رسالة المغرب

الدخول الثقافي المؤجل

عبدالحق ميفراني

ككل سنة، يعاد النقاش الأبدي حول مفهوم "الدخول الثقافي"، في الوقت الذي ينشغل به الإعلام بشقيه المكتوب والمسموع والمرئي بالدخول الاجتماعي والسياسي والتربوي والرياضي. ليظل السؤال الثقافي سؤالا مؤجلا، شبيها بالمشاريع الكبرى المؤجلة.. الأكيد أن دور النشر "على قلتها" لن تعلن على أسماء وعناوين الكتب التي من المنتظر أن تصدر السنة القادمة، والأكيد أيضا أن المؤسسات الثقافية الـ "فاعلة" لن تتأخر هي الأخرى في "عدم" الإعلان عن برمجتها الثقافية السنوية.. لسبب واضح ومباشر، ليس ثمة جديد في الجسد الثقافي المغربي ما يؤكد فعل هذا التحول، ولن نتمكن من مغادرة رتابة النقاش حول نفس الثيمات والموضوعات والانزلاقات والأسئلة الاجترارية، والمفارقات الأبدية.. والتي أمسى المشهد الثقافي المغربي يكرسها ويقعد لها كأسلوب مباشر في المعلن والمضمر.

فبالعودة الى راهن المشهد الثقافي المغربي، لم يخرج اتحاد كتاب المغرب من صمته وسباته العميق.. حتى المبادرات الأخيرة التي قام بها بعض الكتاب ورؤساء الاتحاد سابقا توقفت عند "نفس الصخرة"، وما يسري على المكتب التنفيذي، يسري على باقي الفروع في مختلف ربوع المغرب، بحكم أن جلها انتهت صلاحيتها القانونية وأمست مطالبة بتجديد هياكلها. لكن، والحالة هاته، ستظل هي كذلك رهينة لنفس "المحبس".. المؤلم أن مؤسسة اتحاد كتاب المغرب ظلت على الدوام محرار ثقافي قياسي يمكن المتتبع والقارئ والراصد للفعل الثقافي والفني بالمغرب أن يشكل جزءا من تلك الصورة العامة على المشهد ككل، صحيح أن بعض الفروع حاولت ببرمجتها الثقافية الاستثنائية الخروج من قاعدة الصمت، نشير هنا الى فرع سلا وتمارة..، اللذان نظما أياما ثقافية "رمضانية" وموازية لأنشطة مهرجانات، إلا أن الحاجة لا زالت ماسة الى دينامية اتحاد كتاب المغرب، أو لنقل، بتعبير ناقد مغربي، الى استعادة عافية..

ورغم أن الاتحاد حتى في اللحظات الأكثر ألقا لم يستطع تكسير قاعدة الدخول الثقافي المؤجل، بحكم أن هذا المعطى كرسته الدولة أساسا بحكم أن الثقافة ظلت على الدوام، هامش لصرخة الكتاب ضد السلطة، وحتى في السنوات الأخيرة انتقلت الإشكالية الى أسئلة أعم وأكثر صعوبة. انحسار المقروئية، تراجع لافت لسوق القراءة والتوزيع والنشر، ضمور الفعل الثقافي الى حين.. ولا يمكن للمفكر والروائي بن سالم حميش الذي عين وزيرا لقطاع الثقافة في المغرب أن يخلق ثورة على هذا الوضع، بحكم أنه أكثر إشكالية ويحتاج لجميع الفاعلين في الحكومة، بل يحتاج لإرادة الدولة المغربية أن تجعل من الثقافة رافدا أساسيا وفعلا حضاريا قادرا أن يعبر عن هويتها وكينونتها..

