يكتب المسرحي العراقي هنا محاولة العودة من المنفى، وترقب لحظة تجاوز الحدود التي لا تنتهي للوصول إلى الوطن. ومن خلال حوار يقاوم الصمت، ويتشكل به في الوقت نفسه، وتتبادل فيه الشخصيات الأدوار يكشف الرجل والمرأة: الشخصيتان الرئيسيتان أسباب هجرتهما، والمستقبل الذي ينتظرانه، والوضع الحالي الواقع تحت أقدام الاحتلال.

دمي محطات وظل

قاسم مطرود

تنويه
بيّن سيجموند فرويد في كتابه "تفسير الأحلام" كيف أن اللغة في الحلم تتحول إلى صور ويمكن آنئذ قراءتها كما نقرأ الكتابة الصورية. وما حدث هو أني حلمت "بمسرحية" كانت مجسدة أمامي صوريا. وما إن استيقظت شرعت بتدوين هذه الصور وتحويلها إلى كلمات وهذا أقصى ما أستطيع الوصول إليه. ولأن وظيفة المسرح أن يحول الكلمات إلى صور حية نابضة تقرا كما الكتابة الصورية حسب النص الفرويدي. أيعني هذا باني سأشاهد ذات يوم تجسيد الحلم كما نسجه عقلي الباطن لاغيا المراحل التي مر بها في اليقظة والزمن المتحول

ملاحظة
سيبنى نص العرض على براعة انتقال الممثل من مشهد إلى آخر، وهذا يعني انتقال من زمن إلى آخر فهو يقوم بتجسيد أزمنة فائته ويعود في الحال إلى ما كان عليه، لذا سوف لا أفسد على القارئ أو المخرج قدرته على الخيال في إمكانية تحويل الممثل من وإلى، لذا أترك للمتلقي أن يؤثث فضاءه الخاص.  

الشخصيات
الرجل
المرأة
السائق
 

المكان:
"ساحة عامة، تقف المرأة في الجانب الأيسر من خشبة المسرح محاطة بمجموعة من الحقائب، وفي الزاوية الأخرى يقف الرجل وهو الآخر تحيطه حقائبه.. فترة صمت.. ينظران إلى الجمهور وكأنهما ينتظران أحدا.. فترة صمت قصيرة.. يتحرك الرجل صوب المرأة لكنه يعود إلى مكانه.. تحاول المرأة أن تسأله لكنها تفشل أيضا وفي الوقت نفسه يسأل أحدهما الآخر" 

المشهد الرئيسي 
المرأة + الرجل: "في نفس الوقت" هل تنتظر......
الرجل: أجل السائق، وأنت
المرأة: السائق أيضا
الرجل: ستذهبين إلى العراق؟
المرأة: طبعا
الرجل: ولماذا طبعا
المرأة: لأن هذا الموقف هو موقف السيارات القادمة والذاهبة إلى العراق
الرجل: معك حق "برهة" أهذه الزيارة الأولى؟
المرأة: أجل، بعد عمر طويل.
الرجل: أشعر أن قلبي يخرج من جسدي كلما فكرت باللحظات التي سألتقي بها الأهل
المرأة: كم مضى عليك بعيدا عن الوطن
الرجل: السنوات التي لم أر فيها الوطن والأحبة والأهل هي عمر فتى قد حقق الكثير من أحلامه "برهة" لا ينفع مع الغربة غير الحسرات وتأمل دخان السجائر
المرأة: الغربة قاسية
الرجل: ما عرفت طعما للألم إلا في الغربة "فترة صمت قصيرة"
المرأة: هل أنت متأكد من أن السائق سيأتي
الرجل: أكيد
المرأة: أنا خائفة
الرجل: من السائق
المرأة: من كل شيء
الرجل: بعد ساعات ستشمين هواء العراق
المرأة: هذا هو مصدر خوفي
الرجل: أشعر أني سأنفجر، ما إن أصل حدود العراق، سأبكي هناك وسأغسل الطرقات بدموعي
المرأة: أنا خائفة
الرجل: اتصلت به صباح هذا اليوم وقال إنه سيأتي حتما
المرأة: خائفة من رؤية الأهل، كيف سأجدهم أو يجدوني ومن منا الذي تغير
الرجل: جميعنا "برهة" هل معك سجارة؟ "تخرج من جيبها علبة سجائر ودون أن تنظر إليه تسلمه السجارة" وان كنت قد أثقلت عليك فلي طلب آخر "تنظر المرأة إليه، تسلمه سيجارتها.. يولع سيجارته ثم يعيد إليها السجارة"
الرجل:
أنت امرأة رائعة "برهة" دون السجارة يومي ناقص، إن لم أدخن أشعر أن جسدي يتآكل، كم حاولت الابتعاد عنها "يتذكر.. مع نفسه.. الابتعاد عنها.. ثم بصوت عال" السجارة ترتبط بك أكثر من اسمك ترسم لونها على أصابعك وأظافرك وشفتيك، الإنسان دون السجارة والآخرين جسد خرب يأكله حزنه كالسرطان "مع نفسه" ولكن من هم الآخرون؟ إنهم جميعا أنا ساعتي دون عقارب والوقت لا يعرف بابا لها لذا ألملم بعضي وأقرر أن لا أدخن ولكن كل المراكب التي حملتني على متنها كانت همومي هي الأثقل المرأة: منذ البدء أدركت إذا دخنت سجارة واحدة فستعقبها أخرى رغم ذلك أخذني الدخان في دروبه المظلمة حتى تقرحت رئتي وصار لونها كلون الحزن "برهة" عمري محطات هجرتها الذاكرة. 

