لا تكتفي مجلة (الكلمة) بتقديم صورة ناصعة لأبرز انجازات العقل العربي، وأنما تسعى إلى ترجمة دراسات تضع الثقافة العربية في قلب المتغيرات المعرفية المعاصرة. ونترجم في هذا العدد دراسة مايك ديفيز عن دبي والمنشورة في العدد الأخير من مجلة اليسار الجديد. وهي دراسة تكشف لنا طبيعة المنحى الجديد الذي أخذته الدراسات الحضرية والمقتربات المعرفية المختلفة التي تستخدمها.

الخوف والمال في دبي

مايك ديفيز

عندما تبدأ طائرتك في الهبوط، فإنك تلتصق بالشباك المجاور لك. لأن المنظر على الأرض مثير للدهشة. حيث توجد مجموعة من الجزر التي تضم شعاب مرجانية ملونة تمتد لـمسافة 24 ميل مربع في شكل لعبة من المربعات المتراكبة التي تشكل صورة للعالم أوشكت على الانتهاء. ويمكن رؤية أشكال أهرامات الجيزة الغارقة والمسرح الروماني الكبير (الكوليسيوم) تحت المياه الزرقاء الضحلة بين القارات. ومن بعيد، يمكن تمييز ثلاث مجموعات جزر كبيرة أخرى على هيئة أشجار النخيل المزروعة  في إطار على شكل أهلة وعليها منتجعات تتميز بالمباني الشاهقة الارتفاع وحدائق ترفيهية وألف قصر مبنية على ركائز فوق الماء. وتتصل الجزر "على شكل أشجار النخيل" عن طريق ممرات معبَّدة مبنية فوق الماء بمقدمة شاطئ يعج بفنادق ضخمة وناطحات سحاب وأحواض لليخوت تشبه ميناء اليخوت الشهير على شاطئ ميامي.

وعندما تنحدر الطائرة تجاه الجزيرة الصحراوية، تلهث لما تراه أمامك من مناظر غير محتملة، بل أكثر من مذهلة. فمن بين غابة ناطحات السحاب ذات الواجهات المصنوعة من مادة الكروم يرتفع برج بابل الجديد. إن ارتفاعه يصل إلى نصف ميل بصورة غير ممكنة ليصبح ارتفاعه أعلى من ارتفاع مبنى الإمباير ستيت مرتين. ولا تزال الدهشة تتملك بينما تهبط الطائرة، وأنت مدعواً لزيارة مركز التسوق الموجود بالمطار حيث تغريك البضائع الجذابة مثل حقائب Gucci وساعات Cartier وسبائك الذهب الخالص التي تزن الواحدة منها واحد كيلوجرام.  وتجد في انتظارك سائق الفندق في سيارة رولز رويس. وقد رشح الأصدقاء حانة أرماني الموجودة في البرج الذي يتكون من 170 طابق أو فندق العرب ذا النجوم السبعة والذي به ردهة ضخمة جداً لدرجة يمكن أن تتسع معها لوضع تمثال الحرية بها. وخدمة خاصة حيث تتوفر الحجرات بسقاة شخصيين؛ ولكن بدلاً من ذلك فإن لديك الخيار في إشباع خيال الطفولة. فطالما أردت أن تلعب دور كابتن نيمو في عشرين ألف فرسخ تحت الماء

وحقيقة يبلغ ارتفاع فندق هيدروبوليس المصمم على شكل قنديل البحر الذي تنزل به66 قدم كاملة تحت سطح البحر. إن كل جناح من أجنحته الفاخرة البالغة 220 جناحا تحتوي على جدران بليكسيجلاس شفافة تسمح برؤية المناظر المثيرة لحوريات البحر المارة و" الألعاب النارية تحت الماء" المشهورة وهذه الألعاب عبارة عن عروض هلوسية من "فقاعات الماء ورمال تتحرك مثل الدوامة وإضاءة منتشرة بعناية". ويبدد حارس المبنى المبتسم أي قلق أولي تجاه أمن المنتجع الموجود تحت الماء. ويتمتع المبنى بوجود نظام أمن متعدد المستويات يشتمل على وسائل الحماية من الغواصات الإرهابية وحتى الصواريخ والطائرات.

على الرغم من ارتباطك باجتماع عمل مهم في مدينة الإنترنت مع عملاء من حيدر أباد وتايبيه فقد وصلت يوماً مبكراً لتمني نفسك  بواحدة من المغامرات المشهورة في  مدينة الملاهي "Restless Planet". وبعد نوم ليلة هادئة تحت البحر، تركب القطار الذي يسير على قضيب واحد لهذه الأدغال الجوراسية. وأول شيء تراه هو بعض البرونتصورات المسالمة التيتواصل مرعاها تحت الماء. وبعد ذلك يهاجمك قطيع من الفيلوسيرابتورات والوحوش التي تتحرك إلكترونياً ـ وقام بتصميمها خبراء من متحف التاريخ الطبيعي البريطاني ـ حيث تبدو كأنها حية بدون وجود أي عيب فيها لدرجة أنك تصرخ في خوف وابتهاج. ومع ارتفاع نسبة الأدرينالين بجسمك بسبب الخوف، فإنك تنهي فترة بعد الظهر بالتزحلق على الجليد بعض الوقت على جبل الجليد الموجود في الدغل (أما في الخارج فتصل درجة الحرارة إلى 105?). ويوجد بالقرب من هذا المكان أكبر مركز تسوق في العالم ـ أو هو الهيكل الجديد أو معبد مهرجان التسوق الشهير الذي يجذب ملايين من المستهلكين الشغوفين كل شهر يناير ـ ولكنك تؤجل هذه الإغراءات. وبدلاً من ذلك، فإنك تنغمس في بعض المطابخ التايلاندية الغالية التي تقدم طعاماً من دول مختلفة. وترميك تلك الشقراء الروسية رائعة الجمال التي تقف خلف بار المطعم بنظرة تعطش، فتتساءل إذا ما كانت ممارسة الآثام المحلية في في تلك المنطقة من العالم باهظة التكلفة كالتسوق أم لا؟....  


التحليق بالخيال
أهلاً بك في هذا الفردوس الغريب. ولكن أين أنت؟ هل هذه قصة جديدة للكاتبة مارجريت أتوود أم الجزء الثاني غير المنشور للرواية خيالية " Blade Runner" للكاتب فيليب كيه ديك؟ لا إنها الصورة التي ستبدو عليها مدينة دبي الواقعة على الخليج العربي عام 2010. وتأتي مدينة دبي (التي يبلغ عدد سكانها في الوقت الحالي 1.5 مليون نسمة) في المكانة الثانية مباشرة بعد مدينة شنغهاي (التي يبلغ عدد سكانها في الوقت الحالي 15 مليون نسمة) في الترتيب كأكبر موقع للبناء على كوكب الأرض: عالم من الأحلام يتميز بالاستهلاك الزائد الملفت للنظر يبدأ في الظهور. ويشعر الأفراد الذين يعيشون في المنطقة بنوع من الفخر لأنهم يتمتعون بأحد  "أنماط الحياة الأعلى منزلة". على الرغم من مناخها الذي يشبه درجة حرارة الفرن العالي (في أيام الصيف الحارة تصل درجة الحرارة إلى 120فهيرنهيت، فإن فنادقها الأكثر أناقة تعمل على تجميد حمامات السباحة بها) وموقعها على حافة منطقة الحروب، فإن دبي تتنبأ بثقة بأن غابتها الساحرة التي تضم 600 ناطحة سحاب والأسواق التجارية سوف تجذب 15 مليون سائح أجنبي في السنة بحلول عام 2010، أي ثلاث مرات عدد الزوار الأجانب الذين تجتذبهم مدينة نيويورك. وقد وضعت خطوط الطيران الإماراتية حوالي 37 مليار دولار تحت الطلب لطائرات بوينج وإيرباص جديدة لنقل هؤلاء السياح داخل وخارج المركز الجوي العالمي الجديد بدبي، مطار جبل علي الضخم.  [1] في الواقع، وبفضل إدمان كوكبنا الذي يحتضر على النفط العربي بطريقة لاشفاء منها، تنوي هذه القرية التي كانت تعتمد على الصيد والتي كانت معروفة بوجود كهوف المهربين فيها، أن تصبح واحدة من عواصم العالم في القرن الحادي والعشرين. حيث إن دبي تفضل الماس على أحجار الراين، فقد تخطت بالفعل هذا المنتجع الاصطناعي الصحراوي الآخر للرغبة الرأسمالية، لاس فيغاس، على كل من المستوى المطلق للمناظر واستهلاك المياه والطاقة بإسراف [2]

