.عادة ما تكون محاضرة الكاتب الحائز على جائزة نوبل في الآداب محاصرة فكرية أو فلسفية لكن الكاتب التركي أورهان باموك جعل محاضرته نوعا من الأمثولة الرمزية عن علاقته مع الكتابة بالمقارنة بعلاقة أبيه معها.

حقيبة أبي: نص محاضرة نوبل

أورهان باموك

من تقاليد جائزة نوبل أن يلقي الفائز بجائزة الآداب محاضرة عن رؤيته الأدبية بمناسبة تسلمه جائزة نوبل في استوكهولم ـ السويد. وكأن الكاتب هو الوحيد بين كل الفائزين (فعلاوة على الأدب هناك الطب والاقتصاد والعلوم من طبيعة وكيمياء) القادر على أن يقدم شيئا لجمهور المحتفلين بالجائزة في السويد وفي العالم من ورائها. وهو التقليد التي اتبعه الكاتب التركي أورهان باموك الفائز بالجائزة لهذا العام، في حفلة أقامتها على شرفه الأكاديمية الملكية في السويد. وألقى باموك كلمته باللغة التركية، وهي كلمة استغرقت نحو ساعة وعنوانها: «حقيبة أبي». ننشر ترجمة لمعظم ما ورد فيها لأنها تعد بمثابة وثيقة أدبية تستحق التأمل.

قبل وفاته بعامين، أعطاني أبي حقيبة صغيرة مملوءة بكتابات له ومخطوطات وقصاصات مختلفة ودفاتر. قال لي بلا مقدمات، ومتذرعاً بمزاجه المرح الساخر المألوف، بأنه يريدني أن أقرأ ما في الحقيبة بعد رحيله، ويقصد بعد موته. «إلقِ نظرة عليها فقط»، قالها وهو محرج قليلا، «لترى إن كان فيها ما ينفع، لعلك تختار منها ما يستحق النشر بعد موتي من مختارات». كنا في غرفة مكتبي، تحيط بنا الكتب. تحرك أبي داخل المكتب مرتبكا وهو يبحث عن تحديد مكان يضع فيه حقيبته، متحركا هنا وهناك. كشخص يتوق للتخلص من عبء شديد الخصوصية ومؤلم يثقل كاهله. ثم ترك الحقيبة بهدوء في ركن لا يلفت الانتباه. ما أن انقضت تلك اللحظةالمحرجة  التي لا تنسى ، حتى استعدنا معاً دورينا المألوفين وشخصيتينا المرحتين الساخرتين اللتين لا تحملان الحياة على محمل الجد كثيراً، الأمر الذي أراح كلانا. أخذنا نثرثر كالمعتاد عن الطقس، وأمور الحياة التافهة، ومشكلات تركيا السياسية التي لا تنتهي وعن شئون أبي التجارية التي كثيراً ما انتهت بالفشل، من غير أن يثير ذلك فينا الكثير من الشجن.

أتذكر أنني، بعد انصراف أبي، بقيت بضعة أيام أدور حول حقيبته من غير أن ألمسها. كنت  أعرف هذه الحقيبة الجلدية الصغيرة السوداء معرفة جيدة، منذ طفولتي، وأعرف قفلها وزواياها المدورة. فقد كان أبي يحملها معه في أسفاره القصيرة، أو عندما ينقل شيئاً من مستنداته فيها من البيت إلى مكان العمل. أتذكر هذه الحقيبة منذ أن كنت طفلا ، وحينما كان يعود أبي من رحلة ما، كنت أفتح حقيبته الصغيرة تلك، أفتش بين أشيائه ، مستمتعا بعطر الكولونيا، والبلاد الأجنبية. كانت هذه الحقيبة صديقا مألوفا له فيها. فهذه الحقيبة تذكرني بقوة بطفولتي ، بماضي، لكن الآن لم يعد يمكنني حتي لمسها. لماذا؟ من المؤكد أن ذلك كان بسبب الوطأة غير المفهومة لمحتوياته، والطريقة المحرجة التي قدمها بها أبي.

سأتحدث الآن عن وطأة هذا العبء ومعناه. إنه معنى يتخلل كل ما يفعله شخص يختلي في غرفة بنفسه، ويجلس أمام طاولة أو ينزوي في مكان ما، ليعبّر عن نفسه بالورقة والقلم، عنيت بذلك أن يكتب الأدب. نعم، فحين لمست حقيبة أبي بقيت عاجزاً عن فتحها، بل تعمدت عدم الاقتراب منها. لكنني كنت أعرف أيضا  بعض الدفاتر التي فيها، أو كان منظرها مألوفا لدي. حيث سبق ورأيت أبي وهو يكتب شيئاً ما في بعض منها. لم تكن محتويات الحقيبة، إذاً، شيئاً أحس بوطأته للمرة الأولى. كان لأبي مكتبة كبيرة ، ففي شبابه ، في نهايات الأربعينات ، أراد أن يكون شاعرا اسطنبوليا، وترجم فاليري إلي التركية، لكنه لم يرد أن يعيش تلك الحياة التي تأتي مع كتابة الشعر في بلد فقير به القليل من القراء. كان جدي لأبي رجل أعمال ثرياً, فعاش أبي حياة رخية في طفولته وسنين شبابه الأولي، ولم يشأ أن يتحمل الصعاب في سبيل الأدب، في سبيل الكتابة. لقد أحب الحياة بكل مباهجها كنت أدرك ذلك جيدا.

