رسالة السودان: السودان في المحك، والتجريبي، وذكرى جاد جبارة
تجريبي القاهرة، وتجريبيو الخرطوم، وأفلمة الحكاية
تشهد الخارطة السياسية السودانية تحولات كبيرة علي أصعدة مختلفة، حركة المفاوضات بين الحكومة والحركات الدارفورية المسلحة هنا وهناك ولا تكاد تصل لشيء، عنف قبلي في الجنوب، واختلافات حول التعداد السكاني، احزاب متحللة عن بعضها أو مندمجة.. الانتخابات في ابريل المقبل، والتقرير الاستراتيجي الصادر عن مركز الدراسات السودانية 2008 / 2009 خلص إلي ان الاوضاع تتعقد أكثر وان (المعطيات الواقعية لا تبشر باستعداد السودانيين ـ حكومة ومعارضة، ومجتمعاً مدنياً وقوى حية ـ للمواجهة وإيجاد الحلول والبدائل) فكيف يفكر المثقف السوداني في هذا المشهد الملتهب، المتعدد الاحتمالات، هل ثمة دور يقوم به وكيف يرى المستقبل! هذه هي الاسئلة التي طرحتها "الكلمة" علي مثقفين سودانيين في المضابط التالية: الكاتبة ناهد محمد الحسن ترد حالة التردى التي يعيشها السودان إلي طول سنوات الحكم الشمولى التي عطلت الحراك الفكري والثقافي الحر، كما دفعت إلى هجرة غالبية العقول المفكّرة هروبا من العسف والإستبداد، وبحثاً عن حياة كريمة وتضيف: إن إنتهاج التعذيب والتشريد والإعتقال كأداة للتخلص من الخصوم الفكريين انتهى بالنخب السّودانيّة التي ظلّت داخل السّودان إلى محاولات يائسة ومعزولة لم تنجح في فتح طاقة ما.. وقد خيّبت اتفاقية نيفاشا ظن الجميع بوقوفها عاجزة عن توسيع الأفق الديموقراطي. أما الباحث والكاتب عبد الخالق السر فأنه لا يبدو متفاجئاً، فالوضع القائم بالنسبة اليه هو: بلورة لصيرورة نهج سياسي بائس ظلل مسار الفعل السياسي لسودان ما بعد الاستقلال. هذا النهج من الممارسة "الرعوية" لتسيير أمور الدولة الحديثة التي انبثقت من رحم الاستعمار يبرز بوضوح خطل التحديث الفوقي الذي مارسه المستعمر على أسس بنيوية متخلفة ذهنا وسلوكا. الشاهد أن هذا "السودان" لم يكن يوما معبرا عن ارادة أقوامه ومن ثم آل أمره مع مرور الزمن الى مثل هذا الصراع العدمي المهلك بين سعى البعض لاستخدام السلطة المركزية لاكراه الآخرين على قبول نسخة وطنية مبتسرة مفصلة على مقاس إثني، ثقافي ضيق، وبين ضيق ونفور بقية الأقوام من مثل هذا المسلك. هذا هو السيناريو السائد عبر الزمن ولا فكاك على ما يبدو. ويظهر القاص بشرى الفاضل اهتماماً بالاحزاب المعارضة، المؤمنة بالديمقراطية، ويرشحها للقيام بأدوار حاسمة في الشهور القادمة لاخراج البلاد من هذا المنعطف وهو يرى ان عليها ان تتحالف وتتفق اولاً. ويضيف: وهذا ما يجب أن يسعى إليه المثقفون داخل وخارج هذه الأحزاب، وأعتقد أنه سيكون ناجحاًً إن قصر أجندته على مسألة استرداد الديمقراطية فحسب. لكن الناقد المسرحي أبو القاسم قور يتوقع تعقّد الوضع أكثر، ويعبر عن ذلك قائلاً: هناك عدة مؤشرات تدل على انه ربما وقعت أحداث عنف تؤدى الى نسف الانتخابات قبل قيامها. من هذه المؤشرات الاستقطاب الحاد بين الشريكين في الحكم المؤتمر الوطني/ الحركة الشعبية. الاكاديمي والكاتب الصحفي عبد الله علي إبراهيم ربما هو الاكثر تحمساً بين المثقفين السودانيين للانتخابات فقد بلغ تفاؤله بها الي حد ترشيح نفسه، وهو يرى ان الانتخابات هي المخرج الوحيد، وهي رأس الامكانيات التي يُبنى بها الوطن من جديد، وان علي المثقفين الحرص علي قيامها والتعويل عليها. ويتفق أبو القاسم قور مع هذه النظرة قائلاً: دور المثقف هو أن يعمل على قيام الانتخابات بكل طاقته، يمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدنى دورا كبيرا فى توفير كتلة موازنة تهدئة للاستقطاب بين الطرفين الحاكمين. لكن ناهد محمد الحسن تعتقد ان قوى المعارضة التي يعول عليها البعض ضعيفة ومتهالكة ولم تعد قريبة من الشعب وتطلعاته. وهي تركز علي منظمات المجتمع المدني فهذه المنظمات المجتمعية كما تقول ناهد هي: الأمل الوحيد والمحدود للأسف الذي ساعد السودان طوال الأعوام السابقة في البقاء على قيد الحياة. وتضيف: كمثقّفة وناشطة في المجتمع المدني أقود معارك التغيير من موقعي، فإن الرقابة القبلية ونحوها قد شكّلت سقفا على الفكر الحر.. أخشى ما أخشاه.. أنّ هذا الصمت الطويل المذل سيجلب في ذيله الكثير من الدّماء.. حين يصير كل همّك هو البقاء حيا، فإنّك ستضطرّ إلى إقصاء آخرين. والسؤال الأخلاقي.. هل سنظل نحن كمثقفين مؤمنين بالنّضال السلمي ونبذ العنف مهما طال ليله؟ هل من الأخلاق أن ننتظر ثمار معارك الآخرين مترفّعين عن التضحيات الدّامية؟ وهل إن خضنا هذه المعارك بالطريقة الدّامية سنكون نحن نحن حين تنجلي المعركة؟ أم آخرين شوهتهم المعارك ولم يعد بوسعهم أن يصنعوا توجّها أخلاقيا؟ أنا أقف هنا الآن وأدري أن آخرين سيذهبون حيث تدفعهم أقدارهم. لكن السودان الآن بحاجة إلى معجزة حقيقية تتداركه بلطفها. فما نخرته في بنيته تلك السنوات العجاف يحتاج إلى قرون من النقاهة.. لكن متى نبدأ وكيف نبدأ والنّخر لازال مستمرا؟! الله وحده يعرف إجابة هذا السؤال! ويبدو عبد الخالق السر أكثر تشاؤماً فهو يرى أن المثقف السوداني ظل دوما متواطئاً مع هذا الوضع الجائر. مضفيا عليه "شرعية". ومرد هذا في تقديري هو الغمام الذي يلف مصطلح المثقف نفسه في السودان. فإذا أخذنا تعريف جرامشي وتفريقه بين المثقف الحر والمثقف العضوي، نجد أن الأخير هو النسخة السائدة في السودان، من حيث تماهيه مع كافة اشكال السلط السياسية، الثقافية والبيروقراطية التي يمور بها المجتمع. لقد ظل التعليم السائد يغذي الواقع بالافندية ذوي النزعة الانتهازية، والذهنية التقليدية التي تعمل لاستخدام السلط بهمة ووعي، لتأبيد هذا الواقع المتسق مع مصالحها الطبقية. بينما نجد أن المثقف "الحر" منفيا ومقصيا ومهمشا، وبمعزل عن أي آليات تتيح له ممارسة دور فاعل في التغيير الايجابي. علي المثقف ان يضاعف طاقته هذا ما يقوله بشرى الفاضل من أجل الوصول بالبلاد الي الضفة الآمنة، وان يندغم بالقوى الاجتماعية الاخرى لاقامة مؤتمر جامع عقب الانتخابات يتم من خلاله تكوين برلمان يمثل التعدد الاثني للسودان يقوم هذا البرلمان بانتخاب حكومة ديمقراطية. تجريبي القاهرة وتجريبيو الخرطوم! للسودانيين حكايات وحكايات مع المشاركات المسرحية الخارجية، أقلّه منذ منتصف الثمانينات، أي بعد تدهور المواسم المسرحية التي كانت بدأت في الستينيات، واستمرت بصفة سنوية، وفي انتظام لم يشهده المسرح السوداني قط، ومثلت بهذا الحال فعالية خلاقة استقدمت العديد من الأسماء المسرحية المبدعة. إلا ان التراجع الذي اصاب الحركة الثقافية في الجزء الثاني من الثمانينات نتيجة لتغييرات سياسية واقتصادية دفع بالمسرح التجاري إلي المقدمة، ولم يعد المسرح قادرا علي الاستمرار إلا بالاعتماد علي التذاكر. لذا ساد مسرح الاضحاك السهل الذي ركنت له المؤسسة الرسمية، متخلية عن تلك التجربة الاولي علي اهميتها وضرورتها. وفي هذا الإطار نجد ان مشاركة أولي للسودان في مهرجان ايام قرطاج المسرحية منتصف الثمانينات صادفت خيبة دراماتيكية لا يمكن ان تحصل إلا في وسط مسرحي لا حدّ لبؤسه. فقبل دقائق من اقلاع الطائرة التي تقل فريق مسرحية "الحافلة" لتمثيل السودان في قرطاج، اذ بأحدهم يطلب