الأكيد أننا لا نتحدث على المشهد الثقافي في فرنسا أو أي دولة تحظى فيها الثقافة بالأولوية، حيث يكون الدخول الثقافي فيها، موضوعا لتنافس حاد بين دور النشر، وبين البرمجة الثقافية. لكن، نتحدث عن راهن المشهد الثقافي في المغرب الذي أصبح اليوم يطرح أكثر من سؤال، خصوصا عندما نقرأ مفارقاته.. فلا زالت العديد من المبادرات إما فردية أو مرتبطة ببعض الجمعيات الثقافية، تزيح جزءا من سوداوية هذا المشهد في قدرتها على خلق فسحات من التألق والدينامية. ظلت تحافظ عليها بحس "نضالي" مستميت. وهي مبادرات تنتمي، في جزء منها، الى ما كان ينعت بالهامش. جمعيات ثقافية تؤسس لدينامية حضورها من خلال برمجة ثقافية لا تستفيد من دعم اللهم قدرتها على خلق المزيد من الحضور الثقافي سواء من خلال عقدها لندوات محورية أو قراءات أو لقاءات ثقافية.. نذكر هنا تجربة مختبر السرديات ونادي القلم ومجموعة البحث في القصة القصيرة وبيت الشعر والنادي الأدبي بالبيضاء والمركز الدولي لدراسات الفرجة والائتلاف المغربي للثقافة والفنون...، وجمعيات تنتمي لمدن تحتاج رئتيها لنفس ثقافي (تيفلت، زاكورة، مكناس، آسفي، البيضاء...).

الى جانب هذه الإطارات الفاعلة وغيرها تؤسس المبادرات الفردية عنوانا عريضا للحضور، ولو أنها في الأغلب تنتمي لتجارب حداثية وجديدة، فعناوين الكتب المطروحة اليوم في المكتبات ونقط البيع، تؤكد قدرة أصحابها على فهم طبيعة تشكل بنية الفعل الثقافي بالمغرب. سواء من خلال الحضور والمشاركة في المهرجانات واللقاءات الثقافية والفنية في العالم العربي أو الغربي، أو من خلال تألقها بالتتويج، وهو ما حظيت به بعض الأسماء المغربية مؤخرا.

ففي قلب قلعة صلاح الدين الأيوبي بمصر تسلم الأديب والمفكر المغربي بنسالم حميش، الشهر الماضي، جائزة «نجيب محفوظ للكاتب العربي»، التي يمنحها اتحاد كتاب مصر سنويا لكاتب عربي من خارج مصر تقديرا لمجمل أعماله الإبداعية والفكرية. وتم تسليم الجائزة للأديب والمفكر المغربي خلال حفل حضرته ثلة من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب وذلك بمناسبة افتتاح المؤتمر السنوي لاتحاد كتاب مصر، المنظم هذه السنة تحت شعار «القدس وثقافة المقاومة».

وقد سبق أن فاز بهذه الجائزة، التي تعد من أهم الجوائز التي يمنحها اتحاد كتاب مصر، كل من الأديب السوري حنا مينه والشاعر الفلسطيني سميح القاسم والشاعر السوداني محمد الفيتوري. الجائزة التي تكتسي "قيمة اعتبارية كبيرة.. للكتاب المغاربة خصوصا أمام هذا الحضور القوي واللافت اليوم في المشهد الثقافي العربي، إذ لم يصبح الحديث اليوم عن النقد المغربي أو التفكير الفلسفي هو قطب الرحى كلما تمت الإشارة الى الثقافة المغربية، بل أمست بعض الأسماء تؤسس لقوة حضورها من داخل أجناس إبداعية أخرى" القصة القصيرة التي عرفت تراكما نوعيا السنوات الأخيرة ولعل المشاركة الفاعلة مؤخرا في مؤتمر عمان (محمد معتصم، أنيس الرافعي والدكتور سعيد يقطين) جزء من هذا الفعل، الى جانب القصة حظيت الرواية والشعر والسينما بحظوة لافتة مؤخرا في العديد من الملتقيات.

وفي تقديمه لحيثيات منح الجائزة لبنسالم حميش قال محمد السيد عيد، رئيس لجنة التحكيم أن اختيار الكاتب المغربي جاء من منطلق "كونه متعدد المواهب من شعر وقصة ورواية ومقالة ودراسات فلسفية وتاريخية"، مذكرا بأن «شلال الإبداع» لدى حميش انطلق مع أول ديوان شعري أصدره تحت عنوان «كناش إيش تقول» سنة 1977 لتتولى إصداراته في حقول متنوعة والتي ناهز عددها 25 كتابا باللغتين العربية والفرنسية. وما يميز الكاتب بنسالم حميش، يضيف رئيس لجنة التحكيم، هو قدرته على أن يضع «فلسفته الدسمة» في قالب فني جذاب وقدرته على أن لا يقع في «التبعية الفنية» لشخصيات رواياته التاريخية، مستشهدا في هذا السياق بالمسافة الفنية واللغوية التي ظل عليها حميش وهو يتناول ابن خلدون في رواية «العلامة».