الهاجس الأول الذي منعني من الاقتراب من محتويات حقيبة أبي كان بالطبع خشيتي من ألا يروقني ما سأقرأه. ولأن أبي كان يعرف ذلك أيضاً، فقد احتاط للأمر وتصرف بطريقة من لا يحمل الأمر على محمل الجد. أسفت لرؤية ذلك، أنا الذي قضيت ربع قرن من حياتي في الكتابة. لكنني لم أرغب حتى بالحنق على أبي بسبب عدم حمله الأدب على محمل الجد... خشيتي الحقيقية، أو ما هربت حتى من الاعتراف به، هو احتمال أن أكتشف أن أبي كاتب جيد. هذا هو السبب الحقيقي وراء عجزي عن الاقتراب من حقيبة أبي وفتحها. وكنت، فوق ذلك، أخفي هذا السبب عن نفسي. ذلك لأنه إذا انكشفت الحقيبة عن أدب حقيقي وعظيم، سيتعيّن عليّ القبول بوجود شخص آخر داخل أبي، مختلف عنه كل الاختلاف. إنه شيء مخيف، لأنني حتى في عمري المتقدم هذا، أريد لأبي أن يبقى أبي وحسب، وليس كاتباً.

فقد شعرت، وأنا أضيف كلمة بعد كلمة على الصفحة البيضاء أمامي، والأيام والشهور والسنوات تمضي، وأنا جالس أمام طاولتي، بأنني أبني لنفسي عالماً جديداً، وأكشف عن شخص آخر في داخلي، كمن يبني جسراً أو قبةً، لبنة بعد لبنة. فحين أتحدث عن الكتابة، ما يأتي أولا لذهني ليس رواية ، أو قصيدة ، أو تراث أدبي ، بل شخص يعزل نفسه في حجرة ، يجلس إلي طاولة ، وفي توحده ، يتوجه للداخل : بين ظلال النفس ، يشيٌد عالما جديدا من الكلمات. هذا الرجل أو تلك المرأة قد يستخدم آلة طباعة ، أو يستفيد من راحة استخدام كمبيوتر ، أو يكتب بقلم علي الورق ، كما فعلت مدة 30 عاما. بينما يكتب، قد يشرب الشاي أو القهوة، قد يدخن سجائر. ومن وقت لآخر قد يقوم عن طاولته كي يلقي نظرة عبر النافذة علي الأطفال الذين يلعبون في الشارع، ولو كان محظوظا ، علي الأشجار والمنظر العام، أو يمكنه أن يحملق في حائط أسود. قد يكتب قصائد، مسرحيات، أو روايات، كما أفعل أنا. كل هذه الاختلافات تأتي بعد المهمة الأساسية ، وهي الاتجاه بصبر نحو الداخل. أن تكتب هو أن توجٌه هذه النظرة الداخلية نحو الكلمات، أن تدرس العالم الذي تتراجع إليه في ذاتك، أن تفعل ذلك بصبر، وعناد، ومتعة. بينما أجلس إلي طاولتي، لأيام، وشهو ، وسنوات ـ مضيفا ببطء كلمات جديدة في الصفحة الفارغة ـ أشعر كما لو كنت أخلق عالما جديدا، كما لو كنت أبث الحياة في ذلك الشخص الآخر داخلي، بنفس الطريقة التي قد يبني بها شخص ما جسرا أو قبة، حجرا بعد حجر. الأحجار التي نستخدمها نحن الكتٌاب هي الكلمات. بينما نحملهم بين أيدينا، مستشعرين الطرق التي تربط كل منها بالأخري، ناظرين لهم من علي بعد أحيانا، وأحيانا نكاد نداعبهم بأصابعنا أو بأطراف أقلامن ، نزنهم، نغيٌر أماكنهم، عاما بعد عام، بصبر وأمل، نخلق عوالم جديدة. إن سر الكتابة ـ في رأيي ـ ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر. يبدو لي ذلك التعبير التركي الجميل، « أن تحفر بئرا بإبرة»، وكأنه وجد ليصف عمل الكاتب. من بين الحكايات القديمة ، يروقني صبر "فرحات"، الذي يحفر بين الجبال من أجل حبيبته وأفهم ذلك. ففي روايتي «اسمي الأحمر» تحدثت عن فناني المنمنمات الفرس القدماء الذين رسموا الحصان نفسه بتفان وإخلاص، طيلة سنوات، فحفظوه عن ظهر قلب، حتى باتوا قادرين على رسم حصان جميل وعيونهم مغمضة.

