بمناسية رحيل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ نقدم هنا دراسة نظرية تطبيقية عن أحد نصوصه تقدم نموذجا للدراسات النقدية الغربية التي تتعامل مع أدبنا الحديث، بمنهج جديد، ومنظور مقارن يكشف عن أبعاد جديدة في نصوصنا الأدبية الحديثة.

زمكانية النص والتناص في "أصداء السيرة الذاتية"

شمسن ناهر

مقدمة الباحثة

أصبح عمل ميخائيل باختين في السنوات القليلة الأخيرة موضع كثيرٍ من الجدل أضاف بعدًا جديدًا بل ومزيدا من التعقيد للتوصل إلى فهم كامل لشتى المصطلحات التي تنتشر في أعماله مثل تعدد الأصوات الاجتماعية والحوارية والزمكانية وتعدد اللغات (داخل ثقافة قومية) إلخ. لقد أضحى باختين اسمًا كبيرًا في الأدب وغيره. وهو الأمر الذي حققه نجيب محفوظ أيضًا، وهو واحد من أبرز الشخصيات في الأدب العربي الحديث. تمنحنا أفكار باختين المتعددة وأعمال محفوظ مجالاً شائقًا لتجريب فرضيات باختين النظرية في إطار حقل أدبي شخصي معين لكاتب ما وفنه، إلى جانب اكتشاف وسائل أخرى يمكن من خلالها الاستفادة من النظرية بصورة كاملة. إن الطبيعة التناصية نفسها لمجموعة الأعمال النصيَّة لكاتب ما، مثل الأعمال التي ترتبط ببعضها البعض طوال حياته، تحتم النظرية نفسها لأنها دائمًا عرضة للتشكل حيث إنها تخرج من "نوع" نصي إلى آخر، لكن وضع هذا في إطار أكثر مقارنة يحتم أيضًا فهمًا لكيفية التوسع في إنتاج باختين النقدي مــن خــلال دراســةٍ لكيفية تغيّر النظرية نفسها إلى جانب التطبيق. ومن هذا المنطلق كان عمل آر. كيه. نارايان R. K. Narayan فى غاية الأهمية حيث ابتعد بفهمنا لباختين عن نقاط التركيز المباشرة لدى كُتَّابٍ معينين. كما تأكدت الشهرة العالمية التي حصل عليها نجيب محفوظ الذي ولد عام 1911 باعتباره واحدًا من عظماء رواد الأدب العربي الحديث لاسيما بعد حصوله على جائزة نوبل. وبالطبع بدأت شهرته تزداد بريقًا على الصعيد العالمي بصفة أساسية بعد هذه النقطة.

ثمَّة عدد قليل نسبيًا من الدراسات المقارنة الفعلية بين أعمال محفوظ وغيره من الكتاب خارج الشرق الأوسط، غير أن هذه الدراسات لها أهميتها في الانطلاق بأعمال الكاتب بعيدًا عن الخلفية السردية الصغيرة التي أثمرت فيها الكثير من أعمال محفوظ النصية داخل الدائرة الحميمية للحياة المصرية. آر. كيه. نارايان لا يختلف عن محفوظ من حيث كونه شخصية راسخة في تراث جنوب آسيا حتى بعد وفاته عام 2001. اتخذت سمعة نارايان المولود في عام 1906 مسارًا مشابهًا لكن صراعات مختلفة مع الشكل والقصة الأدبية من خلال سياق ثقافي مغاير، وإحساس مشابه من كاتب دائم التجريب مع النص. يوفر تشابه نارايان ومحفوظ في حياتهما الطويلة علاقات ترابط شائقة بين الكاتبين، لكنه يمنحنا الفرصة لوضع التحليل النظري لباختين ضمن إطار التحليل الأوسع الذي تتعدل النصية المقارنة من خلاله والأعمال النصية الكاملة لكل كاتب بشكل مستمر بل ويعيد تشكيل صلابة كل نظرية وتماسكها. محور هذه الرسالة وهذا المقال اكتشاف ما سبق من خلال باختين عن طريق انتقاء ملمح معين من عمله وهو الزمكانية. فمن خلال الإيجاز المباشر رأى باختين أن الزمان والمكان "متمازجان" معًا في القصة، ومن خلال نوع من "العدسة البصرية" للتفاعلات الحوارية الأوسع، فإن الزمكانية مثيرة للاهتمام أيضًا عندما توضع في سياق نصي بغرض رؤية الوسائل التي يعمل من خلالها وضوح الزمكانية "الممتزج" على "الامتلاء" أيضًا. ومن خلال تبني بنية من طبقتين بين القصة وتأثيرها على باقي النص، يركز هدف الرسالة الأكبر على محاولة تتبع الزمكانية كجزء من العملية التدريجية التي تؤثر على الشكل الكلي والمادي للكتاب.

استُخْدِمَ تعريف الزمكانية من التغيرات السردية إلى الطباعية على الصفحة لبيان كيفية فهمنا، من خلال المنظور المقارن، للزمكانية من مختلف الأبعاد، لأنها تواجه كل مرة سياقين نصيين بل سياقين ثقافيين اجتماعيين مختلفين أيضًا يصبحان جزءًا من عملية التشكل الكاملة للنص نفسه. أظهرت النصوص المختارة لكلٍ من محفوظ ونارايان أشكالاً شائقة عملت من خلالها تفاعلات سردية معينة للزمكانية على اتخاذ "الروح" الكاملة للنص كجزء من التغيرات الطباعية على الصفحة، بعض هذه التغيرات يصعب فهمه، والآخر أكثر وضوحًا بالنسبة للفهم. أصبح النص موضوع روابط شائقة يمكن من خلالها الدخول كجزء من "الشخصية" التي تتخذ تقريبًا الهوية الكاملة للشكل النصي. وبهذا المعنى لم تكمن الخطورة في المصداقية النظرية لمصطلح الزمكانية لباختين، لكنني سأقول وبأشكال مختلفة إنه الإبداع والفهم الكامل للمصطلح نفسه. تتطلب شبكة أفكار باختين الكاملة التي تتجاوز الزمكانية أن يتخذ هذا المصطلح شكلاً ماديًا أكثر تفاعلية، وقالبًا وكيانًا بصريًا حيث ساعد الإطار المقارن بين محفوظ ونارايان على جعل كل عمل باختين يبدو ذا معنى مكتمل - أي جعله "حيًا". لكن ومن خلال سياق هذه الدراسة، سوف تتركز رحلة المقارنة بين محفوظ ونارايان، بين الشرق الأوسط وجنوب آسيا، حول نقطة التركيز المباشرة لمقال أقصر عن نجيب محفوظ لكن بصورة كبيرة عن نصه الأخير "أصداء السيرة الذاتية". إن وضع الزمكانية هنا في الرحلة الأخيرة لقلم محفوظ الأدبي سيتم التوسع فيه بشكل مغامر وحساس بما يكفي لتحديد مكان بل والتوسع في الزمكانية - والنص.

الدراسة
"يقولون، على أية حال، إن التغيرات قد وقعت. ما يهم الآن هو النص في حد ذاته. فكيف يكون هذا؟"(1) جاء هذا التعليق الشائق على لسان نجيب محفوظ في مارس 1999. وفي ذلك الوقت عبَّرت التغيرات داخل الشكل الأدبي العربي وتلك المحيطة به تعبيرًا حسنًا عن العلاقة المتبادلة بين الثورة النصية والتجريب النصّي في الأدب العربي الحديث والطرق التي يمكن من خلالها أن تجد هذه العلاقة "تعبيرًا كاملاً". دُرِسَت العملية وراء هذه العلاقة المتبادلة بشكل جيد، لكن يبدو على نحو متزايد أنه كلما نُظِرَ إلى "النص" نظرة فاحصة أكثر، زاد "انسحابه" إلى نفسه - وكلما تعمقنا أكثر، بدا أكثر أن الأثير الخارجي يعمل على تغيير الشكل؛ بمعنى آخر يبدو أن النص "تداعى" داخل نفسه(2).

تأتي ملاحظة نجيب محفوظ بعد عامين من نشر نصه الأخير "أصداء السيرة الذاتية" عام 1997(3) وبعد 5 سنوات أخرى من المحاولة الفاشلة للقضاء على حياته في 14 نوفمبر 1994. أتلف السكين الذي قتله تقريبًا الأعصاب التي تمر عبر ذراعه اليمنى، تلك اليد اليمنى ذاتها التي ظلت تكتب لمدة طويلة. ووجد محفوظ نفسه في صراع دائم لاستعادة قدرته على الكتابة، والذي تزامن - بصفته انقطاعًا مفاجئًا في عمله - مع منهج للكتابة أقل رسميةً وتماسكًا بشكل كبير، وفراغٍ لم يستطع سوى أن يستحضر تراجعًا إلى أعماق الماضي. وبهذا المعنى يعد كتاب "أصداء السيرة الذاتية" عملاً شديد التفرد بين أعمال محفوظ لأنه يندمج مع المؤلف تحديدًا عند النقطة التي يتطلب عندها فضاءُ الإحباط الفارغ بما يثير السخرية إعادةَ توحيد كاملة تقريبًا بين النص ومبدعه. ويرجع المؤلف نفسه إلى الأساسيات، فقد عاد النص أخيرًا "إلى أصله". لذلك تبذل "الأصداء" الجهد للوصول إلى "الشكل"، وهو الجهد المبذول للوصول إلى كل عنصر من عناصر الإلهام. لهذا السبب أدخلتنا "الأصداء"، التي نشرت أولاً على شكل حلقات "بالأهرام" في عام 1994 قبل أن تُجْمَع وتنشر على هيئة كتاب، في عملية إعادة التفكير في الكاتب، حتى في حالة إعادة تفكيره بنفسه. بحلول ذلك الوقت كان قلم نجيب محفوظ الأدبي قد اختزل إلى تأثيرات نافذة أصغر لكنها تتشابك مع ماضٍ أدبي طويل نُسِجَت فيه مجموعة أعمال محفوظ وصولاً إلى "الأصداء" التي تكثفت حتى أصبح كل عمل من أعماله، لاسيما المتوقع من معزوفته الأخيرة "الأصداء"، "قصة قصيرة" داخل القصة الأكبر، وبالفعل ضمن قصة محفوظ الكبرى - سواء بشكل سري أو علني. هنا يندمج مفهوم باختين عن "الرجل الحسي" مع أعماله النصية الكاملة. بالطبع ليست "الأصداء" نسخة مصغرة من "السيرة الذاتية" لمحفوظ وليست أيضًا "قصة" حياة محفوظ، لكنها مزيج شديد التنوع من الحِكَمِ، أجزاء متناثرة هنا وهناك تدل على الحنين إلى الماضي تم التعبير عنها من خلال إحساس بالعزيمة والإصرار والقبول بالحاضر على مضض - على أساس أنها "أصداء" من مجموعة أعمال محفوظ نفسها. ويرى روجر ألن بالمثل عند مناقشته لكلمة "أصداء" أن محفوظ حاول عن عَمْدٍ وضع النص "بين مجموعة أعمال محفوظ"(4). بهذا الشأن تصبح "الأصداء" "مونتاج" للالتباس، و"مشروعًا في كتابة السيرة الذاتية" يدمج بين جهد التأليف ويستحضر أعمالاً من الأدب العربي الكلاسيكي. إنها صدى "عناصر متعلقة بالسيرة الذاتية في تلك الأعمال السرديــة القصصية"(5) التي تضم مختلف التقنيات السردية التي عمل محفوظ على التجريب فيها. لكن وفي نفس الوقت، تمتعت المجموعة القصصية بحس موحد من وجود "الغرض" فيها. تمثل "الأصداء" بشكل أو بآخر النضج الثري والنهائي لتجربة محفوظ، لكنها أيضًا تبعثر الشكل الموحد على هيئة قطع أو أجزاء جذابة أصغر.

