في باحة المحطة المسقوفة، الرخامية الجدران، العالية الفسيحة المكتظة قال له "عزيز": ـ شوف هذا الأوجرد (طابور الانتظار بالروسية).. أحسن لك تخرج إلى الأرصفة وتتفرج على الناس! ـ كل شيء يغري بكأسٍ من الفودكا!. وكأن الشق الأخير من الكلام ضربه عميقاً: ـ هل ما يتذكره جرى حقا أم أنه أخيلة تشكلت مما سمعه من كلام في محافل العائلة؟!.. لم يكف عن التسلل وقت قدوم القطار والعودة الكسيرة. ـ هل كان ذلك الطقس بشيراً لضياعي بين المنافي؟!. ردّ على سؤال نفسه، وخاطبها بصمت: ـ شوف يمه.. هذا الهَوا ماكو أطيب منه ـ هل عاشت أمه تجربة تشبه تجربته حتى أدركت لذة الهواء؟!. لا يدري.. لكنه بعد كل ذلك العنف الذي وسم حياته يمسك بمغزى أن يعب الإنسان نَفَسِه بأمان: أقبل باسماً يلوح بالتذكرتين، ورمى بجسده الذي بدا عليه الإنهاك جوار إبراهيم قائلا: ناوله إبراهيم علبة بيرة، فبهت أول الأمر ثم تلقفها بلهفة قائلا: فتح سدادتها وعبها دفعة واحدة. سحب نفساً عميقاً وحملق بإبراهيم متعجباً ليقول: فأخبره.. فتملى قسمات إبراهيم النشوانة المرحة وصرخ: ـ أخ.. فتحت الفودكا!. قلت وأنا بنص الأوجرد "ودّعْ البزون شحمة"!. وهجم على الحقيبة ليتأكد. أخرج القنينة ورفعها عالياً إزاء الضوء قائلا: ـ مجرد حدس.. قد تكذبه التجربة.. وصب مالئاً الكأسين حتى الحافة. ورفع كأسه هاتفاً: ـ بصحتك يا أكبر صعلوك شفته بحياتي!. ـ أشرب حتى ننام وما نفز إلا بكييف! ـ ما راح أتشوف شيء غير الظلمة بالشباك للصبح.. يعني حتى نوصل!. فأحسن شيء نشرب بسرعة وننسطر!. ـ المهم أن لا أسكر في القطار لأرى الفرق بين ذاك القطار وهذا!. فكر مع نفسه قبل أن يعلق على كلام عزيز: ـ دعني براحتي شربت قبلك..! ـ منتظر أش وت يعد هذا الحْبَيبْ حتى أعرف منين أشترى العرق اللي شربه!. صرخ: كل عمري أشرب بس ما فد مرة خلاني أنتعش مثل ما هو منتعش هسه!. أريده يَدلْيني أمنين أشتراه!. ـ أش تقول أنت؟!. ـ خصوصا إذا ما دخل رابع علينا!. ورمق "إبراهيم" بعينين لامعتين: ـ لا تخاف مكانه بغير كابينة ـ يعني الليلة يمكن وحدنه ويه هذي المصيبة! ـ قوم نطلع تريد تبدل ملابسها!. ـ أسمع الوضع هنا مختلف عن شقة بغداد.. هنا كل شيء بالاتفاق!. كان يومئ إلى المسيحية الهاربة من زوجها التي حاولوا مضاجعتها رغم أنفها. ـ والشرطة الروسية قاسية وقذرة!. ـ اللئيم يجري الأمر كما خطط وحلم!. ـ "من المؤكد إننا أثارنا فضولها.. قال إبراهيم مع نفسه وأضاف بنشوة": ـ أش بٍكْ.. وين رحت.. طيرنا وكر.. شويه ويدخل البرج!. ـ برجك.. لو برجي! رد بعناء وجهه المجذوب نحوها صوب "عزيز" الذي أضاف: ـ لا تلح بعيونك.. طلع البطل الثاني وأسمع هذي الطريفة عن "صاحب سلام"! ـ أسمع عزيز لا تخليني مثل الأطرش بالزفة!. ـ صاحبتنه دخلت البرج.. كانت تظن أنت تعرف الروسية.. أسكت.. لا تخرب.. خليني.. أنسق!. بهت. كيف يشرح لحظته،ود لو يقوم يعانقه ويعانقها.. يذوبهما في أحشائه.. ويذوب بهما.. ـ ولك هذي عجيبة كأنها عرفت ما نحكي بهِ!. لم يجب إبراهيم منتظراً المزيد من الإيضاح: ـ أي.. كل شيء! ـ لكن أسألها قبل كل شي ليش تريد تعرف عني؟!. ـ القحبة تقول أنت تشبه صاحبها القديم!. ـ ولك أش بيك أنت على المسرح.. خوفتها!. ألمت بإبراهيم غبطة، فتوردت وجنتاه وهب من ركنه قافزاً