لو كان للكاتب أن يحكي قصته الخاصة يحكيها ببطء، كما لو كانت قصة عن أناس آخرين لو كان له أن يستشعر مد القصة يتعالي داخله، لو كان له أن يجلس إلي طاولة ويمنح نفسه بصبر لفنه لحرفته من المؤكد أنه قد حاز قبل ذلك علي بعض الأمل. عرائس الشعر أو الملهمات اللواتي يزورن البعض بانتظام، ونادرا ما يزورن البعض الآخر، هن حوادي من يملؤهم الأمل، الواثقين من أنفسهم. فقط عندما تصبح وحدة الكاتب أشد ما تكون، حين يشتد شك الكاتب في جهوده، في أحلامه وصبواته، وفي قيمة كتاباته نفسها. حين يشعر أن قصته ليست سوي قصته هو، في لحظات مثل هذه تختار عرائس الشعر أن يكشفن له عن قصص، وصور، وأحلام ترسم ذلك العالم الذي ود أن يبنيه. لو فكرت الآن في الكتب التي خصصت حياتي كلها لها، تدهشني كثيرا تلك اللحظات التي أشعر فيها كما لو كانت الجمل، والأحلام، والصفحات التي ارتفعت بي لذري السعادة لم تأت من خيالي الخاص، وكأن قوة أخري قد عثرت عليهم ومنحتني إياهم بسخاء وأريحية.

أعرف أنني كنت بذلك أتحدث عن مهنة الكتابة، أي عن حياتي أنا. إذ يروقني أن أري نفسي كجزء من تقليد يجمع كتٌابا بصرف النظر عن مكانهم في العالم، في الشرق، أو في الغرب يفصلون أنفسهم عن المجتمع، ويغلقون أبواب غرفهم علي أنفسهم ، مع كتبهم. نقطة بداية الأدب الصادق هو الشخص الذي يعزل نفسه مع كتبه في حجرته. لكن بمجرد أن نعزل أنفسنا ، نكتشف سريعا أننا لسنا وحدنا كما تخيلنا. نحن في صحبة كلمات هؤلاء الذين أتوا قبلنا ، قصص الآخرين ، كتب الآخرين ، كلمات الآخرين ، ذلك الشيء الذي نطلق عليه اسم التقاليد والمواضعات الأدبية. أعتقد أن الأدب هو أثمن ما راكمته البشرية في مسعاها كي تفهم ذاتها. المجتمعات، والقبائل، والشعوب تصبح أكثر ذكاء وثراء وتقدما حين يعطون آذانا صاغية لكلمات كتابهم المكروبين. وكما نعرف جميعا، حرق الكتب، وإهانة الكتاب هما علامتان علي حلول أزمنة سوداء، تتسم بالسفه. لكن الأدب لم يكن أبدا مجرد شأن قومي. فالكاتب الذي يعزل نفسه في غرفة ويذهب في رحلة داخل ذاته أولا، سوف يكتشف، عبر السنين، حكم الأدب الأزلي: يتعين عليه أن يمتلك المهارة الكافية لأن يحكي حكاياته الخاصة كما لو كانت حكايات أناس آخرين، وأن يحكي قصص الآخرين، كما لو كانت قصصه الخاصة، فهذا هو الأدب.