كيف يمكن أن ندمج فهم ميخائيل باختين للزمكانية ضمن هذا؟ تتكون الزمكانية بشكل أو بآخر من مزيج بين المكان والزمان يمكن من خلاله مقاربة القصة، التي تعتبر بدورها جزءًا من نص يشارك في رحلة حوارية أكبر. يخبرنا باختين في مقالته أن الزمكانية توجد "حيث تُرْبَط عُقُد القصة وتُحَل"(6) وأن "كل صورة أدبية صورة زمكانية"(7)؛ ومن ثم تعبر عن إيجازها، وهي الطبيعة التوحيدية للزمكانية. يبدو بطريقة أو بأخرى أننا نقارب الصورة الأدبية من خلال إحساس بشيء نمسك به، شيء مثل حلقة الوصل التي تجعلنا نربط بين الأحداث المختلفة في القصة. وبهذا الشكل تتعارض الزمكانية لكنها ترتبط بانشغال باختين الذي استغرق حياته كلها بكل ما هو حواري، وبكل ما هو متصل ببعضه البعض، وبكل معنى "اجتماعي" للكلمة وبالشكل الفني المرئي. هذا اللعب الدقيق بين كلمتي السحب الجماعي والسحب على حِدة (8) أمر عسير للغاية بهذه الطريقة لأنه يبين كيف على "النص" أن يشكّل جزءًا من لعبة القوى التي تؤثر بشكل ملموس على سمات شكله الأوسع.

تعتبر "أصداء" محفوظ مثيرة للاهتمام من هذا المنطلق لأنها بدأت كقصص منفصلة في "الأهرام" لتأخذ فيما بعد شكلاً متصلاً في النص. لكنها رغم ذلك وعلى حدة عملٌ متشظٍ بصريًا وسرديًا، لكنه في ذات الوقت يستند إلى المجموعة الأكبر من أعمال محفوظ النصية، التي تعتبر في حد ذاتها علاقة متبادلة معقّدة. في "الأصداء" تختلط المجموعة النصّية بالتناص/الحوارية لكنها في ذاتها صورة موجزة من النص تندمج في كُلّ عملي مقروء. ومن أجل "ربط" و"حل" السرد فإن الأمر يتطلب النظر إلى الطريقة التي تمتد فيها الزمكانية إلى ما بعد السرد والطريقة التي تلتف بها لتعود إليه مرة أخرى؛ وبالتالي فك وعقد شكله الكلي في الوقت الذي يلعب فيه على مختلف المستويات. بالنسبة "للأصداء" بدأ شِقُّ "الزمن" في الزمكانية يأخذ شكل البكرة الزمنية للمجموعة النصّية والمدة الزمنية الطويلة التي أدت في النهاية إلى "الأصداء"، لكن لابد أن يتخذ "فضاء" الزمكانية أيضًا قالب وشكل كل نص من النصوص والتغيرات التي تلحق بها. ويتطلب هذا أيضًا فهمًا للزمكانية "السردية" باعتبارها ظاهرة تناصية، أي زمكانية تناصية.

وبالمثل ترتبط الزمكانية بالتأكيد ببعضها البعض، وتسحب نفسها على حدة أيضًا، وتبعثر الزمكانية نفسها عبر جرعات موجزة أصغر خلال المجموعة النصّية الكاملة، كما تتطلب فهمًا أكثر بصريةً للتفتيت النصّي. من هذا المنطلق تعتبر "الأصداء" مثيرة للاهتمام نظرًا "لمونتاج" الذكريات هنا وهناك الذي يستدعيه محفوظ من أعماله السابقة، ورغم ذلك يتشكل النص على هيئة كُلِّ أصغر لشكل كتاب لكنه يتشظى طباعيًا وبشكل واضح مع كل قسم من أقسام الكتاب في الوقت نفسه الذي يشكل فيه كلاً موجزًا. أريد أن أستكشف هذه العلاقات المتبادلة بطريقة أو بأخرى لبيان كيف يفضي "شكل" الزمكانية من خلال تناصه إلى "الشكل المادي" باعتباره أثرًا من آثار "الزمان-المكان"، وبصورة أو بأخرى "إطار" الزمكانية، إذا جاز التعبير، "قالبها". ومن المؤكد أن باختين على وعي للإمكانية البصرية التي تكمن في الزمكانية، فهو يخبرنا في "الخيال الحواري" أن الزمكانية الأدبية الفنية تدمج المؤشرات المكانية والزمانية بعناية في كل واحد متماسك. فالزمن، إن جاز التعبير، يزداد سُمْكًا ويتشكل ليصبح مرئيًا من الناحية الفنية؛ وبالمثل يمتلئ المكان ويستجيب إلى حركة حبكة الزمن والتاريخ" (9) (التأكيد من عند الباحث). هكذا تعمل الزمكانية في مجال التغير، والشكل وإعادة الشكل مرة أخرى، القالب وإعادة القالب باعتباره تعبيرًا أكثر اكتمالاً بمعنى أو بآخر من ذلك الالتباس. في الحقيقة، كيف يمكن للتعبير أن يرتبط بشكل معبّر بالجزء الأوسع من النصّ أو الكتاب أو الصفحة الخ؟

لن يسمح لي نطاق هذا البحث إلا بالإشارة إلى تغيرات معينة في الزمكانية باعتبارها دينامية عاملة ضمن "الأصداء" وخلالها، مستعينًا ببعض الأمثلة المختارة. يتطلب تعقيد الزمكانية في "الأصداء" فهمًا لنوع معين من الزمكانية، خيط معيّن يمكن من خلاله أن يقودنا إلى إدراك بعض العلاقات المتبادلة "المضافة" إلى بعضها البعض. يمكننا أن ننظر إلى الطرق التي تسحب فيها النص على حِدة وتتحرّك بسهولة حوله، ومن خلاله وما وراءه. تبدأ نقطة البداية في "الأصداء" من خلال شخصية الطفل المحورية في القسم الأول بعنوان "دعاء"، والذي يرتبط ويعود إلى واحد من نصوص محفوظ السابقة، وهو "بين القصرين"(10). سأتحرك من قراءة سريعة ومبدئية لفهم كيف يشكّل هذا الطفل جزءًا من علاقة تناصٍ بين "بين القصرين" و"الأصداء" وجزءًا من علاقات أخرى داخل "الأصداء" نفسها. بالطبع يجب عدم النظر إلى "بين القصرين" باعتبارها النص الوحيد الذي ترجع إليه "الأصداء"، لكن يمكننا استخلاص طرق دقيقة يذكرنا بها عمل محفوظ الأخير نفسه "بنفسه" من خلال الإشارات الدقيقة إلى نصه. وأرى من هناك أن العاطفة العامّة المتشظية والصاخبة في "الأصداء" متعلقة بثورة نصّية تدريجية تأثر بها "الشكل"، أي طبيعة النص المادية. سأستعين بأمثلة طباعية أساسية بعينها، في كل من النسخة العربية والترجمة الإنجليزية حتى نبين كيف تتخذ "الزمكانية السردية" المتشظية أيضًا شكلاً مرئيًا يعمل على "ملء" و"تفريغ" الزمان والمكان، ليصب الزمان-المكان في الصفحة. إن هدفي أن أتوسع في "الكتلة" الزمكانية ببطء وبالتدريج للسير في دروب جديدة.

يلمح محفوظ بالقطع في القسم الأول، "دعاء"، إلى ذاكرة حية من الماضي:
  دعـــــــاء
  دعوت للثورة وأنا دون السابعة .
  ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروســــــا بالخادمة .
  سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى،
   والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير.
  وجدنا المدرسة مغلقة ، والفراش يقول بصوت جهير:
  ـ بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا .
  غمرتني موجة من الفرح طـارت بي إلى شـاطئ الســعادة
  ومن صـميـم قلبـي دعـوت الله أن تـدوم الثـورة إلى الأبد!

من الصعب بمكان ألا تلاحظ التشابه الغريب في مشية كمال في "بين القصرين" عندما كانت تقوده الخادمة إلى المدرسة لكنه وجدها مغلقة، فهي تعكس إحساسه بالفوضوية في "ذلك الطوفان الذي اعترى قلبه" كما ورد الوصف في "بين القصرين"، "ذلك الوميض من البهجة الممزوجة بالفزع" في عينيه، لكنها بدأت أيضًا ذلك التوازن الدقيق الذي يضغط على كمال لكي يبقي في "بين القصرين" بين استكشاف الطفولة والسلطة الصارمة. وتضم هذه القطعة المناسبة تمامًا من النص السيطرة غير الملحوظة لشخصية كمال المقيدة على الشكل المرفق للقطعة نفسها. لكن هنا تنفجر الفقاعة بقوة أكثر لتتحول إلى كتل صغيرة متحركة ومتشظية أعقبت القطعة السابقة. إن بصمة محفوظ الأولي هنا، وهي استخدام الضمير "أنا"، والتي انطبعت بصورة سرية مع الطفل في "بين القصرين" وبالفعل في ظل محفوظ المقارب للسيرة الذاتية على شخصية كمال وهو ما نوقش كثيرًا من قِبل النقّاد، هذه البصمة "وُلِدَت من جديد" إن جاز التعبير، من ولادتها الأولى لتتخلل بنفسها داخل مختلف الحوارات في القصة. لدينا لوحتان متداخلتان من كلا النصين تتضافران معًا في آنٍ واحد عبر النصوص الأخرى، إحداهما تصبح فيها "الأنا" الذاتية مندمجة إلى حد ما ضمن العلاقة الحسية والمادية بين اللوحتين ومن خلالها.