(انتقال) 

المشهد الأول
الرجل + أبيه "يمكن أن تؤدي المرأة دور الأب.. يجلس رجل كهل على كرسي وسط بقعة ضوء..

يدخن وينفث دخانه إلى أعلى.. يتأمله".. خلال هذا المشهد يتحرك الرجل الذي ينتقل من المشهد

الرئيسي حتى يصل دائرة الضوء

الرجل: كنت أشاهد أبي وهو يدخن والحلم يزاحم يومي متى أكون مثله والسجارة تتوسد أصابعي
"يدخل دائرة الضوء" كنت أنظر إليه وهو يتحكم بالأنفاس
الأب: كلما ابتعدت عن الدخان كانت المسافة بينك وبين الموت أوسع
الرجل: كثيرا ما تأملت دخانك يا أبت
الأب: هذه سنوات العمر. اشعر أن جمر سجارتي يحرق يومي وكلما قصرت، قصرت معها الأيام
الرجل: أبت أني أرث منك الحزن، أشعر أني مثلك ودون أن اقصد أمسك سجارتي مثلك وأجلس مثلك إلا أن حزني أشد وأقوى
الأب: إذا تأمل دخانك حتى يتلاشى وأعقبه بسحابة أخرى
الرجل: أبت لقد جار علينا الزمن وأخذ منا أعز الأحباب، الأولاد والإخوة والأصدقاء وصرنا نتناقص يوما بعد يوم وكلما نفقد شخصا عزيزا تسقط وردة فواحة من محبتنا ونقاءنا 

(انتقال)

المشهد الثاني
عودة إلى المشهد الرئيسي 

المرأة: "خلال حوار الرجل السابق تكون المرأة قد عادت إلى وضعها الطبيعي" جلست على الكرسي الصغير وأنا اللعب مع بنات الجيران لأمثل لهن شخصيات الحي الذي نسكن وتتكاثر
علي الطلبات "تمثل"

ـ كيف تتكلم بائعة القيمر؟ "تمثل بائعة القيمر"
ـ كيف تمشي صاحبة الدكان "تمثل"
ـ كيف تدخن أمك "تمثل"
 

كنت أمثل هذه المشاهد، أراها الآن وأنا بذلك الشعر الطويل والضحك الذي لا يفارقنا وما إن أتناول رغيف الخبز الحار منطلقة للعب، كي أتقاسمه مع صاحباتي "برهة" ياه.. حقا إن رائحة الخبز لا مثيل لها
الرجل: ترى هل سأسعل في آخر الليل؟
المرأة: جدتي كانت تدعوني كثيرا كي أحضر إليها الأكل أو الشرب ومع كل دعوة ترفقه بطلب سجارة 

(انتقال)

