لازالت ألف ليلة وليلة تستهوي الخطاب النقدي، هنا مراجعة للكاتبة والفنانة التشكيلية السورية، لأحدث الكتب وأكثرها جرأة، التي تناولت ألف ليلة وليلة من زاوية علاقات الارتباط العميقة بين مفهومي الجنس والسلطة في حكايات الليالي المفتوحة دائما على بنيات معرفية متعددة.

الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة

إلهام بدر الدين محفوظ

يعدّ كتاب الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة للدكتور محمد عبد الرحمن يونس، الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي ـ بيروت، لندن، من أجرأ الكتب العربية التي حللت حكايات ألف ليلة و ليلة، وبينت علاقات الارتباط العميقة بين الجنس والسلطة في حكايات الليالي، وهو من أكثرها عمقا وتحليلا أكاديميا وموضوعيا لبنية الحكايات في ألف ليلة وليلة، ودور المرأة في هذه الحكايات، وفي نمو السرد وتشعبه، وانتقاله من فضاء إلى فضاء، ودورها أيضا في تشكيل الفضاء في مدن الليالي، إضفاء مكونات السحر والتخيل والأسطورة من خلال جماليات جسدها الذي يبدو هو الآخر أكثر سحرا وأكثر جاذبية، وأكثر حضورا في بنية الحكاية سردا ووصفا وحوارا. ويرى الدكتور يونس في مقدمة كتابه: أنه على الرغم من الدراسات الكثيرة التي تناولت حكايات ألف ليلة وليلة، فإنّ هذا العمل الأدبي المليء بالجمال والبهاء يبقى في جوهره عملا منفتحا على بنيات معرفيّة تاريخية وثقافية وميثولوجية وأسطوريّة وتخيليّة واجتماعيّة وجنسانيّة لم تستكمل دراساتها بعد. ويرى أنّ بنية الليالي المنفتحة على بنيات الثقافات الفارسيّة والهنديّة والعربيّة والسريانيّة والتركيّة هي بنية متنامية تكمن جماليات حركتها في تنوّعها الثرّ، وفي تنوع الدلالات والخطابات الفكريّة التي يركّز عليها السرد والقصّ، وفي انفتاح ألف ليلة وليلة على حقول ثقافيّة وتاريخيّة واجتماعيّة يمتدّ إلى أعماق الحضارات القديمة، وهذا الامتداد والنمو يجعل منها خطابا أدبيا متعدد الاتجاهات والرؤى، ومن داخل هذا التعدد يمكن أن تُدرس الليالي في أكثر من اتجاه، ووفقا لكثير من المناهج النقديّة والفكريّة.

ويرى المؤلف أنّ أهم ما يثير الانتباه في الليالي هذا الحضور الطاغي للمرأة بكل أصنافها، وتوجهاتها، وبكل تشكيلاتها الاجتماعية، فعلى مستوى الفضاء المكاني تتموضع هذه المرأة، سواء أكانت حرة أم جارية، في أمكنه مختلفة، بعيدة وقريبة، واقعية وتخيلية، فهي من فارس والهند والسند، وبغداد والبصرة، والقاهرة، والاسكندرية، ودمشق، وحلب والقدس، وصنعاء والحجاز، ومن أبعد مكان عرفته، أو سمعت به مخيلة رواة الليالي ومبدعيها. وعلى مستوى الفضاء الزماني، فإن نساء الليالي هن من كل الأزمنة والعصور، وحلقات التاريخ التي سبقت القص أو تزامنت معه، وعلى المستوى الطبقي تتعرض ليالي ألف ليلة وليلة لشرائح اجتماعية نسويّة متباينة ومتباعدة تارة، ومتقاربة تارة أخرى، وباختلاف طبقاتهن الاجتماعية، فهناك الجارية والوصيفة والسيدة والملكة والأميرة، والأرستقراطيّة الحسناء التي يتقاطر الرجال ورواءها، والفقيرة المعدمة، والقوّادة والقهرمانة، والمحتالة الماكرة، والداهية, والجميلة والقبيحة، والسوداء والبيضاء والشقراء، والفاجرة والداعرة والمتعففة، ولا نغالي إذا قلنا إنّ المرأة هي البنية شبه الكليّة لمكونات السرد والقص.

ويركز كتاب الدكتور يونس على دراسة مظاهر خطاب الحب والجنس في بعض حكايات ألف ليلة وليلة، وذلك من خلال تحليل الحكايات، وربطها بمرجعياتها الثقافية والتاريخية أحيانا، ويدرس ظاهرتي الحب والجنس ونموهما وتشعبهما، وعلاقتهما بالوضعية الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة زمان الليالي، ودور هاتين الظاهرتين في تشكيل الحكاية ونموها، باعتبار هذه الحكاية خطابا أدبيا يأخذ من الواقع والتاريخ والحلم والتخيل والأسطورة والخرافة، وباعتبار هذا الخطاب يشكل حالات اجتماعيّة وإنسانية وثقافية وسياسية، ويحلل المؤلف حكايات الليالي مبينا دور الحب والجنس في تشكيل السرد والوصف، والأحداث، والحبكة، والبنية الحكائية العامة لليالي الحب. كما يعمل المؤلف على تبيان دور خطاب الجنس في تحديد كثير من معالم الرؤية السياسيّة لحكام ألف ليلة وليلة، وعلاقاتهم بشعوبهم، وإلى أي مدى تؤثّر المرأة الجارية أو السيدة، أو غيرها من النساء على قراراتهم وأحكامهم، وعلاقاتهم التجاريّة والاقتصاديّة، كما يبين المؤلف مدى علاقة المرأة بالفضاء الزماني والمكاني، فالفضاء الزماني المشبع بخطاب الحب والجنس، وإن بدا طويلا، إلا أنه يبقى محدودا بالمساحة السرديّة الزمنيّة الممتدة عبر الليالي، والتي تتحدد في كون شهرزاد بين أحضان شهريار على مستوى الواقع بجسدها، وعلى مستوى التخيل من خلال أجساد النساء اللواتي تسرد عنهن، وتروي، والفضاء المكاني هو فضاء شمولي، ينمو ويمتدّ من قصر شهريار إلى قصور سلاطين وأمراء ألف ليلة وليلة وملوكها، ومن هذا الفضاء الشهرياري تتحدد وتتوزع بقية الفضاءات المكانيّة والزمانيّة الأخرى، التي تبدو شاسعة جدا.

