ـ وما تقول في خديجة؟ ابنتي!

بهت عبد السلام، ثم قال في تودد:

ـ للاّ خديجة. إنك تُغرقني في فضلك يا سيدي!
ـ لا تقل هذا الكلام، ثم إنني لن أجد من هو أفضل منك..

رنا السي التهامي إلى محيا عبد السلام يسبر أثر كلامه، فلما اطمأن إلى اغتباطه استطرد قائلا:

ـ أصغ الآن إليّ ولا تقاطعني.. غلبني النعاس وخطبة الجمعة قائمة، فرأيت أم خديجة رحمها الله تلبس ثوباً أبيض ووجهها يتلألأ نوراً، طمأنت صوتها قائلة:

ـ عبد السلام. من غير عبد السلام عارفاً قدر خديجة وكاشفاً غمتها؟

وظلت أصداء كلماتها تتردد في أذني حتى صحوت من غفوتي:
ابتدره عبد السلام حين أتعبه الصمت:

ـ طالما تبدى الحزن والكرب يعكر صفاء وجه لَلاّ خديجة.
ـ يحق عليّ أن تعرف علة كدرها..

وهمس السي التهامي في حزن وأسف:

ـ التعيسة ليست بنتاً..

فغر عبد السلام فاه وجحظت عيناه ولم ينبس. وفي ذات اللحظة، جاءت خديجة بصينية الشاي. مقلها عبد السلام بنظرةِ استحقارٍ، وقال لنفسه مُتشفياً:

ـ وما عذركم يا ذوات الأصول؟!

وحين اطمأن السي التهامي إلى أن خديجة تغيبت كفايةً، قال:

ـ أظنك تتفهم الأمر..

سكت عبد السلام طويلاً قبل أن يجيب:

ـ وماذا سينوبني من هذا الزواج إلاّ..

قاطعه السي التهامي:

ـ توقعت أن تخذلني وتخز جرحي. كم تريد؟
ـ أثق بمقدارك.
ـ يبقى الأمر سراًّ بيننا، وتقبض نصف القدر بعد الطلاق. ذانك شرطاي.
ـ اتفقنا.

*    *    *

قال عبد السلام هازئاً:

ـ ما بالك تتمنعين يا بنت الأصول؟

أجابت خديجة:

ـ إياك أن تسخر مني يا ابن أمينة.
ـ بل أنت من تسخرين مني. هل تسمين هذا زواجاً؟
ـ لا تخاتل نفسك، فأنت تدرك تماماً غرضك من الزواج منّي..

أمسك ظهر كتفيها، وهمس إليها بقوله:

ـ على أيّ حال أنت زوجي، وواجبك..

قاطعته في حنق وقد انسلتت من بين يديه:

ـ وواجبك أنت أن تضع حداًّ لهذه الأكذوبة وتدعني في سلام..

ولم يزل ذلك الدأب حتى قضى منها وطره، ففي ليلة تخالصا ولم يكدرها بكلامه. جعلا يلعبان الورق والعيون زائغة من الحذر. صمتٌ مطبقٌ يعمّ الغرفة لا يعكّر نقائه سوى قهقهة تند عن أحدهما متى سهم وجه الآخر. وبعد حين، انفرجت أساريره وقال باسماً:

ـ غلبتني يا شيطانة. لك أن تسألي ما ترغبين فيه..

قامت في دلال، وهمست إليه ببعض الكلام أجذله. فهرع إلى النور وأطفأه..

ومن اليوم التالي، انبتت الأسباب بينهما..

الحكاية العشرون:
في أقصى الدرب على الجانب الأيمن، يقيم بّارزّوق بدارٍ يقال أنها أول بناء بالحومة. ولصق دار بّارزّوق ثمة بهوٌ يحوي بقراته وثيرانه. للبهو باب عتيق ينبعث من خلاله الخوار ورائحة البعر. وطالما دفعنا فضول الأطفال إلى التسابق من أجل النظر عبر الخلال إلى ما وراء الباب العتيق.

في بيتهما البدوي، يعيش بّارزّوق وزوجته زهور على وحدهما منذ وفاة ابنهما حسن في إضرابات الطلبة.

كل أربعاء، يخرج بّارزّوق إلى سوق البهائم للمتاجرة. وكل يوم تخرج زهور للاسترزاق، فتبدو وهي تلحب الدرب كنحلةٍ عجوزٍ، تقرع أبواب الدور باكراً حاملةً وعاء الحليب. وكلما سمعتُ نقراً خفيفاً على الباب في الموعد حزرتُ الطارق، ومتى أفضيت إلى الدهليز ولفحتني رائحة الدوابّ أيقنت بوصول العجوز.

وفي الأيام الأخيرة، مضيت على اجتراع قدر من الحليب، ثم أملأ ما نفد من القارورة بالماء قبل نقلها إلى والدتي. قالت والدتي وهي تهزّ رأسها:

ـ اطمأنت العجوز إلى زبنائها فجعلت تمهي الحليب..

غضبت والدتي على زهور، وبعثها غضبها على الكفّ عن ابتياع الحليب منها..

الحكاية الحادية والعشرون:
كنا نلعب بالكلل في باحة الطريق لما انتهى إلى مسامعنا لغطٌ يتدنّى قادماً من وراء عطفة الزقاق. لممنا الكلل وهرعنا إلى استطلاع الخبر. مددنا أعناقنا ننظر إلى ما وراء العطفة فلاح إلينا مشهد من الغرابة في نهاية: ثورٌ هائجٌ يركض في الزقاق مسابقاً الريح.. سابلة متحيرون من الفزع.. صبية يصعدون في أعمدة الكهرباء.. نساءٌ تجرين فتهوين على الأرض بسبب ضيق جلابيبهن، وأخريات يستعصمن بدور مشرعة.. رجال يلوذون بحافة الطريق حتى كادوا يلتزقون بالحيطان.. صياح متصاعد وغبار.

قرب منّا الثور فما لبثنا أن انضممنا إلى الفزعين. وحين بلغ الثور الجناب الكبير، قام عبد الجليل الجزّار، وكان يجالس المعلم علال في حانوته، فاستل سكينه وارتمى على الثور فقطع لحمة ركبته. وبرك الثور من فوره ودمه يتسكّب.

الثور ملك لبّارزّوق بطبيعة الحال، وحتى يكفّر عن خطئه ذبح الثور في نفس اليوم. وأقام وليمةً دعا إليها أصحاب الدرب، فأكلوا الشواء بنهم، وقال إسماعيل في شماتة وهو يفتك بلحمة عظيمة:

ـ اللي جرات المعزة فقرون الجبال كتخلفو في دار الدباغ. واللي جرا الثور في الدريبة كيخلفوا فسنينا..

الحكاية الثانية والعشرون:
في إحدى ليالي مدينة مراكش العتيقة، وتحت شجرة الدالية ذاتها تربع السي المهدي حذاء قدره العظيم المليء باللحم المشوي، وفوقه قنديلٌ معلّقٌ بغصنٍ نافرٍ من الشجرة. في ضوء القنديل، يتراءى السي المهدي كأنه رجل لم يبرح مكانه منذ العهد السحيق. به عمش دائم في زوايا عينيه، نحيل الجثة، رثّ الثياب، صموت وإن تكلم أشفقت عليه أن يجفّ فمه من اللعاب. إني لم أدر يوماً أي صنف من الأنعام يبتاع، ولا أي موضعٍ تُأخذ منه تلك القطع من اللحم؟! همس إليّ صالحٌ قائلاً:

ـ هذا هو السي المهدي مول خانز وبنين..

طرق كلامه مسمع مسعود، فحدّق إلى صالحٍ ممتعضاً، وقال وهو يشمّمه اللحم:

ـ شمه. أهذا اللحم نتين؟
ـ وما بالي أنا. هذا كلام الأصدقاء.
ـ لعنة الله على الأصدقاء..

أما السي المهدي فظلّ ساكتاً منكفئاً إلى عمله وكأن حديث صالح ومسعود لا يعنيه. وأحسب سكوت السي المهدي فتر حماسة مسعود فأطرق. وغشي مجلسنا صمت رهيب حيناً من الزمان. والآذان تأبى إلا أن تسمع، تحسستْ فبلغها صوت المضغ ومشاجرة الأطفال وحديث المارة. وهما تسيران على مقربة منا، قالت سيدة متخمرة لرفيقتها بحدة:

ـ كل شيء صار مغشوشاً يا صفية. لقد تغاضيت عن زهور طويلاً، لكنها تمادت في تمهية الحليب..

بلغني الصوت فألفيته مألوفاً. رفعت بصري في عجل فأثبتت أنه صوت أمي.

اضطرب زبون في مكانه كان ينهش خبزة محشوّةً باللحم. قطع حبل الصمت قائلاً:

ـ أسمعتم الفأل: كل شيءٍ صار مغشوشاً. أصبحوا يحصّلون على الحليب بلا حاجة إلى الأنعام، وعلى العسل بلا حاجةٍ إلى النحل، وعلى اللحم بلا حاجةٍ إلى البهائم...!

كل هذا الحكي وما نبس السي المهدي بكلمةٍ واحدة..

الحكاية الثالثة والعشرون:
لعلي أقرأ على وجهك علامات الرضا بعملك الجديد.

ـ ما تزال أمياًّ في قراءة الوجوه يا صاحبي..

أجاب الثاني وهو يحرك رأسه متأسفاً، في وقت ظلّ الجيلالي يتابع حديثهما دون أن يشترك فيه. واستدرك الأول قائلاً:

أألفت اللاّعمل حتى نخر عظم كتفيك أم تحسبني عيوناً؟

ـ لا هذا ولا ذاك.
ـ ألم يكفِكِ الأجر؟
ـ العمشُ خيرٌ من العمى.
ـ ما بالك إذن؟
ـ هذا العمل لا يمكنّي حتى أن أتشفى من سنوات البطالة.
ـ إنه الجحود بعينه. اصبر واثبت فكثيرون يتحينون فرصتك.
ـ فات الأمر. لقد همت على وجهي إلى أن وجدت من ينوب في العمل عني..

ظل الجيلالي يتابع في حسرةٍ وأسفٍ، فقال حين شاط به الغضب:

ـ كيف غبت عن خلدك وأنت أدرى الناس بما أعانيه في البحث عن عمل؟!

انفجر الاثنان ضاحكين، فجارهما الجيلالي في الضحك عندما وضحت له الحيلة..

الحكاية الرابعة والعشرون:
قال الأصحاب في هزل:

ـ جاء الجيلالي. إنه مقبلٌ علينا.
ـ صبرك حتى يصل إلى مجلسنا.
ـ لا أحد ينبس بكلمة..

سلّم عليهم فلم يردّوا إليه جواباً. ثم فضّوا مجمعهم وتركوه قائماً. نقل الجيلالي بصرهم بين الأصحاب وقد تفرقوا في كلّ جانب، يرنون إليه وهم يكادون من الضحك ينفجرون. صاح وقد استشاط غضباً:

ـ إيه. الحق أني المخطئ إذ أحاول أن أرفع قيمتكم. لكن، لكن أجزم أنكم لستم إلاّ..

قال عبد السلام وهو يشكم رغبته في الضحك:ـ إلا ماذا؟

ـ اسمعوني أيها الأوغاد، إن سعيتم لمجالستكم ثانيةً فلا تترددوا في التفل على وجهي..

الجيلالي في ريق شبابه، بيد أنه بريءٌ من نزق أترابه. عليه مسحة من التؤدة والرزانة حتى لقب بالعقول. ومنذ حداثة سنه اشتغل بالدباغة فترى بيتهم طيلة أيام التشريق أو يزيد قبلة سكان الدرب والدروب المتاخمة فتكاد تخاله مدبغة.. ولدت أمه سبعة أبناء وأربع بنات وهو آخر العنقود. يغلي بيتهم بالأنفس، زهاء العشرين فرداً ما بين أسرته وأصهاره وأبنائهم. اقتفى أثر إخوته فهيأ غرفته بما يحتاجه ليعول نفسه. ففي زاوية من الغرفة تجد موقداً غازياً وطنجرةً وقربة ماء، وبعض الأوعية وأوان بها حفنة أو حفنتين من زيتونٍ أو تمرٍ أو زبيب...

وقد اشتهر بالتقشف في أكله حتى أفحم يوماً صحابه وتناول خبزةً مع حبةِ زيتونٍ واحدة..

الحكاية الخامسة والعشرون:
أطللتُ من سطحنا على دار جارتنا صفية. لم أدعُ صالحاً للخروج كما نويتُ سابقاً، كانت والدته صفية مفترشة حصيراً في شرفة تطلّ على صحن الدار. جلست عارية إلا من التبان. كانت تلك أول مرة أرى فيها امرأة عارية منذ حادثة الحمام. جعلت أنقل النظرات من خلال الدربزين حتى أرمق جسدها اللحيم بكل جلاء. لفّت شعر رأسها في خرقة لم تمنع الحناء من أن يميع على وجهها، وطلت بشرتها بدهان حتى كادت المواضع التي تسقط عليها أشعة الشمس أن تومض. وكلما انحنت لتغمس يدها في زلفة على جانبها مترعة بالحناء تدلى النهدان كرمانتين متراقصتين. وحين خَلَت من تخضيب يديها وقدميها، رفعت رأسها فتفطنت لوجودي، قالت محذرة:

ـ أيها الشيطان. سأشكوك إلى والدتك..

هربت دهشاناً. خفتُ وارتقبت عقاب والدتي. مضى يومان ولم تعلم والدتي الخبر. وفي اليوم الثالث، لقيت صفية. لوت أذني برفق، وقالت باسمة:

ـ إياك أن تطلّ عليّ اليوم حين الظهيرة..

ألحقتها بنظراتي إلى أن غابت في عطفة الزقاق مستحضراً جسدها البضّ المكتنز المختفي خلف الجلباب. ومنذ تلك الظهيرة، لم تشأ أن تضبطني متلصصاً من السطح..

الحكاية السادسة والعشرون:
بغتةً رفع المدرس بصره من على أوراق موضوعة بلا ترتيب فوق المنضدة. جالت نظراته في أنحاء الفصل فلقي صالحاً في حالةٍ لا ينبغي له أن يكون عليها. فالتعيس يضحك يبدو أنه نسي نفسه. وبتلقائيةٍ قطّب صالحٌ علّ الحزن يصلح ما أفسده الفرح، لكن الوقت قد فاته. أشار المدرس بسبابته إلى صالح فلبى الجاني ليس له من الأمر شيء أن يعاقبه أو يصفح عنه. وطفق صالحٌ يتوسل إلى المدرس ويستعطفه كي يسامحه. فخيره المدرس بين الصفع كما هو مألوف العادة جزاءً لكل من استحق العقاب وبين نقص خمس نقطٍ من المعدل وهذا هو الجديد الذي فاجأنا به. قال صالحٌ متنهداً:

ـ بل أختار الطرح الثاني..

فتش المدرس في مفكرته، فقال بعد حين:

ـ ذكرني بالمعدل الذي نلته في الواجب ياصالح.
ـ أربع نقطٍ يا أستاذ..