المشهد الثالث
المرأة + الجدة "هنا يمكن أن يلعب الرجل دور الجدة"
الجدة:
بنيتي أشعلي هذه السجارة بالله عليك
المرأة: إنك تدخنين كثيرا يا جدتي
الجدة: لم يبق لي غير التدخين سلوى
المرأة: ولكن......
الجدة: التدخين يعيد بعض أيامي التي هربت في ظلمة الليل. ويزيح الصخرة النائمة فوق صدري ويطرد ذكريات العذاب وسهر الليالي. كيف لمثلي أن تترك التدخين والليل يفترس وحدتي مقلبا أوجاع الذكريات. أعوام مرت شاخت فيها ملامحي ولم يبق في شعري مكانا للون الأسود لكن ذكراه هي المتقدة دائما
المرأة: أعرف ذلك
الجدة: هاجمه ذلك المرض اللعين بعد أن كان متقدا كالوردة العطرة وبدأت أوراقها تتساقط وأنا أسرع هنا وهناك كي ألصق هذه الورقة آو أحافظ على الأوراق الباقية ولكن لا جدوى كان المرض أقوى من مقاومته وابتسامته للحياة
المرأة: تعب في حياته حتى فضل الموت......
الجدة: صافحه الموت مبكرا لم يكمل الخمسين من عمره حتى هاجمه المرض اللعين. بقيت وحدي لم أصدق أني لم أره ثانية. لكن الأعوام جعلتني أتيقن أن الموت لا محالة وأننا في رحلة مرة
المرأة: الآن فقط أدركت معنى أن يفارق الإنسان شخصا كان يمثل إليه كل شيء
الجدة: وتقولين إنك تدخنين كثيرا، أشعلي السجارة بالله عليك 

(انتقال)

المشهد الرابع
عودة إلى المشهد الرئيسي
المرأة:
"وهي تعود إلى ما كانت عليه" دمعت عيني وأنا أحقق رغبتها الأولى وشهقتي سمعها الجيران وأنا أأخذ نفسا من السجارة الثانية حتى صرت أدخن نصفها قبل أن أودعها بين أصابع جدتي

"صوت سيارة قادمة من بعيد أو صوت منبه إحدى السيارات"
الرجل:
أظنه قد وصل
المرأة: أتمنى ذلك "يختفي الصوت"
الرجل: للأسف لم يكن هو
المرأة: هل أنت متأكد من قدومه؟
الرجل: دون شك فقد سلمته نصف الأجرة
المرأة: وهذه هي المشكلة
الرجل: أنت خائفة
المرأة: وقلقة أيضا
الرجل: ستصلين العراق حتما
المرأة: أنت متفائل
الرجل: يجب أن أكون كذلك وأنا ذاهب إلى مصدر ذاكرتي، هناك ولد ومات كل شيء
"فترة صمت قصيرة" كنت أضحك والطبيب يسدي بنصائحه إلي 

(انتقال)
الرجل + الطبيب "هنا تلعب المرأة دور الطبيب"
الرجل: هذا صعب يا دكتور
الطبيب: أنت وحدك من يقرر
الرجل: منذ زمن بعيد فقدت القدرة على القرار
الطبيب: حاول أن......
الرجل: مخاطرة يا دكتور
الطبيب: إنك تقتل نفسك بنفسك
الرجل: أعرف ذلك
الطبيب: امتنع عن التدخين
الرجل: ثم
الطبيب: تتحسن صحتك
الرجل: ثم
الرجل: تشعر أن الحياة أفضل
الرجل: أشك
الطبيب: حاول أن تقرر 