نزول الفرقة من الطائرة منادياً: البعثة تنزل! صحيفة الصحافة أوردت: انها أقصر رحلة مسرحية في العالم، وأضافت: بعد هرج ومرج ووسط دهشة السيد سفير تونس الذي جاء مودعاً الفرقة. جمع المسؤولون التذاكر من البعثة، وعاد الوفد يحمل عفشه وديكوره وخيبات الأمل، في اقصر رحلة شهدها التاريخ، وكان بحق مشهداً درامياً مؤثراً، قدمته مصلحة الثقافة على مسرح مطار الخرطوم. لكن الجزء الابلغ تأثيراً في تقرير الصحيفة يتمثل في ذكرها: «حمل الوفد حقائبه رأساً من المطار لمكتب وزير الثقافة والاعلام، بعد ان استعانوا ببعض كرام المواطنين الذين شهدوا المأساة، ليتحملوا نفقات عودتهم، بعد ان تركهم مندوب المصلحة حاملاً معه تذاكر السفر. وتبدو عليهم علامات انفعال ظاهرة وخيبة أمل كبيرة»!. لكن هذه الحادثة المؤثرة لا شيء يمنع من تكرارها بالرغم مما اثير صحفيا حولها، فعندما نتقدم قليلاً في الزمن، نحصل ايضاً على سيرة مسرحية (اربعة رجال وحبل)، وما يجمع سيرتها بسيرة مسرحية (الحافلة) ان احد اعضائها وهو يحيى فضل الله يشير ايضاً الى «ان ثمة مكاتبات تتعلق برحلة المسرحية الى القاهرة، للمشاركة في المهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الرابعة، تمت ما بين ادارة المهرجان والهيئة القومية للثقافة والفنون، قبل أكثر من شهر لبداية المهرجان، الاول من سبتمبر، ولكن رغم ذلك، يقول فضل الله: فوجئنا بان اجراءات السفر بدأت بعد بداية المهرجان.. وضاعت مشاركة السودان في مهرجان القاهرة بسبب هذا التأخير». ما بين السيرتين هنالك العديد من السير المماثلة، ثمة سيرة مسرحية (قبة النار)، فيما يشير الى ذلك يحيى فضل الله نفسه، ومشاركتها في مهرجان بغداد 1992، ايضاً عرض (مأساة يرول) تأليف الخاتم عدلان لذات المهرجان، ايضاً هناك سيرة مسرحية (السيل) والعديد من المسرحيات! وقصة الجيل الجديد من المسرحيين مع المشاركات الخارجية لا تقل إثارة ففي المهرجان الذي اقامته الهيئة العربية للمسرح في مايو الماضي بالقاهرة شاركت احدي الفرق ممثلة للسودان، بالرغم من انها لم تكن ضمن مجموعة من الفرق تقدمت لمسابقة اقامها مكتب الهيئة في الخرطوم لينتخب العرض الافضل بينها لتمثيل السودان. ومع ان المكتب اختار بالفعل مسرحية (عبد الله يحدث نفسه) للمخرج زهير الكمالي إلا اننا فوجئنا بعرض (الرجاء اصطحاب الصغار) للمخرج عوض امام ممثلا للسودان في القاهرة، وأدي ذلك إلي مشكلات عدة لم تنته بعد. اذ اعترض المخرج ربيع يوسف الذي كان شارك في تلك المسابقة، لأن العرض الأخير لم ينافسه، بالتالي لا يحق له ان يذهب إلي المهرجان! لكن ما كان لافتاً أكثر هو ما حصل مع المخرج الشاب عطا شمس الدين الذي يقود فرقة مستقلة من مدينة بورسودان. حينما طلب منه المسرح القومي في نوفمبر 2007 ان يعد فرقته للمشاركة في مهرجان الاردن المسرحي، ومع ان المخرج الشاب اجتهد لشهور، وأعد فرقته، لكن حينما تبقت ايام علي انطلاقة المهرجان صُعق بخبر ان فرقة المسرح ذاتها هي التي ستشارك ممثلة للسودان، وليس فرقته القادمة من تلك المدينة القصية! والسبب غير معروف، حتي لمدير المسرح ذاته، الذي لم يجد طريقة يتحلل بها من المسؤولية، إلا ان يعاقب فريق المسرحية بعد عودته من عمان، كما تقتضي الخدمة المدنية حينما يقوم الموظف بعمل ما دون الرجوع لمديره. لكن عطا شمس الدين لم يرض بذلك. بل أحدث جديداً واشتكي لدي محكمة جنائية وزارة الثقافة ممثلة في المسرح القومي، معدداً خساراته المعنوية والمادية، وهو ما أحتوته الوزارة بمنحه فرصة المشاركة علي نفقتها في الدورة التالية للمهرجان نوفمبر 2008! ولعطا شمس الدين قصته الخاصة مع المشاركات الخارجية فقبل هذه الحادثة كان أعد للمشاركة في دورة سابقة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، عندما انتخبه رئيس مسرح «البقعة» ليمثل السودان، لكن وفي اللحظات الأخيرة خاطبهم مسرح «البقعة» ان إدارة مهرجان القاهرة لم توافق علي العرض، وهو ما لم يقبله عطا ولا فرقته. وبحماسة شديدة، دفعوا أنفسهم للمغامرة بركوب البحر من مدينتهم الساحلية، ووصلوا الي القاهرة، وقدموا عرضهم لجمهور المهرجان! و.. فيما ينظر بعض المسرحيين بالكثير من الأحتفاء للمبادرات المسرحية المصرية تجاه السودان، خصوصاً في البدايات الأولي، إلا أن الجيل الذي ينشط في الوقت الحالي، في أغلبه، يرى أن مؤسسات المسرح والنقاد والمنابر المختلفة في القاهرة لا تولي أي إهتمام للمسرح السوداني. وربما نتج ذلك عن تدهور العلاقات السياسية بين البلدين في التسعينات. لكن الناقد اليسع حسن أحمد يبين أن تظاهرة مسرحية في حجم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي يبلغ الان دورته الحادية والعشرون، غاب عنها السودان في سنوات عدة. فيما حضرت دول مثل امريكا وفرنسا والعديد من الدول الافريقية قبل العام 1990 لم يشارك أي ممثل للسودان في الملتقي الفكري للمهرجان. وفي العام 2000 تم تكريم الراحل الفكي عبدالرحمن، ضمن المكرمين سنوياً في المهرجان. ولم يشارك السودان في الندوة الرئيسية ولا العروض المسرحية. وفي العام 2001م شارك د. شمس الدين يونس في الندوة الرئيسية، ولم تتم المشاركة في العروض. وفي العام 2002م لم تتم المشاركة في الندوات بينما شارك مسرح «البقعة» بعرض (حكواتي نبته). وفي الدورة 2003م شارك د.حاج أبا آدم الحاج في الندوة الرئيسية، وشاركت الفرقة القومية للتمثيل بعرض (إشارة مرور). وفي الدورة 2004م تم تكريم د. خالد المبارك، كما شارك د. سعد يوسف عبيد في الندوة الرئيسية، وشارك إتحاد المهن التمثيلية بعرض (ثلاثة مقاطع للرؤيا). وفي العام 2005م شارك اليسع حسن أحمد في الندوة الرئيسية، والمسرح القومي بعرض الهرم السادس. في العام 2006 شارك السودان بفرقتين الفرقة الرسمية بعرض (ما ماء) وفرقة «الورشة المستمرة» بعرض (أغنية الدم)، وشارك عبد الحفيظ علي الله في الندوة الرئيسة. وفي العام 2007 شاركت «الورشة المستمرة» بعرض (الأخيلة المتهالكة)، ومسرح الدولة بمسرحية (محاكمة مصطفي سعيد!) منذ العام 2006 سيتاح للسودان ان يشارك بالصفة التي ظلت تشارك بها العديد من الدول الحاضرة بشكل دائم في تجريبي القاهرة. وعندما نعلم ان أمر المشاركة في فعاليّة كهذه يتوقف علي رغبة الجهة المنظمة ينطرح السؤال: لماذا تم تفويت هذا القدر من المراكمة والصقل الذي بلا شك وفرته السنوات العديدة التي عمرها المهرجان علي المسرح السوداني!؟ وعندما ننظر إلي مهرجانات وملتقيات مسرحية عديدة اقامتها مصر في العقد الماضي، ودعت إليها فعاليات من اوربا والعالم العربي، نجد ان السودان ظل الغائب دائما، وهو الحال في المجلات والدوريات المسرحية. وبالمقابل وعلي قلة المناسبات المسرحية السودانية إلا ان الحضور المصري لطالما كان غالباً وبصفة شبه دائمة! ولئن أكدنا علي ضعف المؤسسات المسرحية السودانية، وقلة فعاليتها في مشهد المسرح العربي، فأن تعاطي العديد من المؤسسات المسرحية العربية مع المسرح السودان من خلال بعض الاسماء وبصورة شخصية، أي بلا مؤسسية، أدي هو الآخر إلي هذه الحالة المريعة من الإنقطاع وفي حوارات عديدة، أجريناها هنا وهناك، بدا واضحاً أن بعض الاسماء المكرسة، لسبب أو لآخر، مثل علي مهدي وبعض أساتذة كلية الدراما في الخرطوم، هي التي تعرفها أدارات الملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات المسرحية العربية. وتكتفي ـ لكسلها أو مشغولياتها ـ بدعوتها، وهو ما نرى انه يحصل في بلدان عربية عدة، ويفاقم في كل يوم المشكلات، خصوصا بالنسبة للاجيال المسرحية الجديدة! في 10 اكتوبر المقبل تنطلق فعاليات الدورة "الحادية والعشرون" من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. وفي هذه الدورة تاكدت مشاركة الفرقة الرسمية "الفرقة القومية للتمثيل" بعرض من تأليف دفع الله حامد، واخراج حاتم محمد علي بعنوان (خيوط الأفق). لكن لم تعلن الفرقة المستقلة التي قبلت مشاركتها عن نفسها إلي حين كتابة هذه الرسالة، لكن اللافت أن الصحف المحلية لم تنشر اي خلافات حول امر المشاركة، كما كانت تفعل في السنوات الماضية. فهل خفت نبض الحماسة لتجريبي القاهرة وسط تجريبيّ الخرطوم؟ ربما! ذكرى المخرج السينمائي جاد الله جبارة شغف جاد الله جبارة 1920/ اغسطس 2008 بالسينما إلي حد يصعب تمثيله بأية مجازات ولكن لنقل، علي سبيل التدليل، ان الرجل، حتي عندما بلغ من العمر كل مبلغ وفقد بصره، لم يجد في ذلك ما يقطع صلته بالفن السابع، فالشاهد انه تواجد دائماً في مواقع فيلمه الأخير "البوساء" لمؤلفه فيكتور هوغو مستعيناً بأبنته سارة، التي شقيت كثيراً حتى يعرض الفيلم بكل دور السينما في الخرطوم وفاءاً لذكرى والدها الذي رحل والفيلم في نهاياته! لكن حكاية شغف جاد الله جبارة الذي رحل في 12 اغسطس من العام الماضي بالسينما لا تنتهي هنا، فمسارات حياته منذ عودته من شمال افريقيا حيث كان مقاتلاً في الحرب العالمية الثانية مطلع القرن الماضي، وصولاً إلي تأسيسه لأستديو "جاد" للافلام السينمائية بالخرطوم في التسعينات، لا تعوزها التفاصيل المثيرة وربما كان ذلك السبب الذي دفع المصورة الفرنسية فريدريك سيفوينتيس ان تبدل كاميرتها الفوتغرافية التي جاءت بها لرصد اجواء جماعات التصوف في السودان إلي كاميرا سينمائية للمرة الاولي في مطلع العام الماضي لرصد سيرته، التي هي بطريقة ما سيرة السينما السودانية! "السينما في السودان: حوارات مع جاد الله جبارة" هذا هو الاسم الذي اختارته لفيلمها الذي عُرض اخيراً في حفل الذكرى الاولي لجبارة والذي اقامته جامعة الاحفاد بامدرمان وفيه يحكي جبارة، باللغة الانجليزية، ذكرياته مع الكاميرا منذ ان التقط صورة الانجليز في مشهد الجلاء 1956، ثم رفع العلم السوداني ايذانا بالاستقلال مرورا بالعديد من المواعيد الوثائقية المهمة في التاريخ الحديث للسودان كالزيارات التاريخية لبعض الزعماء وافتتاحات المصانع والمنشآت ووصولاً إلي مشاركاته في مهرجانات دولية عدة وحصوله علي جوائز وتكريمات في القاهرة وقرطاج، بوركينا فاسو، طهران وسواها من عواصم المهرجانات السينمائية. وتستحضر فريدريك سيفوينتيس الازمنة المتأخرة عبر البوم الصور الفوتغرافية الخاص بجبارة ذاته إضافة لنماذج من افلامه/ ابيض واسود، وبعض إفادات لاناس مقربين منه لكن كاميرتها تنقل ايضا ما استجد في مدينة الخرطوم، وتعرض للبيت الكبير لجاد الله واولاده واغلبهم يشتغل بالتصوير، ليبدو الفيلم في النهاية مثل حكاية لزمنين مرّ بهما جبارة ومرت بهما ايضا السينما السودانية..زمن للعنفوان وزمن للعجز! في زمنه الشاب طاف جاد الله جبارة بلدان عدة في الغرب والشرق حتي يتعلم السينما بدأ بقبرص، ثم ذهب إلي القاهرة وبعدها إلي الولايات المتحدة حيث درس الاخراج السينمائي في جامعة جنوب كالفورنيا وحينما عاد إلي بلاده اسهم في تأسيس أول وحدة للانتاج السينمائي مطالع الاربعينات، وقد تابع مشروعه التوثيقي ليصل به إلي نحو 31 فيلماً وفي العام1980 اتجه للافلام الروائية الطويلة وبدأها بفيلم "تاجوج" الذي يتناول حكاية حب عذري تشبه قصة "ليلي وقيس" في التراث العربي، فتاجوج هي حسناء في منطقة شرق السودان فُتن بها شبان القبيلة لكن هواها عصف أكثر بـ "المحلق" وقد حاز هذا العمل الرومانسي عدة جوائز! وانتظر جبارة كثيرا حتي يمكنه طرح فيلمه الطويل الثاني وهو "بركة الشيخ" الذي فرغ منه في 2001 ويتناول مسألة استغلال الدين في اغراض دينوية اذ يخدع احدهم أهل القرية زاعماً امتلاكه قدارات سحرية تحقق كل امنياتهم لكن امره ينكشف في النهاية ويفضح! اما الفيلم الطويل الثالث فهو "البوساء" رائعة فيكتور هوغو ولقد رحل جاد الله جبارة قبل ان ينتهى منه لكن ابنته سارة اكملته، مثلما تابعت كتاب سيرته الذاتية "حياتي والسينما" الذي خطه بيده بمعاونة بعض الصحفيين لكنه رحل قبل صدوره! ومطالعة عامة للكتاب تكشف كيف ان جاد الله جبارة كان الاول في كل ما يخصّ السينما السودانية تقريباً، فلئن كان هو المصور السوداني الوحيد الذي وثق مشهد رفع علم استقلال البلاد فهو ايضا أول سوداني شارك في مهرجانات سينمائية في برلين، موسكو، طشقند، القاهرة، الاسكندرية، قرطاج، واغدوغو، نيروبي، مقاديشو، نوتردام. وهو أولهم في تصوير الفيلم السوداني الاول "امال واحلام " وكان من انتاج الرشيد مهدى الذي رحل هو الاخر في ذات العام 2008، ايضا كان جبارة المصور الأول لاولي تجارب الاغنيات المصورة! ولعل من المحطات المهمة في سيرته كذلك اشتغاله مراسلا لبي بي سي علي ايام الاستعمار، ثم وكالة رويترز، ايضا شغله لمنصب المدير العام للانتاج في اتحاد السينمائيين الافارقة بواغدغو، وكان مساهماً فاعلاً في تأسيس وحدة الانتاج السينمائي والتي حلت محل وحدة افلام السودان التي كانت تتبع للسلطات الاستعمارية، كما ساهم في تأسيس مؤسسة الدولة للسينما عام 1970. وعلي الرغم من ان لجبارة العديد من الابناء من زوجاته الاربع إلا ان علاقته بابنته سارة تبدو متميزة أكثر، وهو ما يبدو في الفيلم والكتاب علي السواء..كانت سارة اصيبت بشلل دائم في قدمها اليسرى عند طفولتها واجتهد جبارة كثيراً في علاجها حتي انه احضر لها "حوض للسباحة" عندما نُصحه احدهم بذلك وبالرغم من ان حوض السباحة لم يشف قدمها إلا انه جعل منها بطلة قومية في السباحة والملفت انها حققت المركز الثاني بالرغم من اعاقتها في سباق "كابري نابلي" بايطاليا ومسافته 63 كيلومتر اما علي الصعيد المحلي فان سارة احرزت العديد من الجوائز المهمة. واخيرا انشغلت بالسينما وبالرغم من وجود مشكلات عديدة في هذا الجانب إلا انها تثابر كثيراً حتي تحافظ علي ما تركه والده شيخ السينمائيين السودانيين، كما يسميه البعض..