قال المدرس متبرئاً: أيصح خصم خمس نقط من أربع؟! لا بدّ لك من الصفع يا بنيّ..

الحكاية السابعة والعشرون:
ذات عشية من شهر غشت (آب)، امتلأ فيها القمر حتى صار بدراً مشرقاً، خرجتُ من البيت هرباً من هجير الصيف ووعيد أمي:

ـ أقسم أن أجعلك تقلع عن طيشك، متى ستتعقل؟ هل ستظلّ طفلاً؟

سرتُ في الزقاق إلى الجناب الكبير. هنالك ألفيت أقراني يبارون الشغب. وضاق جسدي الصغير بنفسي المضطرمة، فاستشعرت رغبةً في التخلص من ظلي الساقط على الأرض. سعيتُ جاهداً للأمر. ركضتُ بكل قوتي غير أن ظلّي ما انفك عني وكأنه قبل المغالبة. استندتُ إلى ركبتيّ بيديّ كليهما وجعلت ألهتُ حين بلغ مني التعب. فكرةٌ طيبة طفرت إلى ذهني وقتئذ، وطئتُ الظلّ بإحدى رجليّ وانطلقتُ مسرعاً فلاصقني ملاصقةً تامةً. توقفتُ خاضعاً. بصقتُ عليه من الغيظ.

وأدركت أن عبثاً أحاول التخلص من ظلي..

الحكاية الثامنة والعشرون:
أسموه حمام النساء، ولم يأبهوا البتة لذكران الأطفال. جرت العادة أن يُستصحب الصبيّ الصغير إلى الحمام من قبل والدته، فقد فاقت الأمهات الآباء في رعاية الأبناء وتدبر شؤونهم، والصبر على عيوبهم وخلالهم القبيحة. وما كنتُ لأشذّ، أو تشذّ أمي، عن هذه القاعدة المأثورة.

الواقع أني لم أعد أذكر أول مرة رافقت فيها أمي إلى الحمام، غير أني ما أزال أحفظ في ذهني المرة الأخيرة. ففي ذلك اليوم، استمتعتُ بالتزحلق فوق إسفلت الحمام الزلج الأسيل. كنت أستلقي على وجهي فأمخر مياه الصالة الوسطى قبل أن تصب في فتحة المصرف الصحي. اعترضتْ أمي مجرى طريقي، فاستفقت من لهوي وكفها تقرص لحمة كتفي وتقول محتدة عليّ:

ـ تعومُ في وسخ الناس أيها القذر! اذهب لتسخن وبعدها سأدبغ جلدك..

مضيت خاضعاً إلى الصالة الداخلية. فلم يكن هنالك شيء أبغض إليّ من القبوع في تلك الصالة القائظة المدلهمة. لبثتُ بمكاني حتى لاح في فكري خاطرٌ سعيتُ إلى تحقيقه.اختبأت وراء سيدة طويلة، ضخمة الجثة، فلم تجاوز أم رأسي وسطها. سرت خلفها حتى بلغتُ في أمان الصالة الخارجية. كانت تهزّ ردفيها بنظام وتناسق فغر له فمي، وأنساني أمر والدتي، وطاب تبانها به. وحين انتهتْ إلى موضع جلوسها بين السطول جعلت أنظر إليها فاستشعرت انقباضاً في صدري أحسسته لأول مرة. بعين مجربة طالعتني فحزرت تحيري، ناولتني غاسولاً وطلبتْ إليّ أن أدلك ظهرها.

ودلكت ظهرها بلدة وتشهيت أن أدلك أمكنةً أخرى من جسدها الناعم. وقتئذ سهوتُ عن السخنة حتى جذبتني أمي في إنكار.

رغم أني ترددت إلى الحمام مراتٍ عديدةٍ قبلاً فلم أر امرأة عاريةً حتى ذلك اليوم..

الحكاية التاسعة والعشرون:
ذات يوم، جاء رجال لم يعرفهم منّا أحد. نتروا ولد حليمة من بين عطفي والدته ومضوا به وسط ذهول عارم. انبعثت صرخة مدوية فتلتها زعقات المساندات من جارات حليمة، وسرى اللغط في الأزقة. أما الشابّ فقد ذهب مع الرجال مُكرهاً.

انقضت أيام وحليمة لا تبرح فراشها. دهمها الوهن والكدر وأضنتها الخطوب. ثم اتصلَ بحليمة خبرُ الرجال الذين اقتادوا ابنها فاطمأنت بادئ الأمر، وما لبثت أن عادت لحالتها. فحسبها أن وحيدها مُغرّب عنها في الرباط(5)..

الحكاية الثلاثون:
دنوتُ من فراش جدتي وكانت على وشك أن تنام. سألتها أن تقصّ عليّ حكاية فاعتذرتْ بالتعب وتأخر الليل، وارتأتْ أن أرجئ الأمر حتى الغد. ألححتُ عليها في الطلب حتى قالت مرغمة:

ـ سأحدثك بحكاية على شرط أن تمسّد رجلي..

قبلت الشرط على مضض، فشدّ ماساءني أن أدعك قدميها وساقيها. والحقّ أني لم أكن أجد منها ما يغيظني غير ذلك الدعك البليد. استلقت على وجهها، ثم تأوهتْ من وقع كفيّ وقالت:

ـ سأقصّ عليك حكاية الشاطر واللصوص.
ـ حكيتها لي من قبل.
ـ وقصة عائشة صاحبة الضفائر.
ـ أعرفها أيضاً.
ـ ثمة حكاية ممتعة، لكن عقلك أصغر من أن يفهمها.
ـ قصها عليّ يا جدتي. لقد كبرت وسأفهمها، سترين.
ـ اسمع، وسنرى إلى أيّ مدًى سيوصلك فهمك: في بلادٍ بعيدة، بعيدة جداًّ. استعبد أهلها الزنوج أجيالاً طويلةً إلى درجة صعب معها أن تقوم أمور الأسياد دون العبيد. انصرمت سنوات وسنوات على تلك الحال. العبيد في شغل دائمون، والسادة من جهدهم ينعمون حتى ذلك الوقت حيث وقع حادثٌ أفغر الأفواه من العجب..

سألت في حيرة:

ـ هل ثار العبيد على الأسياد؟

أجابت في غضب:

ـ أصغ إليّ بكل وعيٍ وحذار أن تقاطعني مرة ثانية..

*    *    *

أردفت الجدة قائلة:

ـ لسبب أو لآخر، تناقص عدد العبيد بشكل ملفت. وتناهى النقص حين لم يبق في البلاد غير عبدٍ واحدٍ. وهذا الأخير شابّ حدثٌ مملوكٌ لأحد الأثرياء. بعين التقدير طفق الوجهاء يرمقونه، وسعوا لتملكه بإصرار.

وفي ذلك اليوم عندما أرسله سيده في حاجة، راح يفتش عنه لما استبطأه فألفاه ببستانٍ صاعداً فوق شجرة لوزٍ يقطف الثمر. أمره السيد أن ينزل متوعداً إياه بالسياط، ثم جلس السيد على العشب واستند إلى ساق الشجرة متجاهلاً استعطافه. ومكث بمكانه حتى غفا.

تنبه العبد لغصن متين يتصل إلى أغصان شجرة أخرى. عبره في حذر فبلغ الشجرة المحاذية. نزل منها بخفة وفرّ على رؤوس أصابع قدميه.

ـ لاشك أن سيده عاقبه بذنبه عقاباً نكراً؟. سألتها مستنكرا.

انقلبتْ على ظهرها فكففت عن التمسيد. قالت بنبرةٍ محذرةٍ:

ـ إن سألتني عن شيء بعدها فلن أكمل الحكي. أجل، فالكرى يداعب جفوني..

*    *    *

استأنفت حديثها قائلة:

ـ هرب العبد إلى الجبال وهنالك هنئ بحياة سعيدة رحيبة. يشرب من الأغدرة، ويلتقط الكلأ. ينام ويفيق متى شاء، إلى أن استفاق على بضعة رجال من قومه يجرونه مصفداً، فأعادوه مهيناً إلى سيده. ومن فرط بغضه، أحبّ سيده الانتقام منه فصلبه في ساحة بالمدينة، وجلده أمام الملأ حتى فاضت روحه.

غضب الوجهاء على السيد، فقد جنى آخر حبة من قطف الاسترقاق. وخيب رجاءهم في رجوع العبودية. فتألبوا عليه وقتلوه..

بعد صمتٍ قصيرٍ، بلغني صوت شخيرها.

فهمت يومئذ القصة على ظاهرها، واليوم أفسرها تفسيراً آخر أوفر حصافة وأنا على يقين راسخ أن الغد سيحمل تفسيراً جديداً..

الحكاية الحادية والثلاثون:
كانت فتيحة في ميعة الشباب، وكنتُ في ريعان الطفولة.

بلغني عنها همسٌ كثيرٌ، وجله أو بالأحرى كله يقول بسوء سمعتها فصار الحديث عن خلقها يضرم في نفسي الحنق، ويجيش له صدري بشعور الخجل رغم أني ما أثبتت البتة صحة القيل والقال. إن قرابتنا علة كل هذا وإن وهنت أواصرها. كان يجمعنا بيتٌ واحد، وكلما أشار أصبعٌ إليها أشارت أيادٍ إلى أسرتي. والحقّ أن فتيحة كانت كريمةً معي، فغلب كرمها غضبي عليها ولم أقاطعها يوماً.

ودُفعتُ إلى درب المراهقة حين بلغت آخر درب الطفولة. فوجدتني على غرةٍ لا أطيق سماع كلامها، ولا أجسر على مدّ يدي متى شاءت أن تنفحني بقدر من الدريهمات. ورأيتُ من سلوكاتها ما لم أره قبلاً. وتأكدتْ لي عربدتها فاستنقصتُ قدر نفسي وتحاشيت بل ترجيت غاية الرجاء ألا يرد ذكرها في مجامع الأصحاب، فلولا البيت المشترك، لولاه لم أحفل بأمر الداعرة، قال صالح:

ـ إنها تسيء إليكم يا صاحبي. أحسنتم إليها واستبقيتموها في كنفكم وهاهي تردّ إليكم الجميل..

وقال أحمد:

ـ لو كانت قريبتي لما توانيت في قتلها..

وفي يوم خريفيّ، خرجنا إلى الرحاب المتاخمة لسور المدينة. خرجنا في نزهة، وجعلنا نرمي النخل بالحجر لإسقاط البلح. ثم أخذ بعض الأصحاب يرمون شخصين جالسين تحت شجرة تينٍ غير بعيدة، ويرددون:

ـ طلق الدجاجة لما ليها ولا تبيض أو توحل فيها..

دققت في النظر إلى الشخصين فلم يكونا إلا فتيحة وأحد أبناء الدرب المجاور..

وبقدر ما نفرت من فتيحة بقدر ما استثارتني كتبها الحوافل بالغرائب..

*    *    *

شعرت بميلٍ غامضٍ إلى كتبها. استهوتني سلسلة روايات الجيب مثلما فتنتها أيضا. فقد حازت كما أعتقد جميع أعدادها. وكنتُ أتحين غفلتها كي أظفر بلحظاتٍ حالمةٍ وقت قراءة قصص السلسلة، فأقاسم العاشق ومعشوقته عذاب الحبّ ونعيمه. والواقع أنها ما كانت ستمانع أن تمنحني رواية إن استوهبتها إياها إلى حين قراءتها، لكن كبريائي حال دوماً دون طلبي.

لم تكن كتب سلسلة روايات الجيب وحدها على منضدتها، كتب "المودة" أيضا توفرت واحتلت مكاناً واسعاً. وكنتُ كلما تصفحت أوراقها ولّدت في نفسي شهوةً لا يقطعها سوى ما كانت تخطّ على صفحاتها بخط رديء. كتبتْ أبياتاً من أغانٍ شعبيةٍ، نحو:

                        مهمومة هاد الدنيا مهمومة                مهمومة أخويا مهمومة

ونحو:          أش درت أنا اش درت فيما يجرى لي         ما ناش اللي اخترت العيوب ديالي.

وعثرتُ مراراً كثيرةً على أوراقٍ نقدية مدسوسة بين أوراق كتب المودة. وحدث يوماً أن عثرتُ على قصاصةٍ صغيرةٍ من جريدةٍ حملت لي خبراً غاية في العجب:

«أحسّت سيدةٌ بألمٍ شديدٍ في أسفل ظهرها، فاصطحبها زوجها على الفور إلى أحد الأطباء. فحصها هذا الأخير فعاتب زوجها بشدة على مضاجعة زوجته من الدبر، إلا أن الزوج ظل يؤكد أنه لم يقم بهذا العمل المشين على الإطلاق. راقب الزوجُ زوجته حتى تأكدت له خيانتها الزوجية فعمد إلى إبلاغ الشرطة التي ضبطت الزوجة متلبسةً بالخيانة. توبعت الزوجة بالخيانة الزوجية، فيما توبع العشيق بالفساد».

تفكرت في أمر قريبتي فقلت لنفسي كلاماً كثيراً، بيد أن الدنيا قالت كلاماً مغايراً. فقد تزوجت فتيحةُ مذ سنتين بعبد الله، وتحيى اليوم سعيدةً مع زوجها وابنهما أمين..

الحكاية الثانية والثلاثون:
في ليلةٍ ساهرةٍ، حضرتُ وزمرةً من الأصحاب عرسَ عبد الله وفتيحة. ليلتئذ حلا لنا الطعام والشراب والنغم، والحقّ أن مجمعنا كان أمتع المجامع على الإطلاق، فاتخذنا عرساً في قلب العرس. وأشده الجيلالي المدعوين، في زفاف أخيه عبد الله، بسابقةٍ له. جاء بصندوقٍ مُترعٍ بقنينات المشروب الغازي وهو البخيل الذي يضنّ حتى على نفسه بالخير. واستبدّت بالمدعوين الدهشة لما شهر بسلعته صائحاً. فأمثال هذه المحافل التي يتحشدُ فيها الناس ويعظم بها البيع لا تتكرر كل يوم.

تقدم الليل فدُخل بالعريس خافض الرأس من الحياء على عروسه. واشرأب الحضور إلى باب الغرفة حين استبطئوا العريس. فانطلقت عبارات تحثّهُ على العزم القوي. وجعلت خالتي غيته تنقرُ على بابه كي تستعجله.

خرج العريس بعد حين. فمرقت البتول في خفة إلى الداخل، وجاءت بسروال العروس ملطخاً بالدماء. فَعُرض علينا والزغاريد متصاعدة.

ذهب عني النوم تلك الليلة، وعلمت أن أصحابي أرقوا جميعاً. بخلاصة، لم ينم منا أحدٌ تلك الليلة..

الحكاية الثالثة والثلاثون:
ذلك اليوم، دخل فيه الموت بيتنا. وشاء أن يقتطف ثمرة من القمة. آه، آه رحلت الجدة! وشتان بين أول العنقود ووسطه وآخره. حقاًّ حلك البيت ولاسيما غرفتها التي ارتبطت في مخيلتي بقصصٍ ونوادر عجيبة.

