يتناول الباحث الفلسطيني هنا متغيرات الوضع فيما يتعلق بصورة دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وصورة الشعب الفلسطيني المقاوم لدى الرأي العام الدولي على عدد من المحاور التي تكشف عن أن الغرب، داعم المشروع الصهيوني تاريخيا، بدأ يكتشف حقيقة هذا المشروع البشعة بعد أحداث «أسطول الحرية».

إسرائيل تخسر من جديد «صورة الضحية»!

هيثم محمد أبوالغزلان

تمسُّ قضية الإعلام في إسرائيل ديمقراطية الدولة والأمن في آن واحد، ويقول عنها الدكتور أمل جمال أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب في كتابه "الصحافة والإعلام في إسرائيل: بين تعددية البنية المؤسساتية وهيمنة الخطاب القومي" إنها "من القضايا الحساسة التي يهتم بها الإسرائيليون كثيراً، خاصة وأنها من التحولات الديناميكية التي تعصف بالإعلام الإسرائيلي نحو الخصخصة المطلقة التي تبحث عن النجومية في إطار الفهم القومي والأمني الذي تقتضيه القوانين المسيطرة. ويعكس هذا التحول سقوط نماذج فرن الصهر الثقافي في الدولة العبرية، وتصاعد هيمنة رأس المال الذي يرى في الإعلام مصدر ربح، يمكنه من استغلال الدمج بين الأيديولوجية القومية التعبوية من جهة، وبين الثقافة الترفيهية من جهة أخرى، من أجل تعميق تحكُّمه في آليات سوق الاستهلاك الإعلامي، وضمان الانصياع السياسي في الوقت نفسه".

وتمثل ذلك في الترويج لمقولة الفيلسوف الصهيوني يسرائيل زنجفيل القائلة بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهذا التأطير البسيط لقضية الشعب اليهودي ولإعطائه الحق على أرض فلسطين هو المثل الأوضح لإبراز أهمية نظرية التأطير الإعلامي كنظرية مرافقة لنظرية إسرائيل في السنوات الأخيرة من أجل فحص مدى تأثير الإعلام على تحديد الأجندة الجماهيرية للمجتمع الإسرائيلي. وبحسب استطلاع لمركز هرتسوغ للإعلام والمجتمع والسياسة، نقله جمال في كتابه السالف الذكر، فإن (40%) من الإسرائيليين يقرؤون صحيفة يومية بشكل يومي، و(15%) فقط لا يقرؤون صحيفة بتاتا، مما يدلل على أن فئة واسعة من المجتمع الإسرائيلي تقرأ الصحف اليومية. وأشار الاستطلاع إلى أن (65%) من الإسرائيليين يشاهدون الأخبار في التلفزيون بشكل يومي و(40%) يستمعون الأخبار في الإذاعة عدة مرات في اليوم. ومن غير المبالغة في القول، فإن قدرة الإعلاميين الإسرائيليين على قلب الحقائق وتسويق الأوهام على أنها مسلمات بطريقة فائقة تجعل الشخص غير الملم بحقيقة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ينحاز إلى الرؤية ووجهة النظر الإسرائيلية، وبالتالي يقع في الشرك الذي رسمه القائم بالاتصال. قدرتهم هذه على قلب الحقائق وإدارة الحرب الإعلامية لا نفاخر بها، لأنهم إعلاميون إسرائيليون، بل لأنهم عرفوا حقيقة الإعلام والدور الذي يمكن أن يقوموا به في رسم الخطة التي من خلالها تنفيذ سياسات القادة في هذا الكيان، بينما نحن ما زلنا نبحث عن تلك الأشلاء محاولين تركيبها بحسب ما يناسب توجهنا الحزبي أو القومي العرقي.(1)

 