العم جاد الله جبارة. أفـلمة الحكاية اقام نادي الفلم السوداني في ايام 17 /18 /19 اغسطس ورشة عمل تحت عنوان "النص/ التلقي / المعنى" بمشاركة مجموعة من النقاد السينمائين والمخرجين والصحفيين، بدأت الورشة بمحور "بناء المعنى عبر التلقي" اسهم بورقته الاساسية نزار مبارك، اما المحور الثاني فجاء تحت عنوان: بناء المعنى بين النص والفيلم" وشارك فيه بصفة اساسية ادم بخيت والطيب المهدي. التفاعل الأدبي بدأ نزار مبارك مداخلته الاولي بمناقشة لمفهومي القراءة والتلقي، مشيراً إلي ما قاله مارك سوشون: القراءة وصف ابتدائي لقدرة الفرد على خلق علاقات بين المفردات المكتوبة والمفردات الصوتية للغة التي يستخدمها في حياته اليومية، وما قاله ايضا جاوناك: القراءة هي مقدرة عقلية تمكن القارئ من ربط المفردة المكتوبة مع ما تحويه ذاكرته من معارف، واوضح نزار مبارك ان تعريف سوشون يربط بين الصوت والحرف فيما يربط تعريف جاوناك بين الكلمة والمعنى، مبيناً ألا تعارض بين المفهومين فالاثنين فاعلين في قراءة النص إلا أنهما يبقيان عند مستوى "المدخل" لهذه القراءة، اما مصطلح التلقي فان باختين: قام بتوسيعه ليشمل ما يعرفه بالتبادل المشترك بين قطبي التبادل اللغوي القائم على الوحدة الدلالية، وهذه الوحدة هي التي تمكن المتلقي من اعتماد "سلوك جوابي فاعل" بحيث يكون في مقدوره اعطاء رد قصير (نعم أو لا) أو مفصلا كشرح أو تفسير،. وبحسب نزار مبارك فان " مدخل" باختين يزيل عن المتلقي سلبية التلقي ويمكننا بذلك، فيما يلي التفاعل الأدبي، من توقع سلوك جوابي فاعل من قبل القارئ على ما يثيره ويورده النص على اختلاف مستوياته، واشار نزار مبارك إلي ضرورة ان يقوم القارئ بتفعيل جميع مستويات النص، وهذا يلزمه ان يكون عارفاً ـ علي مستوي الخطاب ـ باللغة وان يكون محيطاً بالجملة اللغوية، فلا ينقلها إلي ظرف آخر ولا يبترها من عمل أوردت فيه. ويضيف نزار في ما يختص بفعالية القارئ انه: مطالب أيضاًَ بتفعيل الصور الذهنية والمعارف السابقة التي يختزنها في ذاكرته ليفعل من خلالها مراد النص، فالأخير لا يمكنه بأي حال إعادة رسم وبناء الصور الذهنية التي يحتاج اليها بل يتقاسم مع القارئ معارفه ويبني عليه بنيته الخطابية والدلالية بل وحتى السردية، والقراءة "المدخلية"، كما يقول نزار، تقود القارئ إلي مستوي "القراءة النموذج" أو القراءة الأساس للنص الأدبي السردي. وهو مستوي لازم للتفاعل الأدبي بيد أنه لا يمثله كلياً، فهو المستوي الذي يصل إليه كل قارئ وفق نظرية التواصل لجاكوبسون ولكنه لا يمثل سلوكاً جوابياً فاعلاً! ويضيف نزار مبارك قائلاً: إن قصر قراءة النص الأدبي علي مستوي القراءة النموذج يحرمه من أهم صفاته والتي هي كونه أدبياً. وكونه قائماً علي تقبل تعدد التفاسير والمعاني بتعدد قرائه، فالقارئ للنص الادبي يمثل جزءاً اصيلاً بل أساسياً في بنائه، فـ: بناء النص يقوم، في جزء منه، علي تخيل قارئ افتراضي يمثل كل قراءه الحقيقيين المحتملين. هذا القارئ الافتراضي يسمي القارئ النموذجي أو القارئ الضمني، هذا القارئ يلتقي مع القارئ الفعلي في كثير من النقاط فهو يمتلك نفس الخلفية الثقافية واللغوية والمعرفية ولكن ذلك لا يتوفر لكافة القراءة فالنص مهما توسع في تخيل قارئه فهو محدود. وقد بينت دراساتنا عن القارئ الأجنبي انه قلما يدخل في محيط متخيل النص ولذلك كثيراً ما يجد هذا القارئ نفسه مبعداً ومحروماً من تعاون النص معه، وبهذا المعني، يوضح نزار، ان دراسة تلقي القارئ للنص الادبي هي استقصاء في مساهمته وتعاونه لتغذية الدلالات التي ينطوي عليها النص وليس معرفة ما توصل إليه القارئ نتيجة لقراءته للنص. النص والتفاعل الادبي بعد ذلك قدم نزار مداخلة أخري بعنوان دور النص السردي في التفاعل الأدبي مشيراً إلي ان موقع النص في مسألة التفاعل الادبي هو مركزي، وان النص هو اساس القراءة، فلا يمكن ان يسمىّ قارئاً ما لم يكن هناك ما يُقرأ، اما النص فيمكن ان يكون موجوداً وإن لم يكن في تفاعل مع قارئ، واشار نزار إلي ان: هذا الثبات يمنح النص صفة الديمومة ويجعل القارئ هو المتغير الدائم، مضيفاً: وكأي معادلة فان التغير في أحد معطياتها يغير في نتيجتها النهائية لذلك فإن تغير القارئ في الزمان والمكان والثقافة والمعرفة يجعل نتيجة قراءة النص ـ أي معناه النهائي ـ تختلف من قارئ إلي آخر بل من قراءة إلي أخري في حال تكرار القراءة للنص من قارئ واحد. وهو ما يحقق للنص هدفه الأساسي من دخول معادلة التفاعل الأدبي وهو تفعيله وإعادة بعثه من خلال فعل القراءة، وقال نزار مبارك ان الكاتب لا يدخل في معادلة التفاعل الأدبي، فالعلاقة هنا بين القارئ والنص فقط، فـ: معادلة القراءة لا تحتمل وجوداً فيزيائياً حقيقياً لطرف ثالث سوي النص والقارئ، يشهد علي ذلك الرغبة في العزلة والهدوء التي تجتاح الإنسان عند تحوله إلي قارئ،. المداخلة الثالثة التي قدمها نزار مبارك جاءت بعنوان (النص/ المتلقي/ المعني) وبدأها مشيرا إلي ان الدراسات المختلفة التي أجريت على تلقي النص الأدبي عبر القراءة على أن النص إما أن يعامل كحامل لرسالة/ معنى مدرج فيه مسبقاً من قبل الكاتب أو أن يعامل كمثير لمعنى مفرد خاص بكل قارئ على حده. هذا الأمر يجعل التلقي على منحيين إما فردي أو منطقي، هذا الأمر يطرح عدداً من الأسئلة حول ماهية النص وماهية القراءة وماهية المعنى المبني أو المعاد بناءه عبر فعل القراءة/ التلقي. ليخلص بعدها إلي ان تلقي النص الأدبي السردي يُصنف على ثلاث أحوال، أولها التلقي المحدود بحدود التوارث التفسيري وهو ذلك الذي يلتزم بقراءة واحدة للنص. وثانيها التلقي المحدود بحدود القراءة/ النموذج وهو ذلك الذي يصفه امبرتو ايكو بأنه الالتزام بمراد النص في تحديد حدود تفسيره أما الثالث فهو ما يصفه ISER بأنه الأثر الجمالي وهو مستوى يتجاوز حدود مكونات النص ومكونات شخصية القارئ إلى ناتج جديد يعلو عليهما ممثلاً الأثر الجمالي المنشود في الفعل الأدبي. بناء المعني بين النص والفلم في المحور الثاني تحدث ادم بخيت تحت عنوان(بناء المعني بين النص والفلم) وبعد ان قدم إضاءة تاريخية عن مسارات السينما الافريقية تحدث ادم بخيت عن "الحوالة البريدية" للسنغالي عثمان سمبين العمل الذي قدم كفلم سينمائي وكنص روائي متوقفاً عند الفروق الذي حصلت عندما تمّ تحويل النص إلي فيلم سينمائي مشيراً إلي ان ثمة العديد من المشاهد في النص تم الاستغناء عنها في الفلم الذي اخرجه سمبين نفسه، اما المخرج السينمائي الطيب مهدي الذي شارك في ذات المحور فقد قدم مداخلته تحت العنوان:مسارات الحكي الشائكة بين الرواية والفلم" وبدأها بإشارة إلي ان الحكاية تمثل قاسما مشتركا بين الجنسين الفنيين لكن ثمة اختلافات عدة بينهما فالرواية تعتمد علي الخيال واثارته أو تأثيره علي احساس القارئ فهي تعتمد علي التأثير الحسي ويتم العمل فيها عن طريقة اللغة المكتوبة اما في الفلم فان التخييل يحتاج إلي ان يتم تحديد مناطق الحدث في الفكرة أو القصة والتي تُعالج بوسائط أخري مثل الفعل الدرامي المجسد بصورة مرئية ومسموعة. والرواية ـ والقول للطيب مهدي ـ تحتشد بلغة انشائية عالية وبالتالي فانها غير صالحة، في احوال كثيرة، للترجمة البصرية والسمعية. وقال مهدي ايضا ان الرواية تتحرك في النطاق الفكري والذهني فهي تتحرك بلا حدود بينما الفلم يتناول احداث وشخصيات لا بد ان تكون قابلة في علاقاتها للتجسد المرئي والسمعي.. المشاهد السردية الروائية تتكون نتيجة للتوهم والتماهي بين النص والقارئ، فهي ترتبط بنوع القراءة وفعاليتها فيما تتكون المشاهد السردية في الفلم عن طريق التجميع البصري لمجموعة من المعطيات المرئية والمسموعة. هذا، وعرض مهدي من بعد إلي المراحل المختلفة لانتاج الفلم بداية من كتابة السيناريو وصولاً إلي مرحلة اخراجه مفرّقاً بينه والنص الروائي. وشارك الحضورة بمداخلات عدة بينها توصيات لاتخاذ الورشة مناسبة لتعزيز فكرة الحوار بين الكتابة السردية والسينما.