إن عشرات المشروعات كبيرة الحجم العجيبة ـ التي تشمل عالم الجزر الصناعية ( حيث قيل إن رود ستيوارت أنفق 33 مليون دولار لشراء بريطانيا ) وأعلى مبنى على الأرض (برج دبي، الذي قام مكتب التصميم الهندسي الشهير سكيدمور وأوينجز وميريل بتصميمه) والفندق الفاخر الذي يوجد تحت الماء والديناصورات آكلة اللحوم، ومنتجع التزحلق المغطى بقبة والسوق التجاري الضخم ـ توجد تحت الإنشاء بالفعل أو على وشك أن تترك لوحة التخطيط. [3] ويحظى برج العرب ذو السبع نجمات بالفعل بشهرة عالمية بسبب غرفه التي تتكلف الإقامة فيها خمسة آلاف دولار لليلة. والتي تطل على مشاهد تمتد لحوالي مائة ميل واقتصار نزلائه على الأسر المالكة العربية ومطربين الروك الإنجليزيين والمليارديرات الروس. ومما يذكر أن برج العرب مصمم على شكل شراع مثلث ويشبه كثيراً مكان تصوير أفلام جيمس بوند. ووفقاً لما ذكره المدير المالي لمتحف التاريخ الطبيعي فإن الديناصورات " ستتسم بطابع الدقة الموجود في متحف التاريخ الطبيعي بلندن وستظهر أن التعليم والعلوم قد تكون مسلية ومربحة نظراً لكون الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى حديقة الديناصورات سوف يكون من خلال مركز التسوق" . [4]

ويمثل أكبر هذه المشروعات وهو مشروع دبي لاند مرحلة جديدة تدور لها الرؤؤس في بيئات الخيال. وإذ ينطبق عليها فعلياً لقب "مدينة ملاهي مدن الملاهي"، فإن مساحتها ستزيد عن ضعفين مساحة ديزني لاند وسيعمل بها 300 ألف وستستقبل 15 مليون زائر سنوياً (ينفق كل زائر مائة دولار على الأقل يومياً غير شاملة تكاليف الإقامة). وكموسعة سريالية تتضمن المشروعات الأساسية "العالمية" في دبي لاند  والبالغ عددها 45 نسخ طبق الأصل من حدائق بابل المعلقة وتاج محل والأهرام  [5] بالإضافة إلى جبل ثلج به تلفريك ودبب قطبية ومركز "للرياضات الخطيرة" وقرية نوبية و"عالم السياحة البيئية" ومنتجع أندلسي كبير ومجمع تصحح وملاعب غولف وحلبة سباق دبي وحلبات سباق ومملكة العمالقة و"فانتازيا" وهي أكبر حديقة حيوان في الشرق الأوسط وعدد من الفنادق الخمس نجوم ومعرض للفن الحديث ومركز تسوق أرابيا.  [6]

الضخامة المهولة
لقد أصبحت دبي تحت الحكم المطلق لأميرها ومديرها التنفيذي الشيخ محمد آل مكتوم البالغ من العمر 58 عاماً الرمز العالمي الجديد للتمدن التخييلي. فالشيخ محمد المليارديرـ كما يعرفه المغتربين المقيمين في دبي ـ له هدف مباشر وإن كان يعوزه التواضع آلا وهو: "أريد أن أكون رقم واحد في العالم". [7] وعلى الرغم من كونه من أصحاب أكبر مجموعة من الخيول الأصيلة والتي ينفق عليها بحماس (إذ يمتلك أكبر إسطبل في العالم) واليخوت الفارهة (إذ يمتلك اليخت "بروجيكت بلاتنيوم" والبالغ طوله 525 قدم والذي له رصيف غطس وطيران خاص به)، فإن شغفه الاستهلاكي يتمثل في المعمار هائل الضخامة على نحو غير معتاد. [8]  و حقيقة يبدو أن ما جاء في أم الكتب التي تتبنى مذهب ما فوق الواقع وهو كتاب "التعلم من لوس انجلوس" من تأليف سكوت وفينشري قد انطبع في ذهن الشيخ محمد كما يحفظ المسلمون الأتقياء القرآن. ومن بين إنجازات الشيخ محمد التي يفتخر بها بشدة، وغالباً ما يقصها على مسامع الزوار إدخاله المجمعات السكنية المسورة إلى شبة الجزيرة العربية أرض الأعراب والخيام.   

وبفضل تحمسه غير المحدود لكل ما هو من الأسمنت والصلب، فقد تحولت تلك البقعة الصحراوية الساحلية إلى سيرك ضخم يقل على متنه صفوة الشركات الهندسية العابرة للقومية وقد وجهت الدعوة لشركات التنمية الصغيرة لحشو تجمعات عالية التقنية ومناطق ترفيهية وجزر صناعية و"جبال من الثلج" لها قباب زجاجية وضواحي خيالية ومدن داخل المدن بل وحشو أي شيء ضخم الحجم بما يكفي لرؤيته من الفضاء وأي شيء ينضح بالنمو المعماري الهائل. ولم ينتج عن هذا كائن مهجن بل وحش غريب. فهو جمع مشوش لكافة التخيلات العملاقة لكلا من بارنوم وإيفل وديزني وسبيلبرج وجون جيردي وستيف وني وسكيدمور وأوينجز وميريل. وعلى الرغم من أوجه التشابه الكبيرة التي تجمع ما بين دبي ولاس فيغاس ومانهاتن وأورلاندو وموناكو وسنغافورة، فالمشيخة أميل إلى أن تكون تلخيص جماعي لما سبق بل وتحويله إلى أسطورة: فهي خليط هذياني للضخامة المهولة والشرير والقبيح.

ويمكن رؤية نفس التكتلات العملاقة الشبيهة بمكعبات الليجو في عدد من المدن الطموحة هذه الأيام (بما في ذلك دول النفط الغنية المجاورة لدبي والحاسدة لها وأقصد الدوحة والبحرين)،  [9] إلا إن آل مكتوم يضع معياراً مميزاً غير قابل للمخالفة وهو وجوب كون كل شيء على "طراز عالمي" والذي يقصد به رقم واحد في موسعة جينس للأرقام القياسية. وبالتالي تبني دبي أكبر مدينة ملاهي في العالم وأكبر مركز تسوق (الذي يتضمن أكبر حوض مائي) وأطول مبنى وأكبر مطار دولي وأكبر جزيرة الصناعية وأول برج عائم وما شابه (راجع أدناه). وعلى الرغم من أن جنون العظمة المعماري هذا تذكير غريب بألبرت سبير ـ معماري هتلر الشهير ـ ورؤيته عن برلين الامبريالية، فإنه لا يفتقد العقلانية. فالشيخ آل مكتوم إذ "تعلم من لاس فيغاس" يفهم إنه إذا أريد لدبي أن تكون جنة الترف الاستهلاكي في الشرق الأوسط وجنوب أسيا (ويبلغ السوق الداخلي الرسمي لدبي 1.6 مليار)، فعليها أن تسعى جاهدة وبلا انقطاع لتحقيق الزيادة البصرية والبيئية. وكما قال روان مور إذا كان مشهد حشد هائل ومضطرب من الخيال الوجداني يثير في النفس شعوراً بالدور، فإن آل مكتوم يريد أن يغمى علينا.  [10] 

وإذا نظرنا للأمر من وجهة نظر مؤيدة، نجد أن ما تطرحه دبي من تصوير كاريكاتوري للمستقبلية هو وصف لاذع للسوق العالمي. وكما جاء في تصريح أحد المعماريين للفاينانشال تايمز حيث قال "إذا لم يوجد برج دبي أو واحة النخيل أو المركز العالمي، هل كانت دبي لتصبح محلاً لحديث الناس اليوم". وينبغي عدم النظر إلى تلك المشروعات باعتبارها مشروعات مجنونة منفردة. فهي جزء من عملية بناء السمعة. [11]  ويستعذب ملاك تلك المشروعات امتداح مهندسي المعمار وأخصائي التخطيط الحضري مثل جورج كاتودريتس لها بوصفها ذروة التقدم:  حيث تعتبر دبي أول نماذج مدينة ما بعد العالمية والتي تخلق الرغبات بدلا من حل المشكلات ... فإذا ما كانت روما "المدينة الخالدة" ومانهاتن في نيويورك النموذج المثالي للتمدن المحتقن في القرن العشرين، فمن الجائز اعتبار دبي النموذج الأولي الصاعد للقرن الحادي والعشرين فهي واحات صناعية وبدوية تقدم كمدن مستقلة تمتد عبر الأرض والبحر. [12]

