رسالة القاهرة: محكى القلعة وحياكات اليونسكو
قمرُ المحروسة المشرق وظلامُ باريسَ الدامس
محكى القلعة: إبداعات في ليالي المحروسة لا تشبه القاهرة في رمضان إلا نفسَها، فوحدها تلك المدينة العريقة تستعيد ذاكرتها التاريخية كاملةً بهيّةً في الشهر الكريم، متزينةً بثوبها المملوكي الفاطمي الأيوبيّ، كشاهدٍ فريدٍ من نوعه على الحضارة الإسلامية في إحدى مراحلِ ازدهارها وتوهجها. ويبدو أن الفاتحين المسلمين حينما استقبلتهم تلك البقعة الجغرافية التي يعبرها النيل خالداً بشُريان مائِه، واستهلتهم بأهراماتها ووجهها الفرعوني الجليل، أبوا إلا أن يتركوا بصماتهم داخل قلب تلك البقعة دليلاً على ماضيها وحاضرها بل ومستقبلها أيضاً. بهذا الحضور الرمضاني المائِز رفلت القاهرة في ثوبها الإسلامي المزركش بمختلف العصور والخِلافات (جمع خِلافة)، فقد قدمت وزارة الثقافة المصرية ممثلةً في هيئاتها كافة نشاطها السنوي في بيوت المماليك وقصور الفاطميين وقلاع الأيوبيين، وبين أنشطة صندوق التنمية الثقافية وندوات الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار الكتب والوثائق القومية ونشاطات الهيئة العامة لقصور الثقافة بقلعة صلاح الدين، عاشت الثقافة المصرية شهرا ينتظره المصريون كل عام ليعيشوا أجواءً زمانيةً ومكانية تخرج بهم عما اعتادوا عليه بقية العام من أحداث يومية متكررة حدَّ التناسخ المقيت. وقد كانت أبرز هذه الفعاليات ليالي المحروسة الثقافية والفنية التي استضافتها قلعة صلاح الدين للعام الثاني على التوالي، فقد كانت الليالي تقام سابقاً في عدّة مواقع مختلفة داخل مدينة القاهرة، وبين الحدائق والميادين العامة والمواقع التاريخية والقصور الثقافية تقاسمت هذه الليالي في الأعوام السابقة وعلى امتداد ما يقرب من ربع قرنٍ من الزمان عدة أماكن، كان منها حديقة الخالدين بالدراسة لما يقرب من سبع سنوات، ثم قصر روض الفرج (الذي أنشئ مكان السوق الشهير) والذي استضاف فعاليات الليالي لمدة ثمان سنوات، ثم الحديقة الثقافية في الحوض المرصود وميدان السيدة زينب في حدود ست سنوات، وأخيراً وقبل قلعة صلاح الدين الأيوبي حديقة الفسطاط بجوار مسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة لمدة عامٍ واحد. وقد استنّت وزارة الثقافة المصرية إقامة هذه الليالي الثقافية كلّ عام لتقدم للشعب المصري والعربي في رمضان مائدةً ثقافيةً وترفيهيةً وفنيّة من خلال مجموعة عروضٍ متنوعة بين الإنشاد الديني والموسيقى العربية والأفلام السينمائية الروائية والتسجيلية والفنون الشعبية والإبداع الشعري والورش والمعارض الفنيّة والحِرَفيّة، هذا بالإضافة إلى معارض الكتب التي تشارك فيها كافة إدارات النشر التابعة لوزارة الثقافة المصريّة. وتعتمد وزارة الثقافة في إقامة هذه الليالي الرمضانية على تنسيق الهيئة العامة لقصور الثقافة مُمَثَّلَةً في إدارة الثقافة العامة التي تتولى التنسيق بين مختلف قطاعات الوزارة للخروج بهذه الاحتفاليات في شكلٍ منتظمٍ يراعي التنوع والتطوير. ومن القطاعات الثقافية التي شاركت في ليالي المحروسة لهذا العام: المركز الثقافي بدار الأوبرا، والمجلس الأعلى للثقافة، واتحاد الكتاب المصري، والهيئة المصرية العامة للكتاب، وقطاع الفنون الشعبية، والمجلس الأعلى للآثار، بالإضافة إلى المركز القومي للسينما الذي يقدم على مسرح سارية الجبل بالقلعة أحدث العروض السينمائية، والتي تمثلت هذا العام في خمسةٍ وثلاثين فيلماً كان من أهمها وأكثرها حضوراً جماهيرياً أفلام:"احكي يا شهرزاد، العالمي، إبراهيم الأبيض، بدل فاقد". كما شارك مسرح الطفل بعروض مجانية لفرقه المختلفة التي لاقت إقبالا لافتاً، خاصةً في ظل عدم معرفة الكثير من الناس بما يقدمه المسرح من نشاطاتٍ طوال العام وعلى امتداد المواقع الثقافية بالصعيد والدلتا، وقد قوبلت عدة فرق بالحفاوة البالغة والتفاعل من قِبَل الحضور، وكان من أبرز هذه العروض العرض الذي قدمه كورال الإنشاد الديني للأطفال التابع لقصر ثقافة الطفل بالقاهرة، والعرض المسرحي الذي قدمه أطفال فرقة الصم والبُكم للأداء الحركي التابعة لقصر ثقافة غزل المحلة، وكورال أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة التابع لقصر ثقافة شبرا