تشهد الخارطة السياسية السودانية تحولات كبيرة علي أصعدة مختلفة، حركة المفاوضات بين الحكومة والحركات الدارفورية المسلحة هنا وهناك ولا تكاد تصل لشيء، عنف قبلي في الجنوب، واختلافات حول التعداد السكاني، احزاب متحللة عن بعضها أو مندمجة.. الانتخابات في ابريل المقبل، والتقرير الاستراتيجي الصادر عن مركز الدراسات السودانية 2008 / 2009 خلص إلي ان الاوضاع تتعقد أكثر وان (المعطيات الواقعية لا تبشر باستعداد السودانيين ـ حكومة ومعارضة، ومجتمعاً مدنياً وقوى حية ـ للمواجهة وإيجاد الحلول والبدائل) فكيف يفكر المثقف السوداني في هذا المشهد الملتهب، المتعدد الاحتمالات، هل ثمة دور يقوم به وكيف يرى المستقبل! هذه هي الاسئلة التي طرحتها "الكلمة" علي مثقفين سودانيين في المضابط التالية:
الكاتبة ناهد محمد الحسن ترد حالة التردى التي يعيشها السودان إلي طول سنوات الحكم الشمولى التي عطلت الحراك الفكري والثقافي الحر، كما دفعت إلى هجرة غالبية العقول المفكّرة هروبا من العسف والإستبداد، وبحثاً عن حياة كريمة وتضيف: إن إنتهاج التعذيب والتشريد والإعتقال كأداة للتخلص من الخصوم الفكريين انتهى بالنخب السّودانيّة التي ظلّت داخل السّودان إلى محاولات يائسة ومعزولة لم تنجح في فتح طاقة ما.. وقد خيّبت اتفاقية نيفاشا ظن الجميع بوقوفها عاجزة عن توسيع الأفق الديموقراطي. أما الباحث والكاتب عبد الخالق السر فأنه لا يبدو متفاجئاً، فالوضع القائم بالنسبة اليه هو: بلورة لصيرورة نهج سياسي بائس ظلل مسار الفعل السياسي لسودان ما بعد الاستقلال. هذا النهج من الممارسة "الرعوية" لتسيير أمور الدولة الحديثة التي انبثقت من رحم الاستعمار يبرز بوضوح خطل التحديث الفوقي الذي مارسه المستعمر على أسس بنيوية متخلفة ذهنا وسلوكا. الشاهد أن هذا "السودان" لم يكن يوما معبرا عن ارادة أقوامه ومن ثم آل أمره مع مرور الزمن الى مثل هذا الصراع العدمي المهلك بين سعى البعض لاستخدام السلطة المركزية لاكراه الآخرين على قبول نسخة وطنية مبتسرة مفصلة على مقاس إثني، ثقافي ضيق، وبين ضيق ونفور بقية الأقوام من مثل هذا المسلك. هذا هو السيناريو السائد عبر الزمن ولا فكاك على ما يبدو.
ويظهر القاص بشرى الفاضل اهتماماً بالاحزاب المعارضة، المؤمنة بالديمقراطية، ويرشحها للقيام بأدوار حاسمة في الشهور القادمة لاخراج البلاد من هذا المنعطف وهو يرى ان عليها ان تتحالف وتتفق اولاً. ويضيف: وهذا ما يجب أن يسعى إليه المثقفون داخل وخارج هذه الأحزاب، وأعتقد أنه سيكون ناجحاًً إن قصر أجندته على مسألة استرداد الديمقراطية فحسب. لكن الناقد المسرحي أبو القاسم قور يتوقع تعقّد الوضع أكثر، ويعبر عن ذلك قائلاً: هناك عدة مؤشرات تدل على انه ربما وقعت أحداث عنف تؤدى الى نسف الانتخابات قبل قيامها. من هذه المؤشرات الاستقطاب الحاد بين الشريكين في الحكم المؤتمر الوطني/ الحركة الشعبية.
الاكاديمي والكاتب الصحفي عبد الله علي إبراهيم ربما هو الاكثر تحمساً بين المثقفين السودانيين للانتخابات فقد بلغ تفاؤله بها الي حد ترشيح نفسه، وهو يرى ان الانتخابات هي المخرج الوحيد، وهي رأس الامكانيات التي يُبنى بها الوطن من جديد، وان علي المثقفين الحرص علي قيامها والتعويل عليها. ويتفق أبو القاسم قور مع هذه النظرة قائلاً: دور المثقف هو أن يعمل على قيام الانتخابات بكل طاقته، يمكن أن تلعب منظمات المجتمع المدنى دورا كبيرا فى توفير كتلة موازنة تهدئة للاستقطاب بين الطرفين الحاكمين. لكن ناهد محمد الحسن تعتقد ان قوى المعارضة التي يعول عليها البعض ضعيفة ومتهالكة ولم تعد قريبة من الشعب وتطلعاته. وهي تركز علي منظمات المجتمع المدني فهذه المنظمات المجتمعية كما تقول ناهد هي: الأمل الوحيد والمحدود للأسف الذي ساعد السودان طوال الأعوام السابقة في البقاء على قيد الحياة. وتضيف: كمثقّفة وناشطة في المجتمع المدني أقود معارك التغيير من موقعي، فإن الرقابة القبلية ونحوها قد شكّلت سقفا على الفكر الحر.. أخشى ما أخشاه.. أنّ هذا الصمت الطويل المذل سيجلب في ذيله الكثير من الدّماء.. حين يصير كل همّك هو البقاء حيا، فإنّك ستضطرّ إلى إقصاء آخرين. والسؤال الأخلاقي.. هل سنظل نحن كمثقفين مؤمنين بالنّضال السلمي ونبذ العنف مهما طال ليله؟ هل من الأخلاق أن ننتظر ثمار معارك الآخرين مترفّعين عن التضحيات الدّامية؟ وهل إن خضنا هذه المعارك بالطريقة الدّامية سنكون نحن نحن حين تنجلي المعركة؟ أم آخرين شوهتهم المعارك ولم يعد بوسعهم أن يصنعوا توجّها أخلاقيا؟ أنا أقف هنا الآن وأدري أن آخرين سيذهبون حيث تدفعهم أقدارهم. لكن السودان الآن بحاجة إلى معجزة حقيقية تتداركه بلطفها. فما نخرته في بنيته تلك السنوات العجاف يحتاج إلى قرون من النقاهة.. لكن متى نبدأ وكيف نبدأ والنّخر لازال مستمرا؟! الله وحده يعرف إجابة هذا السؤال!
ويبدو عبد الخالق السر أكثر تشاؤماً فهو يرى أن المثقف السوداني ظل دوما متواطئاً مع هذا الوضع الجائر. مضفيا عليه "شرعية". ومرد هذا في تقديري هو الغمام الذي يلف مصطلح المثقف نفسه في السودان. فإذا أخذنا تعريف جرامشي وتفريقه بين المثقف الحر والمثقف العضوي، نجد أن الأخير هو النسخة السائدة في السودان، من حيث تماهيه مع كافة اشكال السلط السياسية، الثقافية والبيروقراطية التي يمور بها المجتمع. لقد ظل التعليم السائد يغذي الواقع بالافندية ذوي النزعة الانتهازية، والذهنية التقليدية التي تعمل لاستخدام السلط بهمة ووعي، لتأبيد هذا الواقع المتسق مع مصالحها الطبقية. بينما نجد أن المثقف "الحر" منفيا ومقصيا ومهمشا، وبمعزل عن أي آليات تتيح له ممارسة دور فاعل في التغيير الايجابي. علي المثقف ان يضاعف طاقته هذا ما يقوله بشرى الفاضل من أجل الوصول بالبلاد الي الضفة الآمنة، وان يندغم بالقوى الاجتماعية الاخرى لاقامة مؤتمر جامع عقب الانتخابات يتم من خلاله تكوين برلمان يمثل التعدد الاثني للسودان يقوم هذا البرلمان بانتخاب حكومة ديمقراطية.
تجريبي القاهرة وتجريبيو الخرطوم! للسودانيين حكايات وحكايات مع المشاركات المسرحية الخارجية، أقلّه منذ منتصف الثمانينات، أي بعد تدهور المواسم المسرحية التي كانت بدأت في الستينيات، واستمرت بصفة سنوية، وفي انتظام لم يشهده المسرح السوداني قط، ومثلت بهذا الحال فعالية خلاقة استقدمت العديد من الأسماء المسرحية المبدعة. إلا ان التراجع الذي اصاب الحركة الثقافية في الجزء الثاني من الثمانينات نتيجة لتغييرات سياسية واقتصادية دفع بالمسرح التجاري إلي المقدمة، ولم يعد المسرح قادرا علي الاستمرار إلا بالاعتماد علي التذاكر. لذا ساد مسرح الاضحاك السهل الذي ركنت له المؤسسة الرسمية، متخلية عن تلك التجربة الاولي علي اهميتها وضرورتها. وفي هذا الإطار نجد ان مشاركة أولي للسودان في مهرجان ايام قرطاج المسرحية منتصف الثمانينات صادفت خيبة دراماتيكية لا يمكن ان تحصل إلا في وسط مسرحي لا حدّ لبؤسه. فقبل دقائق من اقلاع الطائرة التي تقل فريق مسرحية "الحافلة" لتمثيل السودان في قرطاج، اذ بأحدهم يطلب نزول الفرقة من الطائرة منادياً: البعثة تنزل! صحيفة الصحافة أوردت: انها أقصر رحلة مسرحية في العالم، وأضافت: بعد هرج ومرج ووسط دهشة السيد سفير تونس الذي جاء مودعاً الفرقة. جمع المسؤولون التذاكر من البعثة، وعاد الوفد يحمل عفشه وديكوره وخيبات الأمل، في اقصر رحلة شهدها التاريخ، وكان بحق مشهداً درامياً مؤثراً، قدمته مصلحة الثقافة على مسرح مطار الخرطوم. لكن الجزء الابلغ تأثيراً في تقرير الصحيفة يتمثل في ذكرها: «حمل الوفد حقائبه رأساً من المطار لمكتب وزير الثقافة والاعلام، بعد ان استعانوا ببعض كرام المواطنين الذين شهدوا المأساة، ليتحملوا نفقات عودتهم، بعد ان تركهم مندوب المصلحة حاملاً معه تذاكر السفر. وتبدو عليهم علامات انفعال ظاهرة وخيبة أمل كبيرة»!.