وأدركتُ كما لم أدرك من قبل، شعور العزاء والعطف والكدر والفقد.

وضرب القدر بيننا. ضرب بيننا بحائط لم أجد له باباً.

وبقدرِ ما أحسستُ بعظمة الزائر بقدر ما خفت من عودته ثانياً.

الحكاية الرابعة والثلاثون:
لم أكن أدري ما يحدث بالتحديد في هذه الساحة. الشمس تميل ببطءٍ نحو الغروب، واليوم كان حاراًّ لم يوشك أن ينقضي حتى ملأ الدنيا تذمراً وسخطاً. الناس ضعفاء حيال مشيئة الله، أما عوامّهم فأضعف من قشة في مهبّ الريح. لكن ما بال بعض النساء تطوين بلا كللٍ الساحة من أقصاها حتى أقصاها؟! تمشين على مهلٍ، تضربن الأرض بأرجلهنّ حتى تتبدى عوراتهن. عيونٌ ماكرةٌ تطلّ من تحت النقاب وأخرى من وجوهٍ سافرةٍ. وبين الفينة والفينة يتقدم أحد العطشى ليرتمي في الغدير العذب، يهمس إليها وتهمس إليه وما تلبث أن تستأنف طريقها أو تمرق إلى خارج السور والعطشان يتعقبها حذراً إلى أن يتواريا عن الأنظار. تجاسرتُ لأفعل مثلهم فوجدتني أمامها لا أعرف ماينبغي تقديمه مما ينبغي تأخيره، وبتلقائيةٍ صافحتُها فمسّت:

ـ مساء الخير. هل من حاجةٍ يا غزال؟

وجعلت أرمقها في صمتٍ فضحكتْ ضحكةً قصيرةً وانصرفت. لربما سكتّ أطول من المحتمل. وقبل أن أبرح مكاني تنبهت للشريف مولاي أحمد، إمام جامع دربنا، يربّت على كتفي فالتفتّ. كان شيخاً من الوقار في نهاية. قال بنبرةٍ ملؤها السكينة والإيمان:ـ استعذ بالله واذهب في طريقك يا بنيّ..

ومضيتُ خاضعاً. تفكرتُ في أمر العطشان وذات العيون الماكرة فلم أميز بين الصائد والمصيد. لعلهما في كفةٍ واحدةٍ طالما أنّ كلاهما داوى علته..

الحكاية الخامسة والثلاثون:
وفّر الجيلالي حصةً من المال فابتاع بقرةً عجفاء(6). ساقها مفاخراً غير آبهٍ لعيونٍ دهشانةٍ وألسنٍ ساخرةٍ. ساق البقرة إلى حظيرة بّارزّوق، واحتبسها لديه ليعلفها. وكفى أهله مشقة تصريف قشور الفواكه والخبز الجاف وكلّ ما يصلح طعاماً لبقرته. ومازال الناس ينكتون عليه حتى صار هُزْأَةً. أمّا هو فقد طمع إن سمنت بقرته في بيعها عله يكسب ربحاً وافراً.

أما اليوم، فالجيلالي يمشي بتؤدة في طريق عقده الخامس، موفور الصحة والمال. يمتلك حظيرة أبقارٍ فخمةٍ. وفي الدرب مافتئ يقيم بدارٍ تجمعه وزوجته وابنتيه..

الحكاية السادسة والثلاثون:
رماني حظّي التعيس بالسمسار باقشيش. وباقشيش جنديّ متقاعد تعودت أن أتحاشاه ولاسيما إن همّني أمرٌ، كما هو الشأن اليوم، فأنفر بطبعي من الثرثرة. صادفته في طريقي فلحظ الغصّة باديةً على وجهي، قال بلهجته الذاتية:

ـ إياك والحزن. فالواقع أنه لا يوجد في زمانكم ما هو حقيق بالالتفات إليه، ثق بي يا بنيّ.. دأبتُ في تذكير أولادي كلما وجم أحدهم من مشكلٍ حصل لهُ: في العسكر، كنت آكلُ من لحمي وأشرب من دمي، وإذا فارقتُ الحياة ستأكلون وتشربون مني (ويقصد معاشه)..

شكرتُ له النصيحة وعزمتُ أن أعطف عنه(7)، فقبض على يدي وقال:

ـ كان القائدُ يعرض الجند واحداً بعد واحدٍ، ويسأل:
ـ من أبوك؟ فنجيب: المخزن.
ـ من أمك؟ فنجيب: المطعم الذي نأكل فيه.
ـ من هم إخوتك؟ فنجيب: الجنود الذين يعاونونني..

أبه للبرم والانزعاج يساورني، قال محركاً يده كمن خطر له خاطرٌ:

ـ الجنود المتقاعدون ثلاثة صنوف: صنف ظفر بالعقل، وصنف ظفر بالمال، وصنف لم يظفر بكليهما..

استفسرته مستفزاًّ حماسه:

ـ ومن أيّ صنفٍ أنت؟
ـ جحظت عيناه ولم يستطع جواباً..

الحكاية السابعة والثلاثون:
في زاوية بنهاية الدرب تجمعنا. كنا ضحى، وشمس الصيف القائظة بعثتنا على اللوذ بظل الحيطان. سيل من النكات، جدال ينشب من حين لآخر بين لاعبي الورق، سيجارة حشيشٍ تلفّ ثم تتنقل من فيه إلى فيه. ومسعود، جامع القمامة، مقبلا يجرّ عربته، ويردد:

ـ الزبل.. الزبل..

أخرجت البتول صينية الفطور لمسعود. فركّن العربة وتسلم الصينية شاكراً، ثم تحامل إلينا(8). جلس مسعود القرفصاء مستنداً إلى الحائط. وحطّ أمامه الصينية، ثم أفرج عن "السبسي" من تحت الجورب، فأشعله وطفق يدخن. وحين استشعر النشوة، كما بان على محياه، أخذ يتحدث:

ـ هيه. امتلأت المدينة من الأعراب(9)، وما عدتَ تقدر على معرفة الدخلاء من الخلص، لكن أتدرون من فادت له أكبر فائدة من ذلك؟

لم ينتظر جوابا فأردف قائلا:

ـ السمسار باقشيش، لقد أقسم أن يعمر الدرب وبرّ في قسمه.. ولعلكم تجهلون من حصلت له أكبر خسارة!

حدق إلى الوجوه، وأحسبه استبطأ الجواب، فقال:

ـ هذا العبد الضعيف (يشير إلى نفسه)، أجل نابني من جراء ذلك شقاءٌ كثيرٌ. فَرَوْض القائد السلاوي كان جنة مخضرة بأنواع النبات، في قلبه تقوم دارٌ فخمةٌ كالقصر. وكان يؤتى إليّ منه بسطل قمامةٍ واحد. واليوم وقد أهِلَ الروض بالأعراب، سامحك الله يا باقشيش، ونبتت الدور بدل الأشجار صار شبيها بخربة. فمتى أصل إلى الروض أقفل راجعاً حتى أفرغ العربة ثم أعود لأملأها من زبل سكان الروض... نهض مسعود ورفع عقيرته مردداً:

ـ الزبل..الزبل..

وملأ عربته من زبل سكان الروض كما ذكر. ومضى يدفع العربة تسبقه رائحةٌ نتنةٌ. خرجت سيدة من الروض على عجل، كانت تحمل سطل قمامة، صاحت لتستوقف مسعوداً:

ـ آمول الزبل..
ـ التفتَ إليها مسعود وقد قتم وجهه من الغضب. وتأنى عليها حتى لحقته، فهمس إليها:
ـ أنت هي مولات الزبل اللّي خرّجت لي زبلك. أما أنا راه كنقيكم من وسخكم..

الحكاية الثامنة والثلاثون:
حدث أن كنت أهيم على وجهي في أزقة مدينة مضيت على الاصطياف بها. فدهشتُ حين وجدتني حيالَ حياة. أجل هي بعينها، حياة ابنة الحاجة مينة بالتبني. كانت تقف على عتبة إحدى الدور. تبادلنا النظرات في وجوم.عرفتني رغم عوارض ميعة الشباب. قلتُ في عجب:

ـ ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟ا

توقعت منك هذا السؤال. المهمّ كيف حال الحاجة؟

ـ لا تبارح الفراش من شللٍ نصفي..

والحقّ أني استشعرت اضطرابها وإشفاقها. فأردفتْ:

ـ وأبناءها؟
ـ يتوعدونك لما أصاب الحاجة مينة بسببك..

فقالت بنبرةٍ كئيبةٍ:

ـ وماذا يقول الناس عني؟
ـ الكلامُ كثيرٌ..

قبضت بيدها على يديّ، وقالت لتغير مجرى الحديث:

ـ أظنك تفضلني على غيري؟!
ـ لطالما تمنيت أن أنالك..

قالت دون أن تداري حسرتها:

ـ أصبح ذلك يسيراً اليوم..

وفي غرفة زهيدة الأثاث، تعرت من فستانها بدون أدنى مبالاة. فتلألأ جسدها الغضّ في حامل النهود وتبانٍ مشبكٍ. وقبل أن تتعرى تماماً بادرتها قائلاً:

ـ لا تؤاخذيني، لن أستطيع.
ـ ألم تقل أنك طالما تمنيتني؟

ودون أن أجيبَ بكلمة، دسستُ قدراً من المال في جيب فستان معلق على مسمارٍ في الحائط، وعطفتُ عنها تواًّ.

أما هي فقد صخبت بضحكةٍ طويلةٍ هازئةٍ..

الحكاية التاسعة والثلاثون:
وحدث أمر ذو بال في الدرب. رجع ولد حليمة يوماً وسط ذهول الجميع مثلما ذهب. رجع يتسربل بالزيّ العسكريّ. فأمضى إجازته في حضن الأهل والصحاب، وتصافى الجميع. عندما انتهت إجازته عاد مضطراًّ إلى الرباط. فخربَ بيتٌ من بيوت الدرب بعد انصرام نحو سنة من عودته. فقد فارقت حليمةُ الحياةَ. وانقطعت أخبار ولد حليمة حتى يئس الناس من عودته. وفتح باب الظنون على مصراعيه:

ـ لعله قتل في الحرب.
ـ بل تكلفَ مهمة لا تليق إلا بأمثاله.
ـ يرجح أنه اختار التغرب حين علم بوفاة والدته.
ـ أوقد يكون انتحر.
ـ بلغني أنه أسر مع من أسر لدى الإنفصاليين في معسكرات "البوليساريو".. 

الحكاية الأربعون:
رجع إسماعيل إلى بيته فقبع في ركن من الصالة، وبقي كذلك حتى تنبهت البتول لوجوده. عجبتْ لعودته دون أن تسمع له حساًّ، أو يهتف بعزيزٍ على غير عادته. فسألته مداعبة:

ـ بسم الله الرحمن الرحيم. أزوجي أنت أم من أولئك القوم؟!

ثم ما لبثت أن أثبتت سهوم وجهه، فقالت بنبرة أخرى:

ـ خيراً إن شاء الله.
ـ ومن أين يأتي الخير وإمام المجسد في حلقي كالغصة.
ـ الشريف مولاي أحمد؟
ـ إبليس عليه اللعنة.
ـ استغفر ربك يا رجل.
ـ لقد توعدني أن يرفع شكوى ضدّي إلى وزارة الأوقاف.
ـ وما عذره؟
ـ لم يجد عذراً فجعل يتفوه ببعض الحماقات، لكن أقسم ألاّ أصلي وراءه بعد اليوم..

ومنذ ذلك اليوم، وإسماعيل يؤذن في مجسد الدرب ويصلي في مسجد الدرب المجاور. وبقي على تلك الحال سنةً أو أكثر حتى أسلم الروح وهو يصلي الصبح في المجسد..

الأربعينية الأولى

مراكش: يناير (كانون الثاني) 1999 
يوليو (تموز) 2000
 


الديدان البيض

                              إلى روح ولدي معاذ..
                              إلى التي شغلت الفراغ بعده: ابنتي آية. 

(1)

لم ندفن الماضي البتة، لا الماضي البسيط ولا المركّب. وذلك المسمار الذي دقّ في النعش، لم يكن الأخير. كنا واهمين! مَن خرج مِن النافذة يعود من أوسع الباب.الفرحة أنستنا أن شجرة التوت تتجدّد، وأن الماضي ينبعث مضارعًا. وحتى القوم ما فَضَلوا قومئذ.

سعى يوسف بن تاشفين(10)، قبل نحو قرن، وهو يدشّن مراكش لأن تكون مدينة البهجة. ولأن العرب، كما هو شأن اليونانيين، اعتقدوا أن لطبع الإنسان وسلوكه علاقة بوضعه على الأرض وتحت الأجرام فقد تحرى ابن تاشفين وضع أول حجر من تأسيس بنائها (مراكش) في برج العقرب الذي هو برج الغبطة والسرور، لتبقى دار سعادة وحبور.

برعت المدينة الحمراء مذ كانت في الاستقطاب، هنا أجداث ابن برجان وأبي إسحاق وابن العريف وأبي العباس والقاضي عياض والإمام السهيلي... "مراكش مدينة العلم والخير والصلاح"(11). والولاية، مدينة السبعة رجال. إلى مراكش جاء ابن رشد يوماً يتحسس أخبار الصوفي أبي العباس السبتي ليتأكد من وجود معرفة غير أرسطية، أليس المغرب بلاد الأولياء كما المشرق بلاد الأنبياء؟!

ما انفكت المدينة تبهج وتستقطب، بيد أنها لا تبهج اليوم أبناءها، ولا تستقطب غير ناشدي الليل الحالم وغرائبيتها وأضواءها وألوانها وعبيرها وحرارتها وعجائبيتها.

رفع «فرانسوا» عقيرته مبشراً بفتح جديد:

ـ ثمة مدينة على بُعد نصف ساعة فحسب من عاصمة الأنوار وكأن شمس القرون الوسطى لم تراوحها بَعد.
ـ تداعى الجسد الواحد، وفاحت روائحه فاستحثّ الدود الأبيض على.

كذلك أمسك الشيخ المراكشي عن الغمغمة مُتسائلا إن كان سمع تهديدا خفيا أو هكذا صُوّر له.. 

(2)

قفلت مريم من السعودية وَجِدَةً لوفاة والدها إسماعيل، أما زوجها سعيد الجباس فسيوافيها فور فراغه من عملٍ يربطه بشركة بناء هناك، هكذا أخبرها، وأخبرها أن قلبه معها.

ألفت مريم مراكش تنضح بعبق أزهار شجر الزنبوع في اعتدال، واللقالق لا تكاد تكفّ عن طقطقة مناقيرها في أشراف الخرائب، وهي ترجع على غير عادتها في غير إجازة الصيف متشحةً بالسواد.

استقبل عزيز برفقة صديقه أحمد والدتَهُ بمطار المنارة. وعزيزٌ يحضن والدته مرحباً مبادلاً العزاء استشعرت الأمّ بفخر استحالة طفلها رَجلاً.