لقد كنت خائفاً من فتح حقيبة أبي وقراءة دفاتره، لمعرفتي بأنه لم يورط نفسه أبداً في الأزمات مثلي، وبأنه يحب، ليس الوحدة، بل الأصدقاء والصالونات والجموع والمرح ومخالطة الناس. لكنني فكرت، بعد ذلك، باحتمال آخر: من المحتمل أن هذه الأفكار، أي تأملاتي عن الصبر والمعاناة، لا تعدو كونها أحكاماً مسبقة استنبطتها من تجربتي الخاصة في الحياة والكتابة. فثمة كثير من الكتّاب اللامعين ممن كتبوا وسط محيط عائلي واجتماعي ومباهج الحياة وبريقها. فضلاً عن أن أبي سبق، في فترة من فترات طفولتي، وضاق ذرعاً برتابة الحياة الأسرية، فغادرنا إلى باريس حيث ملأ دفاتر كثيرة في غرف الفنادق مثل الكثير من الكتّاب. كنت أعرف أن بعضاً من تلك الدفاتر موجود في الحقيبة، لأن أبي كان قد بدأ يحدّثني عن تلك المرحلة من حياته في السنوات القليلة التي سبقت استلامي لحقيبته. في طفولتي أيضاً كان يحدثني عن المرحلة المذكورة، لكنه كان يتكتم على هشاشته ورغبته في أن يصبح شاعراً أو كاتباً. وأزمات البحث عن ملامحه الخاصة التي راودته في غرف الفنادق. بات يحدثني، في سنواته الأخيرة، عن رؤيته لسارتر بكثرة على أرصفة باريس، وعما قرأه من كتب أو ما شاهده من أفلام بصدق وحماسة من ينقل إليك أخباراً في غاية الأهمية. لن أنسى أبداً أنني مدين جزئياً، في احترافي الكتابة، لأب كان يتحدث في البيت عن كتّاب العالم أكثر مما يتحدث عن الباشوات أو رجال الدين. ربما كان عليّ أن أقرأ دفاتر أبي وأنا أفكر بذلك، وأتذكر مدى مديونيتي لمكتبته الكبيرة. كان عليّ أن أنتبه إلى رغبة أبي ـ في الفترة التي كان يشاركنا فيها الحياة ـ في الاختلاء في غرفة وإقامة علاقة حميمة مع الأفكار والكتب، مثلي تماماً، من غير أن أهتم كثيراً بالقيمة الأدبية لما يكتب. ولكن هذا بالضبط ما كنت عاجزاً عنه. شعرت بذلك وأنا أنظر بقلق إلى الحقيبة التي تركها لي. كان أبي يضطجع أحياناً على الأريكة المنتصبة أمام مكتبته ويضع جانباً الكتاب أو المجلة اللذين يحملهما، ويغرق في أفكاره وتأملاته لبرهة طويلة، ويظهر على وجهه تعبير يختلف كل الاختلاف عما أراه في الحياة اليومية المألوفة التي تمضي في الممازحات والتعليقات الساخرة والمشاحنات الصغيرة. في عينيه نظرة من يتوغل في أعماق دخيلته. كنت أفهم من تعبير وجهه هذا، أن أبي غير مرتاح فينتابني قلق، وبخاصة في طفولتي وشبابي المبكر. اليوم، وبعد انقضاء سنوات، أعرف بأن ذلك الشعور بالضيق الذي لاحظته عند أبي، هو أحد الحوافز الأساسية التي تصنع كاتباً.

إن القدوة الكبيرة الأولى للكاتب الحر المستقل الذي يقرأ الكتب باستمتاع ويناقش أفكار غيره وهو يصغي إلى صوت ضميره فقط، ويبني أفكاره وعالمه الخاصين في حواره المتواصل مع الكتب، إنما هو مونتانييه الذي هو نقطة انطلاق الأدب الحديث. كان أبي يعيد قراءة مونتانييه المرة بعد المرة، وينصحني بقراءته. أريد أن أرى نفسي بوصفي جزءاً من التراث الأدبي للكتاب الذين ينفصلون عن الجماعة، ويختلون في غرفة مع الكتب، وقد وجدوا في كل بقاع الأرض بمشارقها ومغاربها. حيث يبدأ الأدب الحقيقي ـ بالنسبة إليّ ـ حيثما وجد أشخاص اختلوا في غرفة مع كتبهم. الكاتب الذي اختلى بكتبه في غرفة، وانطلق في البداية في رحلة داخلية، سوف يكتشف ـ مع مرور السنوات ـ القاعدة التي لا غنى عنها لجودة الأدب: الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة، كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة. ولكي ننجح في ذلك، فإننا ننطلق من حكايات الآخرين وكتبهم.