الطفل الذي يتم تقديمه هنا ليس بالطبع مشاهدًا وقف خارج المظاهرة نفسها ورأى "الموت في المطلق"(11) في "بين القصرين". لكن ذلك الشخص في القطعة المذكورة أعلاه الذي "سار كمن يساق إلى سجن" يتميز بملامح البلوغ الأولى، لاسيما سير فهمي الحثيث نحو الاستشهاد، لكنه لا يخلو أيضًا من إحساس كمال الشاب حيث يمر برحلة نصّية مصغرة من النص الأكبر في "الثلاثية". هناك أيضًا عاطفة صاخبة غريبة تقريبًا من "صميم قلبي" تتضاد فيها فرحة الصبي الصغير وسعادته لإغلاق المدرسة مع الفوضى الأكبر "بعيدًا". هذا هو عالم الطفل لكنه يفسح الطريق من ناحية الراوي فيما بعد لصور متنوعة من الذكريات عندما نجد على سبيل المثال الراوي الغامض لاحقًا في السجن، ليسحب صورة الطفل تدريجيًا إلى أحذية البالغ التي تتنبأ بالمستقبل. يفسح الطفل المجال، إن جاز التعبير، ويستكمل الاختفاء التدريجي الذي بدأ في "بين القصرين" عن طريق إزاحة السرد بحيث يصبح الطفل الآن صانعًا نشطًا من جديد يرتدي أحذية المستقبل، لكنه ظل وفيًا لأغنية كمال الأخيرة في "بين القصرين" "زوروني كل سنة مرة". يمكننا أن نتعاطف بسهولة مع هذه الذاكرة الممتعة الأولى قبل أن تهبط إلى "عالم الكبار" - ويتخذ النص شِقَّ هذا التغيير. تغدو "العقدة" الزمكانية التي ندخل إلى النص من خلالها فجَّة بصورة غير محسوبة في مقاربتها، وحركتها السريعة وتحوّلها، تنظّم نفسها بصورة يغلب عليها كلٌ من الشغف والحيرة في آن فيما يتعلق بالتشظي العام في القصة. هذا وعي دائري يرتد مرة أخرى إلى السرد في "بين القصرين"، لكن من خلال منظور ضمير المتكلم الذي يشير إلى شخص بعينه بما يُمَكِّن المؤلف العليم ببواطن الأمور من تحويل منظوره بشكل واعٍ إلى الطفل. برز معنى النص الذي اتخذ الشق العاطفي للزمن وضرورة التعبير عن تلك العاطفة بشكل جيد، لكنه أظهر أيضًا كيف أصبح تناص الزمكانية وإيجازها المتفرد عدسة مشروخة من خلال النصِّ المتشظي.

ومع "الأصداء" من الصعب ألا نسأل السؤال بعد كل هذه السنوات عما "تتذكّره" فحسب، لكن أيضًا كيف تتذكره - كيف تعمل الذكريات على "توسيع" الزمكانية، وكيف تصبح الذكريات مترسخة في الطبيعة المادية للشكل، وكيف تسجل الذكريات نفسها خارجيًا، سواء في صورتها المباشرة لكن أيضًا كمزيج شبه حتمي تقريبًا من الشكل من خلال المجموعة النصّية للزمن؟ وبمجرد ربطنا "الأصداء" بموضعها نحو نهاية المنطقة الزمنية وبوصفها "أصداء" لمجموعة أعمال محفوظ الكاملة، يمكننا أن نبدأ في الانشغال "بالنص" باعتباره بمعنى أو بآخر يحمل الملامح الحتمية لهذه التغييرات. إذًا، كيف اتخذت "الأصداء" شِقَّ الزمن، بحيث تشبك كل هذه الكلمات معًا؟ تَلَمَّس فهم ألن لهذا "المونتاج" متعدد الألوان في "الأصداء" منذ بصمته الأولى في "دعاء" طريقه من خلال علاقة الحب بين الطفل ومحفوظ، وأصبحت علامة على وعيٍ فطنٍ عمل بعناية وإمتاع على ربط خيوط الأقسام المختلفة بعضها ببعض. ويعرض النص لمحات مختلفة من هذه الخيوط الملموسة، وسوف أشير إلى عدد منها.

تتحول ابتسامة كمال وتوديعه لأمِّه وأخواته عند رحيله مع الرجال في "بين القصرين" بشكل غير ملحوظٍ تقريبًا في "أصداء السيرة الذاتية" إلى المغنّي الوسيم الذي "يجذب صور النساء الباهتة من وراء الشقوق"(12) في ظل تحديق الرجال المرفوض لأنظارهم عليهن. هنا يأتي التركيز المبدئي في القطعة الأولى حين يذهب الطفل إلى المدرسة منفتحًا إلى الوراء ومقلوبًا رأسًا على عقب للإبْقاء على "الذاكرة التي تحررت ذات مرّة". نجد هنا أن قوات باختين الحوارية - مثل غناء كمال الجميل في "بين القصرين"- قادرة على اختراق الأماكن التي تحتجب فيها النساء بشكل أعمق كنوع من دقات قلب نابض يشرخ ويزعزع بثبات القسم من النص من خلال مقدمات مركزية / طاردة مركزية. ويتردد تأثير هذا النبض في أنحاء النص بما يعكس حوارًا "بين" بل و"داخل" كل قسم من أقسامه. تنضح تلك الأقسام بالذاكرة؛ لكنها انسحبت من المجموعة النصّية بطريقة أو بأخرى لتكوّن "القالب".

تشبه هذه الروابط المقطّعة تعليقات غزول أن "ألف ليلة وليلة" تتميّز بتكرارها أكثر من إعادتها لصياغة أعمال سابقة - ونتيجة ذلك أن "مجموعة الأعمال" تؤدي تأثير دوَّارة الألعاب(13). والنتيجة هي أن "حركة الدوران هي بالضبط ما يعطي الانطباع بالاستمرارية"(14)، ومن ثمَّ توفر تلك القوة الحركية لبدء العمل. تعد الحركة الحلزونية والدائرية الثابتة الموجودة "بالأصداء" مثالاً على هذه "الأنا" تعيد نفسها على الدوام في الوقت الذي تحرك موقعها الأثير. يكمن فهمنا المباشر للزمكانية إذًا في الوسيلة العامة التي "يمتلئ" فيها الزمان والمكان معًا، فهما يندمجان مع "ذاكرة" مجموعة أعمال محفوظ الكاملة نفسها ويستثيرانها.

غدت الوجوه التي تنظر خلسة من وراء فتحات الشبابيك بهدوء حوارًا يعود إلى الماضي تقريبًا بين نظرات الحب التي اختلستها عائشة من وراء المشربية إلى الشرطي، تلك النظرات التي قَيَّدها حجاب العزلة المحيط بها. نتذكر هذا في "أصل الحكاية" حيث "الست في الشرفة ترنو إلى أسفل من وراء الخصاص بعينين ملؤهما اليقظة والحنان"(15). مرة أخرى يستطيع كمال الاختفاء في دور الشرطي، لكنه يحتوي الصبي الصغير أيضًا "الذي اخترق الحارة ولم يرجع ثانية" من خلال خلود مدوٍ. ومن المثير أن "أصل الحكاية" تكررت بعد سبعة عشر قسمًا حينما خرجت النساء من وراء المشربية، لكن لدينا النمط المضاد لشخصيتها الذي يتخذ حالة كمال الطفولية الآن كبنت صغيرة تظللها عين أمها اليقظة. وهنا تعكس نظرات الصبي الصغير المحدقة بالبنت نظرة كمال المستقلة إلى السرد في "بين القصرين". يبدو الأمر كما لو أن الصبي الصغير مثل البالغ الذي يعيد تشغيل الفيلم الآن والذي شارك فيه ذات مرّة. ففي هذه المرة بوصفه مُشاهِدًا يصبح المخرج من خلال "الرجل" الغامض "الذي يجلس في الركن" والذي يجادل بشدة "فلتنظر إليه ما طاب لها النظر وليجرِ هو حتى تخور قواه فيخمد"(16). ويصبح المشاهد أيضًا كاتبًا يعيد كتابة التعصب الذكوري الذي يستغل النساء لصالحه.

ثمَّة إشارات ضمنية أخرى متناثرة هنا وهناك. ففي "ليلى"، تتذكر المرأة الأيام الخوالي حين كانت "تتألق في هالة من الجمال والإغراء". وتأتي سخريتها من الذين يدينونها بسبب انحلالها الأخلاقي ثم "يرجعون" بعد سنوات "كل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة"(17) اتهاما ساخرا ضدّ المجتمع. وفي "الشذا" يتساءل محفوظ عن "النساء اللاتي لا يُسمح لهن بأن يكبرن في السن"، لكن يتم تصويرها كربَّة، "نساء عاريات متفتحات برحيق الحياة" و"قلب من الموسيقى عند النظر إليها"(18). يمكن النظر إلى النساء الفاضحات باعتبار أنهن يرمزن إلى شتى النساء "غير التقليديات" اللاتي يتخللن عمل محفوظ، لكنهن يذكرننا بوالد كمال في "بين القصرين" وعلاقته مع زنوبة وزبيدة، غير أنها تؤكد أيضًا التوتر الكامن بين الظهور والشفافية الذي استمر حتى بعد "بين القصرين". من المثير للاهتمام هنا الرجال يرقصون الآن حول الربَّة تدفعهم العاطفة المشبوبة والبهجة، ولا يختلف هذا تقريبًا عن الذروة المتحررة للجمال الأنثوي التي تأمّلها كمال مليًا، وإن كانت تشير أيضًا وبشكل غريب إلى رقص السيّد أحمد الشبيه برقص المهرّج حول زنوبة. انتقل الابتذال سريعًا إلى الجانب الآخر من خلال وإلى من يملكون "جيوبًا مليئة بالنقود وسوء السمعة"، لتتجاهل النساء الفاضحات المقدمات الأخلاقية لهؤلاء في "بين القصرين".