صارخاً: ـ يا ريت.. ياريت كنت ضايع وياهم!. ـ إبراهيم أترجم بالضبط ما قلته!. ـ يا إلهي.. لا أستطيع.. لا أستطيع! ـ لم تفدك لغتك وتذللك يا لئيم!. ـ سمعت تلح.. العاهر تريد قصة بدل العير!. أشرَّ له واضعا كفه المفتوح أمام شفتيه مطلقاً صوته الهامس: دون أن تغادر عينيه الحالمتين كتلتها المضيئة. أثناء الترجمة انخرط "عزيز" بالضحك. فقال له إبراهيم: كان يضحك لأن الحيّين هما حيّان متجاوران في طرف مدينة الديوانية الجنوبي. وصمت كي يتيح لعزيز ترجمة ما قصهُ. ـ والله.. بليتي أخف من بلية أخي!. هان ما عنده من قهر. زال الغم، فأقبل على الطعام والشراب. سحب إبراهيم نفساً عميقاً. لاذَ في الصمت. نبّ عزيز ضاحكاً: ـ هذا مدخل ألف ليلة وليلة.. مو صحيح؟! لولا وجود هذه الجنية اليهودية لعفطَ له. رد بسخرية: ـ إبراهيم كمل.. صاحبتنا راح تنزع!. ـ قل لها أنها أحلى من صبية الحكاية! ـ ولك أش لون أترجم الرصع!. ردَّ إبراهيم متابعاً نشوة فريدة تلمّ بوجه السافلين من أمثال صاحبه عند الإطراء. وأردف: ـ أنها تقصد مضاجعة حارة عنيفة كمضاجعة العراقي!. يعني مثلك لما تهيج وتصير ثور!. ـ كمل!.. ما بقى بِها شي.. جهزتْ! خفف الكلام من فوران النفوس والأجساد، فانتبه "عزيز" ساحباً جسده إلى الخلف قليلا. سكت إبراهيم قليلاً قبل أن يضيف بصوت خفتت نبرته: ـ القحبة تريد تعرف أسمك!. تململ برما في مكانه قبل أن يقول لها بصوت خافت: أفلتت صرخة مباغتة وقفزت من مكانها صارخة: ـ إبراكيم يا إلهي.. يا إلهي..!. لم يفهم إبراهيم سبب صراخها إلاّ لاحقاً. تدخل "عزيز" موجها الكلام إليها، ثم التفت نحو إبراهيم قائلا: ـ لنتحضر هذا وقت النوم!. سيطفئون الضوء!. لم يكن معنا ملابس نوم. لا نحتاج سوى أن نستلقي على السرير فقط، تنحنح مضيفاً: ـ كم يبدو الإنسان قبيحاً عند التسول!. قال مع نفسه. وأنشأ يتابع بقية الحوار بغبطة بلغت ذروتها حينما صرخت به: وأطلق حسرة طويلة نزلت بردا وسلاما على قلب إبراهيم. أردف: حمل إبراهيم القنينة عالياً فوجد فيها أكثر من النصف بقليل. أراها له، فقال: رمقته بارتياب دون أن يرد، فأضاف: ـ أسمع راح أجرها بسرعة حتى أهبد وإلا راح أسوي حماقة الليلة!. وحملق في قسمات إبراهيم الذي بدا أنه لم يفهم بالضبط: ـ أنت ما تدري أش كنا نحكي بالروسية! ـ الضوء راح ينطفي، طالع للممر!. هتف إبراهيم مع نفسه متمنياً أن يبقى في كون هذه اللحظة حتى الفناء. ووجد نفسه يرنم بصوت هامسٍ:
ـ هذا ما بت الآن واثقاً منه!.
ـ...
ـ أبوك ما يعرف قيمته!.
ـ والطريق!..
ـ مخادع كبير وأصيل وخصوصاً بالشرب والنسوان!.
ـ...
ـ أش بيك سارح؟!
ـ يعني!..
ـ ما كو فرق.. برجك برجي
ـ...
ـ هل أقول أنك متزوج؟!
ـ أي.. قلْ كل شيء!
ـ ما عليك ترجم ما قلته بالضبط!
ـ...
ـ أي!.
ـ تعصي عليك وأنت من كبار السفلة!
ـ ولم لا تقول لها؟!.
ـ...!.
ـ ولك هذي قحبة عجيبة مثقفة وذكية!.
يكتب القاص العراقي رحلة في قطار بأحد المنافي التي شكلت حياة إبراهيم الشخصية الرئيسية في القصة. ويستعيد خلال الرحلة محكات ماضيه، ويعيد تشكيل لحظاتها بصورة تكشف جزءا من تاريخ العراق المعاصر كما تكشف عن حالة الهجرة والترحل الدائمين في حياته، وكيف صار في وجود تلك اليهودية الجميلة مفتونا باللحظة الآنية المتوهجة بالحياة.
اليهودية الجميلة