المشهد السادس
عودة إلى المشهد الرئيسي
المرأة: وماذا قررت؟
الرجل: إن أدخن جميع الأنواع
المرأة: امتنعت عن التدخين ثلاثة سنوات
الرجل: "بمزاح" بأمر الطبيب أيضا؟
المرأة: وربما أكثر
الرجل: ولا حتى سجارة واحدة
المرأة: ولا نفسا واحدا. بل لم أعد أحتمل حتى مجالسة المدخنين "فترة صمت قصيرة"
بعد رحيله لم تعد الأشياء تحمل نفس صفاتها
الرجل: "تسقط من يده سجارته" بعد رحيله تحول طعم الحلو إلى مر والنور إلى ظلمة
المرأة: ساقوه إلى الحرب
الرجل: لم تكن معي نقود ولا أملك سوى سجارة واحدة. حافظت عليها وصنتها أكثر من أي شي ثمين في المنزل
المرأة: سنوات مرت لم يفارق بسطاله الثقيل
الرجل: أشعلتها وأخذت منها نفسا عميقا وسرعان ما أطفأتها كي لا أترك الجمر يسرقها مني
المرأة: قيل له أن العدو مخيف
الرجل: وضعتها بهدوء على الطاولة وكأني أخاف إيقاظها من نوم عميق
المرأة: كان يجهز على إجازته بالحديث عن ذلك العدو الذي يريد قتل أطفالنا
الرجل: وبسرعة خاطفة صارت سيجارتي تحت أقدام طفلي الوحيد وهو يمرح ويضحك في عالمه الصغير
المرأة: لذا عليه أن يقف في وجه العدو
الرجل: ودون وعي مني صفعته وأسقطته أرضا
المرأة: لم يغب عن وحدته ولا يوم واحد
الرجل: على أثرها نام في السرير وهو يئن من الألم في الرأس
المرأة: كان يحضر قبل رفاقه لخوفه العميق من الاستماع إلى الكلمات البذيئة من ضابط وحدته.
ولكن ماذا يفعل وقد أسقطني المرض فراش الموت
الرجل: مرض طفلي المسكين وكادت أذنه تفقد السمع
المرأة: اضطر البقاء إلى جانبي وتخلف عن وحدته لثلاثة أيام
الرجل: عندها لعنت اليوم الذي عرفت فيه اسم السجارة
المرأة: لم يحدث أي شي بعد التحاقه سوى أنني بلغت باستلام جثته بعد أن حكم عليه رميا بالرصاص
الرجل: أقسمت أن لا أدخن ثانية
المرأة: كان الأمر صعبا ولا بد من العودة إلى التدخين
الرجل: السجارة ملعونة إنها تجر صاحبها وتبعثره
المرأة: لم يبق شيئا ذو أهمية كما قالت جدتي
الرجل: أعرف ذلك
المرأة: وكيف عرفت؟
الرجل: "يضحك.. برهة" كنت معلما لأكثر من عشرين عاما
المرأة: اضطررت للعمل كمنظفة في المستشفيات
الرجل: انتظر بدء العام كي أتعرف على وجوه جديدة من التلاميذ وفي نهاية العام انتظر حصاد
ما زرعت
المرأة: وفي الآخر ها أنت كغصن تنتظر......
الرجل: يكبر التلميذ بين أحضان كلماتي وفجأة يتحول إلى أشلاء
المرأة: كنت ألملم هذه الأشلاء، فأوامر قطع الأطراف كانت مألوفة
الرجل: تناوشتهم السكاكين والطلقات
المرأة: صرخاتهم كانت تصل السماء
الرجل: لم أنم الليل حين عرفت بأمر أحد التلاميذ الذي دخن سجارة في الاستراحة. وفي اليوم التالي استجمعت كل العلوم والأمثال والأقوال وأدخلتها في أذن ذلك المسكين الذي لم يفهم شيئا سوى غضبي
المرأة: وآخر المطاف؟
الرجل: استلمته أمه دون أطراف
المرأة: صرخ أحد جرحى الحرب متوسلا، بأن أمسد له ساقه اليسرى لأنها وحسب زعمه كانت تؤلمه، إلا أنه ويا حسرتي لم تكن له ساق، هو لا يصدق ذلك وأقول له
ـ إنه فراغ يا ولدي وساقك ظلت هناك شاهدا في ساحة معركة لا تعرف أسبابها، كان يتوسل ولا يصدق أنه دون ساق
الرجل: توقعت لأحد التلاميذ النجاح الباهر في حياته. كان يحفظ الشعر لمجرد سماعه ويحل أعتى المعادلات الرياضية وله سرعة بديهية، هكذا كنت أراه مشروعا لإنسان سامي
المرأة: هل جاء هو الآخر دون أطراف
الرجل: قيل إنه جن لأنه ذات مساء صافح جميع من كان معه في الموضع العسكري وتقدم ماشيا في حقل الألغام حتى اختفى منه الأثر "صوت جرس مدرسة مع منبه سيارة.. يقف
الرجل مصغيا"
هل سمعت شيئا
المرأة: أظن ذلك
المرأة: إنني أعني ما أقول "يجلس الرجل القرفصاء.. يدخن بشراهة"
المرأة: أو لم تقل إنك أقسمت أن لا تدخن ثانية؟
الرجل: معك حق "برهة" بسببه أيضا عدت إلى التدخين والحرب كانت بطل المأساة
المرأة: الحرب
الرجل: في كل مرة يلتحق بشكل طبيعي ولكن هذه المرة اختلفت كثيرا "برهة" صعد إلى سطح الدار وأطلق عدة رصاصات موجها بندقيته إلى كبد السماء
المرأة: حضرت إلى مركز الشرطة لكي استلم جثته.. وضعوا جسده في تابوت من الخشب البالي وربط بحبل على سيارة نقل المواشي