يمثّل كل قسم في "الأصداء" نقطة عُقَدِية في حد ذاتها لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، لكن استمرارها يتضمن أيضًا تغييرًا وتطورًا تدريجيًا من نقطة إلى أخرى. وهذا يعني أن اندفاع القوة الحركية بدأ يتسرب إلى "مستويات" النص المختلفة. صارت أقسام النص بوجه عام أصغر، وأكثر إيجازًا وجدية، بينما أصبحت الروابط الدائرية التفسير الحركي والحسّي تقريبًا لهذه الأقسام.

يرتبط الطفل في "دعاء" بنهاية "النصف الأوّل"(19) من "الأصداء" في "مأوى النعمة" التي يصبح بعدها كل قسم أكثر حدة وتركيزًا بينما تحظى شخصية الشيخ عبدربه التائه بالأولوية. تسيطر هذه الشخصية الغامضة والمراوغة على الحوار بين الراوي ونفسه بعد "مأوى النعمة". يحدد ألن أيضًا كيف ينقسم العمل من خلال هذه الشخصية إلى نصفين من منظــور الســرد بصفة أساسية (20)، يروي الجزء الأول منه بصورة رئيسية راوٍ يتحدث من منظور ضمير المتكلم يندمج في النهاية بشكل كبير في منظور المتحدث بضمير الغائب من خلال الشيخ. إنه حوار يعمّق بصورة نمطية ما بدأ في "بين القصرين" وفي "دعاء" بين القصة نفسها وما بداخلها، وبذلك يضبط "انفجار" التشظي من القسم الأول. ثمَّة منطق في أن الشخصيتين مظهران مختلفان لمحفوظ نفسه وهما يجادلان بعضهما البعض. أصبحت صرخة الشيخ "ولد تائه يا أولاد الحلال... فقدتُه منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافه" (21) بعثًا جديدًا مرة أخرى من القصة الأولى "دعاء" من خلال رؤية هذه الشخصية الأكبر سنًا، والأكثر حكمة. ومن الشائق أن القطعة ظلت تنسب هوية الطفولة إليه عن طريق الإشارة "كان معروفًا بعبد ربه التائه". يشير اندماج الهوية بالحوارين مرة أخرى إلى الموضوع الذي يتكرر خلال هذه الولادة "للتائه"، وهي الجزء المُلْمَح عنه من الطفل؛ غير أنه جزء مخادع أيضًا. وإذا رُسِمَ الشيخ يحمل بعض ملامح الشبه من محفوظ نفسه، الذي ضاع منه "التائه" منذ سبعين سنة، فإن معرفة عُمْر محفوظ الحالي تعني وهو الأمر الغريب أن هذا الطفل سيكون شابًا يبلغ من العمر ستة عشر عامًا(22). لكننا إذا اعتبرنا أن الشيخ ليس جزءًا من محفوظ، فإنه وبما أننا نعرف عُمره "الحالي" عندئذ يمكننا الافتراض أيضًا بأن ولادة الطفل قبل سبعين سنة تفسير لعُمر الشيخ الحالي وهو سبعين عامًا. هناك فرق ستة عشر عامًا هنا تشير أيضًا إلى نقطة وسيطة بين "ضياع" الطفولة والظهور التدريجي لسن الرشد.

يتأكد هذا أكثر من "القفزة" / "الانقطاع" المفاجئ في السرد الذي يدل عليه وصول "التائه" المفاجئ بينما كان يتحامق للوصول إلى ردود أفعال الشيخ عبد ربه التائه. تؤكد الحدود "الخفية" بين الاثنين كيف تتفاعل حركة بعينها بينهما، تلك الحركة التي على الزمكانية أن تناقش من خلالها. في بداية "النصف الأوّل" "وُلد" الطفل في القسم الأول ذهاب الأولاد الصغار للمدرسة. وفي بداية النصف الثاني وُلد الطفل مرة أخرى باعتباره "التائه" الذي تاه منذ سبعين سنة، في "الولادة" النهائية التي تمثلت في القسم الأخير "إفراج". ويتضمن "إفراج" اجتماع هؤلاء الأصدقاء الذين سيحصلون أخيرًا على حريتهم، في توقع من النص الذي يتفتت تدريجيًا أكثر فأكثر. يترك محفوظ كما هي عادته هذا الجزء الأخير في وضع الاستعداد لرسم لوحة حيث إنهم كانوا "في حالة انتظار". لذا فإننا نصل مرة أخرى إلى نوع من الحركة الإيقاعية التي تغوص أولاً في "العالم"، غير أنها تنتشل ثانيةً وتُدْفَع مرة أخرى إلى النصف "الثاني" من "الأصداء" أو إلى "العالم الروحي" إذا جاز التعبير. بمعنى أن التطور أو التحول من حالة إلى أخرى يؤكد أن "الشخصية" فطنة بشكل حاد إلى إدراكها لماضيها ولما هو آت أيضًا. إنها شخصية تفكر، وتخطط، وتندم، وتتوق إلى الماضي وإلى مستقبلٍ كان من الممكن أن يكون في متناول يدها، لكنها دائمًا ما تكون موجودة "ليعاد إبرازها مرة أخرى"، إذا استخدمنا لغة باختين الكلاسيكية، مرارًا وتكرارًا. الموضوع هو أن حوارًا أعلى بين قسم أول وأخير إلى جانب حوار بين الأول والأخير في كل من نصفَيْ العمل يعمل على تأسيس نوعٍ من نمطٍ إيقاعي، ودوائر مترقرقة من القسم الأول إلى الأخير، بالإضافة إلى دوائر أصغر تشترك في نفس المركز. إنه تقريبًا مثل عالم "خفي" من التفاعل الذي يفصل السرد لكنه يحول دون المزيد من التفكك، بينما تلمّح حركة الطفل بين تلك المجالات إلى تطور حدسي لا يكاد يكون ملحوظًا، وهو التطور الذي يعد التأثير النمطي للشيخ عبد ربه التائه.

تأتي البنية "الحَلَقية" "لأصداء السيرة الذاتية" لتخلق هذا العمل شبه الحلزوني، فكل قسم يتوسع ويتقلص، لكنه يعود مرة أخرى إلى نفس النقطة من خلال ذلك التوسع والتقلص، وإن كان على مستوى مختلف فحسب. بمعنى أن الزمكانية تتخذ هذه الحركة من التوسع / التقلص، وتتخذ التغيرات التي تحدث "حولها" في بقية النص. بين الزمن والموت يؤسس محفوظ مجموعة من المسارات يمكن منها التوسع على ذاكرة ما والتقلص منها. وباستطاعتنا عن طريق تحديد الارتباطات المحتملة الموجودة "بأصداء السيرة الذاتية" أن نستجمع إعادة التأسيس الإيقاعية الدقيقة هذه والتي تتكشف أمامنا بحيث لا يمكنها ترك شتى الأقسام معزولة بالكامل. ولهذا السبب وكما علّق ألن، تأخذنا الأقسام في "النصف الثاني" إلى "مستويات الوعي المختلفة"(23). ترافق الحركة الأفقية نغمة ضمنية متزايدة وأكثر عمقًا أيضًا، إلى جانب تصدع الحركة الداخلية من التجربة الصوفية. وهنا يُدفع كمال في "بين القصرين" الذي حلَّق فوق سحاب النشوة في "مأوى النعمة" إلى الاختفاء، "ليولد" حرفيًا من جديد، ويكرر النمط السردي الدوري السائد في "الأصداء"، لكنه يكرر أيضًا تلك الخفّة المتزايدة في الحركة الزمنية في النص. أطلقت هذه "الدَّفْعة" الأمامية مجموعة كاملة من الدفقات الحادّة والقصيرة في جميع أنحاء النص، التي لا تختلف كثيرًا عن دوافع الإلهام الجياشة. ويجمع الشيخ هذا الاندفاع بشكل شديد الإيجاز في الحكمة القصيرة "شهيق / زفير" حيث يشير إلى أنه "مع شهيق الكون وزفيره تهيم جميع المسرات والآلام"(24). فدوامة النشوة العامة هي بالضبط ما يمكن لهذا الطفل الرمزي في "بين القصرين" أن يتورّط فيه الآن ضمن شكل "أصداء السيرة الذاتية". وفي الوقت الذي نتجه فيه نحو المشهد النهائي "الفرج"، نرى المرحلة النهائية من الرحلة في اجتماع في الكهف حيث "جاء كل صدر بحنينه حتى عمت نشوة شادية"(25). هذه الحركة "الداخلية" تدفع الأقسام "إلى الداخل" بما يمنح ذلك الاحساس بنشوة السعادة على السطح وهو ما يشير إلى تعمّد من ورائها. في الحقيقة، يتخلل هذا "النصف" الثاني من النص دفقات الإلهام القصيرة والجادة الخاصة بالشيخ التي "خففت" تدريجيًا النص المخفف بالفعل.