الخيمة بالقاهرة. وقد أتى النشاط الأبرز هذا العام في امتداد فعاليات واحة الشعراء ومقهى نجيب محفوظ بالقلعة، لتشمل مشاركة أكثر من مائةٍ وخمسين شاعراً من كافة أنحاء الجمهورية على امتداد خمس عشرة أمسية شعرية، استضافت واحة الشعراء في كل أمسيةٍ منها شاعراً رئيسياً ضيفاً، بالإضافة إلى مجموعة شعراء شباب يمثلون المشهد الشعري الراهن العاميّ منه والفصيح، وقد شارك في هذه الواحة الشعراء سيد حجاب وعبد المنعم عواد يوسف وعماد غزالي وأمجد ريان وغيرهم من كبار شعراء القاهرة والأقاليم في شكلٍ أشبه بالأسواق الشعرية العربية القديمة عند العرب، إذ تعمَد الفكرة إلى إقامة تفاعلٍ بين الشاعر والجمهور، وقد صاحب الشعراء في هذه الأمسيات عددٌ من العازفين الموسيقيين، وقدّم بعض هؤلاء الفنانين أغنياتهم الخاصة في الفواصل بين قراءات الشعراء. أما مقهى نجيب محفوظ فتأتي فعالياته عقب واحة الشعراء بمحكى القلعة، وقد جاءت فكرته مواكِبَةً لفكرة الواحة منذ سبعة أعوام، حيث تعتمد فكرته على استضافة كبار الشخصيات الثقافية والسياسية داخل حوار مفتوح، وتمت تسميته بمقهى نجيب محفوظ تقديراً لمكانة هذا الروائي المصري الكبير، وإعادةً لفاعلية المقاهي الثقافية ودورها في الحياة الثقافية المصرية، بوصفها تمتلك تاريخاً من حرية التحاور والنقاشات، ولا يقتصر دور مقهى نجيب محفوظ على إقامة الندوات الفكرية المختلفة، فالمقهى يضع على عاتقه عرض الأفلام التسجيلية التي ينتجها الأفراد أو التي تنتجها المراكز السينمائية المتخصصة التابعة لوزارة الثقافة. وقد كانت أبرز الأفلام التسجيلية التي عُرِضت بالمقهى هذا العام الفيلم التسجيلي "في ست ساعات" من إنتاج المركز الثقافي للسينما والذي عرض جانباً من بطولات حرب أكتوبر 73 في خمسٍ وعشرين دقيقة هي مدة عرض الفيلم. ولا يفوتنا الذكر أن قليلاً من هذه الندوات والعروض السينمائية قد عانت من الإلغاء رغم إدراجها على جدول المقهى بسبب اعتذارات المشاركين أو عدم إقبال الجماهير على بعض العروض التسجيلية الرسمية نظراً لمحتواها الشبيه بمحاضرات التوجيه والإرشاد القومي، كما أن بعض العروض التسجيلية عانت من تأخيرها عن مواعيدها بسبب امتداد الوقت المخصص لمحكى الشعراء على حسابها. لكن جمهور المحكى ورواده من العامة بل ومن عموم المثقفين رأوا أن الإيجابيات التي تمتع بها نشاط هذا العام غطّت على السلبيات المعدودة، كما رأى بعضهم أن تدارك بعض سلبيات الأعوام الماضية وتطوير الأنشطة يحسب لرئيس هيئة قصور الثقافة الدكتور أحمد مجاهد في العام الثاني من عمر منصبه، ويُحسَبُ أيضاً هذا النجاح للشاعر محمد أبو المجد ومرؤوسيه بإدارة الثقافة العامة، التي تولى مهمة إدارتها قبل محكى العام الماضي بأشهر قليلة، وبرزَ تميّزه في تنسيق فعاليات الليالي والندوات بشكلٍ ملحوظ، خاصةً في واحة الشعراء ومقهى محفوظ، لما يتمتع به من قبول في الوسط الثقافي، وما يتميّز به من دماثةٍ وحنكة وقدرةٍ على التعامل مع المبدعين وفهم لطبيعة العمل الثقافي على تعدده وتنوعاته. وقد حفلت مواقع ثقافية أخرى بالقاهرة بأنشطة قوية ومتميزة جاء في مقدمتها قصر الغوري وقبَّته التي حفلت بليالي رمضانية متنوعة بين فنون المديح والإنشاد الديني والفرق الشعبية وراقصي التنّورة ورواة السِيَر الشعبية، جاءت هذه الأنشطة تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية، بالتعاون مع بعض المراكز الثقافية للدول الأجنبية كسفارة إسبانيا والمركز الثقافي الإيطالي، وذلك بإدارة مدير قصر الغوري الدكتور المبدع انتصار عبد الفتاح، الذي استطاع هذا العام أن يعيد تفعيل عناصر الجذب لرواد القصر في الشهر الكريم، عبرَ فكرة ملتقى "سماعي" الذي بدأه العام الماضي، والذي يستضيف فيه مبدعي الإنشاد الصوفي وفِرَقِهِ لمدة عشر ليالي، تبدأ في الليلة العاشرة من رمضان وتنتهي مع الليلة العشرين، وقد شهدت معظم الليالي حضوراً كثيفاً، وبخاصةٍ ليلة فرقة الطريقة الحامدية الشاذلية للمديح والإنشاد الديني، التي قوبلت بحفاوةٍ بالغة بعد ما تركته في العام الماضي من أثر لدى الجماهير، خصوصاً وأنها تقدم فقراتها وقصائدها اعتماداً على الأصوات البشرية بمصاحبة الآلات الإيقاعية فقط، وتعتمد في توزيعاتها إلى توظيف تنوعات الصوت