الرجل: صعدت السلم مسرعا. فوجدت الدموع قد أغرقت عينيه، نظر إلي ثم احتضنني بقوة بعد أن حمل بندقيته وغادر دون أن يلتفت إلى الوراء
المرأة: لم يمش في جنازته إلا أنا وعسكري لم أعرف اسمه
الرجل: مضت عدة أيام وإذا بالأخبار تتلاحق من الجبهة وخاصة من الموقع الذي احتله فوجه
المرأة: أوقفتنا إحدى السيطرات العسكرية، وسألوا
ـ إعدام؟
أجاب العسكري
ـ نعم
ومضينا لا اعرف أين
الرجل: عرفت أن الفوج أبيد بالكامل. بعضهم كان من حصة الأسماك وبعضهم الآخر حصدته الألغام وكثيرا منهم قتل بالمدفعية وطلقات الرصاص التي لم يعرف جهة إطلاقها
المرأة: وجهت عشرات الأسئلة إلى الرجل العسكري لكنه لم ينطق ولا بكلمة واحدة
الرجل: وبعد بحث طويل بين الجنود والمواضع والمستشفيات وقراءة عشرات بل مئات قوائم المفقودين تيقنت أن روحه صعدت إلى السماء ملتحقة بالاحتجاج والطلقات الغاضبة
المرأة: تخاطفت العديد من السيارات التي تشبه سيارتنا وعليها نعوش تشبه نعوشنا أيقنت أنني لست وحدي في المصيبة
الرجل: انضممت منذ الصبح الباكر إلى آلاف المتجمهرين أمام شاحنات توزيع الشهداء هكذا يسمونها
المرأة: أنزل النعش بعد أن وصلنا ساحة كبيرة تجول فيها الرمال وإذا بي أشاهد مثل نعشي ألف نعش
الرجل: قرأت مئات القوائم ووزع آلاف الشهداء. وأنا لم استلم ابني ونمت مع الأمهات والآباء على الموقع الذي كنا نقف عليه ومحظوظ من وجد صخرة يسند رأسه إليها
المرأة: وضعت رأسي على النعش وسألته، لكنه لم يجبني هو الآخر
الرجل: وقبل أن يباشروا بقراءة الأسماء اشتريت بكل ما أملك من نقود سجائر لا أعرف نوعها
المرأة: علي انتظار دوري في إدخال جثة زوجي إلى المغسل وهذا يعني أن أجره بين الحين والآخر بل كلما يزاح نعش يحتل مكانه نعش آخر. كان ثقيلا
الرجل: وظللت على هذه الحال أدخن وانتظر حتى مضى على بقائي أكثر من أسبوع "برهة" ذات يوم صرخت صراخا أفزع الجميع وانتفض في داخلي مارد ولم أضع أي اعتبار للخوف
المرأة: كنت خائفة بل ارتجف من الخوف حتى وأنا أجر النعش كنت أجره بهدوء لأن وجوه العسكر كانت تحدق بنا
الرجل: صعدت المنصة التي كان يقف عليها الجندي الذي يقرأ الأسماء. قلت له إن ولدي داخل
هذه الشاحنة، ولكنه أسقطني أرضا وقال:
:ـ الجميع هنا يريد استلام حصته
المرأة: لم يبق أمامي سوى نعش واحد. وها أني أحلم بمشاهدة زوجي. ترى كيف تكون سحنته
وهل سيتغير شكله
الرجل: يبدو أن الآباء والأمهات المساكين أمثالي عرفوا حجم النار التي تسعر في قلبي مما جعل الجندي يسمح لي بالدخول.. ومشيت أمام حراس الشاحنات
المرأة: أدخلوا نعش زوجي داخل المغسل
الرجل: قلت لهم افتحوا هذا المجر
المرأة: فتحوا التابوت
الرجل: وإذا به ولدي. كان نائما، مجرد نائم
المرأة: لم أستطع مشاهدته لأنهم سرعان ما أخرجوه ورموه رميا على دكة من الحجر
الرجل: كم كنت سعيدا وأنا أشاهده
المرأة: كان حزينا مغمض العينين. مربوط اليدين إلى الخلف وبعض الدماء المتيبسة على بدلته العسكرية
الرجل: خرجت به من الشاحنة وأنا كالفارس المنتصر. وضعته فوق سيارة نقل الموتى وأنا منتصر
المرأة: شعرت إن العالم انهار والظلمة ملأت الكون
الرجل: وفي الطريق أدركت حجم المأساة. إن ولدي لم يرحب بي ولم يحتضني كعادته وانفجرت بالبكاء الذي لم ينقطع
المرأة: لم أبكي حينها كان الدمع قد جف
الرجل: لم تبق معي سجائر وقلبي صار جمرا، عندها شعرت إن العراق صار بحق عبارة عن مقبرة كبيرة وجميعنا ننتظر الدور
المرأة: دخلوا بيتي في ليل ممطر وكانت بنادقهم موجهة إلي، حتى دخلت إحداها فمي، طالبين مني إخلاء منزلي وتسليمه بما فيه إلى رجل أمن كان يملك بيتا أجمل من بيتي وفي الزقاق نفسه وقد شهر هو الآخر مسدسه في وجهي ذلك الجار الذي لم ير غير أوامر سيده، قلت لهم: إنني لا أملك في هذه الدنيا شيئا غير هذا البيت وزوجي الذي رحل، وفي الحال صرخ ذلك الجار الطيب
ـ تقصدين الخائن
وأجبته بالحال: أنت تعرفه جيدا انه أكثر الجنود مطيعا للأوامر وهذا سر بلائه، ولكن إلى أين اذهب؟ وأجابني بالحال:
ـ إلى الجحيم..
ـ غريب أيها الجار أن يكون هذا قرارك وردك في الوقت نفسه قلت والخوف يملأني قال:
ـ سنهد البيت فوق رأسك صباح الغد إن لم تغادريه الآن..