ويعتبر تحقيق الأرقام القياسية في المعمار مسعى متغير. وفضلاً عن هذا لا تواجه دبي إلا منافس حقيقي واحد وهو الصين والتي يبلغ عدد المليونيرات فيها 300 ألف ومن المتوقع أن تصبح في غضون سنوات قليلة أكبر أسواق الكماليات في العالم (بداية من أحذية Gucci ووصولاً إلى سيارات المرسيدس). [13]  وإذ ترجع بدايتهما إلى الإقطاعية ومبادئ ماو الثورية القروية على التوالي، فقد وصلت كلاً من دبي والصين إلى مرحلة الرأسمالية المفرطة من خلال ما يسميه تروتسكي "جدلية التنمية غير المتكافئة والمجمعة". وكما أورد بارخت كني-باز في ملخصه الرائع لفكر تروتسكي:   إن المجتمع الرجعي عندما يضيف إلى نفسه أشكالاً جديدة لا يضيف بدايات تلك الأشكال ولا مراحل تطورها بل يضيف المنتج النهائي نفسه. وحقيقة يتخطى المجتمع الرجعي هذا فهو لا ينقل المنتج كما هو في دول المنشأ بل ينقل "النوع المثالي" له ويقدر هذا المجتمع على ذلك نظراً لكونه في موقف يسمح له بالإضافة بدلاً من خوض عملية التنمية. ويفسر هذا ظهور الأشكال الجديدة في مجتمع رجعي أكثر كمالاًَ مقارنة بمجتمع متقدم الذي فيه لا تكون تلك الأشكال إلا مجرد صور مقاربة "للمثالي" وذلك نتيجة وصول المجتمع المتقدم لها تدريجياً وفي إطار عمل الاحتمالات التاريخية.  [14]

وفي حالة دبي والصين تم إيجاز أو اختزال كافة المراحل المتوسطة الشاقة من أجل اعتناق التركيبة "المنقحة" للتسوق والترفيه والطراز المعماري على أوسع نطاق.  ولما كان هذا يأخذ شكل سباق في الكبرياء القومي بين العرب والصينيين، فإن هذا السعي المحموم وراء المبالغة له بالطبع سابقة ولنتذكر التنافس الشهير الذي دار بين بريطانيا وألمانيا الإمبريالية في مجال صناعة المدرعات في أوائل القرن العشرين.  والسؤال هل يعتبر هذا من وجهه النظر الاقتصادية إستراتيجية تنمية مستدامة؟ والإجابة الطبيعية هي لا على الأرجح. فطالما كانت العملاقة المعمارية عرضاً معاكساً للاقتصاديات التي تعيش تسارع مفرط في المضاربة، ولقد خلف كل ازدهار في العصر الحديث ورائه ناطحات سحاب, مثل مبنى الإمباير ستيت أو مركز التجارة العالمي، كشاهد قبر له. ويوضح الساخرون عن حق أن أسواق العقارات المتضخمة في دبي والصين تبتلع الأرباح العالمية الزائدة، الناتجة عن النفط وصادرات التصنيع على التوالي، التي يؤدى إلى تزايدها حالياً عدم قدرة الدول الغنية على الحد من استهلاك النفط أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فعدم القدرة على موازنة الحسابات الجارية. وإذا ما أمكن الاسترشاد بالدوائر التجارية في الماضي، فإن هذا يعني أن النهاية قد تكون قريبة وفوضوية جدا. وعلى الرغم من مما سبق يعتقد الشيخ آل مكتوم في أنه قد أكتشف سر الطفو الأبدي شأنه في هذا شأن ملك جزيرة لبيتا العائمة الغامضة في قصة رحلات جيلفر.

وبالطبع يتمثل مصدر قوة دبي في "ذروة النفط"، ففي كلمة مرة تنفق خمسين دولاراً ثمناً لبنزين سيارتك تساعد في سقاية واحة آل مكتوم. وتشهد أسعار الوقود حالياً تضخماً بسبب تزايد طلب الصين الصناعية وتزايد المخاوف من الحرب والإرهاب في رقعة النفط العالمي. ووفق لما ورد في وول ستريت جورنال يدفع المستهلكون 1.2 تريليون دولار إضافية في عامي 2004 و2005 لمنتجات النفط مقارنة بما دفع في 2003. [15] وكما حدث في السبعينيات يجري حاليا انتقال ضخم ومُعطل للثروة بين الدول المستهلكة للنفط والدول المنتجة له. وبالفعل تظهر في الأفق نقطة القمة، وهي ذاتها الذروة التي قال عنها د/ هوبرت، عندما لا تغطي احتياطات النفط الجديدة الطلب العالمي وابتداء من تلك اللحظة ستصبح أسعار النفط كارثة حقيقة. وفي نموذج اقتصادي خيالي ما قد تصبح هذه الأرباح المفاجأة صندوق استثمار لتغيير دفة الاقتصاد العالمي إلى الطاقة المتجددة والحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الوقت نفسه وزيادة الكفاءة البيئية للنظم الحضرية. إلا إنه في عالم الرأسمالية الواقعي قد أصبحت تلك الأرباح دعماً لوسائل الترف التي ستقود إلى نهاية العالم والتي تسير دبي في طريق تجسيدها.   

ميامي الخليج العربي
ووفقا لما يرويه كتاب سيرة آل مكتوم فالفضل في وصول دبي إلى حالتها المباركة يرجع بدرجة كبيرة للرؤيا الاستثمارية التي ورثها آل مكتوم عن أبيه الشيخ رشيد "والذي كرس نفسه وموارده لتحويل إمارته إلى مركز تجارة على طراز عالمي وعصري تزدهر فيه التجارة الحرة". [16] وحقيقة تدين نهضة دبي التي لا مرد لها بالكثير لسلسلة من الحوادث الجغرافية السياسية وليدة الصدفة وهو ما ينطبق على نهضة الإمارات العربية المتحدة. وتكمن المفارقة في أن الميزة الإقليمية الأساسية لدبي هي تواضع ما تمتلك من نفط في عرض البحر الذي يستنزف حالياً بسرعة. وفي ظل كونها قطعة أرض صغيرة داخلية تفتقر إلى ما للكويت أو أبو ظبي من ثروة جيولوجية, نجت دبي من الفقر بإستراتيجية سنغافورية تتمثل في أن تصبح المحور التجاري والمالي والترفيهي الأساسي في الخليج. ودبي عبارة عن "مدينة شبكات" ذاك الوصف الذي أطلقه برخت على مدينة ماهوجوني- يتم فيها اعتراض الأرباح الهائلة لتجارة النفط العالمية وإعادة استثمارها في ما لشبه جزيرة العرب من مورد طبيعي لا ينضب حقيقة وهو الرمل. (وحقيقة عادة ما تقاس المشروعات الهائلة في دبي بحجم الرمال المنقولة فعلى سبيل المثال تم نقل مليار قدم مكعب في مشروع "جزر العالم"). وفي حالة نجاح المشروع الهائل الحالي المعروف بدبي لاند " Dubai land" كما هو مخطط، فإن دبي ستستمد كل إجمالي الناتج المحلي من الأنشطة غير النفطية مثل السياحة والمالية بحلول عام 2010.  [17]

ولقد تمثل حجر أساس طموحات دبي الاستثنائية في تاريخها الطويل كملاذ للمهربين وتجار الذهب والقراصنة. فبموجب معاهدة في أواخر العصر الفيكتوري مُنحت لندن التحكم في الشؤون الخارجية لدبي وأبعدت العثمانيين وجباة الضرائب التابعين لهم من المنطقة ولكن سمحت لسلالة آل مكتوم باستغلال ملكيتهم لمرفأ المياه العميقة الطبيعي الوحيد والذي يبعد 400 ميل عن ما كان يعرف وقتها بـ "ساحل القراصنة". وكان صيد اللؤلؤ والتهريب هما الركيزتين الأساسيتين إلى أن بدأت ثروة النفط في توليد طلب متزايد على معرفة دبي التجارية وخدمات الموانئ التي تقدمها. ولقد عاش جميع السكان  حتى عام 1956 عندما تم بناء أول مبنى من الأسمنت في منازل تقليدية مصنوعة من عريش النخيل وكانوا يحصلون على المياه من آبار مشتركة ويربطون ماعزهم بعقال في شوارع ضيقة.  [18] وبعد انسحاب البريطانيون من شرق قناة السويس في عام 1986، انضم الشيخ رشيد إلى الشيخ زايد حاكم أبو ظبي ليكونا الإمارات المتحدة العربية في 1971 وهي عبارة عن اتحاد فيدرالي إقطاعي مترابط بسبب التهديد المشترك الممثل في الماركسيين في عمان ومن بعدهم الإسلاميين في إيران. وتمتلك أبو ظبي النصيب الأكبر من ثروة الإمارات العربية المتحدة من النفط (تمتلك أبو ظبي تقريباً ثمانية بالمئة من احتياطي الهيدروكربون المعروف في العالم) ولكن دبي كانت هي الميناء والمركز التجاري الأكثر منطقية. وعندما ثبت أن ما لدبي من "خور" عميق طبيعي صغير لدرجة لا يتمكن معها من مواكبة الازدهار التجاري، استخدمت قيادة الإمارات العربية المتحدة بعض من مكاسب أول "مفاجأة النفط" لمساعدة دبي في تمويل بناء أكبر ميناء صناعي في العالم والذي تم بنائه في 1976.     