لذا تعمل الزمكانية خلال القصة بمثابة كلٍ من فقاعات مباشرة من الذاكرة، لكن أيضًا كهالة تتشابك داخل بقية القصة. وتبين لنا "مستويات الوعي" عند ألن كيف أن الثورة الزمكانية في القصة ليست "مملوءة" كثيرًا. بدلاً من ذلك هناك اندماج وانفصال، هناك توحيد وتشظيِّ، إلا أنه هناك أيضًا إحساس دوري من الزمان والمكان "يكرر" نفسه مرارًا وتكرارًا خلال مستوى أعمق. تتطلب مثل هذه العلاقات المتبادلة والمعقّدة لأن نأخذ بفهم باختين للزمكانية في القصة، في الوقت الذي تعمل فيه القصة أيضًا على "إعادة قولبة" الزمكانية على مستويات أخرى. وتكمن داخل الفرح والصَّخَب الصوفي العام في "الأصداء"، لاسيما من خلال شخصية الشيخ، عاطفة مشبوبة وسرّية تقريبًا تسجل نفسها ضمن النسيج النصّي نفسه، وتتوقّع الحركة التالية على الصفحة، وسيلٌ متراكم يبدو أنه جعل "الجزء الممتلئ" من الزمكانية يشغل بقيّة الكتاب. نرى هذا، على سبيل المثال، في شتى "القفزات" خلال مختلف القصص المختارة بشكل عشوائي وفيما بينها. وهنا يشير غياب الطفل إلى حضوره بدرجة أشد وضوحًا. في هذه الحالة، تبين الحركة الحوارية التي حاولت هذه الدراسة تحديد مواضعها سلسلة أكثر جرأة تربط بعض القصص ببعضها البعض من خلال حلقة مراوغة. فإذا عددنا الأقسام بترتيب ظهورها أمكننا أن نرى مدى عشوائية هذه القفزات المختلفة لكنها لا تزال تحدد نوعًا معينًا من التماسك الداخلي تستطيع الزمكانية من خلاله بطريقة أو بأخرى أن تتسلل. ذُكِرَ الكهف لأول مرة في القصة رقم 123 "الانتظار"(26) حيث تجد "السيدة" الغامضة بصورة شائقة ضالتها في قصة "المُطارِد" في الأتباع المتشوقين الذين "جدُّوا في البحث عنها"(27). وهنا يبرز الوعي المستعد والمتشوق دائم الحضور في العبادة الجماعية لشتى المؤمنين التي تبلغ ذروتها في الشيخ "الذي يصمد حتى النهاية"(28). تتطور تيمة الكهف فجأة في القصة رقم 126 "الشكوى" حيث دخل "الأصدقاء الحميمون"، لكن يبدو أن العبادة المخلصة وصلت إلى درجة معينة من التطرف حيث "كان الرجل غاضبًا، وقد استشاطوا غضبًا ولوَّحوا بالعصي"(29). القصة رقم 133 صيغة مختصرة من الحماس الصاخب الذي يتوازن بدقة مع "قصص الحب الجميلة" المتواترة.

في قصة 138 "ساعي البريد" تعترض المتصوفةَ المبتهجين رسائلُ فارغةٌ انتظروها بفارغ الصبر، وهي صيغة مصغرة من "الفضاء الفارغ" الذي يستحضر بشكل مثير الفراغ حول الورقة المطبوعة وصولاً إلى حوار المتصوفة. الرقص الإيقاعي نحو الداخل ونحو الخارج داخل الفضاء الفارغ يذكرنا بالغَزَل المرح الصاخب والمستمر عند الحد الفاصل بين محتواه الداخلي والفضاء الفارغ. الشيخ يبدو ذروة مندفعة لتبخر الجملة ذهابًا وجيئةً حتى في محاولته الإمساك بذلك الطفل الضائع مرة أخرى الذي يلتف خلال الفراغات وبين "الأجساد" / القصص الأخرى، وبذلك يصبح الطفل بشكل أو بآخر مزيجًا بين فضاءين "فضاء الحميمية وفضاء العالم"(30). "الضياع" هو الرحلة، "الاندفاع" المتراكم لحب الشيخ حتى عندما يحن إلى فقده، غير أنه من الضروري بمكان أن المقصود هو أن الفقد يحيط بالحركة الحوارية داخل العمل المطبوع وبينه. يذكر في قصة "بحر" قائلاً "وجَدْتُني في بحر تتلاطم فيه أمواج الأفراح والأكدار"(31). هذا الوعي المتغير هو ما يربط بين قصص الكهف. وتأتي بعد "ساعي البريد" قصة "أنا الحب" رقم 206، وهنا يختلط صوت "خارجي" بالحوارية حينما يعترض الأصحابَ معلنًا "أنا الحب"(32). تتطور الأقسام التي ترتبط داخل النص والتي تعالج الكهف أيضًا في القصة الأخيرة "الفرج". هناك دافع قوي يعبر عن ذلك المعنى للطفولة في الحداد الصاخب المرح حتى حينما تتأمل "الأنا" شتى ظلال المنظور متعدد الألوان.

تصبح "الأنا"، وهي البصمة المباشرة للذات في "دعاء"، كتلة ممتصة وممتلئة ومؤثرة إلى حد ما تتفتت نصيًا بالنسبة للنص ككل على شتى المستويات. وبينما تعرض تيمة الكهف نظرة فنية ذكية تتضافر مع بعضها بعناية لتطوير رؤية دقيقة معينة، فإنها تؤكد أيضًا ومن جديد على العلاقات الحوارية المتبادلة التي تحافظ على الطبيعة المتباينة "لأصداء السيرة الذاتية". في البداية ينشغل أصحاب الكهف "بالحب" الذي يستحيل إلى تدفق مركزي لرؤية تدور حول أصوات أخرى. لذا بينما تتشكل العلاقات بشكل دائم، فإنها أيضًا تتشكل من جديد لتحاكي شتى القوى المؤثرة. وبين "أجزاء" المتن الأكبر من النص المتشظى، تلمح تلك القصص الفتشية إلى كيفية "الدعوات المتشظية إلى "كل شيء" (إعادة الهيكلة الكاملة للجثة، رغبة المحققين في معرفة كل شيء، الصيغة الشاملة من الجريمة)، لكن ذلك ليس كافيًا بحد ذاته، وكيف أنها لا يمكن أن تندمج مع الأقسام الأخرى لتكون كلا مكتفيا بذاته"(33)، ومن ثَمَّ تتقوَّض الرغبة في الوصول إلى قرار من خلال الاندفاع بعيدًا عنه.

ومن الأمثلة الكلاسيكية لكيفية ربط محفوظ لمختلف التيمات ذلك التضاد بين الكهف والسوق الذي يبرز باعتباره حقا ميدان "المتع الدنيوية" في مقابل مرح الكهف الصوفي. إننا نتأثر عند إدراكنا لبراءة الطفولة التي تُجَرُّ بشكل مطّرد نحو فساد العالم الذي "يعكس" اختفاء الصبي الصغير في "دعاء" من خلال "الحيرة" الاجتماعية العريضة للتشظي الذي سيأتي لاحقًا. يجمع محفوظ بشكل غير صريح بين السوق والكهف، غير أنه يؤكد أيضًا على ما ينطوي عليه ذلك من مغامرة. فإذا نظرنا إلى التتابع الكلي للقصة سنجد أن السوق "يقفز" أيضًا من القصة رقم 108، إلى 126 إلى 142، لكن بشكل أقل عشوائية من ناحية الطول مقارنة بالكهف، ليعكس توترًا أكثر توازنًا لعلاقة الحب الكاملة بين الاثنين. لكن يندمج السوق والكهف في "وسط" التسلسل في القصة رقم 126 "الشكوى". وهنا يقاطع أصحاب الكهف صوتٌ على حين غرة ليطفئ الشموع. وقبل هذه القصة رقم 108، التي أطلق عليها عنوان موحٍ وهو "الاختيار"، تُبرز أزمة "وزن" هذه المادة في السوق علاقةَ التضاد مع الرجل الذي يحمل شيئًا "خفيفًا في وزنه لكنه غالٍ في ثمنه"(34). ويصبح الراوي منتشيًا بست الحسن لدرجة "أنني نهضت لأتبعها مخلفا ورائي العقل والإرادة وأسباب رزقي"(35).

لا يحتل الطفل - كما سلفت الإشارة - الديناميات الفراغية على سطح الصفحة فحسب، لكنه جزء من حركة الصور المتحركة التي تعمل خلال كلٍ من توسع وجزء من التشظي، لكنه أيضًا نوع موجز من الوعي بتفاهته لاسيما "دعاء". وبالتالي فإنها تؤدي إلى الصورة المصغرة عند حد موضع التأرجح. وتعتمل إيماءات الطفل التي تشبه الدوامة ضمن استطرادات العمل المطبوع؛ ومن ثَمَّ تشكل نوعًا من الالتفاف حول العديد من النقاط التأملية، مثل السوق والكهف، ومقدمات الشيخ الصوفية إلى جانب الرغبة في استعادة براءة الطفولة المفقودة، وذكريات محزنة ذات علاقات خطرة بالرغبة، كل ذلك جدل ساخن من أجل هذا الطفل. يُحْجِم محفوظ نحو نقد الإسراع إلى الهروب من العالم عندما قال الحارس على الباب "إنها لا ترحب بمن يجيئون إليها هاجرين عملهم في السوق". ويظهر التوازن الحساس الذي لابد من الحفاظ عليه بطريقة بهلوانية في آخر قصة بل في القصة النهائية في النص ككل وهي "الفرج". إن ذلك الإحساس بعدم الانتهاء وعدم اليقين عند "شخصية" هذه الزمكانية هو ما يسبب الإحباط الدائم "كما سمعته الرؤية الداخلية"؛ ويتركنا هذا مرتبكين كقراء. فكلما قوَّض الراوي المتحدث بضمير المتكلم هذا المفهوم عن "الأنا" الذي نتمسك به، أصبح القارئ أكثر إجبارًا على التمسك بأي شيء يمكن تتبعه كشيء شبيه بظاهرة ملموسة على الأقل.