وبالعنف أخذوا المنزل وخرجت منه بملابسي التي كنت ارتدي فقط، عندها شعرت إن العراق لم يعد لي بيتا وعلي أن أبحث عن بيت آمن
الرجل: طلبوا مني استلام تعويض مادي عن ولدي وكأنهم يريدون شراءه مني، وشعرت حينها بأنني أساهم بالجريمة إذا وافقت على استلام دينار واحد، رفضت وبشكل قاطع استلام أي شيء، وكنت أهدد يوميا بالسجن والتعذيب إن لم أوافق على استلام الثمن، بل زدت عليها بطلاء واجهة الدار باللون الأسود احتجاجا على رحيله، ولم أقابل أحدا في عيد أو فرح وفي ليل ممطر جاءني رجال الأمن وهم كثر، وقالوا:
ـ إنك مستدعى عندنا وستعود بعد تحقيق بسيط
وذهبت معهم ولم أعد إلى داري من ذلك التحقيق إلا بعد خمس سنوات من الجحيم، وما إن خرجت شعرت إن العراق لم يعد بيتا لي وعلي أن أبحث عن بيت

المرأة: وهل حصلت على الأمان؟
الرجل: ليس كما كنت أتوقع، صرت أحن إلى العراق والى كل عتبة فيه حتى الأمكنة التي لم أفكر يوما بزيارتها، صرت أتمنى ولو المرور بجانبها، لغتي في الغربة كانت هي الحبل السري الذي يجرني ويربطني بالعراق، وكم حاولت تلبس اللغة الأخرى والثقافة الجديدة إلا أني مازلت أحمل الجلد نفسه والسحنة نفسها وروحي كما هي تحن لرؤية شوارع العراق وأرصفته
المرأة: لقد تغير كل شيء لقد مات الأحبة والأصدقاء وكبر الصغار وابيض شعر أقراننا، والشوارع
هي الأخرى التي تركناها كفتاة تفخر بعفتها تحولت إلى الوحشة والخراب بعد أن داستها أقدام المحتل القادم من خارج الحدود، شوارعنا مستلبة وذاكرتنا ملك لنا وحدنا ويا حزني لو أننا لم نجد
ما نحن نرمي إليه
الرجل: لم استمع إلى الغناء العراقي عندما كنت هناك وما أن ودعت الحدود بالحزن والبكاء ووصلت المنفى صرت متعطشا إلى سماع هذه الأغنيات التي تحفر في صدري روح ذلك الذي لا ينت "فترة صمت قصيرة"
المرأة: لقد تأخر، مضى على الموعد أكثر من مما اتفقنا عليه وتجاوز وقته بكثير
الرجل: سنوات طوال ونحن بعيدين عن الوطن، فلا ضير أن زادت ساعات أخرى
المرأة: المشكلة ليست بالساعات بل بمجيئه أو عدمه "صوت سيارة قادمة"
الرجل: إذ لم يأت فلا بد أن يكون المانع صعبا
المرأة: صعب علي العودة إلى المنزل وتوديع الأصحاب ثانية
الرجل: "فترة صمت قصيرة.. يخرج من إحدى حقائبه راديو ترانزستور نوع قيثارة صنع في العراق.. يحاول الاستماع إليه، لكنه يستمع إلى تشويش فقط" فرحت به كثيرا وأنا استمع
 إلى الإذاعات العراقية ولكنه ما أن وصل هنا غير لغته ولم يعد يحكي بالعراقي، والمسافة بينه وبين صانعيه كانت واسعة لذا فقد الارتباط وصار يتحدث لغة البلد الذي يسكن "برهة" يقينا ما أن
أصل الحدود فإنه سيظهر فصاحته وسيغني ثانية بالعراقي
المرأة: معي أنا أيضا جلبت قطعة من أرض العراق وما زلت احتفظ بها
"فترة صمت قصيرة"
الرجل: وأنا أطالع تاريخ الأمكنة في العراق حزنت كثيرا لأنني لم أر الكثير من هذه المعالم أو استكشف خباياها، وأقسمت بان أسجل كل شيء تقع عليه عيني
المرأة: معركتي مختلفة عنك فانا سأدخل معركة قانونية من اجل استرداد بيتي إن بقيت له معالم