وفي أعقاب ثورة الخميني في 1979 أصبحت دبي أيضا بمثابة ميامي الخليج العربي مقدمةً الملاذ لجالية كبيرة من الإيرانيين المنفيين الذين تخصص العديد منهم في تهريب الذهب والسجائر المعفية من الضرائب والكحول إلى بلدهم الأم المتشدد وإلى الهند. ولقد اجتذبت دبي مؤخراً تحت مراقبة متساهلة من طهران عدد كبير من الإيرانيين الأثرياء الذي يستخدمون دبي كقاعدة تجارية ومركز لأنماط الحياة مزدوجة الجنسية، لتكون بهذا أقرب لهونج كونج من ميامي بالنسبة لهم. ويقدر تحكم هؤلاء الإيرانيون فيما يبلغ 30% من تنمية العقارات الحالية في دبي. [19] واستناداً إلى هذه الصلات السرية، فقد أصبحت دبي في الثمانينات والتسعينات المكان الأساسي لغسل الأموال في الخليج وملجأ لبعض أشهر العصابات والإرهابيين في المنطقة.  ولقد وصف وول ستريت جورنال مؤخراً العالم السفلى لدبي: إن ما لدبي من أسواق الذهب والماس وأماكن المقايضة ومحال نقل الأموال غير الرسمية لطالما شكلت عالماً تجارياً مبهماً يقوم على الصلات والولاء القبلي. ولقد استفاد تجار السوق السوداء وتجار السلاح وجهات تمويل الإرهاب والممارسين لغسل الأموال من بيئة حرية الحركة على الرغم من شرعية أغلب النشاط التجاري. [20]

ولقد استشاط الكونجرس الأمريكي غضباً في بداية 2006 إزاء قرب شراء شركة موانئ دبي لشركة الموانئ والشحن البريطانية Peninsular and Oriental Steam Navigation Company ومقرها لندن وتتولى تشغيل موانئ من نيويورك إلى ميامي. وعلى الرغم من دعم إدارة بوش أٌجبرت دبي على الانسحاب من الصفقة بعد عاصفة من الاتهامات في برامج الأخبار على الفضائيات وبرامج الإذاعة الحوارية وتعلقت الاتهامات بالأخطار المفترضة لترك التحكم في الموانئ التجارية الأمريكية لحكومة من الشرق الأوسط. ولا شك أن الدافع وراء الكثير من هذا الجدل متمثل في التعصب المعاد للعرب الصرف والواضح ( إذ يقع تشغيل الموانئ الأمريكية إلى حد كبير تحت إدارة شركات مملوكة لجهات أجنبية)، إلا إن الوثائق تشهد على ما لدبي من "صلات إرهابية"، وهي نتيجة طبيعية لدور دبي كسويسرا الخليج.  

وفي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر استكشف بحث استقصائي ضخم دور دبي باعتبارها "المحور المالي للجماعات المسلحة الإسلامية" ولا سيما القاعدة وطالبان، ويزعم مسئول رفيع المستوى في وزارة الخزانة الأمريكية أن "جميع الطرق تؤدي إلى دبي عندما يتعلق الأمر بأموال [الإرهاب]". وقد وردت تقارير بنقل بن لادن مبالغ طائلة عبر بنك دبي الإسلامي المملوك للحكومة، في حين استغلت طالبان أسواق الذهب التي لا تخضع لتشريعات لتحويل الضرائب المفروضة على الأفيون التي تدفع سبائك ذهب إلى دولارات نظيفة. [21] ويزعم ستيف كول في كتابه حروب الأشباح الذي يعتبر من أكثر الكتب مبيعاً أنه بعد تفجير القاعدة لسفارات الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي ودار السلام لزم إلغاء مخطط وكالة الاستخبارات الأمريكية لاستهداف بن لادن بصواريخ كروز أثناء صيده النسور في جنوب أفغانستان بسبب وجود أحد أفراد الأسرة المالكة الإماراتية الذي لم يحدد اسمه في صحبته. ويضيف كول اشتباه وكالة الاستخبارات في نقل طائرات C-130 التي تقلع من دبي أسلحة إلى طالبان. [22] وفضلاً عن ما سبق فقد قدم آل مكتوم لما يزيد عن عقد من الزمان ملاذاً رغداً لآل كابون بومباي رجل العصابات الأسطوري داود إبراهيم. ولم يكن وجوده في المشيخة في أواخر الثمانينات بالوجود غير الملحوظ. وقد كتب سيكتيو ميهاتا يقول أن دبي ناسبت داود فقد أعاد فيها بومباي في صورة الحفلات الترف بصحبة أكبر النجوم السينمائيين في دبي ضيوفاً عليه واتخذ من نجمة سينمائية تدعى مانداكيني عشيقة له. [23] ووفقا للحكومة الهندية ففي أوائل 1993 عمل داود مع رجال المخابرات الباكستانية مستخدماً دبي قاعدة لتنظيم تفجيرات "الجمعة السوداء" في بومباي التي راح ضحيتها 257 شخصٍ. [24] وعلى الرغم من أن الهند طلبت من دبي على الفور القبض على داود، فقد سمح له بالهروب إلى كاراتشي حيث لا يزال هناك تحت حماية الحكومة الباكستانية وفي الوقت نفسه يتردد أن شبكته الإجرامية المعروفة بـ "شركة د" استمرت في نشاطها في دبي. [25]

منطقة الحرب
وتحظى دبي الآن بتقدير كبير من واشنطن باعتبارها شريكاً في الحرب على الإرهاب ولا سيما كقاعدة للتجسس على إيران [26] ولكنه من المحتمل أن آل مكتوم لا يزال يبقي على قناة مفتوحة مع الإسلاميين المتشددين وشأنه في هذا شأن حكام الإمارات الأخرى.  ففي حالة إذا أردت القاعدة ذلك من المفترض قدرتها على تحويل برج العرب على سبيل المثال وغيره من معالم دبي البارزة إلى جحيم مشتعل. وبالرغم من هذا تعتبر دبي إلى الآن من المدن القلائل في المنطقة التي تجنبت تماماً تفجيرات السيارات والهجوم على السياح الغربيين، وربما يظن أحدهم أن هذا برهان بليغ على استمرار دور دبي كمكان لغسل الأموال وملاذ رغد كما كان الأمر مع تانجري في الأربعينيات والمغرب في الستينيات. ويعتبر ما لدبي من اقتصاد أسود متناني بوليصة تأمين ضد السيارات المفخخة ومختطفي الطائرات.

وتكسب دبي عيشها فعليا من الخوف وذلك ثابت بأشكال معقدة ومباغته. فعلى سبيل المثال حقق مجمع الموانئ الضخم في جبل علي أرباحاً لا حصر لها من التجارة التي ولدها غزو العراق، أما صالة الوصول الثانية في مطار دبي والمكتظة دائما بموظفي شركة هاليبرتون والجنود المرتزقة والجنود الأمريكيين الذين في طريقهم إما إلى بغداد أو إلى كابول فقد وصفت تلك الصالة بأنها "أكثر صالات الوصول التجارية انشغالاً" بسبب حروب الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط. [27] وتسببت تطورات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر أيضا في تغيير دفة الأنماط الاستثمارية العالمية لصالح دبي.  وبالتالي بعد هجمات القاعدة على أمريكا إذ شعرت دول النفط الإسلامية بالصدمة إزاء المسيحيين الغاضبين في واشنطن والدعاوى القانونية التي أقامها من نجوا من  هجمات مركز التجارة لم تعد تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية ملاذ آمن لعائدات النفط (الدولارات البترولية). ويقدر أن السعوديين وحدهم أعادوا إلي بلادهم على الأقل ثلث محفظة استثماراتهم الخارجية والتي تبلغ تريليون دولار. وعلى الرغم من أن الأعصاب أكثر هدوءً الآن، فقد حققت دبي مكاسب ضخمة من استمرار ميل شيوخ النفط إلى الاستثمار داخل المنطقة بدلاً من خارجها. وكما أكد ادوارد تشانسلور قائلاً إنه "على النقيض مما حدث في أحدث فترة ازدهار للنفط في أواخر السبعينات، فقد تم استثمار حصة بسيطة نسبياً من فائض النفط العربي حاليا استثماراً مباشراً في أصول الولايات المتحدة أو حتى إيداعها في النظام المصرفي العالمي. ففي هذه المرة بقيت حصة كبيرة من أموال النفط داخل البلاد حيث يوجد الآن شغف كلاسيكي للمضاربة.  [28]

ويعتقد أن السعوديين استثمروا خلال عام 2004 سبعة مليار دولار على الأقل في عقارات آل مكتوم الكبرى. ومن الجدير بالذكر أن عدد السعوديين الذين يزورون دبي مرة واحدة سنوياً يقدر بحوالي 500 ألف سعودي. فقد قام السعوديون ومستثمرون من أبو ظبي والكويت وإيران بل وقطر المنافسة بتمويل غرور مشروع دبي لاند (الذي تتولى تطويره رسمياً مجموعة كلداري إخوان) وغيره من المشروعات العملاقة الخيالية.  [29] وعلى الرغم من تشديد خبراء الاقتصاد على الدور المؤثر للاستثمار في الأسهم في الازدهار الذي يعيشه الخليج حالياً، فإن المنطقة أيضا تعج بالائتمان البنكي الميسر ويرجع الفضل في هذا إلى زيادة بمعدل 60% في قاعدة الودائع المحلية والتأثير الدافع للسياسات النقدية السهلة التي يتبعها نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (فجميع عملات إمارات الخليج مربوطة بالدولار).  [30]