كان أبي يملك مكتبةً من ألف وخمسمئة كتاب، قادرة على تلبية ما يزيد على حاجة كاتب. ربما لم أكن قد انتهيت من قراءة كل تلك الكتب في الثانية والعشرين من عمري، لكنني كنت أعرفها جميعاً. كنت أعرف أيها مهم وأيها خفيف وسهل القراءة وأيها كلاسيكي وأيها مما لا يمكن للتراث العالمي أن يستغني عنه وأيها شاهد على التاريخ المحلي، سيطويه النسيان لكنه مسلّ، وأيها لكاتب فرنسي منحه أبي اهتماماً كبيراً. أما عن مكاني في العالم في الحياة ، كما في الأدب ، كان شعوري الأساسي هو أنني "لم أكن في المركز". في مركز العالم ، كانت ثمة حياة أكثر ثراء وأكثر تشويقا من حياتي، وفي اسطنبول بأكملها، في تركيا بأكملها، كنت خارجه. أشعر اليوم أنني أشترك في هذا الشعور مع أغلب الناس في العالم. وبنفس الطريقة، كان هناك عالم للأدب، وكان مركزه، أيضا، بعيدا جدا عني. في الواقع ما كان في ذهني هو الأدب الغربي، وليس العالمي، وكنا نحن الأتراك خارجه. كانت مكتبة أبي دليلا علي ذلك. في أحد أطرافها، كانت كتب اسطنبول أدبنا، عالمنا المحلي، بكل تفاصيله المحبوبة. وفي الطرف الآخر كانت الكتب الآتية من ذلك العالم الآخر، الأوربي، الذي لا يحمل عالمنا أي ملامح تشابه معه، وقد أعطانا عدم التشابه هذا ألما وأملا. أن تكتب، أن تقرأ.  كان مثل مغادرة عالم كي تجد عزاء في آخرية العالم الآخر، الغريب، العجائبي. شعرت بأن أبي كان يقرأ الروايات كي يهرب من حياته، ويفر نحو الغرب كما سأفعل لاحقا. كما بدا لي أن الكتب كانت في تلك الأيام أشياء نلتقطها كي نهرب من ثقافتنا، التي وجدناها ناقصة تماما. لم تكن القراءة هي الطريقة الوحيدة التي تركنا بها حيواتنا الاسطنبولية وسافرنا للغرب، فعلنا ذلك عن طريقة الكتابة أيضا. كي يملأ تلك الدفاتر، ذهب أبي لباريس، أغلق باب غرفته علي نفسه، ثم عاد بكتاباته إلي تركيا.

إن عالمي هو مزيج من عالم محلي وطني وآخر غربي. بدءاً من عقد السبعينات، بدأت بدوري أكوّن لنفسي مكتبة طموحة. لم أكن قد قررت بعد، بصورة نهائية، أن أحترف الكتابة. كنت قد بدأت أدرك بأنني لن أصبح رساماً، كما قلت ذلك في كتابي: «اسطنبول»، لكنني لم أكن أعرف بالضبط أي طريق ستتبعها حياتي. كنت من جهة أشعر في داخلي بفضول عارم نحو كل شيء، ونهم مفرط التفاؤل للقراءة والتعلم، وأحس، من جهة أخرى، بأن حياتي ستكون "منقوصة" بطريقة ما، وبأنني لن أحيا كالآخرين. كان هذا الشعور يعود جزئياً إلى فكرة الوجود بعيداً عن المركز، بالطريقة نفسها التي كنت أحس بها وأنا أنظر إلى مكتبة أبي، وجزئياً إلى الشعور بأننا نعيش في ريف العالم، وهو شعور دفعتنا اسطنبول جميعاً إلى الإحساس به في تلك السنوات. ثمة هاجس آخر من هواجس الحياة المنقوصة، يتعلق طبعاً بمعرفتي المفرطة بأنني أعيش في بلد لا يمنح مبدعيه، رسامين كانوا أو أدباء، الكثير من الاهتمام، ولا يمنحهم الكثير من الأمل. الشعور الأساسي الذي كان ينتابني، في تلك الفترة، بصدد موقعي في العالم، هو هذا الشعور بالهامشية أو الوجود خارج المركز، سواء في الأدب أو في الحياة الواقعية. كنت أدرك بوجود حياة أكثر غنى وجاذبية في مركز العالم، مقارنة بالحياة التي نعيش، وبأنني خارج تلك الحياة، ومعي في ذلك كل سكان اسطنبول وتركيا. وأفكر اليوم بأنني أتقاسم هذا الشعور مع غالبية كبيرة من سكان العالم. بالطريقة نفسها، عرفت أن ثمة أدباً عالمياً له مركز بعيد جداً عني. كان في ذهني، في الواقع، الأدب الغربي، لا الأدب العالمي. ونحن الأتراك كنا خارج هذا أيضاً. تؤكد هذه الحقيقة مكتبة أبي أيضاً. ففي جانب منها كان عالمنا المحلي ممثلاً بكتب اسطنبول وأدبها، هذا العالم الذي أحببته بكثير من تفاصيله، ولا أملك القدرة على التخلي عن حبه؛ وفي الجانب الآخر كتب عالم الغرب الذي لا يشبه في شيء عالمنا، ويمنحنا اختلافه الألم والأمل معاً. كانت الكتابة والقراءة تبدوان لي بمثابة خروج من أحد هذين العالمين، بحثاً عن العزاء في اختلاف الآخر وغرابته وخروجه على المألوف.