الرجل: "يدخن.. وهو يقدم لها سجارة" لندخن قليلا
المرأة: "تأخذ السجارة" دعنا نملي وقت الفراغ حتى حضور السائق الذي أدخلنا اليأس "تدخن"
الرجل: ما أن اصل الحدود سأبكي دون خجل، اشعر أني فضت بالدموع سأزور المقبرة التي حلمت بمشاهدتها طوال هذه السنوات، كيف هو قبر ولدي الآن وهل مازال شاخصه باقيا أم هدموه هو الآخر
المرأة: بعد أن اجبروني على دفع ثمن الطلقات التي اخترقت جسده، ودفنه بيدي، قيل لي: عليك أن تبتهجي، فان الكثير ممن اعدموا رميا بالرصاص أو سحقتهم الجرافات مازالت الأرض
تحتفظ بأسرارهم، ولم يظهر لهم أي دليل، زوجات وأمهات بكين لأعوام طوال وانتظرن هذا الزمن كله عسى أن يأتي ذلك الغائب وينفض عنه التراب إلا انه لم يعد والحزن صار معلما في الوجوه
الرجل: يا للخيبة، محسود من يحصل على جثته ولدا كان أو زوجا أو أخا، أي زمن مر نحن فيه
المرأة: أرجوك لا تتحدث عن هذه الويلات أمام السائق
الرجل: ولماذا؟
المرأة: مازالت هناك بعض من عيونهم
الرجل: متى نتخلص من هذا الخوف؟
المرأة: قضينا العمر هكذا، الخوف صديق لنا
الرجل: سأتحدث معه عن أشياء أخرى غير الألم
المرأة: أتمنى ذلك
"فترة صمت قصيرة"
الرجل:
كيف قضيت وقتك في غربتك؟
المرأة: مثلك تقريبا
الرجل: كنت أقرأ كثيرا محاولا قتل الجهل الذي فرض علي
المرأة: لو لا التلفاز وأخبار العراق لألقيت بنفسي من الطابق السادس حيث اسكن، فان التلفاز والهاتف كانا يهونان عليّ ساعات الجنون "برهة" كنت أفكر فيه كثيرا، كلما طبخت شيئا كان يحبه، أضع صحنين على الطاولة مع شوكتين وملعقتين عسى أن يأكل معي "برهة" كان يأتيني كثيرا في منامي واليوم الذي لم يزرني فيه استيقظ غاضبة
"فترة صمت قصيرة"
الرجل:
سأعبر الشارع الآخر ربما سيكون السائق هناك، سأضع حقائبي إلى جانب حقائبك
وسأعود بعد حين "يخرج"
المرأة: "وحدها.. ترتب الحقائب" حقاً أنا خائفة لم اعد أثق بشيء، السائق تأخر والرحلة إلى هناك مملوءة بالخطر الطريق ملغوم بالصور وقطاعي الطرق والشوارع تزهي بالمجنزرات والسيارات الملغومة تنفجر في كل مكان، ورغم الموت المجاني سأزورك يا عراق.
الرجل: "وهو يدخل" لا أثر له
المرأة: لو أنه في العراق لأعذرناه وحتماً كان المانع صعباً، لكننا لم نصل الحدود بعد
الرجل: سنصل حتماً
المرأة: ولكن كيف ومتى؟ "برهة" هل سيطول بقاؤك في العراق؟
الرجل: لا أعرف، الأمر معلق بما أجده هناك ربما يطول بي البقاء طوال العمر أو أعود بعد حين
المرأة: أنا لم أقرر البقاء أبدا، أشعر أني لا أستطيع العيش هناك ثانية، على الرغم من أني انتظر الساعة التي أضع فيها قدمي على تراب العراق.
الرجل: اشعر أن جسد العراق كجسدي، قد تعرض هو الآخر للغربة والعذاب والوحشة، وان سنوات العنف سرقت منه ومني ربيع العمر ولم اعش سوى نصف السنين، وهكذا هو العراق.
المرأة: تمر بي لحظات من الجنون احمل فيها غيضا لا يتحمل على الوطن، حين أفكر بأنه اغتال زوجي ذلك الزوج الوديع الذي لم يؤذ حتى حشرة، اشعر أن هذا البلد لا يعيش فيه الإنسان المسالم.