وبالطبع سترقص هذه الأموال على الأنغام القديمة. وتوضح مجلة  بيزنس ويك أنه "يتم تملك أغلب العقارات الجديدة في دبي لأغراض المضاربة في حين لا يتم تخصيص إلا مبالغ صغيرة كودائع. فالعقارات تتزايد قيمتها بسرعة على نحو يشبه ما حدث في ميامي.  [31] إلا إن بعض خبراء الاقتصاد يتوقعون أن ما طار طير وارتفع إلا كما طار " وقع". والسؤال هل يأتي يوماً تسقط فيه دبي من السماء عندما ينفجر بالون العقارات، أم تبقي ذروة النفط لبيتا الصحراء طافية في مواجهة تناقضات الاقتصاد العالمي. ويبقى آل مكتوم مفعماً بالثقة في النفس ويقول "أود إخبار الرأسماليين بأن دبي لا تحتاج المستثمرين، بل المستثمرون من يحتاجونها. وأخبركم أن الخطر يكمن لا في عدم استغلال أموالك، ولكن في تركها تتكدس".  [32]

ويدرك حاكم دبي الفيلسوف جيداً (سيتم فعلياً نقش قصيدة من تأليف الشيخ آل مكتوم على أحد مشروعات الجزر الصناعية)  [33] أن الخوف هو أيضاً أكثر مكونات عائدات النفط ديناميكية التي تحيل كثبان رمله لمراكز تسوق وناطحات سحاب.  ففي كل مرة ينسف المتمردون خط أنابيب في دلتا النيجر أو يستقل استشهادي سيارته المفخخة مستهدفاً مجمعاً سكنياً بالرياض أو تلوح واشنطن أو تل أبيب باستخدام القوة ضد طهران، يرتفع سعر النفط (ومعه الدخل النهائي لدبي) نتيجة زيادة القلق في جميع الأسواق المستقبلية الهامة. وبعبارة أخرى أن اقتصاديات الخليج لا تجني الأرباح من إنتاج النفط فحسب، بل ومن الخوف من تعطله أيضا. ووفقا للدراسة الحديثة التي أعدها خبراء من مجلة  بيزنس ويك فإن " العالم دفع خلال العام الماضي للدول المصدرة للنفط في الخليج العربي زيادة قدرها 120 مليار دولار أو ما شابه بسبب فروق الأسعار الناتجة عن مخاوف تعطل الإنتاج غير المتوقع. ويقول بعض الساخرون إن الدول المنتجة للنفط ترحب بمخاوف تعطل الإنتاج لأنها تزيد من عائداتها". ووفقا لما ورد على لسان أحد كبار محللي الطاقة الذين استشارتهم المجلة فإن "الخوف بمثابة هبة للدول المنتجة للنفط".  [34]

ولكنها هبة تنفقها دول النفط الغنية في واحة محاطة بأسوار بالغة الارتفاع. وفي حين كون سيادة دبي مضمونة في النهاية بالحاملات النووية الفائقة الأمريكية التي عادة ما ترابط في جبل علي وكذلك بالبروتوكولات السرية (التي يتم التفاوض بشأنها أثناء رحلات صيد النسور في أفغانستان؟) التي تحكم علاقة الإمارات بالإرهاب الإسلامي. إن دبي هي جنة الحرية الشخصية بداية من قوانين حماية سرية الحسابات على الطراز السويسري ووصولاً إلى جيوش من العاملين في مجال تقديم الخدمات والخفراء والحرس الشخصيين الذين يتولون حماية أماكن الترف فيها. وتجري العادة على أن يطلب رجال الأمن من السائحين المغادرة في حالة محاولتهم اختلاس النظر على برج العرب الموجود على جزيرة خاصة. وبالطبع يصل رواد الفنادق في سيارات رولز رويس.

نادي ميلتون فريدمان
وبعبارة أخرى فإن دبي عبارة عن مجتمع مسور كبير، إنها المنطقة الخضراء المطلقة. ولكنها تتخطى سنغافورة وتكساس، فهي أيضا النموذج المثالي لقيم الليبرالية الجديدة للرأسمالية المعاصرة فهي مجتمع لربما وضع تصميمه قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو. وحقيقة لقد حققت دبي الحلم الأوحد الذي يداعب الرجعيين الأمريكيين وهو واحة تجارة حرة بدون ضرائب على الدخل أو اتحادات عمال أو أحزاب معارضة (لا توجد انتخابات في دبي). وبما يليق بجنة الاستهلاك، فإن العيد القومي غير الرسمي لدبي وشعارها العالمي هو مهرجان التسوق المشهور وهو تحفة فنية تستمر لمدة شهر ويقام تحت رعاية مراكز التسوق في دبي والبالغ عددها خمس وعشرين مركزاً. ويبدأ المهرجان في 12 يناير ويجتذب حوالي 4 مليون فرد أغلبهم من الشرق الأوسط وجنوب أسيا. [35] وفي الوقت نفسه تم تزيين الحكم المطلق الإقطاعي، إذ تمتلك سلالة مكتوم أرض دبي، ليكون أخر كلمة في قاموس الإدارة المستنيرة للشركة وتحول المناخ السياسي رسمياً إلى مناخ إداري. وقد صرح سيد المنتفيق رئيس هيئة التنمية والاستثمار بدبي قائلاً "يشير الناس إلى ولي عهد دبي باعتباره المدير التنفيذي لدبي. ويرجع هذا إلى انه فعلياً يدير الحكومة كشركة خاصة لصالح القطاع الخاص لا لصالح الدولة".  وعلاوة على ما سبق، إذا ما كانت الدولة عبارة عن شركة منفردة ،كما يؤكد آل مكتوم، فإن وجود "حكومة نيابية" غير وثيق الصلة. حيث لا يمكن اعتبار جنرال إلكتريك و إيكسون من الديمقراطيات ولا يمكن لشخص أن يتوقع منها ذلك فيما عدا من يهذي من الاشتراكيين. 

وبالتالي يكاد لا يمكن التمييز بين الدولة والشركة الخاصة. ويتولى كبار مديري دبي جميعهم من العامة الذين يتم تعينهم بناء على كفاءتهم- على الفور حقائب وزارية إستراتيجية وإدارة شركة تنمية عقارية كبرى يتحكم فيها آل مكتوم. وحقيقة تعتبر "الحكومة" فريق إدارة حقوق الملاك يتولى قيادته ثلاث أكبر جهات تتنافس مع بعضها البعض لتجني أعلى إيرادات للشيخ آل مكتوم (راجع الجدول 2). ويكتب وليم ويلز قائلاً "وفي مثل هذا النظام يكاد يكون مفهوم تعارض المصالح غير معروف".  [36] ونظراً لوجود مالك واحد ومطلق للدولة ولأن أنهار أموال الإيجارات تصب جميعها في صالح مستفيد واحد، تقدر دبي على الاستغناء عن أغلب ضرائب المبيعات والجمارك وضرائب الدخل التي تعتبر عوامل أساسية للحكومات في دول أخرى. و بدوره يؤدي وجود الحد الأدنى من العبء الضريبي إلى زيادة بيع أو تأجير رمال دبي الذهبية. وفي الوقت نفسه تدعم إمارة أبو ظبي الغنية بالنفط وظائف الدولة المتبقية بما في ذلك العلاقات الخارجية والدفاع والموكلة بها الإدارة الفيدرالية للإمارات- وهي نفسها ملكية مشتركة لمصالح المشايخ الحاكمين وأقربائهم.     

وعلى النحو نفسه تنبع الحرية الشخصية في دبي بالكامل من الخطة التجارية لا الدستور وبالطبع لا من "الحقوق غير القابلة للتصرف". ويلزم على آل مكتوم ومديريه الفصل ما بين السلطة التي تعتمد على النسب والشريعة الإسلامية من ناحية و والانحطاط الترفيهي والثقافي التجاري الغربي من الناحية الأخرى. ويتمثل الحل العبقري الذي توصلوا إليه في نظام ما يمكن تسميته "الحريات المعيارية" والذي يعتمد على الفصل المكاني الصارم بين الوظائف الاقتصادية والطبقات الاجتماعية التي تخضع لقيود عرقية. وبغية فهم كيف يعمل هذا النظام في أرض الواقع، يلزم وضع دراسة بإيجاز للإستراتيجية التنمية العامة في دبي.  