بعثت عودة مريم في النساء، بالرغم من انصرام ثلاثة أيام على دفن إسماعيل، بكاء مصوتاً ومؤاساة لا ترضي الربّ ولطماً وشقّا. نهنهت مريم عن ذلك بإلواءة من يدها حتى قبل أن تُنزل نقابها..  

(3)

دوّى صوت كالرعد أهبّ ما وراء الجار العاشر من نومه في فزع شديد.

أَتُرى نبوءة المحجوب تتحقق في وقت مُبكّر مُتأخّر؟! اندفعت جوقة تتحسس الخبر، انتهى بها الأثر إلى قبالة بيت صفية. كانت الأتربة تنهال كالرذاذ هيلاً في ضوء المصباح العمومي. طالعتِ الوجوه بأسف الجانب المهدم من الدار. حيطان الطابق الأول/ الأخير المشرفة على الدرب صارت ردماً، وتقهقر باب الدار إلى ما دون الردم.

لما وصل رجال الوقاية المدنية كان بضع من الجوقة قد ناهزوا الباب. اقتحم الرجال الدار، فما لبثوا أن أخرجوا صفية على المحمل مسجاة.

جلجل بعد اليقين ذِكر صالح (وحيد صفية) في النفوس، استأثر بجلّ الحديث المتحسّر، ولم تنفضّ الجوقة إلاّ وسُفُور الصبح. مضى من كان حاضراً ينفض الغبار عنه والنعاس.. 

(4)

ـ أخيرا، السي عليّ يقبل. كدت أصارف نفسي عن الأمر، أو أني صرفتها عنه بعد ما لقيت منك من العناد. مافتئتُ أراضيك يا رجل وأنت مُعرض عني وعن مصلحتك. أنت صاحبي ولا أقبل الغرر لك. هذا السعر، أصدقني، لن تُحَصّله من مُشترٍ مسلم ولا حتى نصراني لو لم تتوسط دارك الدور التي ابتاعها النصراني، ينوي دكّ الجميع وإقامة رياض فاخرٍ مترامٍ. أنصحك ألاّ تُقصّر في مطلبك، طاوله واصعد بالثمن إلى بغيتك أو فوق ما تبغي. النصراني يدرّ بالمال. أنت في سبيله كالعوسجة التي لا ينفع إلاّ اللين والمخاتلة معها، أما أنا فلا أقبل منك سمسرة يا صاحبي. فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (12)، لو أن صفية رحمها الله رُدّت إلى الحياة لباعت بخسيس الأثمان أو تبرعت بِدارها على النصراني، بيد أننا لا نكاد نميز الخير المحض من الشرّ الذي لم يتلبس بالمصلحة البحتة. اقتن شُقة أو قطعة أرضية وابنها كما تتحلى في المسيرة أو المحاميد أو تامنصورت الواعدة...

لم يسع السي علي إلاّ الصّمت، بل يكفيه أنه هو من ابتدر السمسار باقشيش: "أما يزال النصراني راغباً في داري؟"..

(5)

ـ اعرض عليهما الجثة..

كم تمنى صالح ألاّ تكون الجثة لوالدته، وأن يكون الأمر برمّته كابوساً يفيق منه على ما كان. سبقهما موظف قصير إلى باحة في جانب منها ـ تحت السقيفة ـ صفين عموديين أو ثلاث من البويبات المربعة. حسّ صالح خدراً يدبّ سريعاً في رجليه من أخمصهما، ومع ذلك أَمِل أن تطول المسافة، أمل أن ينفلت من حاله إلى ماض سحيق أو إلى مستقبل أبعد من أن يُستشرف(13). أمل وأمل حتى فتح القصير بويبا فَلاَحَت أمّ رأس مَشْجُوجة دامية وتبسّطت رائحة نتنى، ثم ما أسرع ما أوصد القصير البويب مخنخناً:

ـ س. هَلَك في حادثة سير..

فَتح بويبا أرضياً وجذب محملاً فما أسرع ما دسّ صالحٌ رأسه في صدر والده منخرطاً في نوبة نشيج.

قاد الوالدُ صالحاً في رفقٍ إلى الجماعة المتجمهرة خارجاً ثم اتصل إلى سيدة قابعة في سيارة سوداء رباعية الدفع، كلّمها من النافذة فتحوّل رأساً إلى الإدارة المتاخمة لمستودع الأموات. لمّا عاد الوالد برخصة الدفن كانت الجماعة تصبّر صالحاً ما تزال. ترجلت السيدة من السيارة وأقبلت تُعزي في اقتضاب وتكلف. سأل الشريفُ مولاي أحمد:

ـ متى سيسَلّمونا المرحومة؟

شكر الوالد للجماعة حضورهم، وأعرب لهم بنيّته نقْل زوجته إلى داره. بادر صالح بحزم:

ـ بل نحملها معنا. سندفنها في مقبرة الحومة..

همّ الوالد بكلام فثبرته السيدة زوجته عن ذلك حاسمة:

ـ لا تُكثر عليه اليوم. دَعْه وما يختار.
ـ عموماً، لقد منعوا أن تُنقل الجثة إلاّ في السّاعفة. أنهيت كل الإجراءات، بقي أن يرافق أحدكم السائق، وسأوافيكم بمجرد ما أن أُقلّ.. بمجرد ما أبلغ بيتي..

(6)

حين رجع السي عليّ إلى بيته أطلع زوجته رأساً على عزمه النهائي:

ـ ابنك فضحنا في الحومة بَلْهَ الدرب. بات الجميع يتكلم عن شذوذه. بالأمس، عَرّض لي(14) عبد السلام: "عجيب ما رأيت. رأيت نحو ثلاثين شابّاً يذرعون في غُنج شوارع جيليز بتُبّانات وحاملات نهود فقط، ومع ذلك يضحكون ويصفرون. أفسد النصارى الأولاد". ألحقَ ابنك العار بنا. ينبغي أن نترك الحومة ونكفي الأحباب تكلّف الابتسام في وجوهنا تقديراً. لقد تكلمت مع باقشيش في الأمر.

ـ أَأقسم باقشيش هذه المرة على تعمير المدينة بالنصارى؟!
ـ وما يدفعنا إلى معاونته على البرّ بقسمه لولا المسخوط ابنك.
ـ وعبد السلام، ما منعك أنت أن تسأله عن أخته حياة؟
ـ الرجل لم يصرح. أم أنك لا تفهمين التعريض يا أمّية؟
ـ بائن أنك تتصيد مُسوّغاً للمشاجرة أو الرحيل. لن أتشاجر معك في مُنسَلَخ العمر..  

(7)

غُسّلت صفية في بيت خالتي غيته، وفيه أقيم العزاء. تملّكتْ صالحاً رغبةٌ في الحديث اللامتناهي عن والدته. استشعر نفسه أفواهاً لا تتبرّم، ولقي في صديقيه عزيز وصالح خير الآذان. تندّم على كل لحظة لم يقضها مع والدته وكان في وسعه ذلك. سبّ حياةً أمضتها والدته في الإهانة والوحدة. «طلّقها والدي في أرملة ثرية، ثم هجرتها بدوري من أجل دراسة الفن!». تَفَكّر في أنه سيكون مخطئاً لو عاش بعدُ طويلاً، فقد كان يحسب نفسه تحيى بوالدته ولها. وقمين بالأيام القادمة أن تُصحّح اعتقاده، أو أن تبرهن صِحّته. انتفض عزيزٌ فقال:

ـ تبلغك أمي سلامها، وتقول لك أن قتيل الرّدم شهيد، وتوصيك أن تصبر وتحتسب. وعَهِدَت إليّ طويلاً في أن أُقرأك: "اللهمّ اجُرْني في مصيبتي وأخلِف لي خيراً منها"..

ردّد صالح بعدَ صديقه الدعاء ثلاث مرات في انقياد.

ورفض مرافقة والده، بعد أن تفضّض المعزّون، إلى بيت زوجته في زاوية الحضر مُخبراً إياه:

ـ لم ينهدم كلّ البناء..  

(8)

في اجتماع سرّي عقدته "جمعية المثليين المغاربة" حضره أحمد، وتُنُوقِش فيه واقع الشواذّ بالمغرب وطموحاتهم:

ـ سننتزع الاعتراف بنا عاجلاً أم آجلاً.
ـ صحيح، الحقوق تُنتزع ولا تُمنح.
ـ سنسوقهم إلينا على رغمهم.
ـ نحن ماضون في تدويل قضيتنا.
ـ سنفضح تناقضهم مع ذواتهم ومبادئهم، ألاَ يرفعون شعار: "احترام الحريات الشخصية للأفراد وحياتهم الخاصة".
ـ لا تنسوا التّيار المحافظ.
ـ الحداثيون لهم بالمرصاد.
ـ وأصدقاؤنا في الخارج يساندوننا، تلقينا إشارات تفيد أنه يمكننا التعويل على بعض المؤسسات المانحة للدعم ولوبيات الضغط الخارجي.
ـ بل، وبدأت تبرز صحافة وطنية تدافع عنّا، ومنظمات حقوقية تتبنى ملفّ "حقوق الأقليات الجنسية".
ـ الأقليات اللغوية والأقليات العرقية والأقليات الجنسية كلها على غرارٍ واحد.
ـ المسيرة الأخيرة في شوارع جيليز نجحت في لفت انتباه الرأي العامّ المحلّي إلينا.
ـ اغتصبني مفتش شرطة (أحدهم مقاطعاً في غضب)، وهددني بإعادة اعتقالي إذا لم يحصل يومياً منّي على عَرَق الخلال(15).
ـ صبراً! ولنصبر أيضاً على شذوذ بعض الأجانب. الحفاظ على لحمتنا مجتمعة يقتضي منّا أكثر من ذلك..

هذا بعض ما ذكره أحمد، نقلته على ما سمعته.. 

(9)

لم يجرؤ أحدٌ من قبل على ذلك، انصرم زهاء شهرٍ على وفاة صفية ولم ينكفئ بعدُ صالح إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بالبيضاء. حتى والده عَدِم جَسَرَة مفاتحته بالموضوع لفرطِ ما يتوجّس من حساسية التلقّي فَزَعاً، ولشدّة وَقْع اللازمة عليه: (دَعْه وما يختار). فكّر أحمد في استقدام أخته سعاد إلى صالح علّه ينتزعه مما هو فيه إلى ما كان فيه. الحقّ أن الفكرة كانت فكرة سعاد، أو أن الفكرة فكرتهما معاً، وإن اختلفت مراميهما. فسعاد شاءت أن تعرض لوحاتٍ أبدعتها في فتراتٍ متفرّقةٍ على صالح ليبدي رأيه فيها. قبل ذلك، قادهما الحديث في كلّ جانبٍ. لم يتحاشوا جميعاً غير الإتيان على ذكر صفية. هذا التعاقد الضمني أراح الجميع. استحضروا خفّة يد أحمد في صباه، وحكى لهما عن التوبة التي لم تكتمل بسبب السجّادة. ضحك صالحٌ من قلبه، وكذلك أحمد وسعاد، فقد سرّهما غاية السرور أن يضيئا جانبا قصيًّا من قلبه. سألت سعاد في حشمة:

ـ ما تقييمكَ لهذه الصوّر؟ (ثم استطردت قبل أن ينبس صالح) بكلّ صراحة!
ـ بصراحة، لم أنتظر منك هذا السؤال. صوّر! أنتِ متعلمة، هذه ليست صوراً، بل لوحات. ثم إن الفن المعبِّر عن حالة شعورية ليس فيه سيِّئ. لا أحد مهما بلغَ شأنه يملكُ أن ينتقصه. الإبداع بعضه أصوب من بعضه، هذا كلّ ما في الأمر. ولوحاتك أقلّ ما يقال عنها أنها تعبّر بجلاء عن تعلقكِ الشديد بالمدينة الحمراء.
ـ فهمت، هذا صحيح. اعذرني من جديد أن أغتنم صفاءَ نفسيتك لأسألك: متى ستعود لدراستك؟
ـ أجل، أنتَ في سنتك الأخيرة. وحرامٌ أن يذهب كل شيءٍ سُدًى، (أكملَ أخوها).
ـ...

كان أحمد وسعاد كليهما أول من دعا صالحاً لأن يصطبر على إنهاء دراسته.

في ذات اليوم زُلفةً(16) رَدّدت حيطان غرفة صالح التحتية صَدَى رثاءه منتحباً: "آهِ، آهٍ يا والدتي، أيّ فنٍّ يدعونني لإكماله!"..  

(10)

في دَرْب الجامع من حومتنا لم يبق لدار السي عليّ وجود، ولا لدار السي التهامي ودار قدّور الأعمى. هذا الدرب مُنحصر غير نافذ، تقوم على جَنبيه نحو عشرين داراً فقط، وفي جوفه جامعٌ تُصَلّى به الأوقات فقط. عرباتٌ صغيرةٌ تجرّها الحمير لا تكفّ عن إخراج الأتربة وقطع القِرْميد وأغصان الزنبوع وأعشاش الطيور إلى خلاء خارج سور المدينة. لا أثر للنصراني بعد في الدرب، باقشيش من أشرف على الهدم ويشرف على الإخلاء. تلبّثت خالتي غيثه مُستقوِسة(17) بإزاء ساحة لم تشهدها قبلاً، سرحَ خيالها في فضاءٍ انطوى يوماً على أسرارٍ وحكاياتٍ جنت على من وما كان فيه، فكّرتْ:

ـ الزلزال بدأ، آ المحجوب (ابن قدّور الأعمى)، بداركم!
ـ بِمَ تهمهمين؟ (سأل باقشيش ممتعضاً)
ـ لا أتكلم معك.. (بعد هنيهة، وأحد جفنيها يكاد يطبق على الآخر) أنارَ الدربُ كثيراً، هل ستعيدون بناء صابة دار التهامي؟

لم يلقِ إليها باقشيش بالاً، عادَ ليقترح على الشريف مولاي أحمد:

ـ بِعْ لهُ فحسب أرض الغرفة التي كان يقوم مطبخ السي عليّ عليها.
ـ انسَ الأمرَ وأرح نفسك، أنا لست السيك عليّ.

ومضى الشريف مولاي أحمد برفقة خالتي غيثه، في الدرب المنحصر، إلى الجامع لإمامة الصلاة، يقول:

ـ لنا الأرض ولهم السماء. (ثم تلا): وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلا ً(18).. 

(11)

التقت سعاد مصادفة بصالح قبالة معرض "مرسم الشباب" التابع لوزارة الثقافة. انسلتَ من جماعة من الشباب، جلّهم متخرجون من معهد الفنون الجميلة، وتحامل إليها من فوره. تناظرا مُسلّمين ثم أطلقا كليهما ابتسامةً بين الأمل والرجاء، بادرها:

ـ فكّرتُ في ما قلته لي يومئذ، وكذلك ما قاله أحمد. فتّشتُ فلم أعثر فيّ على نُتْفةٍ من رغبة إكمال الدراسة، بيد أني لاحِبٌ على رغمي سبيل الفن. شهادة دافنشي وفان غوغ وماتيس وغوغان ودالي وبيكاسو استحسان النقاد والعوامّ أعمالهم على السواء. وكم من شهادة لا تنفع لأكثر من أن تعلّق! أنت على سبيل المثال، (يمسكها من يدها ويقودها نحو جماعته) ألا ترغبين في شهادتك؟ هذه هي الفنّانة العصامية التي حدثتكم عنها(مخاطباً الجماعة)..