أيُّ صورة

سعت إسرائيل دائماً إلى أن تكون صورة الضحية ملتصقة بها. وحاربت من أجل أن تبقى هذه الصورة واضحة وواصمة في الوقت ذاته الآخرين المخالفين باللاسامية.. ومن أبرز سمات المشروع الاستيطاني الصهيوني أنه ولد وتطور كبؤرة دائمة لتوليد النزاعات والحروب. فإسرائيل لا تعترف بحدود ثابتة لها، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد في دستورها تعريف واضح بحدودها الإقليمية والدولية. وتحظى بدعم أمريكي واضح لكافة جرائمها ومجازرها البشعة المرتكبة ضد الفلسطينيين والعرب. والواقع يثبت بشكل ملموس أن الدبلوماسية الأمريكية تسعى دائماً لامتصاص ردود الفعل العربية عبر بيانات تدعو إلى ضبط النفس والتعقل.  وكانت إسرائيل بما تمتلك من وسائل إعلامية وتأثير على وسائل الإعلام دائماً تعمل على إظهار صورة الفلسطيني على أنه "إرهابي" و "قاتل". وانقلبت هذه الصورة فأصبحت صورة إسرائيل الضحية غير مقبولة. وباتت تزاحم صورة القتل الإسرائيلية بإظهار هذا الإجرام الإسرائيلي بوجهه البشع الواقعي. ولعل الصور الأولى من العدوان الإسرائيلي على غزة (2008- 2009)، وما قبلها وما تلاها من مجازر بشعة بحق الفلسطينيين قد أظهرت ما تمتعت به آلة القتل الإسرائيلية من تلذذ بقتل الأبرياء والعزل من المدنيين.

وما الحصار الظالم المفروض على أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة منذ أربع سنوات، إلا دليلا على هذه الحرب لاخضاع الفلسطيني و"كي وعيه"، وجعله يستسلم للشروط الإسرائيلية.. وهذا الحصار لم بفت من عضد الفلسطينيين الذين صمدوا وقاوموا وانتصروا ضد العدوان، وظلوا صامدين، واستطاعوا بصبرهم وصمودهم أن يجعلوا العالم كله متضامناً معهم، وإن كان ذلك بمستويات مختلفة. وما حصل مع "أسطول الحرية" في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط، والذي ضم ناشطين دوليين من الدول العربية والإسلامية والأوروبية، من بينهم نواباً أوروبيين وسياسيين وشخصيات بارزة، فمنذ الإعلان عن تسيير القافلة، هددت إسرائيل بعدم السماح لمجموعة السفن بالوصول إلى ميناء غزة وأن البحرية الإسرائيلية أجرت تدريبات مكثفة وموسعة للتصدي للسفن وأنها أعدت معسكرات لاعتقال الناشطين فور وصولهم‏، ولكن هذه التهديدات لم تثن ‏الناشطين ليشهد العالم أجمع مجزرة دامية أقدمت إسرائيل عليها، راح ضحيتها 11 شهيداً وعشرات الجرحى من بين نحو 700 ناشط من أكثر من 40 دولة، كانت تقلهم سفن (أسطول الحرية) في طريقها إلى قطاع غزة، لفك الحصار، وتقديم 10 آلاف طن من المساعدات الإنسانية إليهم.

وظهرت إسرائيل بمهاجمتها لهذه القافلة بصورة منمطة من صور إرهاب الدولة‏، وأكثرها انتهاكاً لأبسط معايير حقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني ولأبسط قواعد الأعراف الدولية والإنسانية ولشرائع الأديان السماوية وغير السماوية‏، وقيم المجتمع الإنساني‏. وصدر بيان هزيل فاشل عن مجلس الأمن الدولي، ودفاع مستميت من السيد "جون بايدن" نائب الرئيس الأمريكي، وتصريحات خجولة صدرت عن الرئيس أوباما، وبعض رؤساء دول أوروبا، ظلت في إطار الكلام العبثي، لا الفعل والعقاب لدولة مارقة على القانون.

وللأسف فإن السيد "برنار كوشنير" وزير خارجية فرنسا، حاول باقتراح، قيام الاتحاد الأوروبي بدور شرطي "نيابة عن إسرائيل، وإنقاذا لها" في البحر المتوسط لتفتيش السفن المبحرة إلى غزة، "حسب المسطرة الإسرائيلية"، ويستطيع أن يضع أي مادة منقولة إلى غزة تحت بند المحظور والممنوع، ليس فقط الحديد والإسمنت، "لمنع بناء ملاجئ حماية"، ولكن من يعارض إذا فرض الحظر على القمح أو الرز أو غير ذلك؟!. وهذا يمكّن الاتحاد الأوروبي بالتعاون والتنسيق مع توجيهات وشروح وتعليمات إسرائيلية، من إخضاع أي تحرّك "إنساني" إلى غزّة للتفتيش، والسماح والمنع، سواء لغاية فكّ الحصار الجائر عنها، أو لنقل مساعدات إنسانية للشعب المحاصر المظلوم. ويقترح أيضاً أن يقوم الاتحاد الأوروبي بالإشراف على معبر رفح.!