لكن هذه الحادثة المؤثرة لا شيء يمنع من تكرارها بالرغم مما اثير صحفيا حولها، فعندما نتقدم قليلاً في الزمن، نحصل ايضاً على سيرة مسرحية (اربعة رجال وحبل)، وما يجمع سيرتها بسيرة مسرحية (الحافلة) ان احد اعضائها وهو يحيى فضل الله يشير ايضاً الى «ان ثمة مكاتبات تتعلق برحلة المسرحية الى القاهرة، للمشاركة في المهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الرابعة، تمت ما بين ادارة المهرجان والهيئة القومية للثقافة والفنون، قبل أكثر من شهر لبداية المهرجان، الاول من سبتمبر، ولكن رغم ذلك، يقول فضل الله: فوجئنا بان اجراءات السفر بدأت بعد بداية المهرجان.. وضاعت مشاركة السودان في مهرجان القاهرة بسبب هذا التأخير».
ما بين السيرتين هنالك العديد من السير المماثلة، ثمة سيرة مسرحية (قبة النار)، فيما يشير الى ذلك يحيى فضل الله نفسه، ومشاركتها في مهرجان بغداد 1992، ايضاً عرض (مأساة يرول) تأليف الخاتم عدلان لذات المهرجان، ايضاً هناك سيرة مسرحية (السيل) والعديد من المسرحيات! وقصة الجيل الجديد من المسرحيين مع المشاركات الخارجية لا تقل إثارة ففي المهرجان الذي اقامته الهيئة العربية للمسرح في مايو الماضي بالقاهرة شاركت احدي الفرق ممثلة للسودان، بالرغم من انها لم تكن ضمن مجموعة من الفرق تقدمت لمسابقة اقامها مكتب الهيئة في الخرطوم لينتخب العرض الافضل بينها لتمثيل السودان. ومع ان المكتب اختار بالفعل مسرحية (عبد الله يحدث نفسه) للمخرج زهير الكمالي إلا اننا فوجئنا بعرض (الرجاء اصطحاب الصغار) للمخرج عوض امام ممثلا للسودان في القاهرة، وأدي ذلك إلي مشكلات عدة لم تنته بعد. اذ اعترض المخرج ربيع يوسف الذي كان شارك في تلك المسابقة، لأن العرض الأخير لم ينافسه، بالتالي لا يحق له ان يذهب إلي المهرجان!
لكن ما كان لافتاً أكثر هو ما حصل مع المخرج الشاب عطا شمس الدين الذي يقود فرقة مستقلة من مدينة بورسودان. حينما طلب منه المسرح القومي في نوفمبر 2007 ان يعد فرقته للمشاركة في مهرجان الاردن المسرحي، ومع ان المخرج الشاب اجتهد لشهور، وأعد فرقته، لكن حينما تبقت ايام علي انطلاقة المهرجان صُعق بخبر ان فرقة المسرح ذاتها هي التي ستشارك ممثلة للسودان، وليس فرقته القادمة من تلك المدينة القصية! والسبب غير معروف، حتي لمدير المسرح ذاته، الذي لم يجد طريقة يتحلل بها من المسؤولية، إلا ان يعاقب فريق المسرحية بعد عودته من عمان، كما تقتضي الخدمة المدنية حينما يقوم الموظف بعمل ما دون الرجوع لمديره. لكن عطا شمس الدين لم يرض بذلك. بل أحدث جديداً واشتكي لدي محكمة جنائية وزارة الثقافة ممثلة في المسرح القومي، معدداً خساراته المعنوية والمادية، وهو ما أحتوته الوزارة بمنحه فرصة المشاركة علي نفقتها في الدورة التالية للمهرجان نوفمبر 2008! ولعطا شمس الدين قصته الخاصة مع المشاركات الخارجية فقبل هذه الحادثة كان أعد للمشاركة في دورة سابقة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، عندما انتخبه رئيس مسرح «البقعة» ليمثل السودان، لكن وفي اللحظات الأخيرة خاطبهم مسرح «البقعة» ان إدارة مهرجان القاهرة لم توافق علي العرض، وهو ما لم يقبله عطا ولا فرقته. وبحماسة شديدة، دفعوا أنفسهم للمغامرة بركوب البحر من مدينتهم الساحلية، ووصلوا الي القاهرة، وقدموا عرضهم لجمهور المهرجان!
و.. فيما ينظر بعض المسرحيين بالكثير من الأحتفاء للمبادرات المسرحية المصرية تجاه السودان، خصوصاً في البدايات الأولي، إلا أن الجيل الذي ينشط في الوقت الحالي، في أغلبه، يرى أن مؤسسات المسرح والنقاد والمنابر المختلفة في القاهرة لا تولي أي إهتمام للمسرح السوداني. وربما نتج ذلك عن تدهور العلاقات السياسية بين البلدين في التسعينات. لكن الناقد اليسع حسن أحمد يبين أن تظاهرة مسرحية في حجم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي يبلغ الان دورته الحادية والعشرون، غاب عنها السودان في سنوات عدة. فيما حضرت دول مثل امريكا وفرنسا والعديد من الدول الافريقية قبل العام 1990 لم يشارك أي ممثل للسودان في الملتقي الفكري للمهرجان. وفي العام 2000 تم تكريم الراحل الفكي عبدالرحمن، ضمن المكرمين سنوياً في المهرجان. ولم يشارك السودان في الندوة الرئيسية ولا العروض المسرحية. وفي العام 2001م شارك د. شمس الدين يونس في الندوة الرئيسية، ولم تتم المشاركة في العروض. وفي العام 2002م لم تتم المشاركة في الندوات بينما شارك مسرح «البقعة» بعرض (حكواتي نبته). وفي الدورة 2003م شارك د.حاج أبا آدم الحاج في الندوة الرئيسية، وشاركت الفرقة القومية للتمثيل بعرض (إشارة مرور). وفي الدورة 2004م تم تكريم د. خالد المبارك، كما شارك د. سعد يوسف عبيد في الندوة الرئيسية، وشارك إتحاد المهن التمثيلية بعرض (ثلاثة مقاطع للرؤيا). وفي العام 2005م شارك اليسع حسن أحمد في الندوة الرئيسية، والمسرح القومي بعرض الهرم السادس. في العام 2006 شارك السودان بفرقتين الفرقة الرسمية بعرض (ما ماء) وفرقة «الورشة المستمرة» بعرض (أغنية الدم)، وشارك عبد الحفيظ علي الله في الندوة الرئيسة. وفي العام 2007 شاركت «الورشة المستمرة» بعرض (الأخيلة المتهالكة)، ومسرح الدولة بمسرحية (محاكمة مصطفي سعيد!)
منذ العام 2006 سيتاح للسودان ان يشارك بالصفة التي ظلت تشارك بها العديد من الدول الحاضرة بشكل دائم في تجريبي القاهرة. وعندما نعلم ان أمر المشاركة في فعاليّة كهذه يتوقف علي رغبة الجهة المنظمة ينطرح السؤال: لماذا تم تفويت هذا القدر من المراكمة والصقل الذي بلا شك وفرته السنوات العديدة التي عمرها المهرجان علي المسرح السوداني!؟ وعندما ننظر إلي مهرجانات وملتقيات مسرحية عديدة اقامتها مصر في العقد الماضي، ودعت إليها فعاليات من اوربا والعالم العربي، نجد ان السودان ظل الغائب دائما، وهو الحال في المجلات والدوريات المسرحية. وبالمقابل وعلي قلة المناسبات المسرحية السودانية إلا ان الحضور المصري لطالما كان غالباً وبصفة شبه دائمة! ولئن أكدنا علي ضعف المؤسسات المسرحية السودانية، وقلة فعاليتها في مشهد المسرح العربي، فأن تعاطي العديد من المؤسسات المسرحية العربية مع المسرح السودان من خلال بعض الاسماء وبصورة شخصية، أي بلا مؤسسية، أدي هو الآخر إلي هذه الحالة المريعة من الإنقطاع وفي حوارات عديدة، أجريناها هنا وهناك، بدا واضحاً أن بعض الاسماء المكرسة، لسبب أو لآخر، مثل علي مهدي وبعض أساتذة كلية الدراما في الخرطوم، هي التي تعرفها أدارات الملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات المسرحية العربية. وتكتفي ـ لكسلها أو مشغولياتها ـ بدعوتها، وهو ما نرى انه يحصل في بلدان عربية عدة، ويفاقم في كل يوم المشكلات، خصوصا بالنسبة للاجيال المسرحية الجديدة!