انهوت خجلانة، فأمسك بها من جديد يقودها إلى منأى عن الخجل، إلى لوحات الجماعة. علّق في إسبال على اللوحات جواباً على أسئلتها أو ابتداءً. استفسرته مُستنكرةً عن أعماله، فأجابها مُلوياًّ بيده مُستفسراً:

ـ ما تقولين في هذه الصورة؟  

ضحكاَ من تلميحه، ثم استفاقت من سعادتها على كافكاوية اللوحة.

لم تقبل سعاد من خجلها بالمشاركة في المعرض بلوحتين أو ثلاثة حتى تبدّى باب الحومة، قال لها مُظفّراً:

ـ أدعوك متى سنحت لك الفرصة إلى زيارة ورشتي، أنت وأحمد.
ـ بل آتيك على وحدي..

تناظراَ برهةً بعيون يشدّها الأمل إلى العمل، فمضت. ثم ما لبثت أن ارتدّت إليه تقوده من يده صوب باب الحومة. استوقفها صالح متذكراً:

ـ سامحيني يا سعاد، شغلتكِ بالحديث سالياًّ حتى قادتني رِجلاي إلى هنا. سأعود معك إلى باب دكالة لتستقلي الحافلة.
ـ لا بأس في ذلك، سأزور خالتي غيته ثم أعاين بيتنا القديم..

ومرقاَ كليهما في باب الحومة.. 

(12)

انصرم على عودة مريم نحو شهران ولم يرجع سعيد الجباس (زوجها) كما وعد. وانقطع تواصل العائلة كليةً معه مذ نحو الشهر. صارت مريم تفكر جدياًّ في العودة إلى السعودية للاستقصاء في المسألة. حدثتها نفسها بأمورٍ كثيرةٍ قد تصحّ وقد لا تصحّ، هي تبقى على كلّ حال مجرد احتمالات. لكنّ الاحتمال وارد ويُؤخذ به، أو بالأحرى يُلقى إليه بالاً حتى في علومٍ قائمةٍ كعلم الإحصاء والمنطق، وحتى فقهاء الدين توقعوا نوازل لم تقع بعد أو في زمانهم واستنبطوا لها الأحكام. احتمال الشرّ لاتّقائه ليس تطيّراً مذموماً به، بل هو عين الحذق وبعد النظر. أمهلت نفسها أسبوعا آخر، وإذا لم يبلغها منه حساًّ ستطير إليه. ذلك قرار نهائيّ، نهائيّ بالتأكيد. استشارة عزيز والبتول أقرّته، والاستخارة لم تَحُل دونه، لذلك هو نهائي.

قبل انقضاء الأسبوع بلغها الحسّ صاخباً، أذاعت التلفازات وتقاذفت الأفواه هذا الخبر: "قُتل المواطن المغربي سعيد البهجة في تبادلٍ لإطلاق النار مع قوات سعودية بمدينة الخبر. اندرجت العملية في إطار محاربة إرهاب القاعدة، تحت مُسمّى: جثّ الجذور وتجفيف المنابع!!".. 

(13)

دَهِش أحمد لمّا أخبره ذلك الأجنبي بأنه بَلَد(19) بصفة نهائية برياضٍ بالحومة يدعى "رياض المورسكي". تعارفا على أحد كراسي حديقة عمومية بجيليز. الشطر الأكبر من حديثهما كان بسُخُونة المدينة الحمراء، سخونة جوّها وأحداثها وأبنائها وألوانها، وبالإجمال والتصريح: ميتافيزيقا السخونة.

ما أن ولجا باب دكالة والشفق حتى أرخى أحمد عينيه إلى الأرض، كلّ خطوة أوقعاها كانت في إِثْر سمعته السيئة بالحومة. رَشَقَهما يافعٌ متحفّز بدرب سيدي مسعود بالقول:

ـ هنيئاً لك بهذا الغرّ!

رَشْقَةٌ ثانية بحَضْرَة سيدي أبي العباس أرخت عيني الأجنبي بدوره إلى الأرض.

أفضى الأجنبي بأحمد إلى الرياض فأَقْحَمَهُ (20) فيه أولاً.. 

(14)

سمع صالح نقراً خفيفا مُنتظما مُلحاًّ على باب بيته فمضى على مضضٍ في وزرته وأصباغه. ألفى سعاد منتصبة على العتبة متأبطة لوحات على عِطْفيها. أملَ أن تعمَدَ إليه، غير أن انصرافه الكلي إلى الفراغ من اللوحة التي بين يديه أنهاه إلى المِتراس(21) مُعمِلاً مادته الرمادية فحسب، حَزَر أن يكون أباه أو عزيز أو أحمد الطارق. عَرَض كفيه لها باسماً متأسفاً ثم دعاها إلى الدخول مُومِئاً بيده مُكسراً من صُلبِه كما في الأفلام. وكم انشرحت بهذه الحركة!

قبل أن تضع سعاد حملها، وقبل أن تُرسل نظرات تآلف مع الفضاء، استأثرت باهتمامها لوحة على حامل ذي سيقان ثلاث تلقاء باب المرسم. أزفت منها، طالعتها فقالت وهي تحطّ لوحاتها:

ـ ما أبعد هذه اللوحة عن تلك!
ـ تلك التي شاهدتِ في المعرض؟
ـ أجل، ألوانها صادمة بئيسة، وإن لم أفهم لا هذه ولا تلك، إلاّ أن تلك عكس هذه تولّد في النفس شعوراً جارفاً بالكآبة.
ـ ما أبعد صالح اليوم عن صالح الأمس. وللفنّ نصيب في ذلك، فهو يملأ نقص الحياة، ويُصفيها من عَلَق المَتْعَسة..

أزال ورق الجرائد عن لوحاتها الأربع، ثم وضعها بالتتابع على الحامل مُسدياً إليها نصائح تقنيةً في مجملها (خطّ الأفق ينبغي أن يوازي الثلث الأخير من اللوحة، شُدّي الثوب جيداً ثم أشربيه طبقةً مائيةً بيضاء لاقتصاد الصباغة، أنصحك بصباغة الرسم لأنها مُزودة بمادة مقاومة للزمن...)، وشجّعها (بارعةٌ في رسم الظلال، بمقدورك بيعُ لوحاتك...)، ثم عاونها على اختيار لوحتين للعرض كما اتفق العارضون. قال لها:

ـ أتدرين؟ قبل أن تُريني لوحاتك خمّنتُ أن تكون فطرية. إنها قريبة من الواقع، وبذلك أكون أنا وأنت على طرفين متعاكسين، فنّياً(استطرد باسماً). فإذا كانت مُهمة الفنان الواقعي تنحصر في تقديم مضمونه بواقعية وحياد، فالتجريدي يعمد لتجريد موضوعاته من كلّ ما لا يفيد عمله بوجوده داخله. وإذا اقترب الواقعي من الإتقان كلما نقل الواقع مثلما هو تماماً، فالتجريدي يُتقن كلما حوّل الموجودات إلى أشياء قائمة بذاتها ذات خصائص تميزها عن الصفات العامة التي عُرفت بها قبل دخولها العمل الفني..

استمهلها لحظة فجاءها بكتابٍ في علم الجمال، وآخر عن تاريخ الفن. تَنوّل من على الأرض مُقطباً ورقة جريدة فقرأ فيها نعي والدته. طفرت من عينه دمعةٌ ففتحت سعاد حضنها.. 

(15)

انتصب رياضٌ فاخر محلّ دور السي عليّ والسي التهامي وقدّور الأعمى. باب خشبيّ منقوش ينفتح على دهليز طويل تضيئه فوانيس معلّقة على الحائطين المتقابلين، فيومض رخام الأرض وزليج الحيطان البلدي المنتهي بشريط جبسي منقوش عليه "بركة محمد". في نهاية الدهليز مقابلة دَرَجات السّلم المطعّمة بأعواد الجوْز، وعلى اليمين باب قُسويّ يقود الداخل إلى سَرْح في قلبه نافورة تخرّ، مُقسّم إلى أحواض أربعة بها غِرْسٌ جديد. على جوانب السّرح غُرْفَات متقابلة، تُطلّ الواحدة منها من خلال بابٍ ذو مصراعين يكاد يلامس السقف، يتوسط نافذتين مُشبكتين تكادان تلامسان الأرض. ما بين الغرفات والأحواض مَمشى رخامي فوقه سقيفة تستند إلى عُمُد مَدلوكة. الطابق الأول يشرف مُتساوقاً مع الأرضي، يصلُ امتداد العُمد فيه دَرَابَزونات خشبية. لا يتخَم الزرقة السماوية إلاّ قرميد أخضرٌ زاهرٌ، وشمس مايو (أيار) الدافئة لا تغرض من الكرّ على كلّ لون بارد، في انتظار أن تلظى صائفةً.

لم يمدّ النصراني البناء الذي كان مُتفرعاً فوق الدرب من دار التهامي حتى وُجْه الدار المقابلة، واتخذ رَفده على دار الشريف مولاي أحمد مَنْظرة. لم يبق إذن لِصابة درب الجامع وجود، ولا لنافذتها التي لم تكد تبارحها خديجة في زينتها تطلّ على السابلة بمجرد أن تصغي إلى صرير مفتاح التهامي يغلق باب الدار عليها. أما المنظرة، فحائط قصير من الآجُر البلدي الأحمر عليه أصصٌ سيتسلّق نباتها مُدّعماً على خيوطٍ حتى سقيفة العيدان.

لعلّ هذا العجوز الأبيض المقبل وباقشيش هو المالك الجديد.. 

(16)

ما أن فتح عزيز الباب حتى اقتحم ثلاثة رجال ضِخام دار السي إسماعيل. فَزِعت البتول وبان على مريم أنها ترقبت هذه الزيارة. شرعوا رأساً في التفتيش ولاسيما في حوائج مريم، وحتى تكبح بعضاً من فَرْطهم سألتهم:

ـ من أنتم؟

كانت تعي أن دخول قانون مكافحة الإرهاب حيّز التنفيذ لا يمكّنها من شيء. لم تلق جواباً، لم تلق تقدير فاقِدٍ في عدتها، لم تلق احترام أمّ في حضور ولدها ووالدتها العجوز، لم تلق إلا اللاأبه وانصرافهم إلى ما هم في صدده.

حجزوا عليها مصحفاً وكتاب تفسيرٍ للقرآن وبعض الأشرطة.

وقبيل انصرافهم تلقت استدعاءً إلى مفوضية الشرطة في غدِ يومئذٍ..  

(17)

خمسةُ أيامٍ فحسب باقية من شهر العَرض. وطوال المُدّة الضاربة لم يتقاطعا يوماً واحداً. كانت سعاد تأتي من المحاميد (خارج سور المدينة العتيقة) في إحدى فترتي العرض من كلّ يوم، وكان صالح يأتي في فترتي ما قبل وما بعد الزوال. إذا غابت تزجّى بالعارضين، وإن حضرت تكورا على بعضهما وانشغلا عن ما/ من سواهما. قالت له عشية ذلك اليوم أسفةً عند باب المعرض:

ـ أريد أن أعتذر لك عن ذلك النعي في تلك الجريدة، صدّقني لم أفطن به، ولو أني..
ـ أصدقك يا سعاد.
ـ أكتبه والدك؟
ـ كتبه طلبة وأساتذة مدرسة الفنون الجميلة، هذا ما بلغ مني مبلغاً. إنه دعوة مهذبة للرجوع لا أستطيع تلبيتها. أشكر بالمناسبة لك حنانك يومئذ. وبالمناسبة، زارني أبي أول أمس ليعرض عليّ طلب أجنبي إليه ببيع الدار قبل أن يسقط ما بقي منها عليّ. قال أنهم متفقون ويريدون رأيي، هذا ما يُتقنه والدي.
ـ ماذا يريد هؤلاء الأجانب؟ قرأت في جريدةٍ أن عددهم جاوز أربعة عشر ألف مقيم نهاية 2007. رقمٌ صادمٌ غير متناهٍ! وما أن يُذكر حتى تهجس في الذهن والصدر فاجعة فلسطين.
ـ مراكش عاهرة! إنها لا تفتح أبوابها إلاّ للأجانب.
ـ نحن مراكش يا صالح، نحن والعمران وحكاياتنا..

دلف صالة العرض أجنبيّ فرنت له عيون العارضين في تنافس، وولج في أثره من كان خارجاً. أزال نظارته تلقاء لوحةٍ لسعاد، أزف منها، تسارعت دقات قلب سعاد، لبس نظارته من جديد، تقهقر قليلاً، تسمّر فاغراً فاه حيناً، تناظرت سعاد وصالح باسمين، ثم أكمل جولته في الصالة، تنقّل كنحلة من لوحة للوحة، رمت سعاد صالحاً بنظرةٍ تفيد أن العالم لا ينتهي هنا فأجابها بنظرة منه أن هذا صحيح، ولم يفعل ذات الشيء مع أخرى، فانقلب إلى لوحة سعاد، سأل السويسري عن صاحب اللوحة، فلاذت سعاد بصالح.

لفّها فرحٌ غامرٌ ببيع أول لوحة، فكّر صالح أن يتقدم لولا أن الفرح يهيمن على كل شيء، لولا خشيته انتهازَه، لولا أن عاون في التقريب بين سعادٍ والسويسري. قال لنفسه: "كنت أجمعتُ اليوم على التقدم، بيد أن هذا يومها. لن أكون مُتردداً هذه المرة وأنا رابض بمكاني، بل هذا عين الإقدام".. 

(18)

انبرى شرطيٌّ لعزيز حذاء مفوضية الشرطة فدخلت والدته (مريم) على وحدها بعد أن أدلت باستدعاء مكتوب. استنفار جليّ أحدثه تواجد سيدة متخمّرة في سوادٍ برفقة شابّ يرسل لحية بمقدار قبضة اليد في ذلك المكان. أعيا الانتظار الواقف عزيزاً فاقتعد حجرةً تحت صفصافة سامقة، وما هي إلاّ دقائق حتى تحوّل للقُرفصاء تحت زيتونة قريبة. الصفصاف، بخلاف الزيتون، شجر يسمو عاليا دون أن يلقي ظلاًّ مديداً على أجنابه. أما الزيتون فشجر طويل البقاء في الأرض ذو ظلّ كثيف. انشغل عزيز باستظهار صامت للقرآن الكريم مُترقباً أن تجيئه والدته بخبر عن والده المستشهد في السعودية. وما بقيتْ عندهم إلاّ ريث أن فرغ من تلاوة الحزب الأول وبضع آيات من الثمن الأول من الحزب الثاني من سورة البقرة. اقتيدت والدته من لدن اثنين في لباس مدني إلى سيارة صغيرة بيضاء رابضة بالجوار، وفض إليهم غير أن السيارة شاطت في الانطلاق. لم يتسنى له إدراكهم، فعاد إلى المفوضية مُتهالكاً حيراناً. جرّب أن يدخل ليستطلع ما يجري، بيد أن الشرطي عينه انبرى له من جديد.. 