البشري وطبقاته المختلفة لإحداث حالة هارمونية تستعيض بها عن الالتجاء لآلات موسيقية، وذلك تحت قيادة فنانها المبدع المايسترو أحمد عبد الله أحد أبناء الطريقة الحامدية الشاذلية، وقد جاءت هذه الليلة كما العام الماضي تحت رعاية المركز الثقافي الإسباني، وامتدت بفقراتها بعد الموعد المحدد لانتهائها استجابةً لطلب الحضور الغفير، الذي حضر خصيصاً لمشاهدة ما تقدمه الفرقة من إبداعات ومدائح تعبِّرُ عن السماع الصوفي وتجليه في شكله الفني المميّز. ولعل المتابع العادي لأنشطة وزارة الثقافة المصرية في رمضان يستطيع دونما جهد أن يلمس ما تبذله قطاعات وزارة الثقافة المختلفة من نشاطٍ كبير، خاصةً وأن هذه الأنشطة وتلك الفعاليات لا تقتصر على القاهرة فحسب، وإنما تمتد لتغطي القطر المصري بوجهيه القبلي والبحري، فقصور الثقافة بالإسماعيلية والمنوفية والمنيا والحدائق العامة بالإسكندرية والمنصورة وبورسعيد، وساحة سيدي أبي الحجاج بالأقصر، وغيرها من الأماكن والمواقع الثقافية تزخر جميعها بهذه الأنشطة والفعاليات، لكن المتابع العاديّ أيضاً يلمس في الوقت نفسه قصوراً ملحوظاً في الدعاية المقدمة لمثل هذه الأنشطة المختلفة، فالتنويه عن مثل هذه الندوات والملتقيات والاحتفالات ينقصه الكثير والكثير من التغطية الإعلامية والدعاية المنظمة، إلى درجة أن كثيراً من السكان المجاورين لهذه المواقع الثقافية يجهلون تماماً وجود هذه الأنشطة بالقرب من أماكن إقامتهم، بل إن كثيراً من المشاركين بالفعاليات لا يعلمون موعد مشاركاتهم بشكلٍ محدد إلا قبل الموعد بأيام قليلة، وهنا يبرز السؤال الأهم: متى تدرك وزارة الثقافة أن الدعاية الكافية جزءٌ جوهري في أية عملٍ يقدَّم للجماهير، وأن الإتقان في عصر العولمة وثورة الاتصالات والميديا لا يكفي وحده لإنتاج قيمةٍ فعلية وتحقيق نجاح؟! سؤالٌ لا ندري من يجيب عليه في مستقبل وزارة الثقافة المصريّة المبهَم. حياكات اليونسكو: مؤامرات في ظلام باريس في مقابل ما أضاءت به القاهرة ليلها الرمضاني من نجوم الفكر والثقافة والإبداع، ظلت الأعين طوال الفترة الماضية معلقةً بسماء أخرى، حيث العاصمة الفرنسية باريس التي أقيمت فيها التصفيات النهائية لمرشحي اليونسكو في دورتها الجديدة، تلك الدورة التي كان أحد مرشحيها وزير الثقافة المصري الفنان التشكيلي فاروق حسني، والذي توجه مباشرةً بعد افتتاحه ليالي المحروسة إلى باريس للاستعداد هو وطاقمه للجولة الأخيرة في رحلته الطامحة إلى الفوز بالمنصب الدوليّ الرفيع، رحلةٌ قدّم لها فاروق حسني بأكثر من عشرين عاماً في وزارة الثقافة، تاريخٌ ممتد من الإنجازات والإخفاقات، أحداثٌ هائلة حملها نظام كامل حتى لا ينوء بها كاهل الوزير الذي خطى فوق السبعين، حرائق في قصور فنية ومتاحف تاريخية واكتشافات أثرية أو استرداد لقطع أثرية منهوبة، مشاريع للثقافة والقراءة للجميع ومصادرات ومصادمات مع التيارات الدينية، قتلى في المسارح وآخرون بجوائز الدولة فائزون، مواقف ضد التطبيع ومهادنات معلنة وأخرى سريّة، احتواء لبعض المثقفين حينا، وإقصاءٌ لبعضهم الآخر أحايين أخرى. ويبدو أن فاروق حسني نجح في مهمته داخل المؤسسة الثقافية الأكبر في الشرق الأوسط، أو ربما استنفد كلَّ أدواته وإمكاناته، مما دفع النظام الحاكم إلى الرغبة في تكريمه ومكافأته بالتمديد له فوق كرسي الوزارة حتى يتمكن من الفوز بهذا المنصب الثقافي المهم، رحلةٌ رغب النظام المصري أن ينهيها بالنجاح ليحفظ بعض ماء وجهه بها ويضيفها إلى قائمة منجزاته التي لا يهمنا الآن إن كانت ضئيلة أو لا تُحصى عددا، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن. ولعل زيارة أوباما الأخيرة أظهرت بجلاء رغبة الرياح النافذة في سفينة اليونسكو، لكن المتفائلين أبوا تلك التفسيرات المتشائمة وإن كانوا أيقنوا صحتها، فقد لاحظ الجميع غياب فاروق حسني عن مرافقة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما في رحلته التي امتدت لساعات في منطقة أهرامات الجيزة، وفي مقابل ذلك لاحظ الجميع حضور زاهي حواس القوي في تلك الرحلة، ذلك الحضور الذي واكَبَ طرحاً لاسم زاهي حواس كمرشحٍ مقبول للمنصب في مقابل رفض إسرائيلي لترشّح الوزير المصري للمنصب بسبب موقفه من التطبيع وتصريحاته