في 10 اكتوبر المقبل تنطلق فعاليات الدورة "الحادية والعشرون" من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. وفي هذه الدورة تاكدت مشاركة الفرقة الرسمية "الفرقة القومية للتمثيل" بعرض من تأليف دفع الله حامد، واخراج حاتم محمد علي بعنوان (خيوط الأفق). لكن لم تعلن الفرقة المستقلة التي قبلت مشاركتها عن نفسها إلي حين كتابة هذه الرسالة، لكن اللافت أن الصحف المحلية لم تنشر اي خلافات حول امر المشاركة، كما كانت تفعل في السنوات الماضية. فهل خفت نبض الحماسة لتجريبي القاهرة وسط تجريبيّ الخرطوم؟ ربما!
ذكرى المخرج السينمائي جاد الله جبارة شغف جاد الله جبارة 1920/ اغسطس 2008 بالسينما إلي حد يصعب تمثيله بأية مجازات ولكن لنقل، علي سبيل التدليل، ان الرجل، حتي عندما بلغ من العمر كل مبلغ وفقد بصره، لم يجد في ذلك ما يقطع صلته بالفن السابع، فالشاهد انه تواجد دائماً في مواقع فيلمه الأخير "البوساء" لمؤلفه فيكتور هوغو مستعيناً بأبنته سارة، التي شقيت كثيراً حتى يعرض الفيلم بكل دور السينما في الخرطوم وفاءاً لذكرى والدها الذي رحل والفيلم في نهاياته! لكن حكاية شغف جاد الله جبارة الذي رحل في 12 اغسطس من العام الماضي بالسينما لا تنتهي هنا، فمسارات حياته منذ عودته من شمال افريقيا حيث كان مقاتلاً في الحرب العالمية الثانية مطلع القرن الماضي، وصولاً إلي تأسيسه لأستديو "جاد" للافلام السينمائية بالخرطوم في التسعينات، لا تعوزها التفاصيل المثيرة وربما كان ذلك السبب الذي دفع المصورة الفرنسية فريدريك سيفوينتيس ان تبدل كاميرتها الفوتغرافية التي جاءت بها لرصد اجواء جماعات التصوف في السودان إلي كاميرا سينمائية للمرة الاولي في مطلع العام الماضي لرصد سيرته، التي هي بطريقة ما سيرة السينما السودانية!
"السينما في السودان: حوارات مع جاد الله جبارة" هذا هو الاسم الذي اختارته لفيلمها الذي عُرض اخيراً في حفل الذكرى الاولي لجبارة والذي اقامته جامعة الاحفاد بامدرمان وفيه يحكي جبارة، باللغة الانجليزية، ذكرياته مع الكاميرا منذ ان التقط صورة الانجليز في مشهد الجلاء 1956، ثم رفع العلم السوداني ايذانا بالاستقلال مرورا بالعديد من المواعيد الوثائقية المهمة في التاريخ الحديث للسودان كالزيارات التاريخية لبعض الزعماء وافتتاحات المصانع والمنشآت ووصولاً إلي مشاركاته في مهرجانات دولية عدة وحصوله علي جوائز وتكريمات في القاهرة وقرطاج، بوركينا فاسو، طهران وسواها من عواصم المهرجانات السينمائية. وتستحضر فريدريك سيفوينتيس الازمنة المتأخرة عبر البوم الصور الفوتغرافية الخاص بجبارة ذاته إضافة لنماذج من افلامه/ ابيض واسود، وبعض إفادات لاناس مقربين منه لكن كاميرتها تنقل ايضا ما استجد في مدينة الخرطوم، وتعرض للبيت الكبير لجاد الله واولاده واغلبهم يشتغل بالتصوير، ليبدو الفيلم في النهاية مثل حكاية لزمنين مرّ بهما جبارة ومرت بهما ايضا السينما السودانية..زمن للعنفوان وزمن للعجز!
في زمنه الشاب طاف جاد الله جبارة بلدان عدة في الغرب والشرق حتي يتعلم السينما بدأ بقبرص، ثم ذهب إلي القاهرة وبعدها إلي الولايات المتحدة حيث درس الاخراج السينمائي في جامعة جنوب كالفورنيا وحينما عاد إلي بلاده اسهم في تأسيس أول وحدة للانتاج السينمائي مطالع الاربعينات، وقد تابع مشروعه التوثيقي ليصل به إلي نحو 31 فيلماً وفي العام1980 اتجه للافلام الروائية الطويلة وبدأها بفيلم "تاجوج" الذي يتناول حكاية حب عذري تشبه قصة "ليلي وقيس" في التراث العربي، فتاجوج هي حسناء في منطقة شرق السودان فُتن بها شبان القبيلة لكن هواها عصف أكثر بـ "المحلق" وقد حاز هذا العمل الرومانسي عدة جوائز!
وانتظر جبارة كثيرا حتي يمكنه طرح فيلمه الطويل الثاني وهو "بركة الشيخ" الذي فرغ منه في 2001 ويتناول مسألة استغلال الدين في اغراض دينوية اذ يخدع احدهم أهل القرية زاعماً امتلاكه قدارات سحرية تحقق كل امنياتهم لكن امره ينكشف في النهاية ويفضح!
اما الفيلم الطويل الثالث فهو "البوساء" رائعة فيكتور هوغو ولقد رحل جاد الله جبارة قبل ان ينتهى منه لكن ابنته سارة اكملته، مثلما تابعت كتاب سيرته الذاتية "حياتي والسينما" الذي خطه بيده بمعاونة بعض الصحفيين لكنه رحل قبل صدوره! ومطالعة عامة للكتاب تكشف كيف ان جاد الله جبارة كان الاول في كل ما يخصّ السينما السودانية تقريباً، فلئن كان هو المصور السوداني الوحيد الذي وثق مشهد رفع علم استقلال البلاد فهو ايضا أول سوداني شارك في مهرجانات سينمائية في برلين، موسكو، طشقند، القاهرة، الاسكندرية، قرطاج، واغدوغو، نيروبي، مقاديشو، نوتردام. وهو أولهم في تصوير الفيلم السوداني الاول "امال واحلام " وكان من انتاج الرشيد مهدى الذي رحل هو الاخر في ذات العام 2008، ايضا كان جبارة المصور الأول لاولي تجارب الاغنيات المصورة! ولعل من المحطات المهمة في سيرته كذلك اشتغاله مراسلا لبي بي سي علي ايام الاستعمار، ثم وكالة رويترز، ايضا شغله لمنصب المدير العام للانتاج في اتحاد السينمائيين الافارقة بواغدغو، وكان مساهماً فاعلاً في تأسيس وحدة الانتاج السينمائي والتي حلت محل وحدة افلام السودان التي كانت تتبع للسلطات الاستعمارية، كما ساهم في تأسيس مؤسسة الدولة للسينما عام 1970.
وعلي الرغم من ان لجبارة العديد من الابناء من زوجاته الاربع إلا ان علاقته بابنته سارة تبدو متميزة أكثر، وهو ما يبدو في الفيلم والكتاب علي السواء..كانت سارة اصيبت بشلل دائم في قدمها اليسرى عند طفولتها واجتهد جبارة كثيراً في علاجها حتي انه احضر لها "حوض للسباحة" عندما نُصحه احدهم بذلك وبالرغم من ان حوض السباحة لم يشف قدمها إلا انه جعل منها بطلة قومية في السباحة والملفت انها حققت المركز الثاني بالرغم من اعاقتها في سباق "كابري نابلي" بايطاليا ومسافته 63 كيلومتر اما علي الصعيد المحلي فان سارة احرزت العديد من الجوائز المهمة. واخيرا انشغلت بالسينما وبالرغم من وجود مشكلات عديدة في هذا الجانب إلا انها تثابر كثيراً حتي تحافظ علي ما تركه والده شيخ السينمائيين السودانيين، كما يسميه البعض..العم جاد الله جبارة.
أفـلمة الحكاية اقام نادي الفلم السوداني في ايام 17 /18 /19 اغسطس ورشة عمل تحت عنوان "النص/ التلقي / المعنى" بمشاركة مجموعة من النقاد السينمائين والمخرجين والصحفيين، بدأت الورشة بمحور "بناء المعنى عبر التلقي" اسهم بورقته الاساسية نزار مبارك، اما المحور الثاني فجاء تحت عنوان: بناء المعنى بين النص والفيلم" وشارك فيه بصفة اساسية ادم بخيت والطيب المهدي.