(19)

حِيال ذات المفوضية غَسَقاً اعتدي على أحمد من قبل مجهولين. تجمعت سريعاً جوقة تتفرج عليه، بعض الواقفين ما استطاعوا شكمَ ضحكات انطلقت في شماتة غير خافية. انطرح أحمد على جنبه الأيسر باسطاً ساعديه مَغميّ عليه لدقائق. كان يتزين بأساور وخواتم وقلادة ذهبية، وبتسريحة شَعرٍ نسائية ومحيا خضيب حليق وحواجب نَميصة. تكشف عن قميص أصفر صاعد وسروال ضيق هابط طرف تبان ينبثق من تحته وشم داعر. أنوثة مزيفة وشذوذ صارخ وإغواء عاهر!

أفاق أحمد من الغشيان على عنصر من فرقة الدراجين، يسأله:

ـ ماذا حصل لك؟!
ـ طاف حولي ثلاثة متزلجين بسرعة حتى سقطتُ أرضاً ورأسي مُدوّخ، ثم ضربني أحدهم بدُريجة تزحلق على رأسي..

كذلك أجاب أحمد بتدللٍ وتغنجٍ عارضاً آثار الضرب.. 

(20)

«كلما عقدت العزم على مُنافثتها يعاكسني القدر. الواقع أني متردد، لا التخيير ولا التصيير يمنعانني كليهما من مُحادثتها. لقيتها أكثر من معاكسات القدر، هذا هو الواقع. سأكتب لها رسالة، الآن». لم يتسنى لصالح مرة أخرى كتابة رسالةٍ لسعاد في ذلك الآن، فقد دقّ بابه أحمد وعزيز تباعاً. تشكى الأول من حادث الاعتداء عليه قبل أن يصل الثاني. لما انضم إليهما عزيز حدج أحمد بنظرة شزراء فأمسك الأخير عن الكلام، ثم خلى مكانه توًّا بعد أن ودّع صالحاً.

تشكى عزيز لصالح من "اختطاف" والدته ومن سوء حال جدته البتول تبعة ذلك، أخبره مُغتمًّا يائساً:

ـ الوضع غير مُتأتٍّ لفعل شيء، ولاسيما بعد دخول قانون الإرهاب حيز التطبيق. أخبرني الوكيل العام للملك بالمحكمة أن لا علم له بالموضوع، ونصح لي بالتوجه إلى الرباط، ثم نصح لي بترقب عودتها في أي وقت إن كانت بريئة. قال لي أنه ثمة قرائن على توصل جماعات مغربية مُقاتلة بتحويلات مالية من القاعدة.

ـ ماذا عن والدك؟
ـ دُفن ـ رحمه الله ـ بالسعودية، والأمل واهنٌ في استعادة جثته. 
ـ لكن يحق لك أن تُوكّل مُحامياً.
ـ لن تقوم الدنيا به، ولا بالاعتضاد بالصحافة وجمعيات حقوق الإنسان.
ـ حريّ بك أن تطرق جميع الأبواب.
ـ لم أجد إلا بابك. الخنوع والخوف عَرَضان في كل مكان. وغريب أن ألقى أحمد عندك، الحق أني لا أرى ولو باعثاً يحملك على الصبر على خليل النصارى هذا.
ـ الباعث، يا صديقي، أعمق من أن يُرى، كذلك قال صالح لنفسه.. 

(21)

حلّ رمضان، وما أحلى رمضانُ الحومة! حلّ تسبقه رائحة المُشبّك خاصة، وحلّ معه سكون الضحى ورائحة الحساء وفرحة الإفطار وجلبة الغسق. صلى الشريف مولاي أحمد بالناس كدأبه في رماضين سابقة التراويحَ في مكبر الصوت. استدعاه القائد في اليوم الموالي وشرح له أمراً:

ـ درب الجامع، فضلاً عن أنه قصير منحصر، لم يعد يرزن به غير بضعة عائلات مسلمة. هذا، والمصلون على قلتهم صاروا يؤمون مساجد السلفيين. لا أحد يطلب منك أن تأتي حراماً، فأذان وصلاة بلا مكبر الصوت جائزان دون ريب. وحتى الحكم يا سيدي يدور، كما تعلم، وعلته. باختصار ووضوح، لا نطلب منك إلا أن تترك مكبر الصوت. وأذان وصلاة بلا مكبر كافيان حتى لبلوغ الدرب المجاور..

ارتدّ الإمام من مكتب القائد على أثره هلعاً متأسفاً. خامرَ بيته يومين، مُتعذراً بالمرض، يصلي الاستخارة. خرج للناس في اليوم الثالث وصلى بهم العشاء والتراويح في مكبر الصوت. وما كادت تنقضي أيام قلائل حتى استحضره ناظر الأوقاف ليخطره بقرار إعفاءه من قبل الوزارة، وبقرارها إغلاق المسجد للترميم.

صلى الشريف بالناس في ذات اليوم العشاء والتراويح حذاء الجامع الموصود. بعد قراءة فاتحة الكتاب من كلّ ركعة تلا لزوماً الآيات العشر الأوائل من سورة الأعراف(22) قبل أن ينتقل إلى ما سواها من الأثمان المتواترة. خيّرت السلطات بعد ذلك الشريف مولاي أحمد بين تقديمه للمحاكمة بتهم إمامة الناس في مكان غير مخصص لذلك وبلا صفة وسند قانونيين، وتزعم تجمهر غير مرخص له، والحضّ على الكراهية وتحقير الديانات، وبين توقيع التزامٍ بعدم إمامة الناس مستقبلاً، في أي زمان وأي مكان.

بالخيار الثاني أقرّ الإمام قسراً وشهد.. 

(22)

وأخيراً حملت شَكاوى مَركومة السلطات على الإذن بتفتيش مُباغت لـ "رياض المورسكي". فتح لهم الباب شابٌّ فقادهم مشدوهاً إلى السطح. هنالك كان صاحب الرياض مُمتدّاً في سروال قصير على كرسي طويل، تحت ظُلّة ما تكاد تحجب أشعة الشمس عن سائر جسده وأحمد قاعداً عند قدميه يُدرّم أظافر رجليه(23). سُئل صاحب الرياض عن صِلته بالشابين المغربيين فأجاب أنهما صديقاه. شرع رجال الشرطة في التفتيش بعد أن أدلى رئيسهم بإذن من وكيل الملك، ولم يطل التفتيش طويلاً حتى جاء شرطي يغالب الضحك من غرفة نوم صاحب الرياض بِذَكرٍ مطاطيّ مع آلة تحريك أوتوماتيكية. استبق الأجنبيّ في احترازٍ إلى الهجوم قائلاً:

ـ أشكو قبطاً مزمناً، وهذا يعينني على التبرّز..

ثم جاء شرطي آخر بأنابيب من مرهم "الخرتيت الجديد" ومراهم أخرى تستعمل في الاتصال الجنسي وأقراص من عقاقير "سيلاغرا" عُثر عليها في أماكن مختلفة بالرياض.

ثم أُطلق سراح صاحب الرياض ورفيقيه في ذات اليوم لعدم كفاية الأدلة.. 

(23)

مضى أسبوع على احتجاز مريم، وابنها عزيز يشتاط غضباً عليهم.. 

(24)

لم تكد تمضي إلاّ أيام على عزل الإمام وإغلاق جامع "درب الجامع" بدعوى الترميم حتى اقتحمت الشرطة رياض "درب الجامع". خرج بعض عناصر الشرطة بعد حين وأيديهم أو مناديلهم على أنوفهم. وصلت فرقة الشرطة القضائية للجريمة للقيام بالأبحاث الميدانية، وحضر المعاينة ممثل النيابة العامة وأعضاء من الشرطة العلمية. وبعد أخذ كلّ عينة قد تفيد في التحقيق أخذ شرطي التشخيص القضائي صوراً للضحية قبل نقل الجثة إلى مركز الطبّ الشرعيّ.

عند باب الرياض كان أحد أفراد الشرطة يتحامل في شقّ طريق للضابط وسط زُفّة تألفت من بعض المارة والسكان المجاورين وأصحاب الحوانيت القريبة الذين أخطروا الشرطة بانبعاث رائحة كريهة من الرياض

عُثر على جثة مواطن فرنسي (صاحب الرياض) في مرحلة تحلل متقدمة، ملقى على وجهه وسكينٌ كبيرٌ في ظهره منغرزاً ما يزال. كان عارياً إلا من قميص أبيض مُضرّج، وآثار الدم تدلّ على أن الضحية طعن على الأريكة وقاوم حتى عتبة باب الغرفة الأميرية.

فصلٌ جديدٌ يا عالم انطلق ها هنا.. 

(25)

انقضت أيام العرض، مال صالح بلوحتيه إلى بيته فأسندها إلى حائطِ غرفة نومه وتداعى على فراشه بإزائها. سأل نفسه عن أوان اليوم الذي سيصير المغاربة بدورهم يبتاعون فيه اللوحة كمثل ما يبتاعون باقة الورد والقمح الصلب والرطب. أصخى فجأة لنقرات رتيبة كأنها منبعثة من نهاية نفق مُقعّر، انطلقت واهية ثم استحالت وكأنها طرق في رأسه. انتفض يتحسس موضع، بل مصدر النقر. يدٌ على رأسه وأخرى على الجدار! استشعر دبيباً في باطن كفه، أزالها فسقطت قشور الطلاء، ثم انهال خيط ترابٍ على الأرض.

للتطرّق(24) إلى الجار بالظهر لزم صالح أن يتمشى بضع دقائق. مصدر النقر في رياض بالدرب المتاخم من الجهة الخلفية حديث البناء. دقّ صالح باب الرياض ففتح عجوزٌ مغتاظٌ يرطن بالفرنسية:

ـ أبعد يدك عن خِرص الباب.
ـ تنزعج من قرع بابك، ولا تعبأ بقرع حيطان الجيران.
ـ ألا يحقّ لي أن أعلق لوحة؟!

لم يكد صالح يخطو إلاّ ما مكنه من مبارحة مكانه أسفاً حتى ارتدّ على أثره وأخذ بتلابيب العجوز يهزه هزًّا، متهماً إياه بالتسبب في قتل والدته.. 

(26)

بمفوضية الشرطة أجاب السمسار باقشيش ثم صاحب "رياض سيدي غانم" عن أسئلة العميد والضباط:

ـ... أحضره لي أحد المرشدين السياحيين، حصل ذلك مذ نحو السنة. كان يروم شراء رياضٍ قديمٍ لترميمه. دام البحث بلا جدوى أياماً، الطلب إما يفوق العرض أو لا يتناسب والمساحة المأمولة أو السعر المطلوب أو الموقع المناسب. المهمّ، أشرت عليه أن يبتاع بيتين متلاصقين أو ثلاثة ليهدمها ويقيم مكانها رياضاً جديداً. عثرتُ له على البيوت في درب الجامع وتمّ البناء... لم يكن يتردد إليه إلاّ صاحب "رياض سيدي غانم"...

ـ... كنا نخطط لإصدار مجلة تعنى بشؤون الأجانب المقيمين بمراكش... أنا متزوج، وليس كلّ الأجانب شواذّ. الأجدى أن تستجوبوا أولئك الحمقى المتطرفين. لقد كان يفكر في الاستعانة بخدمات شركات الأمن الخاصّ بعد أن هدده شاب يسكن بجواره يدعى عزيز، واتهموه بالتحريض على إغلاق جامع بالدرب الذي ربع به. والغريب أن أحد هؤلاء الحمقى اتهمني أمس شخصياً بالتسبب في قتل والدته...  

(27)

بعد أن اعتذرتْ مراراً من لقاءه بدواعٍ مختلفة، حصل أول لقاء بين صالح وسعاد بعد انتهاء أيام العرض. اتهم صالح الكثيرين (ومن جملتهم نفسه) بحفر هوة التردد بين سعاد وبينه، لم يتلفن إليها في كلّ مرة طالباً رؤيتها إلاّ بعد أن يلتمس لها عذراً يقنع نفسه به ويصون له كبرياءه. لقيها في مقهى الحمراء كما تواعدا، وصل قبلها فتخير طاولة في الركن، لم يجد بأساً في انتظارها مُهدهداً نفسه وكبرياءه بأن التدلل كله خُلق من أجل المرأة. دسّ يده في جيبه يتحسس الرسالة التي أسهرته الليل بطوله يحذف ويضيف ويتأمل ويسبر أثر الكلمات ومبلغها. فكر أن يتلهى بقراءة رسالته ريثما تصل سعاد بيد أنه تراجع خشية أن تصل في أية لحظة وتضيع المفاجأة. عنصر المفاجأة أهم شيء في القضية برمتها. المرحاض! المرحاض أنسب مكاناً لقراءة الرسالة قراءةً أخيرةً، وللتبول المسبق حتى لا يضطر إلى ذلك بعد مجيء سعاد. وهو خارج من المرحاض أدركهما ببصره يلجان المقهى متخاصرين، انتهيا إلى الطاولة الركنية، اختلس النظر إليهما: سعاد برفقة ذلك السويسري الذي اشترى منها لوحة في غامر السعادة، صدمه التحير، ودهمه الدبيب. يقاوم أم يستسلم؟! «سأخلي مكاني، وهذا عين المقاومة. العاهرة جاءت لتقول لي إنها لن تأت، إنها رتجت بابها دوني. لن أقبل منها أيّ عذر!». انسلت صالح بعد أن أدى للنادل واجب الكولا.. 

(28)

عزيزٌ مُتهم بقتل صاحب رياض "درب الجامع"، وكذلك صالح وأحمد! لكن أُغلق العميد على سدّ باب الشذوذ الجنسي لأنه فتح عليه منافذ عديدة محرجة (إعداد "جمعية المثليين المغاربة" لمظاهرات بإيعاز ودعم من أصدقائهم بالخارج)، ولأنه اقتنع بانعدام دوافع الشواذ للقتل (عدم وجود آثار للسرقة)، فأطلق سراح المشتبه فيهم الموضوعين تحت الحراسة النظرية إلى حين استكمال البحث. اجتمع العميد بضباطه بعد توصله بتقرير الطبيب الشرعي الذي لم يأت بجديد، اللهم تلقي الضحية ضربة قوية على رأسه قبيل طعنه. وبعد عرضٍ وتتبعٍ لمختلف الطرق تم الاتفاق على لزوم العودة إلى مسرح الجريمة من أجل تعميق البحث رغبةً في وضع اليد على قرائن تمكن من الوصول إلى الجاني.

بالرياض، أثار انتباه أحد المفتشين أحد أعداد مجلة "إعلانات مراكش" وقد لُوّن بصفحته الأولى عنوان نجار متخصص في الأرابيسك بلون فستقي زاهر. لم ينكر النجار معرفته للضحية، أخبر أنه زاره في ورشته منذ نحو الشهر واتفق معه على صنع أربع طاولات صغيرة مزينة بالأرابيسك ومرصعة بالعظم ومطعمة بعود الليمون، وأنه بعث الطاولات مع المتعلمَين.