الرجل: إذا عودي من حيث أتيت طالما...
المرأة: أيها الرجل، أسميتها ساعات الجنون، سأزور العراق وربما يأتي ذلك اليوم الذي يحتضن احدنا الآخر ونعود لبعضنا ثانية.
"فترة صمت قصيرة"
الرجل: "يدخن.. يتأمل دخانه وكأنه يستحضر الهم" في الغربة يحمل الموت معناه الحقيقي، فإذا مات الواحد منها في منفاه يبتلى بجثته ومكان دفنها، وعليه أن يؤمن على دفنه لكي يضمن دفنه
في مكان ما بدل من رميه في حاوية النفايات.
المرأة: تركت الأمر كما هو دون تأمين أو أي شيء آخر
الرجل: قلت لهم وبعد أن دفعت أقساط التأمين: أريد أن أدفن في الوطن حتى ولو كان السعر مضاعفا، واتفقنا على ذلك وحال موتي سيدفنونني هناك.
المرأة: لا فرق بالنسبة إلي "برهة" كنت أشاهدهم في المستشفى وهم دون أطراف، ويضعون في التوابيت الخشبية أحياننا ساقاً أو يداً ليس لهم حينها أحسست ان هذا الجسد لا يعني شيئا
فليمت حيثما يقف.
الرجل: حقاً بدأ اليأس يدب إلي وأظن السائق لن يأتي هذا اليوم.
المرأة: وأخيرا نطقتها، أؤكد لك انه لم يأت وقد تجاوز وقته بكثير، دعنا نحمل حقائبنا ونعود إلى منازلنا، واترك لك مهمة الاتصال به ومعرفة السبب.
الرجل: انتظري قليلاً ربما سيأتي، وإذا جاء ولم يجدنا فسيرمي الحجة علينا ربما علينا أن ندفع له أجرة مضاعفة.
المرأة: إذا جاء وطل علينا فمن أي طريق يأتي.
الرجل: من هذا الاتجاه "يشير إلى نفس الاتجاه الذي خرج هو منه قبل قليل"
المرأة: إذا دعني اقتل ملل الانتظار وأشاهده عسى أن يأتي "تخرج"
الرجل: "وحده" نحن موعودون بالانتظارات والأحلام المؤجلة، حتى السائق تلاعب في أجمل رغبة وأعنف شوق صاحباني طوال سنين الغربة، إنه يأتي، لا إنه لا يأتي، وكأننا عدنا إلى اللعبة القديمة التي كنا نودع فيها يومنا ولا نعرف على أي نوع من الموت نصبح.
المرأة: "وهي تدخل" شاهدت سيارة قادمة من بعيد ربما وصل إلينا الآن.
الرجل: أتمنى ذلك "صوت السيارة يقترب ونسمع صوت وقوفها مع انطفاء الأضواء الخارجية..
فترة صمت قصيرة.. يدخل السائق ووجهه حزين.. فترة صمت"
المرأة: "تحمل حقائبها متجهة إلى الخارج" وأخيرا وصلت، لقد جففت دمي.
السائق: "وهو يوقفها بإشارة من يده" ليس من عادتي أن اخلف وعدا فكيف إذا كان باب رزق، ولكن يؤسفني أن أقول لكم بأني لا أستطيع أن أوصلكم إلى العراق هذا اليوم، اتصل بي مسئول الخط وقال إن الطريق غير آمن وقد تعّرضون أنفسكم إلى الموت.
المرأة: يوم آخر من الحزن
الرجل: هكذا نحن دائماً نضيف حزنا على حزن لذا فأني اشك دائماً بذلك اليوم القادم "إلى السائق"
اسمع سوف أنام بأقرب فندق وسأعطيك العنوان ولن أعود إلى منزلي وإذا سمعت أخبار جيدة عن الطريق اتصل بي وسأجلب حقائبي في الحال.
المرأة: اشعر من الصعب الذهاب إلى بيتي لذا سأسكن فندقا قريبا من هذا المكان وعندك رقم هاتفي وأنتظر منك الاتصال.
السائق: "يتحرك وسط المسرح وكأنه يوجه كلامه إلى الجمهور مشتكيا" يا أخوتي الطريق غير آمن
وقد تطول الحكاية.
 
5 ـ 7 ـ 2005