التفاعل الأدبي بدأ نزار مبارك مداخلته الاولي بمناقشة لمفهومي القراءة والتلقي، مشيراً إلي ما قاله مارك سوشون: القراءة وصف ابتدائي لقدرة الفرد على خلق علاقات بين المفردات المكتوبة والمفردات الصوتية للغة التي يستخدمها في حياته اليومية، وما قاله ايضا جاوناك: القراءة هي مقدرة عقلية تمكن القارئ من ربط المفردة المكتوبة مع ما تحويه ذاكرته من معارف، واوضح نزار مبارك ان تعريف سوشون يربط بين الصوت والحرف فيما يربط تعريف جاوناك بين الكلمة والمعنى، مبيناً ألا تعارض بين المفهومين فالاثنين فاعلين في قراءة النص إلا أنهما يبقيان عند مستوى "المدخل" لهذه القراءة، اما مصطلح التلقي فان باختين: قام بتوسيعه ليشمل ما يعرفه بالتبادل المشترك بين قطبي التبادل اللغوي القائم على الوحدة الدلالية، وهذه الوحدة هي التي تمكن المتلقي من اعتماد "سلوك جوابي فاعل" بحيث يكون في مقدوره اعطاء رد قصير (نعم أو لا) أو مفصلا كشرح أو تفسير،. وبحسب نزار مبارك فان " مدخل" باختين يزيل عن المتلقي سلبية التلقي ويمكننا بذلك، فيما يلي التفاعل الأدبي، من توقع سلوك جوابي فاعل من قبل القارئ على ما يثيره ويورده النص على اختلاف مستوياته، واشار نزار مبارك إلي ضرورة ان يقوم القارئ بتفعيل جميع مستويات النص، وهذا يلزمه ان يكون عارفاً ـ علي مستوي الخطاب ـ باللغة وان يكون محيطاً بالجملة اللغوية، فلا ينقلها إلي ظرف آخر ولا يبترها من عمل أوردت فيه. ويضيف نزار في ما يختص بفعالية القارئ انه: مطالب أيضاًَ بتفعيل الصور الذهنية والمعارف السابقة التي يختزنها في ذاكرته ليفعل من خلالها مراد النص، فالأخير لا يمكنه بأي حال إعادة رسم وبناء الصور الذهنية التي يحتاج اليها بل يتقاسم مع القارئ معارفه ويبني عليه بنيته الخطابية والدلالية بل وحتى السردية،
والقراءة "المدخلية"، كما يقول نزار، تقود القارئ إلي مستوي "القراءة النموذج" أو القراءة الأساس للنص الأدبي السردي. وهو مستوي لازم للتفاعل الأدبي بيد أنه لا يمثله كلياً، فهو المستوي الذي يصل إليه كل قارئ وفق نظرية التواصل لجاكوبسون ولكنه لا يمثل سلوكاً جوابياً فاعلاً! ويضيف نزار مبارك قائلاً: إن قصر قراءة النص الأدبي علي مستوي القراءة النموذج يحرمه من أهم صفاته والتي هي كونه أدبياً. وكونه قائماً علي تقبل تعدد التفاسير والمعاني بتعدد قرائه، فالقارئ للنص الادبي يمثل جزءاً اصيلاً بل أساسياً في بنائه، فـ: بناء النص يقوم، في جزء منه، علي تخيل قارئ افتراضي يمثل كل قراءه الحقيقيين المحتملين. هذا القارئ الافتراضي يسمي القارئ النموذجي أو القارئ الضمني، هذا القارئ يلتقي مع القارئ الفعلي في كثير من النقاط فهو يمتلك نفس الخلفية الثقافية واللغوية والمعرفية ولكن ذلك لا يتوفر لكافة القراءة فالنص مهما توسع في تخيل قارئه فهو محدود. وقد بينت دراساتنا عن القارئ الأجنبي انه قلما يدخل في محيط متخيل النص ولذلك كثيراً ما يجد هذا القارئ نفسه مبعداً ومحروماً من تعاون النص معه، وبهذا المعني، يوضح نزار، ان دراسة تلقي القارئ للنص الادبي هي استقصاء في مساهمته وتعاونه لتغذية الدلالات التي ينطوي عليها النص وليس معرفة ما توصل إليه القارئ نتيجة لقراءته للنص.
النص والتفاعل الادبي بعد ذلك قدم نزار مداخلة أخري بعنوان دور النص السردي في التفاعل الأدبي مشيراً إلي ان موقع النص في مسألة التفاعل الادبي هو مركزي، وان النص هو اساس القراءة، فلا يمكن ان يسمىّ قارئاً ما لم يكن هناك ما يُقرأ، اما النص فيمكن ان يكون موجوداً وإن لم يكن في تفاعل مع قارئ، واشار نزار إلي ان: هذا الثبات يمنح النص صفة الديمومة ويجعل القارئ هو المتغير الدائم، مضيفاً: وكأي معادلة فان التغير في أحد معطياتها يغير في نتيجتها النهائية لذلك فإن تغير القارئ في الزمان والمكان والثقافة والمعرفة يجعل نتيجة قراءة النص ـ أي معناه النهائي ـ تختلف من قارئ إلي آخر بل من قراءة إلي أخري في حال تكرار القراءة للنص من قارئ واحد. وهو ما يحقق للنص هدفه الأساسي من دخول معادلة التفاعل الأدبي وهو تفعيله وإعادة بعثه من خلال فعل القراءة، وقال نزار مبارك ان الكاتب لا يدخل في معادلة التفاعل الأدبي، فالعلاقة هنا بين القارئ والنص فقط، فـ: معادلة القراءة لا تحتمل وجوداً فيزيائياً حقيقياً لطرف ثالث سوي النص والقارئ، يشهد علي ذلك الرغبة في العزلة والهدوء التي تجتاح الإنسان عند تحوله إلي قارئ،.
المداخلة الثالثة التي قدمها نزار مبارك جاءت بعنوان (النص/ المتلقي/ المعني) وبدأها مشيرا إلي ان الدراسات المختلفة التي أجريت على تلقي النص الأدبي عبر القراءة على أن النص إما أن يعامل كحامل لرسالة/ معنى مدرج فيه مسبقاً من قبل الكاتب أو أن يعامل كمثير لمعنى مفرد خاص بكل قارئ على حده. هذا الأمر يجعل التلقي على منحيين إما فردي أو منطقي، هذا الأمر يطرح عدداً من الأسئلة حول ماهية النص وماهية القراءة وماهية المعنى المبني أو المعاد بناءه عبر فعل القراءة/ التلقي. ليخلص بعدها إلي ان تلقي النص الأدبي السردي يُصنف على ثلاث أحوال، أولها التلقي المحدود بحدود التوارث التفسيري وهو ذلك الذي يلتزم بقراءة واحدة للنص. وثانيها التلقي المحدود بحدود القراءة/ النموذج وهو ذلك الذي يصفه امبرتو ايكو بأنه الالتزام بمراد النص في تحديد حدود تفسيره أما الثالث فهو ما يصفه ISER بأنه الأثر الجمالي وهو مستوى يتجاوز حدود مكونات النص ومكونات شخصية القارئ إلى ناتج جديد يعلو عليهما ممثلاً الأثر الجمالي المنشود في الفعل الأدبي.
بناء المعني بين النص والفلم في المحور الثاني تحدث ادم بخيت تحت عنوان(بناء المعني بين النص والفلم) وبعد ان قدم إضاءة تاريخية عن مسارات السينما الافريقية تحدث ادم بخيت عن "الحوالة البريدية" للسنغالي عثمان سمبين العمل الذي قدم كفلم سينمائي وكنص روائي متوقفاً عند الفروق الذي حصلت عندما تمّ تحويل النص إلي فيلم سينمائي مشيراً إلي ان ثمة العديد من المشاهد في النص تم الاستغناء عنها في الفلم الذي اخرجه سمبين نفسه، اما المخرج السينمائي الطيب مهدي الذي شارك في ذات المحور فقد قدم مداخلته تحت العنوان:مسارات الحكي الشائكة بين الرواية والفلم" وبدأها بإشارة إلي ان الحكاية تمثل قاسما مشتركا بين الجنسين الفنيين لكن ثمة اختلافات عدة بينهما فالرواية تعتمد علي الخيال واثارته أو تأثيره علي احساس القارئ فهي تعتمد علي التأثير الحسي ويتم العمل فيها عن طريقة اللغة المكتوبة اما في الفلم فان التخييل يحتاج إلي ان يتم تحديد مناطق الحدث في الفكرة أو القصة والتي تُعالج بوسائط أخري مثل الفعل الدرامي المجسد بصورة مرئية ومسموعة.
والرواية ـ والقول للطيب مهدي ـ تحتشد بلغة انشائية عالية وبالتالي فانها غير صالحة، في احوال كثيرة، للترجمة البصرية والسمعية.
وقال مهدي ايضا ان الرواية تتحرك في النطاق الفكري والذهني فهي تتحرك بلا حدود بينما الفلم يتناول احداث وشخصيات لا بد ان تكون قابلة في علاقاتها للتجسد المرئي والسمعي.. المشاهد السردية الروائية تتكون نتيجة للتوهم والتماهي بين النص والقارئ، فهي ترتبط بنوع القراءة وفعاليتها فيما تتكون المشاهد السردية في الفلم عن طريق التجميع البصري لمجموعة من المعطيات المرئية والمسموعة.
هذا، وعرض مهدي من بعد إلي المراحل المختلفة لانتاج الفلم بداية من كتابة السيناريو وصولاً إلي مرحلة اخراجه مفرّقاً بينه والنص الروائي.
وشارك الحضورة بمداخلات عدة بينها توصيات لاتخاذ الورشة مناسبة لتعزيز فكرة الحوار بين الكتابة السردية والسينما.