 

صورة إسرائيل الايجابية تتحول

استطاعت إسرائيل حتى العام 1967، أن تُبقي صورتها "الإيجابية" لدى الرأي العام الغربي. فقد كان يعيش هؤلاء الشعور بالذنب إزاء المحرقة (الهولوكوست) التي كانت تلقي بظلالها بقوة على أوروبا والولايات المتحدة، فقد كانت صورة الإسرائيليين بوصفهم ضحايا لا تزال راسخة. فقد كانت ثمة قلة وعي للجرائم والآلام التي تعرّض إليها الفلسطينيون في العام 1948، وكان ينظر إلى إسرائيل على أنها الضحية التي دافعت عن نفسها ضد الجيوش العربية التي أرادت «رميها في البحر». وجرى تصوير الإسرائيليين الأوائل في أذهان الرأي العام الغربي على أنهم مسالمون وديمقراطيون، أقاموا ديمقراطية نادرة في الشرق الأوسط، وزرعوا الصحارى وبنوا الجامعات ... الخ. علاوة على ذلك، كانت إسرائيل آنذاك في جوهرها دولة أوروبية وغربية: فقد كانت غالبية سكانها أوروبيين مثلما هو حال جميع زعمائها. وكان ينظر إلى هوية إسرائيل وخطابها السياسي على أنهما غربيان تماماً.

بيد أن حرب العام 1967 كانت نقطة تحوّل. فقد غيّر انتصار إسرائيل الصاعق صورتها على الصعيد الدولي من الضحية إلى القاهر. وبانتصارها، أصبحت إسرائيل قوة استعمارية محتلة، لا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع مرور السنين تم استبدال صورة الإسرائيلي المستضعف بصورة الجندي الإسرائيلي على ظهر دبابة يواجه المدنيين والنساء والأطفال في أرض محتلة. واستعيض عن صورة إسرائيل الديمقراطية والمجتمع الحديث، بصور حواجز التفتيش وأعمال القمع ومصادرة الأراضي والجدران الفاصلة والغارات العسكرية. صورة إسرائيل في العالم اليوم هي في مكان ما بين صربيا ميلوسيفيتش وبين جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري (أبارتايد).(2)

ولعل التساؤل هنا، لماذا مثلاً لم يتحرك العالم عندما نفذت إسرائيل مجزرتين: قانا الأولى والثانية التي أوقعت 57 شهيداً، حصيلة الأطفال منهم بلغت 32. ورغم ذلك لم يتحرك المجتمع الدولي في التنديد بإسرائيل والضغط عليها لوقف عدوانها على لبنان آنذاك، ولاذ بالصمت وكأنه بذلك يوفر تغطية واضحة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، وعجز عن التحرك في اتجاه الإدانة الحازمة وإيصال رسالة صريحة إلى إسرائيل تحذرها من عواقب سياستها على مستقبل المنطقة. وتجدر هنا الإشارة إلى أن موقف الحكومات الأوروبية لا يتماشى تماماً مع الموقف الشعبي الذي رفض منذ البداية الاعتداءات اليومية التي تعرضت لها البنية التحتية اللبنانية، مندداً في الوقت نفسه بإطلاق الصواريخ على شمال فلسطين المحتلة!!

ونجح "اسطول الحرية" في جعل العالم كله يتحرك باتجاه مأساة شعب محاصر منذ أربع سنوات. ويمكن مراجعة تصريحات مسؤولي العالم والامم المتحدة التي ركزت على ضرورة رفع الحصار مع عدم الإضرار بما أسموه "أمن إسرائيل"! واتخذت  مصر، قراراً بفتح معبر رفح، إلى أجل غير محدد، حاصرة  فتح المعبر بالعبور وبالحالات الإنسانية، ولكن دلالة هذا القرار تبدو جلية. والذي يحدث الآن، يأتي تتويجاً لتغيرات بدأت تتفاعل منذ سنوات، وتصاعدت من دون أن تعيرها إسرائيل أدنى اهتمام:

 

التغير الأول:

جاء من داخل أوروبا، حيث تظاهرت حركاتها الشعبية والمدنية، ضد موقف حكوماتها، وعبرت عن إدانة لحرب إسرائيل ضد غزة، ووجهت إليها اتهامات جرائم الحرب، وقتل المدنيين، واستعمال أسلحة محرمة. وكانت قد سبقت ذلك تحركات الأكاديميين الأوروبيين، وخاصة الأكاديميين البريطانيين، وبقيادات يهودية، تطالب بوقف التعاون الأكاديمي مع إسرائيل بسبب سياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين. ووصل الأمر في أوروبا إلى حد إصدار عشرات المفكرين والمثقفين اليهود بيانات ضد سياسة حكومة إسرائيل، ومن قبل شخصيات عرفت بدفاعها المستميت عن إسرائيل على امتداد سنوات طويلة ماضية.