على الرغم من تولد أغلب "الحديث" عن دبي من التنمية السياحية والإفراط فيها، تمتلك دبي تلك المدينة-الدولة طموحات غير عادية لحصد القيمة المضافة قدر الإمكان من خلال سلسلة من مناطق التجارة الحرة المتخصصة والتجمعات عالية التقنية. وقد كتب معلق الأخبار في شبكة ABC يقول إن "أحد الطرق التي تحولت من خلالها تلك القرية التجارية الواقعة على خور إلى عاصمة حضرية كبيرة هي تقديم كل شيء بالمجان ومناحي الحياة العصرية القذرة كحوافز للشركات للاستثمار في دبي والانتقال إليها. حيث توجد مناطق تجارة حرة يسمح فيها بتملك الأجانب الكامل دون أي نوع من الضرائب على الأفراد أو الشركات أو رسوم على الصادرات/الواردات".    [37] وتضم أول منطقة تجارة حرة في منطقة جبل علي آلاف الشركات التجارية والصناعية المقيمة وتعتبر القاعدة الكبرى للشركات الأمريكية التي تبيع للأسواق السعودية والخليجية.   [38]

وبالرغم مما سبق من المتوقع تولد أغلب النمو المستقبلي من أرخبيل من "التجمعات" المتخصصة. وتمثل أكبر تلك المدن الموجودة داخل مدينة دبي في مدينة الانترنت التي تعتبر بالفعل محور تقنية المعلومات الأساسي في العالم العربي وفيها شركات تابعة لكلا من ديل وهيوليت-باكرد ومايكروسوفت وغيرها من الشركات، ومدينة الإعلام وهي مقر لشبكة العربية والعديد من مؤسسات الأخبار الدولية، ومركز دبي المالي الدولي الذي يأمل آل مكتوم في أن يصبح التبادل المالي الدولي في دبي أكبر بورصة بين أوربا وجنوب أسيا إذ يهرع المستثمرون الأجانب للاستفادة من خزان أرباح النفط الضخم. وبالإضافة إلى تلك المدن الداخلية الهائلة التي يعمل في كلا منها عشرات الآلاف من الموظفين، تستضيف دبي أو تعتزم بناء مدينة للمساعدات الإنسانية كقاعدة إغاثة من الكوارث، ومنطقة تجارة حرة مخصصة للسيارات المستعملة تحت اسم مركز دبي للمعادن والسلع، و"مدينة الشطرنج" التي ستستضيف مقر جمعية الشطرنج الدولية والمدينة مصممة على هيئة رقعة شطرنج فسيحة وبها برجين "الملك" ارتفاع كلا منهما 64 طابقاً، وقرية رعاية صحية بتكلفة 6 مليار دولار بالتعاون مع كلية الطب بجامعة هارفارد وستقدم القرية للطبقات الغنية من الخليج صفوة التقنية الطبية الأمريكية.  [39]

وبالطبع توجد دول أخرى في المنطقة لديها مناطق تجارة حرة وتجمعات عالية التقنية, ولكن دبي هي الوحيدة التي تسمح لكل مدينة داخلية بالعمل تحت قباب تشريعية وقانونية فقاعية مصممة حسب الاحتياجات المحددة للرأس المال الأجنبي والمحترفين المغتربين.  وتقول جريدة  الفينانشل تايمز إن "خلق  أسواق متخصصة مربحة ولها قواعدها الخاصة كان محور إستراتيجية التنمية في دبي".  [40] وعليه تُعطل الرقابة على الصحافة لدرجة كبيرة داخل قرية الإعلام (وتمارس بشكل فاضح في باقي دبي) بينما لا يخضع الدخول إلى الانترنت لأي قيود داخل مدينة الانترنت (ويخضع لضوابط المحتوى في غيرها). ولقد سمحت الإمارات العربية المتحدة لدبي بإقامة نظام تجاري معتمد على النظم الغربية و منفصل تماماً للمنطقة المالية الموجودة في دبي التي تستخدم في تعاملاتها الدولار والإنجليزية. وبالرغم من الجدل الناتج عن هذا استقدمت دبي مشرعين ماليين بريطانيين وقضاة متقاعدين لتعزيز الثقة في أن التبادل المالي العالمي في دبي يتبع نفس القواعد المتبعة في زيورخ ولندن ونيويورك.  [41] وفي نفس الوقت وبقصد ترويج بيع ضياع نخلة الجميرة والجزر الخاصة التي تشكل "جزر العالم"، أعلن آل مكتوم "ثورة في عالم التملك" وهي فريدة من نوعها في المنطقة وتسمح للأجانب بشراء عقارات فخمة بصفة تامة بدلا من مجرد الإيجار لمدة 99 سنة.  [42]

وفضلاً عن النظم المغلقة هذه التي توفر مساحة أكبر من الحرية التجارية والإعلامية، من المعروف تساهل دبي مع الرذائل الغربية فيما عدا العقاقير المخدرة. فعلى النقيض من السعودية أو حتى الكويت تتوافر الخمور بحرية في الفنادق وحانات المغتربين، ولا تجد من ينظر مستاءً للملابس العارية أو حتى ثياب الاستحمام الدقيقة على الشواطئ. وتعتبر دبي أيضا "بانكوك الشرق الأوسط" وهو ما تجده في أي دليل سياحي عصري- حيث توجد فيها آلاف العاهرات الروسيات والأمريكيات والهنديات والإيرانيات الللاتي تتحكم فيهن العديد من العصابات والمافيا العابرة للقومية. وتمثل الفتيات الروسيات في البارات الواجهة الفاتنة لتجارة الجنس الشريرة التي تقوم على الخطف والعبودية والعنف السادي. وبالطبع ينكر آل مكتوم ونظامه العصري بكل ما تحمل الكلمة من معان أي تواطآ مع تلك الصناعة الحمراء المزدهرة، وذلك بالرغم من علم المسئولين بضرورية وجود العاهرات لضمان امتلاء الفنادق الخمس نجوم برجال الأعمال الأوربيين والعرب.  [43] وعندما يمتدح المغتربون "انفتاح" دبي الفريد فعادة ما يمتدحون حرية معاقرة الخمر والانغماس في الملذات الحسية لا القدرة على تنظيم اتحادات أو نشر أراء نقدية.

أغلبية غير مرئية مرتبطة بعقود مؤقتة
لقد حققت دبي والإمارات المجاورة لها قمة حرمان العمال من حقوقهم. ففي دولة لم تقر إلغاء العبودية إلا في 1963، تعتبر الاتحادات التجارية وأغلب الاعتصامات وأعمال التهييج غير قانونية وتشكل العمالة من غير المواطنين التي يمكن ترحيلها على الفور 99% من القوى العاملة في القطاع الخاص. ولا شك أن كبار المفكرين في معهد المشروع الأمريكي ومعهد كاتو سال لعابهم عند تأملهم لنظام الطبقات والحقوق في دبي. 

ولا شك في تربع أسرة آل مكتوم وأبناء عمومتهم الذين يمتلكون كل ذرة رملاً مربحة في المشيخة على رأس الهرم الاجتماعي. ويليهم السكان الأصليين الذين يشكلون 15% من السكان (وينحدر العديد منهم من أصول تتحدث العربية من جنوب إيران) وهم طبقة من الأثرياء وزيهم الدال على تميزهم هو الدشداش الأبيض التقليدي. وتتمثل مكافأتهم على ولائهم للسلالة المالكة في تحويل الدخل ومجانية التعليم والحصول على منازل مدعومة ووظائف حكومية. وفي المرتبة التالية يأتي التجار المدللين حيث يوجد ما يزيد عن 100 ألف مغترب بريطاني (ويمتلك 100 ألف آخرون من مواطني المملكة المتحدة منازل ثانية أو مجمعات سكنية مشتركة في دبي) بالإضافة إلى غيرهم من المديرين والمحترفين الأوربيين واللبنانيين والإيرانيين والهنود والذين يستغلون ما يحصلون عليه من ترف وإجازة لمدة شهرين كل علم يقضونها في الخارج. ويشكل البريطانيون بقيادة ديفيد بيكهام (الذي يمتلك شاطئاً) ورود استيورد (الذي يمتلك جزيرة) أكبر مشجعي جنة آل مكتوم ويعيش العديد منهم مترفين في عالم اجتماعي يعيد للأذهان ما فقد من روعة شرب الجين وتناول المنشطات في رافلز والانغماس في الملذات الحسية في أكواخ سميلا. إن دبي خبيرة في تلبية رغبات الحنين إلى الماضي الاستعماري. [44]

وتعتبر المدينة-الدولة صورة مصغرة من الهند إبان الاستعمار الهندي من ناحية أهم وأسوء. وتتمثل الأغلبية العظمى من السكان في العمال القادمين من جنوب أسيا بموجب عقود عمل وهم ملتزمون قانونياً بالعمل لدى رب عمل واحد ويخضعون لضوابط اجتماعية استبدادية. ويعيش عدد هائل من الخادمات الفلبينيات السريلانكيات والهنديات في ترف دبي، في حين يقوم ازدهار صناعة البناء (التي يعمل فيها ربع القوى العاملة) على أكتاف جيش من الباكستانيين والهنود الذين يحصلون على أجور هزيلة. ويأتي أغلبهم من ولاية كيرالا ويعملون في ورديات تستمر 12 ساعة لمدة ستة أيام ونصف أسبوعياً في حرارة لصحراء التي تذيب حتى الأسفلت.