أمّا عناوين كتابه فقد جاءت على الشكل التالي:

مقدمة

ـ حكاية علي شار وزمرد الجاريّة.
ـ حكاية الحكيم الفارسي صاحب فرس الأبنوس مع بنت ملك صنعاء.
ـ جسد الجارية بين شهوة الخليفة والوزير والعبد وتشريعات القاضي.

سوسيولوجيا خطاب الجنس في ألف ليلة وليلة

ـ مدخل
ـ حكاية وردان الجزّار مع المرأة صاحبة الكنز
ـ حكاية تتضمن داء غلبة الشهوة في النساء.
ـ نقد خطاب الحب والسلطة في تاريخينا لليلي
ـ مظاهر خطاب الحب
ـ بنائية الأمثلة الوظائفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة

حكاية علاء الدين أبو الشامات أنموذجا.

ـ خاتمة

وتحت العنوان الموسوم بـ «بنائية الأمثلة الوظائفية في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة» الذي يعدّ من أطول عناوين الكتاب، درس المؤلف حكاية من أطول حكايات ألف ليلة وليلة، وهي حكاية: حكاية علاء الدين أبو الشامات والتاجر محمود البلخي، وسفرهما من مصر إلى بغداد ثمّ إلى حلب، وما جرى لهما، وبيّن دور الجنس والرغبة الجنسية في بناء الحكاية، وتشعبها، ومسار أحداثها الكثيرة. وعرّج المؤلف، وبشيء من الإفاضة، أثناء تحليله لهذه الحكاية على دور الغناء والموسيقا والخمور، في تحفيز خطاب الجنس، وتحفيز الرغبة الجنسية وتأجيجها لدى شخوص الليالي، وبخاصة الشخوص الذين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة سياسيا، والمالكة اقتصاديا، وبالتالي تحفيز الحكاية وتشعبها إلى حكايات فرعيّة تلد مزيدا من النساء والجواري. وقد أفاد ـ وكما يقول ـ أثناء تحليله للحكايات من مظاهر الإيروتيكية العربية ونصوصها وأدبياتها، كما سجّلها الفقهاء والشيوخ الأجلاء في مؤلفاتهم القديمة. وأثبت المؤلف كثيرا من النصوص العلميّة الجريئة في هذا الجانب، والتي تلامس المفاهيم والرؤى التي استنتجها من خلال دراسته، وتقترب منها، وقد طبّق من خلال هذه الدراسة العلمية الأكاديمية مفاهيم "الحوافز" عند الشكلانيين الروس، وكذلك مفهوم "الأمثلة الوظائفيّة" عند فلاديمير بروب، من خلال تحليله للحكايات السحرية الشعبيّة، ومن هنا فإن دراسة الدكتور يونس ربّما جاءت مغايرة لمعظم الدراسات العربية التي تناولت نصوص ألف ليلة وليلة، لكنها لا تدعي أنّها سبقتها معرفيا، وأهمية ودقّة في الوصول إلى النتائج ـ كما يقول ـ بل يمكن اعتبارها بحقّ إحدى المحاولات الجديدة في فهم خطاب الجنس، ودوره في تشكيل الحكاية، وعلاقته بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والحضارية لدى شعوب ألف ليلة وليلة.

ونلاحظ أن المؤلف قد بذل جهدا كبيرا في تحليل الحكايات، مستفيدا من عدد كبير من المصادر القديمة والحديثة، والأجنبية المترجمة في معارف إنسانية عديدة، وتلك التي تتحدث عن ألف ليلة وليلة، بطريقة مباشرة أم غير مباشرة. كل ذلك من خلال لغة جميلة عذبة أحيانا، ومثيرة وآسرة جرئيه أحيانا أخرى، وبخاصة تلك النصوص التي تصف أجساد النساء، وكما وردت في حكايات ألف ليلة وليلة، وفي الكتب الإيروتيكية العربية القديمة، والتي كانت ممنوعة من التداول، ولفترة قريبة.  

كتاب: الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة، للدكتور محمد عبد الرحمن يونس، بيروت ـ لندن ـ الطبعة الأولى ـ عدد الصفحات 236 من القطع الوسط.  

إلهام بدر الدين محفوظ ـ كاتبة وفنانة تشكيلية مقيمة في أمريكا