أدلى المتعلمَين (القاصرَين) كلّ على حدة بتصريحات متضاربة، ارتبكا في أقوالهما ووقعا مراراً في التناقض قبل أن ينهارا سريعاً. جاء في محضر اعتراف الأول:

ـ... أرسلني المعلم إلى رياض النصراني بطاولتين صغيرتين حين فرغ منهما، قدّم لي النصراني مشروباً ثم اغتصبني، وحين استفقتُ أعطاني خمسين درهماً. ولما طلب مني المعلم بعد ذلك أن أنقل الطاولتين الباقيتين رفضتُ متعللاً بالمرض. بعث المعلم الطاولتين مع صاحبي، فاعتدى عليه ابن الحرام أيضاً. قررنا الانتقام منه...

وجاء في محضر اعتراف الثاني:

ـ... اتفقت وصاحبي على قتله بمباغتته، وهو منشغلٌ بأحدنا، بضربة في أمّ رأسه. الضربة آلمتني أيضا بأن ألزقته بي تماماً، لكن انتهينا منه لما غرزتُ السكين في ظهره حين ابتدأ يستفيق من إغماءته... ضربناه بحجرة قضينا معظم الليل نشحذ عليها السكين الذي خصصه والدي لنحر أضحية العيد. وعندما كان مُنشغلاً بي ذهب صاحبي خلسة لإحضار الكيس الأسود الذي خبأنا داخل أصيص عظيم على الجانب الأيسر لعتبة الرياض.  

(29)

احتجزتْ مريم في فيلا من قبل عناصر من إدارة مراقبة التراب الوطني. وفي ذات اليوم الذي أطلق فيه سراحها بعد ثبوت براءتها أُعلن عن تفكيك شبكة إرهابية كانت تعدّ لترويع أمن المواطنين والمقيمين، ونهب ممتلكاتهم، واغتيال شخصيات وازنة مدنية وعسكرية... هذا، ودعت السلطات الأمنية المواطنين لالتزام الحيطة والتبليغ عن أماكن تواجد عناصر أخرى من بينهم انتحاريين احتياطيين. أذاعت السلطات الصور. وفي ذلك اليوم صار عزيزٌ رصاصةً طليقة طائشة، فليحذر الجميع..  

(30)

جاء والد صالح والسمسار باقشيش وأجنبي لمعاينة الدار. تحسس الأول، لم تبلغه حركةٌ أو صوتٌ فدعاهم للدخول توًّا ظانًّا أن صالحاً في الخارج. أرياَ الأجنبي الدار شبراً شبراً عدَا غرفة صالح، ولم يكفّ باقشيش عن إطراء البيت وتحويل الذّموم إلى مديح (البيت واسع، والموقع في قلب المدينة العتيقة، وسط بين جامع الفنا وجليز، إنك ستلاصق من الجهة الخلفية للبيت رياض أجنبيّ آخر، وحتى هذا الجانب المتهدم من البيت سيكفيك عناء يومين أو ثلاثة من العمل، فأنت ولا ريب ستهدّم البيت ثم تعيد بناءه من جديد...). عند مخرج الدار، طلب الأجنبي أن يُنظر حتى يقرّ رأيه على أمر، فانصرف شاكراً وباقشيش، ثم ما لبث أن تبعهم والد صالح. بأعماقه سمع الأخير نداءً خفيًّا فارتدّ عن طريقه مُتخافًّا، فتمكث في دخول غرفة ابنه. ربما الحضور الطاغي لصالح في عين والده مردّه إلى عقدة الإحساس بذَنْب التقصير في حقوقه. ولج أخيراً غرفة صالح فألفاه مستلقٍ على قفاه والدود الأبيض غزا جسده غزواً..  

*    *    *

لم أعد راغباً في الاستمرار على هذا النحو! تورطتُ حين ألزمتُ نفسي بأربعينية ثانية. الأربعينية تحيل إلى الموت، دلالة على النهاية. الأربعينية الأولى حكايات نوستالجية عن الحومة، شجنٌ وحنينٌ إلى أيِّ ماضٍ كان. لعلها أزمة منتصف العمر، تتملكني رغبة التقاط الزمن الهارب. لكن "إذا كان أملنا، طموحنا، هو إحياء الماضي فكيف لا يبدو لنا التطور انحطاطاً، التاريخ ضياعاً والقيم العمومية(25) أوهاماً؟"!. والحقّ أن "حكايات حومتنا" كانت الرواية الأمّ، اعتقدت أني فرغتُ منها لولا أن استوطن الأغراب في مدينتي بله حومتي، والأستاذ أبو يوسف طه(26) شاهدٌ على ذلك.

لم أعد راغباً في الاستمرار على هذا النحو! من الموضوعيّ ألاّ أبحث عن رائحة شبهة لألصقها بالأجانب المقيمين بمراكش (سأدعوهم من الآن فصاعداً أ.م.م اختصاراً)، أو عن تصيّد للأخطاء أو تكثير للمشاجب. ليس عدلاً أن أُعنّي صالحاً وصفية وعزيزاً ومريم وأحمد بسبب أ.م.م. لسنا ذرة ملح أو قطعة ثلجٍ لنذوب جميعاً في ماء النصارى، لسنا إمّعة. كم جميلاً ألاّ يوصد الأدب أبوابه إزاء شيء! يترك دوماً لنا فرصةً للاستدراك. سيقول البعض: "كلمة حقّ أريد بها باطل"، "التملق أقرب طريق للاسترزاق"، "باب الشهرة في دارهم"..(27). إنّا ظاهرة صوتية، أبدعنا في التيئيس أكثر مما أبدعنا في التشجيع، وراكمنا في النقد أكثر مما راكمنا في الإبداع. عقدة الآخر والمؤامرة تورث الالتفات المرضيّ وتثقل خُطانا. ويا مراكش فلتكوني قاهرة المغرب!

فكرتُ قبل هذا أن أفرغ أولاً جعبتي ثم أكمل الأربعينية الثانية بما رواه لي أحد أولاد حومتنا عن أ. م. م. هذا الولد مُجازٌ في الأدب الفرنسي يشتغل سائقاً للتاكسي، بعد أن منّت عليه الدولة ـ كسائر المجازين المعطلين ـ برخصة الثقة. أوغل الولد (مُتشفيا، أو تحت سحر الأدب...) في محكياته، وعلى الخصوص تلك التي حدثت في نوباته الليلية لمّا أعلمته أني بصدد كتابة رواية في الموضوع. نسيتُ أكثر ما قصّ عليّ، وما لاق أن أسجل المحكيات في حينها، فمثل رائج في مراكش هذه الأيام يقول: "دع الكذاب حتى ينسى واسأله". وحتى تلك المحكيات التي ذكرت اضطررتُ فيما بعد لحذفها. وكنتُ أهبتُ حينئذ به مُمازحاً ـ مع الأسف ـ للتأليف، واستغربنا كلينا تصدي أصحاب التجارب المحدودة للكتابة!

وفكرتُ بعد هذا، بل قررتُ أن أحتسب بالثلاثين بعد الأربعين الأولى. وكنتُ هيأتُ ردًّا مناقضاً مقتبساً لما قاله السمسار باقشيش في _4_ "لو أن صفية رحمها الله رُدّت إلى الحياة لباعت بخسيس الأثمان أو تبرعت بِدارها على النصراني"، أورده كيفما اتفق هنا: "لو ردّ (ت) إلى الحيات لصاحـ(ت) بكل رجل.. لا تخف.. الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت"(28)!.

بعد إصابة صاحب رياض "درب الجامع" في مقتل بلغ الاحتقان مداه! كان هذا الجانب المظلم فقط، لكن ثمة جانباً آخر، جزءً عامراً من الكأس، جُلَّ جبل الثلج، غابةً خلف الشجرة. لسنا في الموزمبيق! كان طبيعيا أن تقام الدنيا في هلاك ذميّ يدفع الضرائب للدولة. أما تعلق الجزية تعلقاً تاماً بقوة دولة المسلمين، وكون الجزية غير الضرائب فذانك اعتباران آخران. لا ينتقض إلا صرحٌ أُقيم على الخوى، أو سلسلةٌ رخوةٌ حلقاتها. لا شيء أبداً يحيل الأفعال ردود أفعال. أما الفصل المنطلق فليس إلا فصل الاستدراك في نسق التطور الطبيعي.

أما ما حدث لصالح فلم يكن غرقاً في الرمزية والإيحاء ـ كما سيحسب البعض ـ حتى شحمة الأذن، فالجميع في الحومة يذكر ما يزال حادثة مشابهة تجعل الأمر واقعاً ومتوقعاً(29). استسلم صالح فداد، لم يقاوم من أجل نفسه وسعاده. وسعاد ستعاتبه يوماً على تردده، على انسحابه ويأسه. ستقول له أنها ما فعلت ذلك إلاّ لتدفعه إلى البوح، وستبدي اندهاشها من كونه واحداً من الذين لا يفتحون أبواب قلوبهم إلاّ في سورة الغضب. سيرغب في مُعارضتها برسالته، فيجد حروفها قد محتها الأيام.

كثرة الشخصيات تضعف حضورها وتضبب سماتها، وتكثيف اللغة يهدد إبلاغ المعاني. وإن كانت هذه الرواية كثيرة الشخصيات ولاسيما في فصلها الأول، كثيفة اللغة وخصوصاً في فصلها الثاني فـ "يا فلان لا تنظر إلى لفظ ولا إلى معنى"(30)، تحسس فحسب نبض قلبك، استفتِ هذه المضغة، افتح في روية لي بابها. 

تامسنة (ورزازات): مارس (آذار) 2007
يونيو (حزيران) 2008
 


المُستدركة
إلى خوان غويتوصولو وسوزان بيدرمان وبيرت فلينت ودونيس ماسون وباتي كود بي بيرتش..

إلى كلّ من أحب مراكش وأقام بها على هذا الأساس.. 

الحكاية الأولى بعد الأربعين:
السبعة في الآحاد والسبعون في العشرات... لا يراد به دوماً حقيقة العدد، فكثيراً ما أطلق للدلالة على الكثرة والمبالغة والسعة كما هو شأن رجالات مراكش السبعة(31). ولعاصمة الجزائر أيضاً رجال سبعة دفنوا في أمكنة متقاربة حول باب الوادي، وثمة مزارات لسبعة رجال آخرين في تلمسان، وسبعة رجال أقبروا بحي المصلى في فاس، وسبعة رجال مصر الذين تتم زيارتهم ليلة الجمعة...

تحدثت المصادر التاريخية عن سبعة رجال من رجراجة (قبيلة مغربية أمازيغية من قبائل مصمودة)(32). زاروا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة لما بلغهم خبر بعثته، فخاطبهم بلسانهم وحملهم رسالة الإسلام. رجعوا إلى رجراجة موحدين مجتهدين في الدين، فقرؤوا الرسالة النبوية على الطوائف المجتمعة في مكان قريب من جبل الحديد، ثم تفرقوا في البلاد لنشر تعاليمها. منذ ذلك العهد تعلق المغاربة برجال رجراجة حد الغلوّ والتعصب، حتى أن الثوار والخارجين، في تاريخ المغرب، غالباً ما لجؤوا إلى سوس وألبوا العامة وأثاروا مشاعرهم الدينية بدعوى سبق إسلامهم وشرفهم. ولما انتهى الأمر إلى المولى إسماعيل (أحد الملوك العلويين) سارع من طريق الفقهاء إلى تجريد سبعة رجال رجراجة من القداسة، إذ أفتت جماعة منهم بعدم صحة ما قيل بزيارتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وببطلان أمر صحبتهم بدليل أن الصحابي الوحيد الذي دخل المغرب هو أبو زمعة البلوي دفين القيروان، فعمد إلى اختيار سبعة رجال عرب من مراكش ونظمت زيارتهم بما يمكنها من أخذ مكانة الزيارة السابقة وصيتها. وبالفعل حرص كثير من العلماء والسلاطين والوافدين على المدينة، منذ هذا العهد الثاني، على زيارة هؤلاء الرجال. أما كثير من العامة إلى يوم الناس هذا فمضوا على تقديسهم والتماس بركتهم والالتجاء إليهم في شتى الحالات.

إن شئتم الصدق، لم أتبين ذلك الجانب المضيء إلاّ يوم قرأت إعلاناً يُخبر ببحث مؤسسة ثقافية عن رواياتٍ لكتاب جدد من أجل نشرها وترجمتها. قصدَ إليّ يومئذ صديقي (سائق التاكسي) ليطلعني على الإعلان، وليحدثني في حماسة وامتنان بهذه المؤسسة الثقافية:

ـ... أسّسها أحد أ. م. م، خصّص سفلي الرياض لتجارة العاديات (فنّيّات وآثار ومنحوتات العصور القديمة) التي جمعها من بقاع مختلفة من العالم، فيما جهّز رواقاً علوياً بأحدث أساليب العرض الفني من إضاءة وألوان فضلاً عن صالة لعقد الندوات الفكرية ومقرّ دار للنشر. يأمل صاحب المؤسسة ـ الذي استقلته يوماً وحدثني شخصياً بكل هذا ـ أن تُغطي عائدات الطابق الأرضي نفقات الطابق العلوي. قال لي أن المؤسسة شبابية بامتياز، فقاعة العرض ستحتضن أساساً إبداعات الشباب التشكيلية دون خصم نسب مئوية من مبيعاتهم، وستعقد ندوات تركّز كلياً على القيم المشتركة بين البشر، أو ما يصطلح عليه في الفقه الإسلامي بالكليات الخمس (حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل)، وقال أنه مدين بالفكرة للفيلسوف عابد الجابري. أما دار النشر التابعة للمؤسسة فزيادة على عزمها تشجيع الشباب المبدع على مواصلة التفكير فهي على وشك إصدار ترجمة تفسيرية لمعاني القرآن الكريم وانطولوجيا القصة القصيرة المغربية المعاصرة. سأعرض على صالح حين يبرأ ـ إن شاء الله ـ التقدم بطلب للعرض بصالة المؤسسة. وأنت يا صاحبي! هل فرغت من روايتك؟ فأنا قد أخذت بنصيحتك وتصديتُ للكتابة. قدمتُ روايتي الأولى للمؤسسة وأترقبُ انقضاء الشهر ليتّصل بي قرار لجنة القراءة..