وأشار رئيس لجنة التحكيم أيضا إلى أن بنسالم حميش لم يكن يتحدث في رواياته المستلهمة من التاريخ عن الماضي بل عن الحاضر "فالماضي في أعمال بنسالم حميش مجرد قناع"، مضيفا أن الكاتب المغربي لم يبق سجينا لهذا النوع من الرواية بل كتب أيضا عن العالم المعاصر وهو ما تجسد في روايته "محن الفتى زين شامة".

ورصد محمد السيد عيد الأفكار الكبرى التي ظلت تستأثر باهتمام الكاتب المتوج ولخصها في الأديولوجيا والدكتاتورية وعلاقة اللغة بالانتماء والوضع الحالي في العالم العربي والبداوة في الفكر المعاصر والانكباب على التاريخ. أما محمد سلماوي رئيس اتحاد كتاب مصر فأكد، وهو يقدم الأديب المغربي، على أن لجنة التحكيم اختارت هذه السنة منح الجائزة التي تحمل اسم رمز الأدب العربي نجيب محفوظ ل «روائي وشاعر مغربي كبير» باعتباره صاحب "إنجاز رفيع أثرى الثقافة والأدب" العربيين. وكانت الجامعة الأمريكية بالقاهرة قد منحت بنسالم حميش سنة 2002 جائزة نجيب محفوظ عن رواية "العلامة". كما حصل سنة 1990 على جائزة مجلة «الناقد» التي كانت تصدر من لندن، عن روايته «مجنون الحكم» التي ترجمت إلى عدة لغات أجنبية، وكذا على جائزة «الأطلس» للترجمة.

وحين يشير الروائي والمفكر المغربي، وزير الثقافة بنسالم حميش، أن "الأدب المغربي أصبح يثبت وجوده داخل المغرب وخارجه" لكن، هذا المعطى لا يقابله ولا يوازيه على المستوى المغربي اهتمام بالسؤال الثقافي وبالقدرة على خلق استراتيجية وطنية تمكن المشهد الثقافي في المغرب أن يستعيد ويجيب على هذه الدينامية الموازية. ولا يمكن للشراكة أو للخطة الوطنية للقراءة إلا أن تشكل نواتا أولية لا هدفا في حد ذاته. وحينها يمكن لهذا الحراك الثقافي في المغرب أن يستشرف، كما صرح بذلك الناقد والكاتب المغربي محمد برادة، "قيما مستقبلية «قد تكون حاملة لحلول مقنعة في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي». ولو أن مشكلة هذا الحراك الذي يعبر عن حيوية المجتمع المغربي، هو كونه لا يستطيع أن يتسع ليشمل إطارات أوسع..."

وبالعودة لسؤال الدخول الثقافي، يمكننا أن نشير هنا الى مبادرة أقدم عليها المركز الدولي لدراسات الفرجة، الذي يرأسه الناقد الد. خالد أمين، تتمثل في جديد منشورات موسومة بـ "المسرح وكل شيء آخر". وهو دعوة للمساهمة في بلورة النقاش حول علاقة المسرح والحياة؟ وقد وجه المركز نداء الى جميع النقاد والباحثين المختصين في مجالي المسرح ودراسات الفرجة لتقديم أبحاثهم قصد النشر والمساهمة ضمن سلسلة كتاب الجيب الذي يسعى المركز من ورائها "تعميم الثقافة المسرحية وتعميق التفكير في مختلف العلاقات الكائنة والممكنة بين المسرح والحياة". وجاء في البلاغ كل كتاب سيبحث في بعض التقاطعات والمسارات، الملتبسة أحيانا، بين المسرح وكل شيء آخر في الحياة والعالم الأكبر الذي نحيى فيه، متسائلا عن قدرة المسرح على إضاءة الحياة، وقدرة الحياة على إضاءة المسرح... ويبقى الهدف الأسمى لهذه الكتب هو قابلية قراءتها في مكان واحد، ومن طرف أي قارئ شغوف ومهتم بموضوع الكتيب. أي موقع للفرجة في عالم اليوم؟ ولاسيما الفرجة المسرحية الآخذة في الانكماش بفعل تقلص مساحات التلقي يوما بعد يوم...