التغير الثاني:

جاء من داخل إسرائيل، حيث أعلنت إسرائيل رسميا، ومنذ مؤتمر هرتسليا عام 2000، أنها تتطلع إلى ممارسة سياسة الترانسفير ضد فلسطينيي 1948، ثم ما لبثت أن رفعت، وبتشجيع واعتراف أميركي من الرئيس السابق جورج بوش، شعار «يهودية» دولة إسرائيل، وتمت ترجمة هذا الشعار أخيراً بخطوات متلاحقة ضد الفلسطينيين عامة: حصار في غزة، وإبعاد للمواطنين من وطنهم في الضفة الغربية، وتدبيج اتهامات ضد القيادات الشعبية في أراضي 1948، وتوجيه تهم التجسس والخيانة لهم، من أجل زجهم في السجون، ومن أجل ضرب حالة النهوض الشعبي الفلسطيني التي بدأت ترفع أخيراً شعارات: وحدة الشعب الفلسطيني، والانتماء إلى الأمة العربية. ودخلت هذه الحرب ضد القيادات (من الشيخ رائد صلاح إلى الدكتور عمر سعيد وأمير مخول، وقبلهم عزمي بشارة) في مسار مضحك، فحين تلتقي مع لبناني في أي مؤتمر مثلا فأنت عميل لحزب الله. وحين تلتقي مع عربي فأنت تتصل بالعدو. وحين يحتاج الأمر إلى دليل مادي يقال إن فلانا كان يسأل عن عنوان مسكن رئيس المخابرات. لقد لفتت هذه المواقف الإسرائيلية أنظار الجميع في العالم، ولم يروا فيها إلا سياسة عنصرية متعمدة، ولم تقابل من جانبهم إلا بالرفض والاستنكار.

التغير الثالث:

جاء من الولايات المتحدة الأميركية، فنشأت حالة من البرود الشديد بين الرئيس الأميركي أوباما ورئيس وزراء إسرائيل نتنياهو. لقد عارض نتنياهو سياسة أوباما التي تريد أن تعطي الأولوية لتسوية سياسية مع السلطة الفلسطينية، من أجل تقوية المواجهة الأميركية لإيران، بينما أراد نتنياهو أن يطوع السياسة الأميركية، سياسة الدولة العظمى الحامية لإسرائيل، لحساب رؤيته التي ترى ضرورة مواجهة إيران أولا، ومن دون أي اعتبار لقضية التسوية وتأثيراتها على الوضع العربي. وكان من شأن هذا الخلاف أنه حرك القيادة العسكرية الأميركية، ودفعها للتحرك، وللتصريح علنا، خلافا لما هو مألوف، بأن سياسة إسرائيل ضد التسوية مع العرب، تساهم في ازدياد قتل الجنود الأميركيين في أماكن أخرى في العالم (أفغانستان وباكستان والعراق). لقد كان لهذا الموقف العسكري الأميركي أثره في الرأي العام، ولكن عنجهية إسرائيل جعلتها عاجزة عن الالتفات إلى هذا التبدل النوعي في المواقف.(3)

 

وماذا بعد انقلاب الصورة؟!

عالج الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت، في كتاب بعنوان: "في صورة إسرائيل"، صورة إسرائيل على إثر مستجدات سنة 2000، فبعد سنة 2000 زادت إسرائيل، من جرعة اكتراثها في كل ما يرتبط بمجالي صورتها وإعلامها السياسي. ومع أن من الصعب الجزم بمسألة انعدام الاكتراث الرسمي والإعلامي بتلميع صورة إسرائيل، قبل الانتفاضة الثانية، فإن ما يجدر ملاحظته هو أن هذا الموضوع لم يحتل مرتبة متقدمة في سلم الأولويات الإسرائيلية خلال الأعوام الأولى التي أعقبت قيامها.(4) وكتب الباحث الفلسطيني د. حسن عبد الله تحت عنوان: "الإعلام العربي يتخلص من عقدة تفوق الإسرائيلي" مقالة ذكر فيها أن الإعلام العربي تخلص من عقدة تفوق الإسرائيلي. فقد كان الكثير من الإعلاميين الفلسطينيين والعرب ينظرون للإعلام الإسرائيلي بإعجاب، إستناداً إلى قدرة الإعلاميين الإسرائيليين على الوصول إلى مصدر الخبر بسرعة، إضافة إلى المعالجة المهنية، التنوع، والرؤية التحليلية، والتأثير في الرأي العام الإسرائيلي والعالمي بآليات وتقنيات مبهرة.