كنت أشعر، في بعض الأحيان، بأن أبي يقرأ الروايات في محاولة منه للهروب من العالم الذي يحيا فيه إلى الغرب، تماماً كما سأفعل أنا في ما بعد. أو أن الكتب بدت لي في تلك الفترة، كوسائل نلجأ إليها لتلافي هذا النوع من الشعور بالنقص ذي الطابع الثقافي. ليست القراءة وحدها، بل بدت الكتابة أيضاً نوعاً من السفر من استانبول إلى الغرب. سافر أبي إلى باريس، وأغلق على نفسه باب غرفته في الفندق، ليتسنى له ملء كثير من دفاتر الحقيبة، ثم عاد بما كتبه إلى تركيا. انتبهت إلى ما يسببه ذلك لي من ضيق وأنا أنظر إلى حقيبة أبي. بعد ربع قرن سلختها من عمري في غرفة أغلقتها على نفسي، لكي أبقى واقفاً على قدمي ككاتب في تركيا، بدأت أتمرد، وأنا أنظر إلى حقيبة أبي، على واقع أن الكتابة بحرية وكما تنبع من ذاتنا، هي عمل يتوجب القيام به خفية عن المجتمع والدولة والشعب. وربما لهذا السبب، بصورة خاصة، شعرت بالحنق على أبي، لأنه لم يحمل الكتابة على محمل الجد بقدر ما فعلت. الواقع أنني شعرت بالحنق عليه لأنه لم يعش حياة كحياتي، ولم يجازف بأصغر صدام من أجل أي شيء كان، وعاش بسعادة في قلب المجتمع وهو يضحك مع أصدقائه وأحبائه. لكنني أدركت، من جهة أخرى، بأن كلمة «الحسد» هي أكثر تعبيراً عن مشاعري من كلمة «الحنق»، وهذا ما سبب لي ضيقاً أكثر.

بينما أحملق في حقيبة والدي، بدا لي أن في تلك الحقيبة ما يثير داخلي ذلك الشعور باللاطمأنينة. بعد أن عملت في غرفة مدة 25 عاما كي أستمر في الحياة ككاتب في تركيا، أحنقني أن أري أبي يخبئ أفكاره الذاتية داخل حقيبة، أن يتصرف كما لو كانت الكتابة عملا يجب أن نفعله في الخفاء، بعيدا عن عيون المجتمع، والدولة، والناس. ربما هذا هو السبب الأساسي الذي شعرت بسببه بالغضب من والدي لأنه لم يأخذ الأدب علي نفس القدر من الجدية التي أعطيتها له

في الحقيقة كنت غاضبا من أبي لأنه لم يعش حياة مثل حياتي، لأنه لم يتعارك أبدا مع حياته، وقضاها سعيدا، ضاحكا بين أصدقائه وأحبابه. لكن جزءا مني كان يعرف أن باستطاعتي القول أنني لم أكن "غاضبا" بقدر ما كنت "غيورا" . إن الكلمة الأخيرة كانت أكثر دقة، وأن هذا، أيضا، أثار قلقي. يحدث هذا حين أسأل نفسي ، بصوتي الغاضب ، المستهزئ ، كما العادة: "ما هي السعادة؟" هل السعادة هي أن أفكر أنني عشت حياة عميقة في وحدة تلك الغرفة؟ أم أنها تكمن في أن تعيش حياة مريحة في المجتمع؟ مؤمنا بالأشياء نفسها التي يؤمن بها الجميع، أو في التظاهر بذلك؟ هل من السعادة، أو نقيضها، أن تمر بالحياة وأنت تكتب في الخفاء؟ بينما تبدو ظاهريا منسجما مع كل ما يحيط بك؟ لكن هذه أسئلة ناتجة ـ بوضوح ـ عن حالة مزاجية سيئة. من أين أتيت بتلك الفكرة القائلة بأن مقياس الحياة الجيدة هو السعادة؟ الناس، الجرائد، الجميع، يتصرفون كما لو كان مقياس الحياة الأهم هو السعادة. ألا يوحي هذا وحده أنه ربما كان من الجدير بالفعل محاولة تحديد إن كان النقيض التام هو الصحيح؟ فعلي أي حال، لقد فر والدي من عائلته مرات عديدة. إلى أي حد عرفته؟ ولأي درجة يمكنني القول أنني فهمت لاطمأنينته؟