السابقة ضد الكيان الصهيوني، تصريحاتٌ ربما أراد بها فاروق حينها تهدئة الرأي العام الداخلي لصالحه، لكنه لم يكن يتوقع أنها ستقف مستقبلاً في وجهه مطيحةً بآماله وطموحاته، والغريبُ في الأمر أن الوزير المصري لم يستطع بمثل هذه التصريحات كسبَ أرضيةٍ لدى الشارع والوسط الثقافي، لأنه سرعان ما كان يُتْبِع مثل هذه التصريحات ببعض المواقف التي تُشكك في مصداقيته وحسمه لمواقفه من القضيّة بشكل نهائي، إلى درجةٍ حدت ببعض المتابعين إلى الزعم بأن أمريكا وإسرائيل تظهران عكس رغبتهما فيما يتعلق بتوليه منصب رئيس منظمة اليونسكو، وأنهما يدفعان به بطرق غير مباشرة نظراً لمواقفه ضد التيارات الدينية المتشددة، وخاصةً بعد تصريحاته الشهيرة فيما يتعلق بقضية الحجاب التي خلّفت أزمةً استمرت لفترةٍ طويلة. وقد جاء ما حدث في ليل باريس صادماً للمتفائلين والمتشائمين على حدٍ سواء، فالمتشائمين لم يكونوا ليصدقوا أن يتعرض الوفد المصري ومرشحه لتكتلات غير نزيهة في أيام الآحاد التي هي عطلةٌ رسميةٌ في الغرب كلِّه، خاصةً أنه حينما تحكم مؤامراتٌ ظلامية أرفعَ منصبٍ ثقافي في العالم كله فالأمر غير مقبولٍ على الإطلاق، بل إنه يقدحُ في قيمة هيئةٍ ومنظمةٍ دولية تضطلع بدورٍ أساسي في نشر المعرفة والثقافة وقيم التسامح والتواصل بين شعوب العالم أجمع، أما المتفائلين فرأوا أن ما قدمه فاروق حسني من منجزات ـ رآها البعض تنازلات ـ يكفي لتوليه هذا المنصب الهام، ويبدو أن حصاده لعددٍ كبيرٍ من الأصوات حتى الجولتين الثانية والثالثة وبفارقٍ كبير عن النسوة الثلاثة المنافسات له جعل من فوزه بالمنصب أمراً قريب المنال، لكن الجولة الرابعة شهدت تغيّراً كبيراً في الحسابات كلها، إذ تساوت أصوات مرشحنا المصري مع المرشحة البلغارية "بوكوفا" التي لم تحصد في الجولة الأولى والثانية سوى ثمانية أصواتٍ فقط، بينما استطاعت في الجولة الخامسة والنهائية حسم الأمر لصالحها بفارقٍ ضئيلٍ في الأصوات، وهو الأمر ذاته الذي حدث سابقاً مع المرشح الياباني "ماتسورا" الذي حصل في الدورة السابقة ومع الجولة الأولى على ثلاثة أصواتٍ فقط، ليحسم الأمر في الجولة الخامسة لصالحه ويفوز بالمنصب بفارقٍ ضئيلٍ عن أقرب منافسيه. ولا أدري هل لا يجيد النظام المصري بمختلف قطاعاته إدارة مثل هذه المحافل التنافسية، أم أن الدول الكبرى تعرف تماماً قدراتنا أكثر مما نعرفها نحن؟! وفي الحالتين لا يبقى لنا إلا وجه الفشل الذي يتوحش ويتعاظم كلَّ يومٍ أكثر من سابقه بكل آسف. ربما لم نكن لنتمنى أن يعبر وزير ثقافتنا فوق أجساد الشهداء في حريق بني سويف وأنقاض قصر المسافر خانة إلى كرسي اليونسكو، لكننا أيضاً لم نكن نتمنى إخفاقه وطاقمه في العبور بطموحات نظامنا الحاكم إلى الكرسي نفسه، أمنيتان ربما تكونا متناقضتان، لكنها حقيقة هذا الشعب الذي يتعاطف مع قاهره المهزوم أكثر مما يفرح ببطله المنتصر، وتبقى أسئلةٌ أخيرةٌ في جملة التساؤلات التي حملتها هذه الرسالة القاهرية، ألا وهي: ماذا هو مستقبل وزارة الثقافة المصرية بعد إخفاق وزيرها الكبير في رحلة اليونسكو، وهو الذي صرح قبل فترةٍ باعتزاله كرسيّ الوزارة في حالة إخفاقه في الفوز بكرسي اليونسكو، وعاد قبل سفره ليعيد التصريح ولكن بشكل مغايرٍ فقال: سأقدم استقالتي للسيد رئيس الجمهورية وأترك له القرار؟ فهل سيقبل سيادة الرئيس استقالته أم لا، وماذا سيحدث لو قبل الرئيس استقالته، هل سيكون هناك وزير جديدٌ للثقافة بأفكارٍ جديدةٍ تليقُ بتحقيق مرحلةٍ متقدمة في مستقبل الثقافة المصرية، أم أنه سيكون وزيراً يستكمل عبر أدوات النظام وأساليبه الاعتيادية مسيرةً لا أحد يعلم أين ومتى وكيف ستنتهي؟ يظنّ كثيرٌ من المهتمين أن الرئيس لن يقبل، وأنه سيكلفه مرةً أخرى بتولي عبء هذه الوزارة السيادية حتى حين، بينما يظن آخرون أن النظام سيلجأ لأحد الوجوه المعروفة في الأوساط الثقافية لتولي الوزارة في المرحلة القادمة، ورأيٌ ثالثٌ يقول بأن التغيير سيكون لصالح أحد الوجوه السياسية الأقرب للحزب الحاكم منها للوسط الثقافي، أسئلةٌ وتكهنات لا أحد يعرف إجاباتها أو مدى صدقها سوى القائمين على النظام الحاكم والموَكّلين بإدارة مؤسساته ورسم سياساته.. أما أنتم وأنا.. فقل انتظروا فإني معكم من المنتظرين.