والسؤال، هل ظل الإعلام الإسرائيلي محافظاً على هذه المزايا؟، وهل الإعجاب بقدرات الإعلام الإسرائيلي ظل على حاله؟ الجواب كلا، فلا الإعلام الإسرائيلي حافظ على تفوقه، ولا الإعلام العربي بقي محاصراً في شرنقته، حيث أن متغيرات سلبية وايجابية، قد شقت طريقها إلى الإعلام على المستويين العربي والإسرائيلي، وهذه المرة نستطيع القول إن الإيجابي هو من نصيب العربي.(5) مستشهداً عبد الله بأن الإعلام الإسرائيلي مضطر لتبرير سياسات وممارسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ومضطر ليأتي بروايات "خارقة" تشرح كيف أن جيشاً مدججاً بأحدث أنواع الأسلحة يحاصر ويقارع ويطارد شعباً يصر على الصمود والاستمرار في مدنه وبلداته. وقد شاهدنا بالملموس كيف أن الإعلام الإسرائيلي بات مرتبكاً في الإجتياحات والإعتداءات الإسرائيلية، أمام سرعة وحيوية الإعلام العربي، وحتى فضائية المنار رغم قصفها وتدميرها خلال العدوان على لبنان صيف 2006، كانت قادرة على أن تنهض وتنبعث من بين الرماد وتواصل سرد رواية المقاومة. الفضائيات العربية وفي مقدمتها الجزيرة والعربية، ورغم الإختلاف في أسلوب وتوجيه الفضائيتين، فقد سحبتا البساط من تحت أقدام الإعلام الإسرائيلي، وأصبحت اجتياحات المدن والتنكيل بالفلسطينيين تُنقل بالبث المباشر. ولم يحتج الفلسطينيون إلى سنوات طوال، لنفض الغبار عن روايتهم وتكذيب روايات أخرى سوقت للعالم، كما كان الحال في العام 1948.(6)

ولم تمنع التغطية الإعلامية المواكبة للجريمة الإسرائيلية بحق سفن «أسطول الحرية» من تباين وجهات النظر في الصحف الأوروبية. وبينما غلبت إدانة المجزرة والدعوة لفكّ الحصار على الصحف البريطانية، انقسمت الآراء في ألمانيا وفرنسا بين تقارير مستنكرة ومنتقدة للجريمة الإسرائيلية، وأخرى ملقية باللوم على ناشطي السلام الذي كانوا على متن السفينة، فيما عرض بعضها التقارير والأخبار بحيادية سلبية. في ألمانيا، عنونت صحيفة «دي فيلت» النخبوية أن «إسرائيل وضعت الراديكاليين في الفخ». وقالت إن «قطاع غزة الأكثر نشاطاً، دفع الصراع إلى ذروته. ولكن كان ينبغي أن يكون العمل العسكري الإسرائيلي أكثر حذراً».(7) وقالت صحيفة «دير شبيغل»، في تقريرها الذي صدر غداة المجزرة، «إن اسرائيل تحاول أن تثبت، بكل الوسائل، أن العنف خرج من ركاب السفن. لكنّ كفاحها من أجل تبرير هذا العمل الدموي كشف نقاط ضعفها». ورأى خبير شؤون الشرق الأوسط، مدير القسم العربي في «دويتشه فيلله»، راينر زوليش، أن «قيام إسرائيل بعملية عسكرية ضد نشطاء سلام دوليين يقومون بمهمة إنسانية، يلحق ضرراً بالغاً بصورتها، ليس فقط في العالم الإسلامي، ولكن أيضاً في أوروبا، حيث تلقّى الكثيرون الخبر بمزيج من الغضب والارتياع».