هذا إذن ما كان يعتمل داخلي حين فتحت حقيبة أبي للمرة الأولي. هل كان لأبي سر ما، تعاسة ما لم أعرف عنها شيئا، شيء لم يستطع احتماله سوي بالتخلص منه بالكتابة؟ بمجرد أن فتحت الحقيبة، تذكرت رائحة السفر التي تميٌزها، تعرفت علي عدة دفاتر. وأدركت أن أبي كان قد أراني بعضها منذ سنوات. لكن بدون أن نقضي وقتا طويلا في ذلك. معظم الدفاتر التي كانت قد أصبحت بين يدي الآن ملأها حين تركنا وذهب، كشاب، لباريس. وفي حين أنني، ككتٌاب كثيرين أحببت كتٌاب قرأت سيرهم وددت لو أعرف ما الذي كتبه أبي، وكيف كان يفكر حين كان في سني. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا كي أدرك أنني لن أجد شيئا من هذا هنا. الأمر الذي أثار هواجسي وأقلقني أكثر من أي أمر آخر، كان حين أصادف، هنا وهناك في دفاتر أبي، صوتا يشبه الصوت الذي يتخذه الكتٌاب. ليس هذا صوت أبي، أخبرت نفسي. لم يكن أصيلا، أو علي الأقل لا ينتمي للشخص الذي عرفته كأبي. تحت خوفي من أن أبي لم يكن أبي حين يكتب، كان يوجد خوف أعمق: الخوف من ألا أكون أصيلا داخلي، من ألا أجد شيئا ذا قيمة في كتابات أبي، زاد ذلك خوفي من أن أكتشف أن أبي تأثر أكثر من اللازم بكتاب آخرين، ذلك الخوف الذي رمي بي في هوة يأس استولي عليٌّ تماما حين كنت صغيرا، واضعا حياتي، كينونتي، رغبتي في الكتابة، وعملي موضع التساؤل. خلال العشر سنوات الأولي من حياتي ككاتب، شعرت بشدة بهذه الهواجس، وحتي بينما كنت أدفعها عني ، كنت أحيانا ما أخشي أنه ، يوما ما ، سوف يتعين عليٌّ الاعتراف بالهزيمة كما فعلت مع الرسم، ومسلما لذلك الشعور باللاطمأنينة، أتوقف عن كتابة الرواية، أيضا.

بهذه الأفكار سرت نحو الحقيبة ـ التي لم تكن قد راوحت المكان الذي تركها أبي فيه ـ مستعينا بكل قوة إرادتي، تصفحت بعض المخطوطات والدفاتر. ما الذي كتب عنه أبي؟ أتذكر بعض المناظر من نوافذ فنادق باريسية، بعض القصائد، تناقضات، تحليلات. بينما أكتب يداخلني شعور شخص خرج توا من حادثة سير، ويجاهد كي يتذكر كيف حدثت، بينما يخاف في نفس الوقت عاقبة تذكٌر ما هو أكثر من اللازم. حين كنت طفلا، وأبي وأمي علي وشك العراك ـ حين يهويان إلي قاع واحدة من فترات صمت مميتة ـ كان أبي يدير علي الفور مؤشر الراديو، كي يغيٌر الجو، فالموسيقي كانت تساعدنا علي نسيان كل شيء أسرع

دعوني أغيٌر الجو بقليل من الكلمات العذبة، التي أرجو أن تؤدي عمل الموسيقى.  كما تعرفون، السؤال الذي كثيرا ما يوجٌه لنا نحن الكتاب، السؤال المفض ، هو: لماذا نكتب؟ أكتب لأن عندي احتياج داخلي للكتابة! أكتب لأنني لا أستطيع القيام بأي عمل آخر مما يفعله الناس. أكتب لأنني أريد قراءة كتب مثل التي أكتبها. أكتب لأنني غاضب منكم كلكم ، غاضب من الجميع. أكتب لأنني أحب الجلوس في غرفة طيلة اليوم أكتب. أكتب لأنني لا يمكنني المشاركة في الحياة الحقيقية سوي بتغييرها. أكتب لأنني أريد الآخرين، كلنا جميعا، العالم بأسره، أن يعرفوا أي نوع من الحياة نعيشها، ونواصل عيشها، في اسطنبول، في تركيا. أكتب لأنني أحب رائحة الورق، والقلم، والحبر. أكتب لأنني أؤمن بالأدب، بفن الرواية، أكثر من إيماني بأي شيء آخر. أكتب لأنها عادة، هوي. أكتب لأنني أخشي أن يطويني النسيان. أكتب لأنني أحب المجد والاهتمام اللذين تجلبهما الكتابة. أكتب كي أكون وحدي. ربما أكتب كي أفهم لم أنا غاضب جدا جدا منك كلكم، غاضبإلى أقصى حد منكم جميعا. أكتب لأنني أحب أن يقرأني الآخرون. أكتب لأنني بمجرد أن أبدأ رواية، أو مقالة، أو صفحة، أريد أن أنهيها. أكتب لأن الجميع ينتظرون مني أن أكتب. أكتب لأن لدي إيمان طفولي بخلود المكتبات ، وبالطريقة التي تستقر بها كتبي فوق الرفوف. أكتب لأنه من المثير تحويل كل جمال وثراء العالم إلي كلمات. أكتب، لا كي أحكي قصة، بل كي أنظم قصة. أكتب لأنني آمل أن أفر من شعور الشؤم بأنه ثمة مكان عليٌّ الذهاب إليه لكن ـ كما في حلم ـ لا يمكنني الوصول إليه. أكتب لأنني لم اكن سعيدا تماما أبدا. أكتب كي أكون سعيدا.