لكن وبعيدًا عن الروابط بين الأقسام، فإن أقسامًا بعينها تمنحنا أيضًا نكهة أكثر وضوحًا لهذه الكتلة التي اندمج فيها العمل الطباعي ككل. ويبدأ فهمنا للزمكانية يتخذ بطريقة أو بأخرى الشكل الكامل للكتاب ويفترض قالبًا على الصفحة، تشكيلات تدريجية وصولاً إلى "الشكل". فإذا نظرنا إلى أوضح بصمة لهذا في القسم الأول "دعاء"، يبدو أن "الكتلة" الباختينية تقيم طبقات غزلية داخل فضاء الالتباس، ودائمًا ما تكون منطقة "الفوضى" الحوارية والصحوة "ممتزجتين" إلى حد ما معًا. ويُعْرَض هنا النصان الإنجليزي والعربي كاملين:

A Prayer
I was less than seven years old when I said a prayer for the revolution.
One morning I went to my primary school, escorted by the maid. I walked like someone being led off to prison. In my hand was a copybook , in my eyes a look of dejection, in my heart a longing for anarchy. The cold air stung my half-naked legs below my shorts. We found the school closed, with the janitor saying in a stentorian voice, "Because of the demonstrations there will again be no school today.
A wave of joy flowed over me and swept me to the shores of happiness.
From the depths of my heart I prayed to God that the revolution might last forever

ما يظهر بوضوح في كلٍ من النص العربي والإنجليزي العناوين التي تبدأ في كل نص. يضم كل منهما بثقة كبيرة رسالة معينة في حد ذاتها، لكن ارتباطه المباشر بالأقسام الأخرى يدل دلالة ضمنية على نوع من "الارتباط" الحواري الخفي خلال الفضاء الفارغ في المقطع. يمكننا هنا تمييز نوع من النمط المؤثر من أنماط الحكي التي يبدو أنها ستفضي بنا من قسم إلى آخر، نوع من نمط إيقاعي مهدئ، يدور حلزونيًا في عملية إعادة تشكيل متماسكة للذات طوال طريقها الملتف خلال النص الدفين المطبوع. وتخلق أنماط الحكي ذلك النوع من الإيقاع المتوحد معها. ووفقا لجينيت، هناك أربعة أنماط هي "الحذف" و"الوقف" و"المشهد" و"الملخص"(36). إذا ألقينا نظرة على المتن الفعلي للعمل المطبوع، فإنه يمكننا الربط بين الحكي والعمل المطبوع. في كل من المثال العربي (مثال 2) والمثال الإنجليزي (مثال 1) هناك مقدمة عظيمة يدل عليها "العنوان" الذي يقدم إيماءة شاملة تؤدي بنا إلى القسم التالي. فالجملة "دعوت للثورة وأنا دون السابعة" تصبح "وقفًا" و"مشهدًا" معًا بحيث تمهد للعرض - إن جاز التعبير - لكنها تعني أيضًا توقف السرد واستمرارية الزمن مكثفًا ضمن جملة طويلة واحدة. ويبدو أن الرابطة بين الأقسام الخاصة بالزمن الاسترجاعي الذي يمتد لمدة طويلة وصولاً إلى زمن طفل و"حاضر" السرد ضمن مثل هذا العمل المطبوع الانسيابي، يبدو أنها تبالغ في التفاهة بدرجة متزايدة إلى "امتداد" أكبر. إنها تشير أيضًا إلى حكي لم "يبدأ" بالضرورة لكنه استمر من خيط سابق من الحكي.

الفضاء الفارغ بين هذا والفقرة التالية مظهرٌ لانقطاع ما في الفكر يعزو إلى قفز خيط حواري إلى الفقرة التالية. ويظهر الأخير كبدايات "لمتن" رئيسي - إن جاز التعبير - وهو ما يشبه طباعةً مثل الطوب المنحوت في "بين القصرين"، لكنه هذه المرة يضفي طابعًا شخصيًا على ذهاب الطفل إلى المدرسة مستخدما السرد بضمير المتكلم من خلال "الملخص". يتباطأ الزمن لكن السرد يستمر ليلمح إلى اندفاع ما نحو المشهد التالي. ويشير العمل المطبوع إلى الاحتواء في جملته الوصفية التدريجية مع خط فاصل أكثر انسيابية ومشدود لكنه يتضاد بصريًا مع الجملة الأقل سمكًا التي تسبقها. وتقدم الكتلة الأكبر خلفية متناقضة مع التفاعلات المادية المؤثرة معًا. تتصاعد قوة الدفع ببطء نحو القسم التالي الذي يعمل بمثابة "حذف" حيث يبدو أن السرد والزمن قد وصلا إلى نقطة سكون مؤثرة بعينها. عبرت عنها وإن كانت جذبت الانتباه في الجملة الأقصر والمكثفة بشكل شديد الإيجاز "غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة" ثم وصلت إلى ذروة "ملخص" في الجملة الأخيرة "ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد". وهنا جملة أطول وأقل سمكًا جاءت بعد سابقتها لتعطي تأثيرًا لاحقًا مستمرًا لنهاية القصة. وَرَدَت عناوين لمختلف المقاطع كمحاولة لتجميع نوع من "المتن" أو "الشكل" في هذه القصة الأولى. ثمة تفاعل مفسد بعينه يبدو أنه تسرب إلى السطح في العمل المطبوع وهو الآن يعلن أن نوعًا من الحوارية المادية قد بدأت تتكون. ما أطلق عليه اسم "الرأس" أو "الرقبة" و"الجسم الرئيسي"، والانحدار نحو النهاية كنوع من "الساقين" ليس محددًا، لاسيما البند الأخير، لكن ما نحتاج إلى تأكيده هي "الوظائف الجسدية" لكل جزء من العمل المطبوع والذي يعكس حوارية مادية مؤثرة.

يعطينا كل من ديلوز وجاتاري صورة شائقة إلى جانب العوامل المادية الموجودة بالطباعة، وهي ما أطلق عليه اسم "جسد بغير أعضاء". وتعتمد قضية تحديد أماكن أعضاء القصة التي نوقشت سلفًا على كيفية عدم وصولنا على نحو مثير إلى جسد بغير أعضاء، "إنك تحققها على الدوام، إنها حد"(37)، جسد بغير أعضاء هو نقطة التدفق. من خلالها فقط "تمر الحدة وتنتشر... إنها تنتجها وتوزعها في "فضاء" مكثف في حد ذاته، لكن يعوزه التوسع"(38). من الناحية المحورية، إنه ليس مجرد "فضاء وليس كذلك في الفضاء، لكنه مادة تشغل الفضـــاء بدرجة معينة"(39). إن دمج هذه "الأعضاء" العاملة بالجسم في "دعاء" - حتى عندما يستطرد الطفل داخلها - يعني أن "جسدًا بغير أعضاء ليس على الإطلاق النقيض من الأعضاء، وليست الأعضاء أعداء له. ولكن العدو هو الكائن الحي. جسد بغير أعضاء ليس نقيضًا للعضو، لكن لذلك التنظيم من الأعضاء المعروف باسم الكائن الحي"(40). ومن ثم "التنظيم العضوي للأعضاء" كما يطلق عليها. إنها نوع من الفتشية المقيدة التي تستقر فيها الحملقة الأدبية في كل من أجزاء القصة أثناء عملية الكشف التقليدي التي تقوم بها لتجعل الزمكانية السردية مفعمة بنوع من الجو الفتشي.

من المثير أكثر كيفية عرض النصين العربي والإنجليزي لنمط مشابه على الصفحة البيضاء مما يشير إلى أنه من المؤكد ومع وصولنا إلى آخر نص لمحفوظ، دمجت حركة الزمكانية في النهاية قدرًا أكبر من المجموعة النصية لتبرز التغيرات الأكبر في الحركة من خلال تغيرات اللغة. ومن ثم من الممكن أن يُسْرَد كل "عضو" ليس كوحدة محددة في ذاته، ولكن كتدفقات وإيماءات ضمن جسد بغير أعضاء؛ وهذا يعني أن الكل المطبوع يوجد ككائن حي على مستوى واحد من التنظيم وبالتالي "كظاهرة تراكم وتجلط وترسيب"(41). بالطبع لابد أن يأخذ دمج جسد بغير أعضاء بالنسبة للزمكانية في الاعتبار بحيث كيف يمكن لهذه الأجزاء الدقيقة العاملة من الكائن الحي / التشكل المطبوع أن تبدو كنوع من التدفق، "الرأس" أو "الجسم الرئيسي" لا توجد ككيانات مصمتة في حد ذاتها، لكنها في ذاتها طبقات من التدفق داخل جسد بغير أعضاء. تتميز القصة الأولى "دعاء" وبوضوح بصدى شخصية الطفل النموذجية الأولى، إنها "الولادة" التي بدأت منها الزمكانية ببطء في الانفصال عن "الأنا" (ومن ثم استخدام منظور ضمير المتكلم) حتى عندما وصلت تمتمات شخصية كمال إلى هذا القسم الأول استطردت خلال بقية القصص. تصبح هذه "الأنا" غارقة / مغمورة تمامًا داخل ملل المجتمع اليومي، ولابد أن تدرك من جديد بنوع من "المعنى الملموس"؛ ومن ثم "الإدراك" الطباعي الذي يعبر عن صورة عاطفية تدل على الحنين إلى الماضي.

يبدو أن مختلف "الأعضاء" التي حاولت تحديدها تعمل معًا مثل ذلك التشظي الذي يصبح الوضع التساؤلي حتى في حالة انفصالها. ويمكنها أن توجد في المراوغة الدائمة التي توجد مرتبطة بالفضاء الفارغ. إن دور القارئ في التشكيل وإعادة التشكيل الدائم هو تحديدًا ما يسمح لنا برؤية هذا الجسم المادي "المراوغ"، وبالطبع مرة أخرى في حالة اللغة العربية تكون الحركة من اليسار إلى اليمين في عملية القراءة. لكن حتى ومع هذا، يصحب انتشار مشابه على الصفحة الكشف عن فن الحكي. ويبدو أن هناك كشفًا مشابهًا يصحب اللغة العربية والإنجليزية التي تلمح أيضًا إلى حركة مشابهة لمجموعة الأعمال التي دمجت فروق اللغة. لكن ما ينبغي إلقاء الضوء عليه هو كيفية اتصال "الجسم" العامل بالجسم الصغير في القصة الذي يذهب إلى المدرسة ومن ثم الطفل. والاختلاف لدى كمال الصغير في "بين القصرين" في دوره الصغير على هامش المظاهرة، لكن هناك إحساسا مشابها من الفوضوية يكمن داخله تماما مثل "الأنا" في "الأصداء" في رغبته في الدمار. إنه مثال آخر على كيفية "حك" نتاج الطفل في القصة لنفسه من خلال المجموعة المادية الأكبر لكنها تمتد مرة أخرى على سطح الصفحة نفسها. ولكن هذه المرة برزت "الأنا" من بين "الأنوات" الأخرى - كجزء من تلك "الشخصية" المميزة للزمكانية - كجزء من العمل المطبوع لتذوب في النص. إنها تميز مسارًا بطيئًا وشاملاً ويقظًا خلال الفضاء الفارغ، قولبة، وتشكيل وتشابك معًا كصائغ محول للقالب، الذي ينطبق ببطء على كل قالب. لكن بالعودة إلى جسد بغير أعضاء، فإنها تعني أيضًا أن العمل المطبوع نوع من "الحقيقة الجامدة حيث الترسبات الخفية، والتجمدات، واللفات، والارتدادات التي تؤلف الكائن الحي - وأيضا مغزى وذات - حد"(42). يعمل اندماج "وصول" الزمكانية عبر الصفحة المطبوعة إلى جانب الجسم كنوع من الكائن الحي العامل المليء بالتسربات والثقوب والأشياء المتناثرة التي تم إصلاحها، والتدفقات الداخلية / التدفقات الخارجية - على المساعدة في التوسع في "زمكانية الطفولة" وتفاعلها عبر المستويات التي من خلالها قد لا يكون العضو الذي يطلق عليه "الطفل" ملائمًا بشكل تام. إنها تسمح لنا بتقدير الانشغال الفتشي الذي بدا الآن في الانتشار خلال العمل المطبوع بحيث تمثل شتى "النتوءات" و"الانحناءات" أيضًا نوعًا من التقارب الحاد "لجزء" معين. يبرز مثال نمطي آخر في قصة "المرح". وتظهر النسخة العربية والإنجليزية بعضًا من الفروق الأكبر.