من جهتها، انتقدت صحيفة «فرانكفورتر روندشاو» الجيش الإسرائيلي. وقالت «لعلّ نتنياهو كسب رضى بعض ناخبيه من خلال هذه العملية. لكن قدّمت إسرائيل لأعدائها، حركة حماس وإيران على سبيل المثال، مبررات إضافية لمواقفهم المناهضة لإسرائيل والداعية إلى محاربتها». وذهبت صحيفة «تاغس» إلى القول إن ما حدث «كان هجوماً عسكرياً على سفينة مدنية في المياه الإقليمية الدولية، والمصطلح المتداول لتوصيف ذلك هو إرهاب الدولة». أما صحيفة «هامبورغر آبندبلات» فقد حوّلت أنظارها عن هذه الجريمة لتلقي باللوم على المقاومة الفلسطينية، بقولها «غاب عن ذهن منتقدي إسرائيل أن حركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، قد أطلقت أكثر من عشرة آلاف صاروخ على الأراضي الإسرائيلية»، مذكّرة بأن الحركة «تسعى إلى القضاء على وجود إسرائيل». أما موقع «اغيسشاو دي ـ إي» فحمّل الناشطين بعض المسؤولية بقوله «لو سلّم أصدقاء سكان غزة أنفسهم من دون استخدام العنف، لما فقد أناس أرواحهم».(8)

وأما لجهة أمريكا، بدأت أولى مؤشرات تراجع صورة إسرائيل في الأوساط الشعبية الأمريكية عام 2002 حينما نشرت في وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية نتائج استطلاعات للرأي تشير إلى وقوف غالبية الشعب الأمريكي (62%) موقفاً محايداً تجاه صراع الشرق الأوسط، وإلى تراجع ملحوظ في تأييد اليسار الأمريكي (22% فقط) لمساندة أمريكا لإسرائيل، وتدهور صورة إسرائيل لدى بعض فئات الشعب الأمريكي، وعلى رأسها الطلاب والأفارقة الأمريكيون. أيضاً تناولت جريدة "الأسبوع اليهودي" الأمريكية في آب/ أغسطس 2002 خسارة إسرائيل "بعض الساحات" في حرب العلاقات العامة ضد الفلسطينيين في أمريكا بسبب استمرار "العنف" في الشرق الأوسط.

وقد قام مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية "كير" بنشر تقرير يتضمن عدة تقارير صحفية واستطلاعات رأي نشرت من قبل جهات متفرقة في أمريكا، يتحدث بعضها عن اعتراف المسؤولين الإسرائيليين المتزايد بالمشكلة، وسعيهم لإعادة بناء جهود إسرائيل لتحسين صورتها لدى شعوب الدول الأجنبية بما في ذلك الشعب الأمريكي، وذلك بالتعاون مع بعض خبراء العلاقات العامة الأمريكيين المساندين لإسرائيل. فعلى سبيل المثال كشفت وكالة الأنباء اليهودية "JTA" عن انتشار شعور بأن "إسرائيل تخسر معركة التأثير على العقول والقلوب الأمريكية" في دوائر بعض قيادات المنظمات الأمريكية الموالية لإسرائيل، وقالت الوكالة: إسرائيل التي نجحت في الحفاظ على تأييد النخب السياسية الأمريكية لسياساتها باتت تواجه مشكلة في التواصل مع الشعب الأمريكي، اعترف بها المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم، وبات محتماً عليهم التعامل معها بجدية. وأشارت الوكالة إلى استطلاع أجرته منظمة مشروع إسرائيل (The Israël Project) في شهر تشرين ثاني /نوفمبر 2003 إلى ميل الأمريكيين بشكل متزايد للمساواة الأخلاقية بين الاعتداءات الإسرائيلية والفلسطينية؛ إذ رأى (45%) من الأمريكيين أن إسرائيل تتصرف بالطريقة نفسها التي يتصرف بها المقاومون الفلسطينيون، وذلك مقارنة بنسبة (39%) في شهر تموز/ يوليو من العام نفسه.

وعن أسباب تراجع قدرة إسرائيل في التأثير على عقول وقلوب الشعب الأمريكي ترى خبيرة العلاقات العامة "جانيفر لازلو مزراحي" -التي أسست في آذار /مارس 2003 منظمة "مشروع إسرائيل" لمواجهة تراجع صورة إسرائيل في الإعلام الأمريكي- أن ذلك يعود إلى عدة أسباب؛ على رأسها التغطية المكثفة للإعلام الأمريكي للانتفاضة الفلسطينية؛ مما أشعر الأمريكيين بالإرهاق من دائرة العنف التي لا تنتهي، وزاد من رغبتهم في وقوف أمريكا على الحياد، وأن إسرائيل فشلت في تنويع وتجديد رسالتها الإعلامية، وأنها كررت نفسها كثيراً بشكل جعل الإعلام الأمريكي ينظر إليها على أنها الطرف "المعتدي والقامع". وقد اعترف "داني أيلون" -سفير إسرائيل في الولايات المتحدة- في تصريح لجريدة "جروزاليم بوست" في الرابع من كانون أول/ ديسمبر 2004 بأن إسرائيل تواجه مشكلة في شرح سياساتها بالجامعات الأمريكية وفي أوساط الأفارقة الأمريكيين حيث تنشط الجماعات المساندة لفلسطين بشكل أكبر، وقال: "إسرائيل سعت لمواجهة المشكلة من خلال الاستعانة باليهود السود في القيام بزيارات توعية لجماعات الأفارقة الأمريكيين، كما نشطت السفارة الإسرائيلية في التواصل مع أعضاء الكونجرس الأفارقة الأمريكيين".(9)