محكى القلعة: إبداعات في ليالي المحروسة لا تشبه القاهرة في رمضان إلا نفسَها، فوحدها تلك المدينة العريقة تستعيد ذاكرتها التاريخية كاملةً بهيّةً في الشهر الكريم، متزينةً بثوبها المملوكي الفاطمي الأيوبيّ، كشاهدٍ فريدٍ من نوعه على الحضارة الإسلامية في إحدى مراحلِ ازدهارها وتوهجها. ويبدو أن الفاتحين المسلمين حينما استقبلتهم تلك البقعة الجغرافية التي يعبرها النيل خالداً بشُريان مائِه، واستهلتهم بأهراماتها ووجهها الفرعوني الجليل، أبوا إلا أن يتركوا بصماتهم داخل قلب تلك البقعة دليلاً على ماضيها وحاضرها بل ومستقبلها أيضاً.
بهذا الحضور الرمضاني المائِز رفلت القاهرة في ثوبها الإسلامي المزركش بمختلف العصور والخِلافات (جمع خِلافة)، فقد قدمت وزارة الثقافة المصرية ممثلةً في هيئاتها كافة نشاطها السنوي في بيوت المماليك وقصور الفاطميين وقلاع الأيوبيين، وبين أنشطة صندوق التنمية الثقافية وندوات الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار الكتب والوثائق القومية ونشاطات الهيئة العامة لقصور الثقافة بقلعة صلاح الدين، عاشت الثقافة المصرية شهرا ينتظره المصريون كل عام ليعيشوا أجواءً زمانيةً ومكانية تخرج بهم عما اعتادوا عليه بقية العام من أحداث يومية متكررة حدَّ التناسخ المقيت.
وقد كانت أبرز هذه الفعاليات ليالي المحروسة الثقافية والفنية التي استضافتها قلعة صلاح الدين للعام الثاني على التوالي، فقد كانت الليالي تقام سابقاً في عدّة مواقع مختلفة داخل مدينة القاهرة، وبين الحدائق والميادين العامة والمواقع التاريخية والقصور الثقافية تقاسمت هذه الليالي في الأعوام السابقة وعلى امتداد ما يقرب من ربع قرنٍ من الزمان عدة أماكن، كان منها حديقة الخالدين بالدراسة لما يقرب من سبع سنوات، ثم قصر روض الفرج (الذي أنشئ مكان السوق الشهير) والذي استضاف فعاليات الليالي لمدة ثمان سنوات، ثم الحديقة الثقافية في الحوض المرصود وميدان السيدة زينب في حدود ست سنوات، وأخيراً وقبل قلعة صلاح الدين الأيوبي حديقة الفسطاط بجوار مسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة لمدة عامٍ واحد.
وقد استنّت وزارة الثقافة المصرية إقامة هذه الليالي الثقافية كلّ عام لتقدم للشعب المصري والعربي في رمضان مائدةً ثقافيةً وترفيهيةً وفنيّة من خلال مجموعة عروضٍ متنوعة بين الإنشاد الديني والموسيقى العربية والأفلام السينمائية الروائية والتسجيلية والفنون الشعبية والإبداع الشعري والورش والمعارض الفنيّة والحِرَفيّة، هذا بالإضافة إلى معارض الكتب التي تشارك فيها كافة إدارات النشر التابعة لوزارة الثقافة المصريّة. وتعتمد وزارة الثقافة في إقامة هذه الليالي الرمضانية على تنسيق الهيئة العامة لقصور الثقافة مُمَثَّلَةً في إدارة الثقافة العامة التي تتولى التنسيق بين مختلف قطاعات الوزارة للخروج بهذه الاحتفاليات في شكلٍ منتظمٍ يراعي التنوع والتطوير. ومن القطاعات الثقافية التي شاركت في ليالي المحروسة لهذا العام: المركز الثقافي بدار الأوبرا، والمجلس الأعلى للثقافة، واتحاد الكتاب المصري، والهيئة المصرية العامة للكتاب، وقطاع الفنون الشعبية، والمجلس الأعلى للآثار، بالإضافة إلى المركز القومي للسينما الذي يقدم على مسرح سارية الجبل بالقلعة أحدث العروض السينمائية، والتي تمثلت هذا العام في خمسةٍ وثلاثين فيلماً كان من أهمها وأكثرها حضوراً جماهيرياً أفلام:"احكي يا شهرزاد، العالمي، إبراهيم الأبيض، بدل فاقد". كما شارك مسرح الطفل بعروض مجانية لفرقه المختلفة التي لاقت إقبالا لافتاً، خاصةً في ظل عدم معرفة الكثير من الناس بما يقدمه المسرح من نشاطاتٍ طوال العام وعلى امتداد المواقع الثقافية بالصعيد والدلتا، وقد قوبلت عدة فرق بالحفاوة البالغة والتفاعل من قِبَل الحضور، وكان من أبرز هذه العروض العرض الذي قدمه كورال الإنشاد الديني للأطفال التابع لقصر ثقافة الطفل بالقاهرة، والعرض المسرحي الذي قدمه أطفال فرقة الصم والبُكم للأداء الحركي التابعة لقصر ثقافة غزل المحلة، وكورال أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة التابع لقصر ثقافة شبرا الخيمة بالقاهرة.