Exuberance
She looked at me with dull, lackluster eyes. The look expressed the bitterest suffering, yet the tongue was impotent. I was visiting her in her illness. The room was empty. Her skin was flabby, The bones stieking out.
Every corner was redolent of death.
O woman of unforgettable merrymaking.
My childhood was furnished with your delightful merrymaking. No fault was found in you other than that you were immoderately exuberant.
Yes indeed. Immoderately exuberant.

المرح

نظرت إلي بعينين باهتتين ذابلتين . النظرة تشكو مر الشكوى وتريد أن تبوح ولكن اللسان عاجز.
كنت أعودها والحجرة خالية.
الجلد متهرئ والعظام بارزة والأركان تفوح منها رائحة الموت.
يا صاحبة المداعبات التي لا تنسى .
طفولتي عامرة بمداعباتك اللطيفة .
لم يكن يعيبك إلا الإغراق في المرح .
أي نعم .. الإغراق في المرح.

يمتد النص المطبوع في النسخة الإنجليزية (مثال 3) أفقيًا بحيث تعكس عملية القراءة في انسيابيتها اللسان "العاجز"، الذي يمكن أن يمتد إلى حد ما. إنها الانسيابية حتى في العربية (مثال 4) التي تعود إلى النص المطبوع وتصقله ببطء حتى عندما تندفع الذاكرة قُدُمًا حتى نصل إلى السطر الأخير "أي نعم ... الإغراق في المرح". وبالمثل يتكثف النص الإنجليزي فجأة رأسيًا كما يظهر في الشكل. يبدأ شكل رقيق في الظهور على هذا الجانب من خلال "الخط الفاصل المنحنى والطروب بخط مخلص ومستقيم على طول الخط الآخر، وعندما يعلق الراوي أنه في "في طفولتي عامرة بمداعباتك اللطيفة"، فإننا نؤخذ إلى الماضي رغم أن "الذاكرة" في حد ذاتها تشيع بمثل هذا السكون، لدرجة أن هوية هذا الراوي تصبح موضع تساؤل. ويأتي الإغراء في ربطها بذاكرة الطفولة في "دعاء" لكن هذه الهوية الكاملة تشيع في الكثير من الهويات باعتبارها أزيزًا غريبًا للشخصية التي اتخذت دينامية النص الكاملة بحيث تغدو لحظات سكون مثل هذه محزنة للغاية. لكن التلميحات الأمومية الواضحة للنساء ذوات الجلد المهترئ "الذي تفوح منه رائحة" الموت تقف في تضاد معادل لدينامية الطفل / البالغ الأكبر سنًا التي تشد عاطفة النساء المتذبذبة مثل جليلة وزنوبة أو زبيدة في "الثلاثية" أو على الجانب المقلوب من عيني أمينة "الكئيبتين والباهتتين" والمعبرتين.

يعبر هذا القسم كله الحزين ذو الحنين إلى الماضي، المشع بشكل فاضح لكنه أمومي بصورة قمعية تعبيرًا جيدًا عن لعب الإيماءات المتضادة. يبدأ انعكاس الطفولة بذلك الاندفاع الشهواني قليلاً بعد الجزء الأكثر "استقامة" قبله، ويصحبه "جسم" تتخلله المزيد من السطور مقارنة "بالجسم" الأول في البداية. والتأثير هو التفكيك التدريجي لذكرى الطفولة مثل الفقاعات الصغيرة حتى نصل إلى الجملة الأخيرة تقريبًا. ومع شيوع المزيد من الفضاءات الفارغة، فإن ذلك يعني أيضًا أن كلمات "الفعل" و"الإغراق" تخترقها عن طريق إبعاد الطريق عن الجملة لكنها تستأنف مرة أخرى، "منحنيات" أصغر تهبط "بالتذبذب" الأكبر لدى النساء "المرحات". تبرز هذه الإيماءة المتضادة المنحنيات الرقيقة للآخر، لكنها تلمح إلى لعب شتى القوى التي تنتشر خلال سطح العمل المطبوع فيما وراء الخطوط الفاصلة. كما تظهر تعارضًا أيضًا بين تذبذب نساء "المداعبات" وبين الجلد "المهترئ" للنساء العجائز الآن. الجانب المنحني من هذه الفقرة مجعد ومغضن للغاية، يتضاد عنفوان الشباب المستقيم في الجانب الآخر من القصة مع نعومة كبر السن على هذا الجانب "المهترئ / المنحني" والعكس بالعكس مثلما تعتمد اللغة العربية من اليسار إلى اليمين الخط المستقيم بمثابة حملقة بصرية عبر الفرح الأكثر حسية في الجانب المقابل. كما تلمح هنا أيضًا إلى تعديل للقوى التي تخطط بعناية إلى أي مدى سوف تمتد في الفضاء الفارغ. إن ما يخلق إحساسًا بعدم ملاءمة الزمن هو الشعور بكبر السن الذي ينعكس بدوره على المرح الشاب المليء بالمخاطر، إنه الوضع التقابلي للطفل والبالغ الذي أصبح أكثر رقة في ثباته.

بعد هذا المقطع الأول تندفع "الشخصية" المحدودة فجأة إلى الخارج مرة أخرى ويحتفي الراوي الغامض إلى حد ما بهذه المرأة - كما يظهر في الشكل - بنوع من الإطراء أو المديح الشهواني. هنا تسرف الحركة ثم تتصاعد قوة الدفع، ثم تنخفض نبرة السرد تدريجيًا وبشكل مميز، وهو ما يبدأ أيضًا في التكثيف ببطء مع السطر الأخير المنتصر "نعم سيدتي إنك مفرطة في المرح". إنه خجل الشباب من خلال عدسة الحنين الناضج إلى الماضي، كوسيط للمزج بين كبر السن من جهة والطفل من جهة أخرى. لكن النص العربي يظهر حركة أكثر تدريجية تضيق ببطء نطاق العمل المطبوع ككل؛ ومن ثم تهدف سرعة القصة هنا إلى الركون إلى اللحظة التأملية الأخيرة للحنين إلى الماضي. إن رؤيتنا في النص العربي في شقها التدريجي تعزز "الفجوة" المفاجأة في المنتصف، التي تفصله إلى "جسمين" متمايزين مقارنة "بالأجسام" الثلاثة في النص الإنجليزي. تنجح هذه "الفجوة" في الشق العام "للجسم" الكلي كنوع من الحملقة المقيدة المباشرة على الكل ثم نموه إلى الخارج فجأة. لقد نجح بالتأكيد إلى حد ما في جذب الانتباه إلى سرعة الحنين إلى الماضي بالقصة بشكل أكثر إيقاعية من النص الإنجليزي كإسراف في التعبير على الصفحة. من المؤكد أن النص الإنجليزي أكثر التزامًا في عرضه لكل من "الأجسام" بصورة أكثر توازنًا إلى جانب مختلف مظاهر الزيادة التي تفترض نوعًا من الاتساق مع النص العربي.

لكن محفوظ يضع بذكاء ذاكرة الطفل مباشرة بعد عبارة "يا صاحبة المداعبات التي لا تنسى" نحو نهاية "الجسم" الثاني عندما نتوقع أن يبدأ هذا بمقطع جديد إن جاز التعبير. وهنا يبدأ اللوم الكبير بطريقة أو بأخرى. لذا فإنها ترتبط في عدم تقليديتها بين "الجسم" الثاني والثالث من جهة وذاكرة الطفولة التي تصحب "تنهيدة" أكثر اندفاعًا إلى الماضي إلى حد ما. بشكل أو بآخر يمكننا القول إن لدينا تصاعدين اثنين، الأول بخصوص "حاضر" حالة المرأة الأكبر سنًا والثاني يتوجه نحو ذاكرة النساء المرحات. تشغل الطفولة وجهي العملة الواحدة والناحية المقلوبة إلى حد ما من الصفحة. بمعنى أو بآخر، يشغل البناء التراكمي عملية استرجاع الماضي حتى عندما تشغل مجال فضاء الزمكانية الذي يندفع نحو قرار القصص الشجاع. غير أن سرعة النص الإنجليزي اصطدمت بالعمل المطبوع في توسعه، وانحناءاته وتحولاته إلى الداخل، ثم خروجه مرة أخرى. هنا ومرة أخرى يمكننا أن نطلق اسم نوع من "الرأس" / العنوان، ثم نوع من الكتف الذي ينحني بشكل شهواني "إلى الداخل" ثم ينحني إلى الخارج حتى نصل إلى الشكل النهائي والمدهش، إنه شكل حيث يبدو الشق البطيء للنص العربي أكثر يقظة بصرية للحركات المادية للذاكرة في القصة التي بين أيدينا. ومن الحتمي أن يتأثر القارئ بمثل هذه المنحنيات المتعددة التي تمثل نوعًا من الامتداد "الممتلئ" خلال الصفحة والانحناء إلى الخارج ثم إلى الداخل يمثل الخلفية الكلاسيكية كنوع من الصور المتحركة المؤثرة التي تندمج مع الفضاء الفارغ وتثير نتاج القصة الفعلية ذاتها. حكيٌ بهذه الطبيعة في تقديره لسرعة قوة الدفع وتصاعدها هو أيضًا إيماءة مادية بشكل كلاسيكي لا تخلو من نبض هذا الشكل الفني المادي الذي يعمل على مستوى الحاكي والقارئ الذي يشارك في عملية الصياغة وإعادة الصياغة المستمرة للقصة. هذه الأجزاء متيقظة دائمًا لهذه التضمينات حتى عند قدرتها على إدراك الفرق بينها وبين بعضها البعض. هذا هو الجسم الغائب، "البعيد" عن الوجود، ومن ثم يُشْتَمُّ حضوره إلى حد ما، يشد الزمكانية ويجذبها وكما وضحت من قبل، ومن بين هذا لا يتذبذب نتاج الطفل "المنفصل" منذ البداية في "دعاء" ضمن القصص فحسب، بل خلالها أيضا.