 

وجهاً لوجه

صدر عن دار نشر((Puf كتاب جديد بالفرنسية، للكاتب بيير أندريه تاجييف (فيلسوف وخبير سياسي، وهو مدير أبحاث في المركز القومي للبحث العلمي بفرنسا، ومؤلف العديد من الكتب مثل: أهداف مناهضة العنصرية، والاتجاه الجديد لكراهية اليهود، ودعاة الكراهية)، وهو أحد المتعصبين لإسرائيل، ينتقد فيه دور الدعاية الإعلامية، مفترضاً أنها تشوه صورة إسرائيل منذ قتل "محمد الدرة" وحتى حرب غزة، محللاً أصول الخطاب الدعائي الجديد لأعداء إسرائيل وتطوره من 2000 إلى 2010، في محاولة منه لتفسير كيف انتشرت ما سماها الحملة الإعلامية المناهضة لليهود على مستوى العالم. واعتبر تاجييف أن "العنصرية" أصبحت منذ حرب 1967 هي الموضوع الرئيسي للاتهامات الموجهة ضد "الصهاينة"، وعلى أنطق أوسع "اليهود"، ويرى أن هناك رؤية جديدة لمعاداة اليهودية أشعلتها وسائل الدعاية في الإعلام العالمي بهدف "تجريم صورة إسرائيل" وابتكار صور وقوالب جديدة تقوم على تشبيه إسرائيل والإسرائيليين بالنازيين. ويندد تاجييف بالأبعاد العالمية التي اتخذتها هذه الحملات المعادية لليهود، والتي انعكست بعد ذلك في مؤتمر ديربان المناهض للعنصرية (31 آب - 8 أيلول2001) والتي اعتبرها تاجييف واحدة من أكثر الدلائل التي تعكس فكرته.(10)

وأجرت المؤسسة الإسرائيلية ثلاث تحقيقات في إخفاقها الإعلامي بترويج رواية الإدعاءات حول مجزرة أسطول الحرية، إذ ترى المؤسسة ومن ثم الرأي العام الإسرائيلي أن الفشل الإسرائيلي لم يكن في سقوط شهداء أتراك بل في عدم تقديم الرواية الإسرائيلية وترويجها بشكل فوري بعد حصول المجزرة، إضافة لفشل العملية العسكرية، ليس لسقوط 9 شهداء، بل بتعريض الجنود الإسرائيليين للخطر وعدم تزويدهم بالأسلحة اللازمة. وتدعي التحقيقات أن الدعاية الإسرائيلية تمكنت من معالجة الأضرار الإعلامية خلال أيام ونشر الرواية الإسرائيلية وتحميل الطرف الآخر مسؤولية جزء من الأحداث. وتوضح التحقيقات أن صورة اسرائيل في الإعلام العالمي كانت سيئة خلال الساعات الأولى بعد وقوع المجزرة، وأن الساحة الإعلامية "تركت – أهملت" لمنظمي الأسطول ولقناة الجزيرة، مدعية أن ماكينة الدعاية الاسرائيلية تعمل ببطء للتأكد من المعلومات التي ستنشرها لتحظى بثقة الرأي العام، وحفاظاً على سلامة الجنود.(11) ولجهة مخالفة هذه النتيجة التي تُوُصّل لها ولتبيان مدى محاولة إسرائيل التلاعب بالإعلام نورد ما يؤكد تضرر صورة إسرائيل الاعلامية ليس من جراء "اسطول الحرية" فقط إنما من عدوانها على غزة أيضاً. فقد أعدّت صحيفة "هآرتس" العبرية (15/1/2009)، تقريراً شاملاً حول نتائج الحرب على غزة، وعنونت التقرير بأن الحرب سببت للدولة العبرية أضرارًا كبيرة للغاية في الرأي العام العالمي وفي صفوف الدبلوماسيين العاملين في تل أبيب.