وتستخف دبي بلوائح العمل الخاصة بمنظمة العمل الدولية ورفضت تبنى اتفاقية العمال المهاجرين الدولية، شأنها في هذا شأن جيرانها. وقد اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش (مراقبة حقوق الإنسان)  في 2003 الإمارات ببناء الازدهار على أكتاف "العمالة الجبرية". وحقيقة وكما أكدت جريدة  اندبندنت مؤخراً أن " سوق العمل يشبه كثيراً نظام العمل بعقود طويلة الأجل الذي طبقه في دبي مستعمرها البريطاني السابق". وتضيف الجريدة اللندنية قائلة إنه "كحال أجدادهم المفقرين يجبر العمال الأسيويين اليوم على توقيع عقود استعباد فعلي لسنوات عند وصولهم إلى الإمارات العربية المتحدة. وتختفي حقوقهم في المطار عندما يقوم وكلاء التوظيف بمصادرة جوازات سفرهم وتأشيرات الدخول الخاصة بهم بقصد التحكم فيهم".   [45]

وفضلاً عن ما يعاني منه عبيد دبي من استغلال صارخ- كما في فيلم ميتروبوليس من إخراج فريتز لنج- يتوقع منهم أيضا أن يكونوا مختفين عموماً  إذ يحظر على الصحافة المحلية (تحتل الصحافة في الإمارات العربية المتحدة المركز 137 في مؤشر حرية الصحافة العالمي) إيراد تقارير عن العمال المهاجرين وظروف العمل الاستغلالية والدعارة. وبالمثل يمنع العمال الأسيويين من دخول مراكز التسوق الفاخرة وملاعب الجولف الجديدة والمطاعم الراقية. [46] ولا تعتبر معسكرات العمال القاتمة الموجودة في ضواحي المدينة حيث يتكدس ست وثمان بل واثنا عشر عاملاً في غرفة غالبا بلا تكييف هواء أو دورات مياه صالحة للاستخدام جزءً من الصورة السياحية الرسمية لمدينة الترف التي لا فقر فيها ولا أحياء للفقراء.  [47] ووردت أخبار أنه أثناء زيارة مؤخرة لوزير العمل الإماراتي شعر الوزير نفسه بالصدمة بسبب الظروف الوضيعة التي تكاد لا تطاق في معسكر عمال نائي تابع لمقاول كبير. وعلى الرغم من هذا عندما حاول العمال تشكيل اتحاد والحصول على رواتب بأثر رجعي وتحسين ظروف المعيشة تم إلقاء القبض عليهم على الفور.  [48]

وقد تدير شرطة دبي ظهرها عن واردات الماس والذهب غير المشروعة وشبكات الدعارة والأشخاص المريبين الذين يشترون خمس وعشرين فيلا نقداً في نفس الوقت، ولكنها تتفانى في ترحيل العمال الباكستانيين الذين يشتكون من استيلاء المقاولين معدومي الضمير على رواتبهم بالتحايل أو اعتقال الخادمات الفلبينيات بتهمة "الزنا" عند أبلغهن عن اغتصاب أرباب العمل لهن. [49] وبقصد تجنب بركان الاضطرابات الشيعية الثائر الذي يقض مضاجع البحرين والسعودية، فقد فضلت دبي وباقي الإمارات قوة عاملة من غرب الهند وباكستان وسريلانكا وبنغلاديش ونيبال والفلبين. ولكن العمال الأسيويين أصبحوا أغلبية مضطربة على نحو متزايد، ولذا غيرت الإمارات العربية المتحدة اتجاهها وتبنت "سياسة التنوع الثقافي" ويوضح أحد المقاولين قائلاً "لقد طلب منا عدم توظيف المزيد من الأسيويين". وتهدف هذه السياسة إلى إحكام السيطرة على القوة العاملة من خلال إضعاف التركيزات الوطنية بمزيد من العمال العرب.  [50]

إلا إن التمييز الذي يمارس ضد الأسيويين أدى إلى عدم توظيف العديد من العرب الراغبين في العمل في مقابل الأجور المنخفضة (100-150 دولار شهرياً) التي تدفع لعمال البناء في مقابل تلبية المطالب النهمة للمشروعات الهائلة التي تشق عنان السماء ولا تزال قيد التنفيذ. [51] وحقيقة أن الطفرة المعمارية وما لها من سجل سلامة مروع وتجاهل صارخ "لحقوق العمال الأساسية" قد احتضنت أول عصيان للعمال في دبي. ففي عام 2004 فقط قدرت منظمة هيومن رايتس وتش مقتل حوالي 880 من عمال البناء أثناء عملهم مع عدم إبلاغ أرباب العمل عن أغلب الحوادث المسببة للوفاة أو تغطية الحكومة عليها.  [52] وفي الوقت نفسه لم تضمن شركات المقاولات العملاقة والمقاولين من الباطن التابعين لها الحد الأدنى من المرافق الصحية أو ما يكفي من موارد المياه التي يمكن حملها في معسكرات العمال الصحراوية النائية. ويشعر العمال بالغضب أيضا إزاء فترات الانتقال الطويلة من مواقع العمل وإليها والاستبداد البسيط الذي يمارسه المشرفون (غالباً بدافع تحيز عرقي أو ديني) وجواسيس الشركة وحرسها الموجدين في معسكراتهم وما لعقود عملهم من عبودية الدين وفشل الحكومة في محاكمة المقاولين المدينين الذين يغادرون دبي أو يعلنون إفلاسهم دون سداد الأجور. [53] وكما جاء في حديث عامل من كيرالا يشعر بالمرارة إلى نيويورك تايمز حيث قال "أود أن يلاحظ الأغنياء من يبني تلك الأبراج. أود لو أنهم يعرفون مدى بؤس هذه الحياة".  [54]

ووقعت أول مظاهر الاضطراب في خريف 2004 عندما تحرك الآلاف من العمال الأسيويين بشجاعة في مسيرة عبر طريق الشيخ زايد السريع المكون من ثماني حارات متجهين إلى وزارة العمل، وقد تصدت لهم شرطة مكافحة الشغب والمسئولون مهددين بترحيل جماعي. [55] واستمرت مظاهرات واعتصامات أصغر على مدار عام 2005، مستمدة الإلهام من انتفاضة كبيرة للعمال من بنغلاديش في الكويت أثناء الربيع. وفي سبتمبر تظاهر ما يقدر بحوالي 7000 عامل لمدة ثلاث ساعات وهي أكبر مظاهرة في تاريخ دبي. وفي 22 مارس 2006 تسبب رجال الأمن المستأسدين في إشعال فتيل أعمال شغب في موقع برج دبي.

فبعد انتهاء وردية العمل كان ما يقرب من 2500 عاملٍ منهكٍ ينتظرون الحافلات التي تنقلهم إلى معسكراتهم في الصحراء والتي طال تأخرها وعندها بدأ الحراس في مضايقتهم. وتكالب العمال الغاضبون وأغلبهم من الهنود المسلمين على الحراس وضربوهم وقاموا بالتعدي على مقرات الشركة وإحراق سياراتها الشركة ونهب المكاتب وتحطيم أجهزة الكمبيوتر وتمزيق الملفات. وفي الصباح التالي تحدى جيش العمال قوات الشرطة أن تعود إلى الموقع ورفضوا العمل إلى أن ترفع شركة النابودة لاينج أوروك ومقرها دبي الأجور وتحسن ظروف العمل. وانضم إلى هذا الاعتصام غير القانوني الآلاف من عمال البناء العاملين في صالة وصول جديدة بالمطار. وعلى الرغم من أن بعض التنازلات البسيطة والتهديدات الوحشية أجبرت العاملين على العودة إلى العمل في برج دبي والمطار، استمرت المظلمة الأساسية في إدماء هؤلاء العمال. وفي يوليو قام مئات العمال العاملين في مشروع المزارع العربية على طريق الإمارات بأعمال شغب احتجاجاً على ما يعاني منه معسكرهم من نقص مزمن للمياه المستخدمة في الطهي والاستحمام. وعقد عمال آخرون اجتماعات اتحاد سرية ووردت أنباء عن تهديداتهم بالاعتصام خارج الفنادق ومراكز التسوق.  [56]

وربما يتردد صدى صوت العمال الغاضب بقوة أكبر في صحراء الإمارات العربية المتحدة مقارنة بأي مكان أخر. وباختصار تستفيد دبي من العمالة الرخيصة قدر استفادتها من النفط الغالي وأسرة آل مكتوم - كأبناء عمومتهم في الإمارات الأخرى- تدرك تماماً أنها تحكم مملكة شيدت على أكتاف قوة عاملة من جنوب أسيا.ولقد تم استثمار الكثير في إظهار صورة دبي كجنة رأس المال الهادئة لدرجة أن حتى أبسط الاضطرابات يمكن أن يكون لها آثار مبالغ فيها على ثقة المستثمرين. وبالتالي تدرس دبي حالياً مجموعة متنوعة من الردود على اضطرابات العمال تتراوح من الطرد والاعتقال الجماعي إلى منح محدود لحق التفاوض الجماعي. ولكن أي تساهل مع التظاهر يهدد بوجود مطالب مستقبلية لا تتوقف عند اتحادات فقط بل تتخطها إلى المواطنة وبهذا تهدد الأسس الاستبدادية التي يقوم عليها حكم آل مكتوم. ولا ترغب أي من الأطراف المهتمة بدبي سواء الأسطول الأمريكي أو المليارديرات السعوديون أو المغتربون الباحثون عن المرح- في رؤية ظهور اتحاد عمالية في الصحراء. 