بعد أسبوع من تركه للحقيبة أتي لمكتبي، أتي أبي لمكتبي كي يزوروني زيارة أخري. كالعادة، أحضر معه قالبا من الشكولاته (نسي أن عمري كان 48 عاما). كالعادة، تحدثنا عن، وضحكنا علي، الحياة، السياسة، والنميمة العائلية. أتت لحظة نظر فيها أبي إلي الركن الذي ترك فيه حقيبته، ورأي أنني حركتها من مكانها. نظرنا لأحدنا الآخر في العين مباشرة. تبع ذلك صمت مقبض. لم أخبره أنني فتحت الحقيبة، وحاولت قراءة محتوياتها: حولت نظري عنه بدلا عن إخباره. لكنه فهم. بالضبط كما فهمت أنه فهم. بالضبط كما فهم أنني فهمت أنه فهم. غير أن كل هذا الفهم لم يذهب لمدي أبعد مما يمكن أن يذهبه في لحظات قصيرة. لأن أبي كان رجلا سعيدا، طيب المعشر، مؤمنا بنفسه. ابتسم لي كما يفعل دائما. وبينما يغادر البيت، كرر كل الأشياء الجميلة، المشجعة، التي يقولها لي باستمرار، كأب. وكالعادة، راقبته يغادر. مغبطا إياه سعادته، طبعه الخالي من الهموم، غير القابل للتعكر. لكنني أتذكر أنه في ذلك اليوم شعرت داخلي بومضة من المتعة جعلتني أخجل من نفسي. كانت نابعة من فكرة أنني ربما لم أكن مستريحا مع الحياة مثله، أنني ربما لم اعش حياة سعيدة أو خالية من الهموم مثله، لكنني كرستها للكتابة ـ لقد فهمتهم. خجلت من أن أفكر علي هذا النحو علي حساب أبي. من بين كل الناس، أبي، الذي لم يكن، أبد ، مصدرا لآلامي. الذي تركني حرا. كل هذا يجب أن يذكرنا بأن الكتابة والأدب متصلان في النهاية بنقص في مراكز حيواتنا، ولشعورنا بالسعادة والذنب.

لكن في قصتي تناسق ذكرني فورا بشيء آخر في ذلك اليوم، والذي جلب عليٌّ شعورا أعمق بالذنب. قبل ثلاثة وعشرين سنة من ترك أبي حقيبته لي، وبعد أربع سنوات من قراري، في سن الثانية والعشرين، بأن أصبح روائيا ، هاجرا كل شيء آخر، عازلا نفسي في غرفة، كنت قد انتهيت من روايتي الأولي: (جودت بك وأولاده). بيدين مرتعشتين أعطيت أبي نسخة مكتوبة علي الآلة الكاتبة من الرواية التي لم تكن قد نشرت بعد ، كي يقراها ويخبرني برأيه. لم يكن ذلك ببساطة لأنني كان لدي ثقة في ذائقته وفي فكره: كان رأيه هاما جدا بالنسبة لي لأنه، علي عكس والدتي، لم يعارض رغبتي في أن أصبح كاتبا. في ذلك الوقت، لم يكن أبي معنا، كان بعيدا. انتظرت عودته بنفاد صبر. حين رجع بعد أسبوعين، جريت نحو الباب كي أفتحه. لم يقل أبي شيئا، لكنه أخذني ـ علي الفور  ـ بين ذراعيه، علي نحو أخبرني أنها راقته كثيرا. لبرهة، سقطنا في ذلك الصمت غير المريح الذي كثيرا ما يصاحب لحظات المشاعر الغامرة. ثم، حين هدأنا وبدأنا نتكلم، استعان والدي بلغة مثقلة بالبلاغة، للتعبير عن ثقته فيٌّ، وفي روايتي الأولي: قال لي في ذلك اليوم أنني سأفوز بالجائزة التي أنا حاضر هنا الآن ـ بسعادة كبيرة ـ كي أتسلمها. قال ذلك ليس لأنه كان يحاول إثبات أن الرواية أعجبته، ولا كي يجعل من هذه الجائزة هدفا: قالها كأب تركي، يقدم دعما لأبنه، يشجعه، قائلا: "سوف تصبح باشا في يوم من الأيام!" لسنوات، كلما رآني، كان يشجعني بنفس الكلمات

توفي أبي في ديسمبر 2002.
اليوم ، بينما أقف هنا أمام الأكاديمية السويدية والأعضاء البارزين الذين منحوني هذه الجائزة العظيمة ـ هذا الشرف العظيم ـ وضيوفهم البارزين، أتمني، بحرارة، لو كان بيننا.