وذكرت جريدة "القدس العربي" أن "هآرتس" نقلت عن سفير لإحدى الدول الأوروبية، الذي يعتبر من أهم أصدقاء إسرائيل قوله: "إنّ العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة عملية وحشية للغاية، والإسرائيليون لا يفهمون مدى الضرر الذي ألحقته العملية بالدولة العبرية في العالم". وأكد أن الضرر الذي تسبب لإسرائيل لن يكون قصير المدى، بل سيستمر لعدة سنوات، وتساءل: "هل هذه إسرائيل التي تريدونها؟". وكتبت الصحيفة أيضاً أنّ رسالة مشابهة تلقتها الدولة العبرية عندما اجتمع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز إلى وفد من رؤساء الخارجية الأوروبيين في ديوانه بالقدس الغربية، حيث قال له الوزراء لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، ولكن ما يجري في قطاع غزة فاق كل التوقعات والحملة العسكرية الإسرائيلية غير نسبية بالمرة، ونقلت الصحيفة عن المفوضية العامة المسؤولة عن العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بينيتا فيرريرو فالندار قولها لبيريس: "سيادة الرئيس، إنّ صورتكم في العالم حطمت بشكل كبير للغاية".

وكشفت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية (20/5/2010)، عن تشكيل ما يسمى بـ"فيلق السفراء" وهم مجموعة من أعضاء الكنيست الإسرائيلي من مختلف التيارات والأحزاب الإسرائيلية،  وسيجندون أنفسهم كجيش إعلامي  لتحسين صورة (إسرائيل) في جميع أنحاء العالم. وهذا  يعني تضرر هذه الصورة بشكل كبير. فإسرائيل لم تكن تعاني في السابق من تشوه صورتها في العالم، إلا أن الأمور تغيرت بعد الحرب الأخيرة على غزة، وما أعقبها من تقرير غولدستون الذي أدانها بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية بغزة، والأصوات التي باتت تنطلق مدينة لها ومنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي اعتبرت حصار إسرائيل لقطاع غزة بمثابة خرق لاتفاقيات جنيف ودعت إلى رفعه، وتدهور العلاقات مع تركيا، والحملات الدعائية ضد (إسرائيل) في مختلف أنحاء العالم. وأوضحت "معاريف" أنه على الرغم من الجهود التي تم استثمارها في الإعلام، والكنيست ووزارة الخارجية، إلا أنهم توصلوا إلى نتيجة أن هذه الجهود لن تؤتي ثمارها بدون تحرك عملي على الأرض. وأخيراً، صورة إسرائيل اليوم لم تعد هي نفسها الصورة السابقة، بل باتت صورة الجلاد الذي يتلذذ بقتل الأطفال والمدنيين. وهذا يضع أمامنا فرصة وواجباًُ من أجل التوحد والعمل الجاد للإبقاء على هذه الصورة أمام الجميع لئلا ينسى البعض جرائمها ويدعونا للنسيان!!

 

هوامش

1- الإعلام الإسرائيلي.. الشريك الخفي لعدوان غزة، سليمان بشارات، (www.islamonline.net).

2- علاقات إسرائيل والغرب: تاريخ مضطرب، بول سالم، موقع كارنيغي للشرق الأوسط (www.carnegie-mec.org)، (13/5/2010).

3- إسرائيل في مواجهة العالم وموصومة بالعنصرية، صحيفة الشرق الأوسط، بلال الحسن، (6/6/2010).

4- "في صورة إسرائيل"، أنطوان شلحت، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، (2008).

5- الإعلام العربي يتخلص من عقدة تفوق الإسرائيلي، وكالة معا، د. حسن عبد الله، (9/6/2010).

6- المصدر السابق.

7- إسرائيل تخسر المعركة الإعلامية، صحيفة (الأخبار)، (5-6-2010).

8- المصدر السابق.

9- تحول تدريجي للرأي العام الأمريكي ضد إسرائيل، محمد جمال عرفة، موقع (www.islamonline.net)، (11/06/2005).

10- الدعاية الإعلامية ضد إسرائيل، بيير أندريه تاجييف، إعداد ديرا موريس، اليوم السابع، وللمزيد من الاطلاع (http://youm7.com/News.asp?NewsID=235025&.).

11- "إسرائيل" تجري 3 تحقيقات في فشل ماكينتها الدعائية، وكالة فلسطين اليوم، (9/6/2010).