وقد أتى النشاط الأبرز هذا العام في امتداد فعاليات واحة الشعراء ومقهى نجيب محفوظ بالقلعة، لتشمل مشاركة أكثر من مائةٍ وخمسين شاعراً من كافة أنحاء الجمهورية على امتداد خمس عشرة أمسية شعرية، استضافت واحة الشعراء في كل أمسيةٍ منها شاعراً رئيسياً ضيفاً، بالإضافة إلى مجموعة شعراء شباب يمثلون المشهد الشعري الراهن العاميّ منه والفصيح، وقد شارك في هذه الواحة الشعراء سيد حجاب وعبد المنعم عواد يوسف وعماد غزالي وأمجد ريان وغيرهم من كبار شعراء القاهرة والأقاليم في شكلٍ أشبه بالأسواق الشعرية العربية القديمة عند العرب، إذ تعمَد الفكرة إلى إقامة تفاعلٍ بين الشاعر والجمهور، وقد صاحب الشعراء في هذه الأمسيات عددٌ من العازفين الموسيقيين، وقدّم بعض هؤلاء الفنانين أغنياتهم الخاصة في الفواصل بين قراءات الشعراء. أما مقهى نجيب محفوظ فتأتي فعالياته عقب واحة الشعراء بمحكى القلعة، وقد جاءت فكرته مواكِبَةً لفكرة الواحة منذ سبعة أعوام، حيث تعتمد فكرته على استضافة كبار الشخصيات الثقافية والسياسية داخل حوار مفتوح، وتمت تسميته بمقهى نجيب محفوظ تقديراً لمكانة هذا الروائي المصري الكبير، وإعادةً لفاعلية المقاهي الثقافية ودورها في الحياة الثقافية المصرية، بوصفها تمتلك تاريخاً من حرية التحاور والنقاشات، ولا يقتصر دور مقهى نجيب محفوظ على إقامة الندوات الفكرية المختلفة، فالمقهى يضع على عاتقه عرض الأفلام التسجيلية التي ينتجها الأفراد أو التي تنتجها المراكز السينمائية المتخصصة التابعة لوزارة الثقافة. وقد كانت أبرز الأفلام التسجيلية التي عُرِضت بالمقهى هذا العام الفيلم التسجيلي "في ست ساعات" من إنتاج المركز الثقافي للسينما والذي عرض جانباً من بطولات حرب أكتوبر 73 في خمسٍ وعشرين دقيقة هي مدة عرض الفيلم.
ولا يفوتنا الذكر أن قليلاً من هذه الندوات والعروض السينمائية قد عانت من الإلغاء رغم إدراجها على جدول المقهى بسبب اعتذارات المشاركين أو عدم إقبال الجماهير على بعض العروض التسجيلية الرسمية نظراً لمحتواها الشبيه بمحاضرات التوجيه والإرشاد القومي، كما أن بعض العروض التسجيلية عانت من تأخيرها عن مواعيدها بسبب امتداد الوقت المخصص لمحكى الشعراء على حسابها. لكن جمهور المحكى ورواده من العامة بل ومن عموم المثقفين رأوا أن الإيجابيات التي تمتع بها نشاط هذا العام غطّت على السلبيات المعدودة، كما رأى بعضهم أن تدارك بعض سلبيات الأعوام الماضية وتطوير الأنشطة يحسب لرئيس هيئة قصور الثقافة الدكتور أحمد مجاهد في العام الثاني من عمر منصبه، ويُحسَبُ أيضاً هذا النجاح للشاعر محمد أبو المجد ومرؤوسيه بإدارة الثقافة العامة، التي تولى مهمة إدارتها قبل محكى العام الماضي بأشهر قليلة، وبرزَ تميّزه في تنسيق فعاليات الليالي والندوات بشكلٍ ملحوظ، خاصةً في واحة الشعراء ومقهى محفوظ، لما يتمتع به من قبول في الوسط الثقافي، وما يتميّز به من دماثةٍ وحنكة وقدرةٍ على التعامل مع المبدعين وفهم لطبيعة العمل الثقافي على تعدده وتنوعاته.
وقد حفلت مواقع ثقافية أخرى بالقاهرة بأنشطة قوية ومتميزة جاء في مقدمتها قصر الغوري وقبَّته التي حفلت بليالي رمضانية متنوعة بين فنون المديح والإنشاد الديني والفرق الشعبية وراقصي التنّورة ورواة السِيَر الشعبية، جاءت هذه الأنشطة تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية، بالتعاون مع بعض المراكز الثقافية للدول الأجنبية كسفارة إسبانيا والمركز الثقافي الإيطالي، وذلك بإدارة مدير قصر الغوري الدكتور المبدع انتصار عبد الفتاح، الذي استطاع هذا العام أن يعيد تفعيل عناصر الجذب لرواد القصر في الشهر الكريم، عبرَ فكرة ملتقى "سماعي" الذي بدأه العام الماضي، والذي يستضيف فيه مبدعي الإنشاد الصوفي وفِرَقِهِ لمدة عشر ليالي، تبدأ في الليلة العاشرة من رمضان وتنتهي مع الليلة العشرين، وقد شهدت معظم الليالي حضوراً كثيفاً، وبخاصةٍ ليلة فرقة الطريقة الحامدية الشاذلية للمديح والإنشاد الديني، التي قوبلت بحفاوةٍ بالغة بعد ما تركته في العام الماضي من أثر لدى الجماهير، خصوصاً وأنها تقدم فقراتها وقصائدها اعتماداً على الأصوات البشرية بمصاحبة الآلات الإيقاعية فقط، وتعتمد في توزيعاتها إلى توظيف تنوعات الصوت البشري وطبقاته المختلفة لإحداث حالة هارمونية تستعيض بها عن الالتجاء لآلات موسيقية، وذلك تحت قيادة فنانها المبدع المايسترو أحمد عبد الله أحد أبناء الطريقة الحامدية الشاذلية، وقد جاءت هذه الليلة كما العام الماضي تحت رعاية المركز الثقافي الإسباني، وامتدت بفقراتها بعد الموعد المحدد لانتهائها استجابةً لطلب الحضور الغفير، الذي حضر خصيصاً لمشاهدة ما تقدمه الفرقة من إبداعات ومدائح تعبِّرُ عن السماع الصوفي وتجليه في شكله الفني المميّز.