كنتُ أحسبني وضعتُ روايتي قبل أن أُبعث من جديد على حذف محكيات "سائق التاكسي"، فإبقاء هذه المحكيات قد يُعدّ بشكل من الأشكال سرقةً أدبيةً. صحيح أن التمثّل لن يكون واحداً، وعلى الدوام كان هنالك من يرتقي بالحكي البسيط والمضاعف إلى مراقي الأدب، لكن ما أحوجني أصلاً إلى هذا الأمر ولاسيما وأن الحاكي تحول إلى مُنشئ؟! عموماً لن أحذف الآن شيئاً، فالرواية هي الأولى لسائق التاكسي، وكثيرون يئسوا وانصرفوا بعد محاولاتهم الأولى. البقاء للأقوى، يا داروين، في سيرورة الارتقاء الطبيعي! هذا الكدر الخفيف لن يمنعني أبداً من عدّ صاحب المؤسسة الثقافية والسبعة الجدد. والشهر فانٍ كما فني غيره. وأحصيتُ كذلك:

الإسباني خوان غويتوصولو (كاتب يقيم بمراكش منذ أواسط السبعينات. شديد الاهتمام بإبراز الوجه الإنساني للثقافة العربية الإسلامية وبقدرتها على الإبداع والملاقحة والمثاقفة، وفي طليعة المدافعين عن قضايا الشعوب العربية والإسلامية ومطالبها في الحرية والتقدم والكرامة (القضية الفلسطينية، حرب الخليج، البوسنة، الشيشان...) في وجه إعلام وثقافة ما يسميه بالبربرية الجديدة. منحته اليونسكو سنة 2002 شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا(33) تراثا شفهيا إنسانيا، اعترافًا منها بجهوده لعولمة حضور الساحة الثقافي والحضاري إثر امتداد عميق في التاريخ جسّد قيم التسامح والتعايش بين الثقافات والأديان، ولإبلاغ جهود كياناتها في استمرار إشعاعها بحلقات الرواية والحكاية ومختلف الفنون. وكان غويتوصولو حشد تعبئة عالمية، جند لها كتاباً كباراً من أمثال كارلوس فوينتيس وخوسيه بالنتي... معتبراً أن الفرنسيين شيدوا برج إيفل، وهو اليوم يعتبر رمز العاصمة الفرنسية باريس وفرنسا ككل، أما ساحة جامع الفنا فتأسست عبر التاريخ تلقائيا من طرف المجتمع المغربي ليس بقرار إداري أو بإرادة سياسية، وهي اليوم رمز مراكش بل رمز المغرب يجب احترامها وحمايتها وهذه مسؤولية الإنسانية ومسؤولية العالم ككل)،

والهولندي بيرت فلينت (قرر الاستقرار في مراكش عام 1957، وفي سنة 1976 سيقتني فلينت دار تسكوين المبنية على الطراز الإسباني الموريسكي ليجعل منها سكناً خاصاً، وفي سنة 1989 سيتم في وجه العموم فتح هذه الدار التي تقترح على زوارها معروضات موضوعاتية من منسوجات وحلي ونخبة من التحف الفنية التي جمعها فلينت من دول الجنوب في أكثر من نصف قرن بهدف تصميم معرض على شكل سفر متخيل على خطى الطرق القديمة للقوافل التي كانت تربط المغرب بدول الساحل. ومباشرة بعد عيد ميلاده الخامس والسبعين، أي في أواخر سنة 2006 قرر فلينت أن يهب جامعة القاضي عياض بمراكش بيته الفاخر بالمدينة العتيقة ومجمّعاته الثرية، وبالمقابل تعهدت الجامعة بتأسيس "معهد بيرت فلينت لتراث الشمال الغربي لإفريقيا")،

والسويسرية سوزان بيدرمان إليوت (مهندسة ديكور سويسرية جاءت إلى مراكش في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي برفقة زوجها المهندس ماكس إليوت، لتجد نفسها مفتونة بسحر المدينة الحمراء وبألوانها وأسواقها، ولذلك فكرت في أن تقوم بعمل ما لصالح هذه المدينة وأطفالها. في بداية الأمر فكرت إليوت في إنشاء دار للأيتام، ولما التقت بارتلز، سفير ألمانيا السابق لدى المغرب، الذي استقر بمراكش بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية، اقترح عليها التفكير في الاستثمار في الفن والثقافة، بعد أن أوضح لها أن هناك عطشاً فنياً وثقافياً بالمدينة. وبعد أن أرشدها غويتسولو إلى "دار بلارج" عام 1996، اقتنت إليوت الدار بمبلغ 200 ألف دولار، قبل أن تقوم بترميمها. في مقدمة أقصوصة "الرجال اللقالق" لغويتوصولو نقرأ أنه ما بين 1803 و 1804 عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان محمد بن عبد الله، وكان رجلا فقيهاً يهوى الموسيقى والشعر، إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة، لعله دار بلارج (اللقلاق بالعامية المغربية) الحالية، إلى ملجأ موقوف للعناية باللقالق المعتلة الصحة. ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد الفنادق. وقد أعيد بناء الملجأ القديم، بعد خرابه، في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي حسب قواعد المعمار التقليدي في مراكش، وما بين 1950 و 1985 تم استعمال المبنى كمدرسة، ثم ترك مجدداً يواجه مصيره بعد ذلك التاريخ. تقول بيدرمان: عندما زرتُ المكان منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي وجدت أن ساحة الحمام الجميلة مغطاة بجثامين طيور قضت نحبها، وبالريش والفضلات، اقتنت إليوت في سنة 1998 ملجأ اللقالق القديم لإقامة مؤسسة لرعاية الثقافة بالمغرب تحمل اسم "دار بلارج". نظمت الدار على مدى السنوات الماضية لقاءات ثقافية وأمسيات حكيٍ وعروضاً مسرحية وحفلات ومعارض تشكيلية وورشات فنية وموسيقية مفتوحة مجاناً في وجه أطفال وشباب أحياء المدينة).

والفرنسية دونيس ماسون (عاشت منذ عهد الحماية بالمدينة إلى أن توفيت سنة 1994. خلفت وراءها "رياض ماسون" ملتقى للكتاب ومقرا للندوات. وكانت أصدرت ترجمة تفسيرية للقرآن الكريم أجازها الأزهر).

والأمريكية باتي كود بي بيرتش (زارت مراكش سنة 1966، سحرتها المدينة فقررت أن ترجع عام 1990لتستقر بها، اقتنت هذه المليونيرة الأميركية، التي كان تعمل نائبة رئيس المجلس الإداري لمتحف نيويورك، رياضاً بباب دكالة، حيث نسجت مع جيرانها المغاربة البسطاء علاقات إنسانية عميقة. رممت باتي بيرتش منبر مسجد الكتبية، الذي يعد أقدم منبرٍ في العالم الإسلامي، وساهم في الترميم خبراء أمريكيون من متحف نيويورك وخبراء وصناع تقليديون مغاربة. كانت تلك أول مرة ينتقل فيها خبراء متحف نيويورك خارج بلادهم لترميم تحفة أثرية. استغرق الترميم سنة من الزمن وأكثر من مليون دولار أمريكي. ورممت كذلك فضاءات دار الباشا في أفق إحداث متحف للحضارات الإنسانية بمراكش).

هؤلاء ستة وبحثي جارٍ عن السابع.

نزولاً عند طلبه، رافقتُ سائق التاكسي بعد انقطاع الشهر إلى المؤسسة الثقافية ليعرف قرار لجنة القراءة. أنبأهُ صاحب المؤسسة عينه بالقرار:

ـ تذكرني بسائق الحافلة ماجنوس ميلز الذي انضم إلى نخبة الأدباء في بريطانيا عندما أدرجت سنة 1998روايته "تقييد الوحوش" التي كتبها بين نوبات العمل على قائمة الـ "بوكر"(34). قررت الدار نشر روايتك بالعربية وترجمتها..

سوق القراءة يتّسع للجميع، فهنيئاً لسائق التاكسي. ولم يبق لي مفرّ من حذف محكياته!

استطرد الأجنبي:

ـ ذكر أجنبيةٍ واحدةٍ في سياق الرواية شَبِقَة تهبُ نفسها لمن تصادف من شباب مرزوكة وزاكورة، ثم تنفحه ببعض الدولارات، وتخبره في انتشاء: "أول مرة أحسّ فيها أني ضاجعت في حياتي" إطلاق. هذا تعميم خاطئ.
ـ هذا لا يتعدّى ما كتبه فلوبر ولامارتين وغيرهما عن الشرق والشرقيين. وهذا لم يمنعهما من بلوغ قمة الأدب، بل كان سبباً في إبلاغهما القمة.
ـ إياكَ وأسلوبَ المغالطات. السياقان مختلفان. والانطلاق من معطيات صحيحة لا يقود دوماً لاستنتاجات منطقية.
ـ هذا زمن الاستغراب.
ـ وزمن استشراق على نحو آخر. أنصحك عموماً بمواصلة البحث عن أسباب نجاح الأعمال الأدبية. فأنا أرجع ـ على سبيل المثال ـ نجاح الأسواني في "عمارة يعقوبيان" إلى معالجة الشذوذ وتعدد الزوجات والنفاق الاجتماعي وتزوير الانتخابات والرشوة والوصوليين والتدين. باختصار، الرواية وثيقة تشرّح حيالنا واقع المجتمع العربي والمسلم..

تساءلتُ وقتئذ: "ماذا أفعل بروايتي؟ هل الأدب متطرف؟!" بل هذا سببٌ آخر للاستدراك.

بحثاً عن السابع(ة) الجديد(ة) سأسلك كل السبل، سأسأل كل السابلة، سأفتش كل مكان.

بحثاً عن السابع(ة) الجديد(ة) سأطرق كلّ باب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ استكف الناظر: وضع يده على حاجبه كمن يستظل من الشمس.
(2) ـ الحضار: كلمة عامية وتعني الكتّاب.
(3) ـ المسدّ: الحبل المحكم الفتل.
(4) ـ لفظة عامية وتعني الجناب الكبير.
(5) ـ الرباط: المكان الذي يرابط فيه الجيش.
(6) ـ عجفت الدابة: ضعفت وذهب سمنها، فهي عجفاء.
(7) ـ عطف عنه: انصرف.
(8) ـ تحامل إليه: أقبل.
(9) ـ الأعراب: ج أعرابي، وهم سكان البادية خاصة.
(10) ـ خليفة مرابطي، تأسست المدينة على يده سنة 454 هـ.
(11) ـ قولة شهيرة لأبي العباس السبتي ت 601هـ/ 1204م (أحد رجالات مراكش السبعة).
(12) ـ سورة النساء، الآية 19.
(13) ـ استشرف الشيءَ: رفع بصره لينظر إليه باسطا كفه فوق حاجبه.
(14) ـ عرّض له: قال قولاً هو يعنيه ويريده ولم يصرح.
(15) ـ عَرَقُ الخلاَلِ: ما يُعطى جزاءً أو للمودّة.
(16) ـ الزُلفة: الطائفة من الليل.
(17) ـ استَقْوَس الرجل: انحنى ظهره.
(18) ـ سورة الإسراء، الآية 76.
(19) ـ بلد بالمكان: أقام فيه أو اتخذه بلداً، فهو بالِد ج بَلَدَة.
(20) ـ أقحمه: أدخله بعنف ومن غير روية.
(21) ـ المتراس: خشبة توضع خلف الباب لتدعمه ج مَتاريس.
(22) ـ قال تعالى: المص(1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْهُمْ قَاّْيِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ(9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(10) .
(23) ـ دَرَّم أظفاره: سوّاها بعد القصّ.
(24) ـ تطرّق إليه: سار حتى أتاه. ـ إلى الأمر: ابتغى إليه طريقا.
(25) ـ عبد الله العروي: "أوراق". المركز الثقافي العربي. ط 7. البيضاء 2006. ص 32.
(26) ـ كتب الأستاذ أبو يوسف طه تقديماً بديعاً لـ "حكايات حومتنا"، ولم يعد للأسف مناسباً لتصدير الرواية به، لسببين اثنين: أنقصتُ من حكايات الحومة ما أنهاها إلى الأربعين، وبسبب ما أضفتُ إلى الفصل الأول، أرجو أن يقبل أسفي.
(27) ـ يحضرني اللحظة: "... عددا كبيرا من الروايات تكتب بالعربية، ولكن الجمهور الذي تستهدفه إنما هو جمهور غربي بالأساس". حنين دلال عبوشي: "الثقافة العالمية/ المعولمة" وسياسات الترجمة. مجلة الآداب. عدد7، 8. 1999. ص 52.
(28) ـ نجيب محفوظ: "أولاد حارتنا". دار الآداب. ط 6. بيروت 1986. ص 546.
(29) ـ رجعت إحدى بنات الحومة يوماً مُكرهة من مدينة تارودانت تاركة زوجها السباك هناك، ثم هاتفته من مراكش مرارًا بيد أنه لم يكن يجيب. توجست فزعاً أن تكون نوبة قلبية عاودته فشلت أطرافه. وما كادت تنقضي أيام العزاء في والدها وأيامٌ أخر انصرمت في المماطلة حتى سارعت إلى العودة. ألفت زوجها كما أساءت الافتراض: مُستلقٍ على ظهره فاتر الجسم بين الحياة والموت، متعفّن الأطراف، نتن الرائحة، الدود يزحف بين عطفيه. قضى على هذه الحال أياما من شهر غشت، لكن أُسعف قبيل أن يحضره الموت.
(30) ـ قولة شهيرة لأبي محمد الغزواني (أحد رجالات مراكش السبعة).
(31) ـ هم: يوسف بن علي الصنهاجي وعياض بن موسى اليحصبي وأبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي وأبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي وعبد العزيز بن عبد الحق التباع وأبو محمد عبد الله بن عجال الغزواني وعبد الرحمان بن عبد الله السهيلي الضرير.
(32) ـ وهم: وسمين إلياس وعبد الله أدناس وعيسى بوخابية ويعلي بن واطيل وسعيد بن يبقى وأبو بكر الشماس وابنه صالح بن أبي بكر.
(33) ـ أشهر فضاء للفرجة بمراكش وقلبها النابض، تشكلت في القرن الخامس الهجري في عهد الدولة المرابطية كنواة للتسوق، لكن أهميتها تزايدت بعد تشييد مسجد الكتبية بعد قرابة القرن. وفيها استعرض ملوك الزمان جيوشهم وانطلقت منها كتائبهم لمعارك التوحيد وحروب السيادة، واستمدت اسمها في العصر السعدي من فناء مشروع المسجد الأكبر بحي روض الزيتون. تستقطب الساحة سنويا ملايين الزوار من المواطنين والأجانب الذين تستهويهم حلقات الحكواتيين والفقهاء والفلكيين والعرافين وعروض مروضي الأفاعي والقردة والبهلوانيين والمغنيين والراقصين والسحرة ومخضبات الحناء... تنطلق الفرجة بالساحة في الساعات الأولى من الصباح، وبدءً من المغرب تنتصب موائد الأكل المتنقلة لتستمر هذه الأجواء إلى ما بعد منتصف الليل.
(34) ـ إحدى أشهر الجوائز الأدبية العالمية، وتتشكل قائمتها القصيرة المختارة من 125 أفضل روايات العام في بريطانيا وايرلندا والكومنولث. وبمجرد إدراج اسم مُؤلِّف على قائمتها ينفتح له باب على الشهرة وتصدّر مبيعات الكتب. وتقصّ "تقييد الوحوش" حكاية عاملين اسكتلنديين يقتلان عدداً من أصحاب الأعمال البريطانيين المتطفلين.