ويحب آل مكتوم الذي يعتقد في أنه رسول الحداثة إبهار الزوار بالأمثال الذكية والأقوال المأثورة الطنانة. ومن أقوال المفضلة مقولة "من لا يحاول تغيير المستقبل يبقى أسيراً للماضي". [57] إلا إن المستقبل الذي يبنيه في دبي الذي يحظى بترحيب المليارديرات والشركات العابرة للقومية- لا يشبه إلا كابوس الماضي أنه التقاء ألبرت سبير بديزني على سواحل شبه الجزيرة العربية.

ترد نسخة من هذا المقال في كتاب لميك دايفس ودانيال مونك تحت عنوان "جنة الشر: عالم أحلام الليبرالية الجديدة". يصدر هذا الكتاب عن دار نشر نيو برس في عام 2007. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Business Week, 13 March 2006.
[2] 'Dubai overtakes Las Vegas as world's hotel capital', Travel Weekly, 3 May 2005.
[3] 'Ski in the Desert?', Observer, 20 November 2005; Hydropolis: Project Description, Dubai, August 2003,
www.conway.com.
[4] See the Mena Report 2005, at www.menareport.com.
[5] As a Dubai tourist official once complained to an American journalist about Egypt: 'They have the pyramids and they do nothing with them. Can you imagine what we'd do with the pyramids?' Lee Smith, 'The Road to Tech Mecca', Wired Magazine, July 2004. [6] Official Dubailand faqs (from the marketing department). 'It's as if a list of all known human pastimes have been collected on PowerPoint slides and then casually voted on by a show of hands.' Ian Parker, 'The Mirage', The New Yorker, 17 October 2005.
[7] Parker, 'Mirage'.
[8] The Maktoums also own Madame Tussaud's in London, the Helmsley Building and the Essex House in Manhattan, thousands of apartments in the Sunbelt states, enormous ranches in Kentucky and what the New York Times describes as a 'significant stake in DaimlerChrysler'. See 'Royal Family of Dubai Pays $1.1 Billion for 2 Pieces of New York Skyline', 10 November 2005.
[9] Saudi Arabia's 'King Abdullah Economic City'-a projected $30 billion development on the Red Sea-will in fact be a satellite of Dubai, built by Emaar, the giant real-estate company owned by the Maktoum dynasty. See 'opec Nations Temper the Extravagance', New York Times, 1 February 2006.
[10] Rowan Moore, 'Vertigo: the strange new world of the contemporary city', in Moore, ed., Vertigo, Corte Madera, ca 1999.
[11] 'Emirate rebrands itself as a global melting pot', Financial Times, 12 July 2005.
[12] George Katodrytis, 'Metropolitan Dubai and the Rise of Architectural Fantasy' Bidoun, no. 4, Spring 2005.
[13] 'In China, To Get Rich Is Glorious', Business Week, 6 February 2006.
[14] Baruch Knei-Paz, The Social and Political Thought of Leon Trotsky, Oxford 1978, p. 91.
[15] 'Oil Producers Gain Global Clout from Big Windfa` ll', wsj, 4 October 2005.
[16] Joseph Kechichian, 'Sociopolitical Origins of Emirati Leaders', in Kechichian, ed., A Century in Thirty Years: Shaykh Zayed and the uae, Washington dc 2000, p. 54.
[17] Jack Lyne, 'Disney Does the Desert?', 17 November 2003, online at The Site Selection.
[18] Michael Pacione, 'City Profile: Dubai', Cities, vol. 22, no. 3, 2005, pp. 259-60.
[19] 'Young Iranians Follow Dreams to Dubai', New York Times, 4 December 2005. There is also a dramatic recent influx of wealthy Iranian-Americans and 'some Dubai streets are beginning to resemble parts of Los Angeles'.
[20] wsj, 2 March 2006.
[21] Gilbert King, The Most Dangerous Man in the World: Dawood Ibrahim, New York, ny 2004, p. 78; Douglas Farah, 'Al Qaeda's Gold: Following Trail to Dubai', Washington Post, 18 February 2002; and Sean Foley, 'What Wealth Cannot Buy: uae Security at the Turn of the 21st Century', in Barry Rubin, ed., Crises in the Contemporary Persian Gulf, London 2002, pp. 51-2.
[22] Steve Coll, Ghost Wars, New York 2004, p. 449.
[23] Suketu Mehta, Maximum City: Bombay Lost and Found, New York 2004, p. 135.
[24] S. Hussain Zaidi, Black Friday: The True Story of the Bombay Bomb Blasts, Delhi 2002, pp. 25-7 and 41-4.
[25] See 'Dubai's Cooperation with the War on Terrorism Called into Question', Transnational Threats Update, Centre for Strategic and International Studies, February 2003, pp. 2-3; and 'Bin Laden's operatives still using freewheeling Dubai', usa Today, 2 September 2004.
[26] Ira Chernus, 'Dubai: Home Base for Cold War', 13 March 2006, Common Dreams News Centre.
[27] Pratap Chatterjee, 'Ports of Profit: Dubai Does Brisk War Business', 25 February 2006, Common Dreams News Centre.
[28] Edward Chancellor, 'Seven Pillars of Folly', wsj, 8 March 2006; on Saudi repatriations, ame Info, 20 March 2005.
[29] ame Info, 9 June 2005.
[30] Chancellor, 'Seven Pillars'.
[31] Stanley Reed, 'The New Middle East Bonanza', Business Week, 13 March 2006.
[32] Lyne, 'Disney Does the Desert?'.
[33] Viewed from space, 1060 Water Homes at The Palm, Jebel Ali, will read: 'Take wisdom from the wise people. Not everyone who rides is a jockey.'
[34] Peter Coy, 'Oil Pricing', Business Week, 13 March 2006.
[35] Tarek Atia, 'Everybody's a Winner', Al-Ahram Weekly, 9 February 2005.
[36] William Wallis, 'Big Business: Intense rivalry among the lieutenants', Financial Times, 12 July 2005.
[37] Hari Sreenivasan, 'Dubai: Build It and They Will Come', abc News, 8 February 2005.
[38] Pacione, 'City Profile: Dubai', p. 257.
[39] Smith, 'The Road to Tech Mecca'; Stanley Reed, 'A Bourse is Born in Dubai', Business Week, 3 October 2005; and Roula Khalaf, 'Stock Exchanges: Chance to tap into a vast pool of capital', Financial Times, 12 July 2005.
[40] Khalaf, 'Stock Exchanges'.
[41] William McSheehy, 'Financial centre: A three-way race for supremacy', Financial Times, 12 July 2005.
[42] 'A Short History of Dubai Property', ame Info, August 2004.
[43] Lonely Planet, Dubai: City Guide, London 2004, p. 9; and William Ridgeway, 'Dubai, Dubai-The Scandal and the Vice', Social Affairs Unit, 4 April 2005.
[44] William Wallis, 'Demographics: Locals swamped by a new breed of resident', Financial Times, 12 July 2005.
[45] Nick Meo, 'How Dubai, playground of business men and warlords, is built by Asian wage slaves', Independent, 1 March 2005.
[46] Meo, 'How Dubai'.
[47] Lucy Williamson, 'Migrants' Woes in Dubai Worker Camps', bbc News, 10 February 2005.
[48] See account posted on 15 February 2005, at secretdubai.blogspot.com.
[49] On the jailing of rape victims, see Asia Pacific Mission for Migrants, News Digest, September 2003.
[50] Meena Janardhan, 'Welcome mat shrinking for Asian workers in uae', Inter Press Service, 2003.
[51] See Ray Jureidini, Migrant Workers and Xenophobia in the Middle East, un Research Institute for Social Development, Identities, Conflict and Cohesion: Programme Paper No. 2, Geneva, December 2003.
[52] 'uae: Abuse of Migrant Workers', Human Rights Watch, 30 March 2006.
[53] Anthony Shadid, 'In uae, Tales of Paradise Lost', Washington Post, 12 April 2006.
[54] Hassan Fattah, 'In Dubai, an Outcry from Asians for Workplace Rights', New York Times, 26 March 2006.
[55] Julia Wheeler, 'Workers' safety queried in Dubai', bbc News, 27 September 2004.
[56] Fattah, 'In Dubai'; Dan McDougall, 'Tourists become targets as Dubai's workers take revolt to the beaches', Observer, 9 April 2006; and 'Rioting in Dubai Labour Camp', Arab News, 4 July 2006.
[57] Quoted in Lyne, 'Disney Does the Desert?'