ولعل المتابع العادي لأنشطة وزارة الثقافة المصرية في رمضان يستطيع دونما جهد أن يلمس ما تبذله قطاعات وزارة الثقافة المختلفة من نشاطٍ كبير، خاصةً وأن هذه الأنشطة وتلك الفعاليات لا تقتصر على القاهرة فحسب، وإنما تمتد لتغطي القطر المصري بوجهيه القبلي والبحري، فقصور الثقافة بالإسماعيلية والمنوفية والمنيا والحدائق العامة بالإسكندرية والمنصورة وبورسعيد، وساحة سيدي أبي الحجاج بالأقصر، وغيرها من الأماكن والمواقع الثقافية تزخر جميعها بهذه الأنشطة والفعاليات، لكن المتابع العاديّ أيضاً يلمس في الوقت نفسه قصوراً ملحوظاً في الدعاية المقدمة لمثل هذه الأنشطة المختلفة، فالتنويه عن مثل هذه الندوات والملتقيات والاحتفالات ينقصه الكثير والكثير من التغطية الإعلامية والدعاية المنظمة، إلى درجة أن كثيراً من السكان المجاورين لهذه المواقع الثقافية يجهلون تماماً وجود هذه الأنشطة بالقرب من أماكن إقامتهم، بل إن كثيراً من المشاركين بالفعاليات لا يعلمون موعد مشاركاتهم بشكلٍ محدد إلا قبل الموعد بأيام قليلة، وهنا يبرز السؤال الأهم: متى تدرك وزارة الثقافة أن الدعاية الكافية جزءٌ جوهري في أية عملٍ يقدَّم للجماهير، وأن الإتقان في عصر العولمة وثورة الاتصالات والميديا لا يكفي وحده لإنتاج قيمةٍ فعلية وتحقيق نجاح؟! سؤالٌ لا ندري من يجيب عليه في مستقبل وزارة الثقافة المصريّة المبهَم.
حياكات اليونسكو: مؤامرات في ظلام باريس في مقابل ما أضاءت به القاهرة ليلها الرمضاني من نجوم الفكر والثقافة والإبداع، ظلت الأعين طوال الفترة الماضية معلقةً بسماء أخرى، حيث العاصمة الفرنسية باريس التي أقيمت فيها التصفيات النهائية لمرشحي اليونسكو في دورتها الجديدة، تلك الدورة التي كان أحد مرشحيها وزير الثقافة المصري الفنان التشكيلي فاروق حسني، والذي توجه مباشرةً بعد افتتاحه ليالي المحروسة إلى باريس للاستعداد هو وطاقمه للجولة الأخيرة في رحلته الطامحة إلى الفوز بالمنصب الدوليّ الرفيع، رحلةٌ قدّم لها فاروق حسني بأكثر من عشرين عاماً في وزارة الثقافة، تاريخٌ ممتد من الإنجازات والإخفاقات، أحداثٌ هائلة حملها نظام كامل حتى لا ينوء بها كاهل الوزير الذي خطى فوق السبعين، حرائق في قصور فنية ومتاحف تاريخية واكتشافات أثرية أو استرداد لقطع أثرية منهوبة، مشاريع للثقافة والقراءة للجميع ومصادرات ومصادمات مع التيارات الدينية، قتلى في المسارح وآخرون بجوائز الدولة فائزون، مواقف ضد التطبيع ومهادنات معلنة وأخرى سريّة، احتواء لبعض المثقفين حينا، وإقصاءٌ لبعضهم الآخر أحايين أخرى. ويبدو أن فاروق حسني نجح في مهمته داخل المؤسسة الثقافية الأكبر في الشرق الأوسط، أو ربما استنفد كلَّ أدواته وإمكاناته، مما دفع النظام الحاكم إلى الرغبة في تكريمه ومكافأته بالتمديد له فوق كرسي الوزارة حتى يتمكن من الفوز بهذا المنصب الثقافي المهم، رحلةٌ رغب النظام المصري أن ينهيها بالنجاح ليحفظ بعض ماء وجهه بها ويضيفها إلى قائمة منجزاته التي لا يهمنا الآن إن كانت ضئيلة أو لا تُحصى عددا، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن. ولعل زيارة أوباما الأخيرة أظهرت بجلاء رغبة الرياح النافذة في سفينة اليونسكو، لكن المتفائلين أبوا تلك التفسيرات المتشائمة وإن كانوا أيقنوا صحتها، فقد لاحظ الجميع غياب فاروق حسني عن مرافقة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما في رحلته التي امتدت لساعات في منطقة أهرامات الجيزة، وفي مقابل ذلك لاحظ الجميع حضور زاهي حواس القوي في تلك الرحلة، ذلك الحضور الذي واكَبَ طرحاً لاسم زاهي حواس كمرشحٍ مقبول للمنصب في مقابل رفض إسرائيلي لترشّح الوزير المصري للمنصب بسبب موقفه من التطبيع وتصريحاته السابقة ضد الكيان الصهيوني، تصريحاتٌ ربما أراد بها فاروق حينها تهدئة الرأي العام الداخلي لصالحه، لكنه لم يكن يتوقع أنها ستقف مستقبلاً في وجهه مطيحةً بآماله وطموحاته، والغريبُ في الأمر أن الوزير المصري لم يستطع بمثل هذه التصريحات كسبَ أرضيةٍ لدى الشارع والوسط الثقافي، لأنه سرعان ما كان يُتْبِع مثل هذه التصريحات ببعض المواقف التي تُشكك في مصداقيته وحسمه لمواقفه من القضيّة بشكل نهائي، إلى درجةٍ حدت ببعض المتابعين إلى الزعم بأن أمريكا وإسرائيل تظهران عكس رغبتهما فيما يتعلق بتوليه منصب رئيس منظمة اليونسكو، وأنهما يدفعان به بطرق غير مباشرة نظراً لمواقفه ضد التيارات الدينية المتشددة، وخاصةً بعد تصريحاته الشهيرة فيما يتعلق بقضية الحجاب التي خلّفت أزمةً استمرت لفترةٍ طويلة.