إن مفهوم الفرجة المسرحية له قابلية وقدرة على احتواء قضايا متعددة وشائكة من قبيل السلطة، التاريخ، الأصالة، التناص، الذاكرة، المقدس، الوجدان... يمكن اعتبارها، إذن، كبؤرة لانبعاث الثقافة ووسيط يعكس الثقافة. فالفرجة المسرحية هي أيضا ممارسة سياسية من حيث إنها أحد الإمكانيات المتبقية لكشف الهوة الكامنة بين التجربة الشخصية والإدراك، إذ نواجه كمتفرجين، ولو لفترة وجيزة وهي مدة العرض، ذواتنا كوجود إنساني داخل مجتمع سريع التحول بفعل الصيرورة الوسائطية الثاوية في عمق التبادلات الرمزية والمادية المحيطة بنا.

ومن خلال سلسلة "المسرح وكل شيء آخر" تهدف منشورات المركز "إبراز تلك العلاقات المعقدة بين المسرح والحياة بصفة عامة مثل": المسرح والمثاقفة، المسرح والسياسة، المسرح والمدينة، المسرح والجسد، المسرح والفرجة، المسرح والآخر، المسرح والحداثة، المسرح والمقاومة، المسرح والأمازيغية، المسرح والممثل، المسرح والعولمة، المسرح والجنوب، المسرح والأخلاق، المسرح والفنون الأخرى.. وتشرف لجنة علمية تتكون من الباحثين: حسن المنيعي، يونس الوليدي، عز الدين بونيت، خالد أمين، ويمكن مراسلة المركز على البريد الإلكتروني: khamine55@gmail.com  

الدخول الثقافي: سؤال مكرر لكنه مؤجل
وهكذا، يبدو التساؤل حول "الدخول الثقافي" كسؤال مكرر، لكنه أساسا مشروع مؤجل. صحيح أن الوضع الثقافي بالمغرب ليس بالظاهرة العادية. ولا يمكننا إلا أن نسمه بعالم المفارقات بحكم ما قدمناه سلفا، أيضا عند الحديث عن الدخول الثقافي لابد أن نتذكر الإشكالات الكبرى التي يتسم بها الفعل الثقافي، ليس في المغرب وحسب بل في العالم العربي ككل، والأكيد أيضا أن هذه الإشكالات لا يحمل مفاتيحها الكتاب لوحدهم ولا دور النشر ولا الموزع ولا حتى الوصي على القطاع.

قد يحتاج الأمر الى معرفة دقيقة بطبيعة الظاهرة الثقافية وتشكلها في مجتمع ما من المجتمعات العربية، من ثمة القدرة على صياغة الحلول الممكنة للخروج من النفق. ويمكننا هنا أن نشير الى ما شهده المغرب الثقافي سنوات السبعينات من القرن الماضي، حيث كان الانخراط الفعلي مع قضايا المجتمع مما أسهم في بلورة معرفة مجتمعية وفكرية أسست بإسهام "الثقافة الوطنية". أما اليوم، فقد تغيرت الإشكالات وحتى الأسئلة. ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن حراك ثقافي في كافة تلاوين المعرفة والإبداع، ثمة غياب لشروط تداول هذه المعرفة مما يؤخر بلورت مشاريعها بقوة الأشياء، ويجعلها تجتر نفس الأسئلة..

يعرب العديد من المثقفين المغاربة على أن "صناع القرار السياسي في المغرب، لا زالوا يتعاملون بمنطق الشك والريبة في كل ما يمت للثقافة بصلة"، كما أن "غياب استراتيجية وطنية تعيد السؤال الثقافي الى ديدن الممارسة المجتمعية" وهو ما يعيدنا الى مقولة سبق أن عبر عنها الناقد الدكتور سعيد يقطين، في نقاشه لسؤال الشاعر حسن الوزاني حول الدخول الثقافي، حين قال: "ما هو الدخول الثقافي؟ والدخول السياسي؟ وهلم جرا من أنواع الدخول الممكنة". لا مراء في أن الحديث عن الدخول يستدعي آخر عن الخروج، أليس كذلك؟ هل سمعتم شيئا عن "الخروج الثقافي؟ كيف يمكن الحديث عن الدخول من دون خروج؟ وأنى لنا الحديث عن دخول ما إذا كان الخروج هو القاعدة؟.."

ما يؤكد سوداوية هذا المشهد حقا، هو حين نقارب السؤال الثقافي في اليومي.. اليومي المغربي الذي ينشغل بأسئلة الحياة والوجود، حيث يتطلب قرارا سياسيا يمكن المواطن أن يتصالح مع أفقه. هذا الانشغال باليومي يجعل من سؤال "الثقافي" من باب الترف الفكري، ليس إلا..  
alkalimah_maroc@yahoo.com