وقد جاء ما حدث في ليل باريس صادماً للمتفائلين والمتشائمين على حدٍ سواء، فالمتشائمين لم يكونوا ليصدقوا أن يتعرض الوفد المصري ومرشحه لتكتلات غير نزيهة في أيام الآحاد التي هي عطلةٌ رسميةٌ في الغرب كلِّه، خاصةً أنه حينما تحكم مؤامراتٌ ظلامية أرفعَ منصبٍ ثقافي في العالم كله فالأمر غير مقبولٍ على الإطلاق، بل إنه يقدحُ في قيمة هيئةٍ ومنظمةٍ دولية تضطلع بدورٍ أساسي في نشر المعرفة والثقافة وقيم التسامح والتواصل بين شعوب العالم أجمع، أما المتفائلين فرأوا أن ما قدمه فاروق حسني من منجزات ـ رآها البعض تنازلات ـ يكفي لتوليه هذا المنصب الهام، ويبدو أن حصاده لعددٍ كبيرٍ من الأصوات حتى الجولتين الثانية والثالثة وبفارقٍ كبير عن النسوة الثلاثة المنافسات له جعل من فوزه بالمنصب أمراً قريب المنال، لكن الجولة الرابعة شهدت تغيّراً كبيراً في الحسابات كلها، إذ تساوت أصوات مرشحنا المصري مع المرشحة البلغارية "بوكوفا" التي لم تحصد في الجولة الأولى والثانية سوى ثمانية أصواتٍ فقط، بينما استطاعت في الجولة الخامسة والنهائية حسم الأمر لصالحها بفارقٍ ضئيلٍ في الأصوات، وهو الأمر ذاته الذي حدث سابقاً مع المرشح الياباني "ماتسورا" الذي حصل في الدورة السابقة ومع الجولة الأولى على ثلاثة أصواتٍ فقط، ليحسم الأمر في الجولة الخامسة لصالحه ويفوز بالمنصب بفارقٍ ضئيلٍ عن أقرب منافسيه. ولا أدري هل لا يجيد النظام المصري بمختلف قطاعاته إدارة مثل هذه المحافل التنافسية، أم أن الدول الكبرى تعرف تماماً قدراتنا أكثر مما نعرفها نحن؟! وفي الحالتين لا يبقى لنا إلا وجه الفشل الذي يتوحش ويتعاظم كلَّ يومٍ أكثر من سابقه بكل آسف.
ربما لم نكن لنتمنى أن يعبر وزير ثقافتنا فوق أجساد الشهداء في حريق بني سويف وأنقاض قصر المسافر خانة إلى كرسي اليونسكو، لكننا أيضاً لم نكن نتمنى إخفاقه وطاقمه في العبور بطموحات نظامنا الحاكم إلى الكرسي نفسه، أمنيتان ربما تكونا متناقضتان، لكنها حقيقة هذا الشعب الذي يتعاطف مع قاهره المهزوم أكثر مما يفرح ببطله المنتصر، وتبقى أسئلةٌ أخيرةٌ في جملة التساؤلات التي حملتها هذه الرسالة القاهرية، ألا وهي: ماذا هو مستقبل وزارة الثقافة المصرية بعد إخفاق وزيرها الكبير في رحلة اليونسكو، وهو الذي صرح قبل فترةٍ باعتزاله كرسيّ الوزارة في حالة إخفاقه في الفوز بكرسي اليونسكو، وعاد قبل سفره ليعيد التصريح ولكن بشكل مغايرٍ فقال: سأقدم استقالتي للسيد رئيس الجمهورية وأترك له القرار؟ فهل سيقبل سيادة الرئيس استقالته أم لا، وماذا سيحدث لو قبل الرئيس استقالته، هل سيكون هناك وزير جديدٌ للثقافة بأفكارٍ جديدةٍ تليقُ بتحقيق مرحلةٍ متقدمة في مستقبل الثقافة المصرية، أم أنه سيكون وزيراً يستكمل عبر أدوات النظام وأساليبه الاعتيادية مسيرةً لا أحد يعلم أين ومتى وكيف ستنتهي؟ يظنّ كثيرٌ من المهتمين أن الرئيس لن يقبل، وأنه سيكلفه مرةً أخرى بتولي عبء هذه الوزارة السيادية حتى حين، بينما يظن آخرون أن النظام سيلجأ لأحد الوجوه المعروفة في الأوساط الثقافية لتولي الوزارة في المرحلة القادمة، ورأيٌ ثالثٌ يقول بأن التغيير سيكون لصالح أحد الوجوه السياسية الأقرب للحزب الحاكم منها للوسط الثقافي، أسئلةٌ وتكهنات لا أحد يعرف إجاباتها أو مدى صدقها سوى القائمين على النظام الحاكم والموَكّلين بإدارة مؤسساته ورسم سياساته.. أما أنتم وأنا.. فقل انتظروا فإني معكم من المنتظرين.