سأعطي مثالا موجزًا وأخيرًا عن كيفية التعبير عن الدينامية الطباعية. ترتبط قصص بعينها مع بعضها البعض بخيوط دقيقة لكن مشبوكة بعناية تشير إلى حوار يعمل "بينها". انعكست حياة الشيخ في قسم معين أطلق عليه عنوان "المطارد" حيث يبدأ قصته "هو يطاردني من المهد إلى اللحد" ذلك هو الحب". أوضحت القسم ككل من (مثال 5) كما هو في النص الإنجليزي و(مثال 6) في النص العربي. لكن "الرأس" / "الوجه"، "المطارد" الذي يدعي جملة البداية هذه كجملة طولية يرضيها الوقف، ثم كلمة "الحب" يشبك هذه الجملة بصورة مشخصة خلال الصفحة. من هذا يبدأ نوع من علاقة حب لعوب تتباهي بنفسها قطرة قطرة خلال الصفحة إلى جانب تصفح القارئ المغري. تميز هذه العلاقة علامة تعمل بينهما كنوع من الستار الفاصل الذي يمهد الطريق من خلال الصفحة إلى "المشهد" التالي. تعبر المرأة الغامضة عن إيماءة رمزية للمرح الصوفي الذي يحض الرجال على الارتماء في أحضان عشقها، كلاهما يتجه نحو نقطة ثبات من خلال كل من الحاكي والطباعة، لكن من المؤكد أن النص الإنجليزي يتخذ "مباشرة" في التعبير أكبر من النص العربي ويستثمرها بمعنى اختزالها عند عرضها.

The Pursuer
Sheikh abd-Rabbih al-Ta'ih said:
It pursues me from the cradle to the grave: love.

The Winner
Sheikh abd-Rabbih al-Ta'ih said:
It became generally known in the quarter that the beautiful woman would give herself to the winner. The young men dedicated themselves wholeheartedly to the contest. The winner went off to the woman intoxicated with happiness, staggering with exhaustion. At her feet he threw himself down, wedded to passion, a prey to fatigue. He went on gazing happily at her until overcome by drowsiness.

The Abyss
Sheikh abd-Rabbih al-Ta'ih said:
The reception room has seen even me, as I waited, hoping for success.
The father enters, dignified and lovable, but cautioning against fetters and consequences.
An inner voice called to me to make my escape.
Then she comes, tripping along bashfully, and I fall into the abyss.

المطارد
قال الشيخ عبد ربه التائه:
هو يطاردني من المهد إلى اللحد ، ذلك هو الحب.

الفائز
قال الشيخ عبد ربه التائه:
ذاع في الحارة أن المرأة الجميلة ستهب نفسها للفائز . وانهمك الشباب في السباق بلا هوادة ، ومضى الفائز إلى المرأة ثملا بالسعادة مترنحا بالإرهاق .
وعند قدميها تهاوى قرينا للوجد فريسة للتعب . وظل يرنو إليها في طمأنينة حتى لعب النعاس بأجفانه.

الهاوية
قال الشيخ عبد ربه التائه:
حتى أنا شهدتني حجرة الاستقبال وأنا أنتظر راجيا التوفيق.
ويدخل الأب وقورا ودودا ، ولكنه ينذر بالقيود والعواقب .
ودعاني صوت باطني إلى الهرب .
ثم تجيء هي متعثرة في الحياء فأسقط في الهاوية .

لكننا في النص العربي (مثال 6) نرى فرقًا أكبر بمعنى أن هناك قدرًا أقل من هذا النتاج العظيم معبرًا عن الحكي. يبين ذلك عدم استخدام علامات في المنتصف، ولكنه يقسم هذا المقطع الكامل إلى ثلاث قصص تلمح هذه المرة إلى أن الزمكانية تتحرك داخل القصص وفيما بينها تمامًا كما لو كانت ليست بحاجة إلى مواضع علامات معينة على الطريق لتحاول أن تعطيها نكهة قصة. وبالتالي تبدو الحركة من النص العربي إلي الإنجليزي مشتملة أيضًا على نتاج حركة حوارية متسقة مع الوسائل التي يمكن من خلالها إضافة نكهة إضافية إلى نقاط رئيسية معينة، وفي هذه الحالة أعني التشابك التدريجي للقصص الثلاث من خلال استخدام العلامات بدلاً من العنوان في النص الإنجليزي. إنها تمكن الزمكانية من الاندماج حتى في محاولاتها لتنبيهنا إلى الحركة المعقدة من قصة إلى أخرى. هنا نستطيع أن ندمج الطفل داخل هذا، الذي يشكل جزءًا من تنبيه - إن جاز التعبير - لفن الحكي حتى في حالة إدماجه لها.

يتخذ العمل المطبوع في كل من النص العربي والإنجليزي في الجزء الثاني من "المقاطع" الثلاثة شكل فقرة مصقولة بعناية، تصف "مشهد" السباق الذي سيفوز بقلب المرأة الغامضة. يمهد الشيخ للعرض الذي يصف المشهد من خلال جمل متراصة أكثر انتظامًا تصف الرجال الذين "لعب النعاس بأجفانهم". غير أن هذا الشكل المصقول المستقيم لا يخلو من وظيفة أيضًا، فيبدو أنه يحاكي تصاعد القصة حتى الهبوط الأخير كما في "بين القصرين" ولكن ضمن اللعب الأصغر من جانب من يقوم بالحكي هنا، فإنه يعبر بشكل كلاسيكي عن شكل محمي استراتيجيًا سيتعرض بكل تأكيد - ونحن نعلم ذلك - للانفجار. هذا بالطبع ما حدث لكن النص العربي يلمح إلى محتواه بصورة أكبر، من خلال عدد أكبر من التقسيمات الجامدة بين كل مقطع. ويعبر العمل المطبوع عن المعنى المدوي "لنهاية" ما ضمن القصة نفسها.

هذا يعني أننا وبعد الفاصل يلاحقنا هذا المطارد للحب، فالشيخ الذي ينجح مع السيدة الغامضة من بين كل المتنافسين على طلب يدها، نراه يسقط "في الهاوية"(43). هنا ومرة أخرى يرشدنا الحاكي أثناء صقله لشكلٍ مثير للذكريات ببطء. وفي شكل تقليدي للجمهور المستعد والمتعطش هناك مقدمة كبيرة تتميز بعنوان، هذا هو "رأس" الملامح المباشرة التي تضيء تلك اللمسة القاتلة من الافتتان. إنها تصب كلمات الشيخ عن الحب من خلال عمل مطبوع قليل السمك للغاية، ومنتشر خلال الفضاء الفارغ، لكن يبدو أنه يشير مرة أخرى إلى وضوح تافه. التيمة الرئيسية هنا هي الحب المحتضن عند نهاية الجملة التي تسمح لنا عن طريق قالب الطباعة أن نستقر على الكلمة كنوع من التأكيد على التلخيص. هذا المشهد التالي هو الذي يستنفر معنى كلمة الحب "كجسم" رئيسي. رغم أنه يبدو عشوائيًا وغير خطي بما يكفي، هناك تذبذب مصقول معين منعكس على سرعة إيقاع السرد، أي مطاردة الشيخ للحب. لكن حينما نصل إلى المشهد الثالث يبدأ هذا الجسم الرئيسي في زفر "نَفَس" أكثر - إن جاز التعبير. وتنعكس حدة المطاردة في المشهد السابق في العمل المطبوع الأكثر تكثيفًا وشدة الذي بدأ يعبر عن غضب الشيخ المرح والصاخب والذي ينتظر جائزته بفارغ الصبر.

هذا العمل المطبوع الآن مزيج بين المشهدين الأول والثاني في النص العربي والإنجليزي ليس فقط من ناحية القصة نفسها، بل من ناحية شكلها الخارجي أيضًا، مزيج ما بين تذبذب معين وانضباط في ذلك الوقت. وتعكس كلمات الشيخ الآن على نحو متزايد صوفية مادية إلى حد ما تنعكس على العمل المطبوع. يلتف الخط الفاصل أكثر انحناءً وتذبذبًا ليشير إلى المرح والصخب ومن ثم إلى التصاعد التدريجي. لدينا هنا تتابع لسطور أقل سمكًا وأقصر ، شبيهة بالمشهد الأول، لكنها الآن متراصة الواحد تلو الآخر باعتبارها نوعا من المقدمة الشبيهة بالموكب التي تقدم إيقاعًا. ويبدو انفعال تلك الزمكانية متشابكًا بشدة مع هذا الغضب الصوفي، فحدة الجو تجعل "الامتلاء" دائمًا في حالة انتشاء. من ناحية الطباعة، يظهر الجهد الذي يبذله الشيخ في شكل مرح وصاخب، للوصول إلى حالة من النقاء، ثم المطالبة بها مرة أخرى في براءة الطفولة المفقودة. وكما سبقت الإشارة، فقد الشيخ "التائه"، وهج طفل "ولد" ثم تحامق منذ سبعين سنة، وهذه المطاردة التي تتخذ طرقًا عديدة ضمن القصة والزي المادي للعمل المطبوع. يشكل الطفل جزءًا من ذلك الغطاء الحواري إلى حد ما من الزمكانية التي تندفع وتنطلق خلال مختلف الأقسام. يبدو أن الطفل يتبع نمطًا مشابهًا في النص العربي والإنجليزي من الكشف عن رغبة الشيخ في الحب التي تلمح إلى الشدة المستمرة للبحث بعناية وفطنة ليبدع تفسيرًا مماثلاً خلال الصفحة. إنه "حب" وبحث يشكل وعيًا مشابهًا لطفل "يعي"، ويتأكد عن عَمْدٍ أنه مقنَّعٌ في لعبة الحضور / الغياب.

ما تبينه الرموز في الترجمة الإنجليزية التي تقسم النص أيضًا هو مدى قدرة الحوارية المادية على الربط بنجاح بين مختلف جوانب النص، لكنها تعمل "بينها" من خلال الفضاء الفارغ بطريقة تبين كيف "في بعض الأحيان وعلى النقيض، بدلاً من أن تلتحم الكلمات مع بعضها البعض، فإنها تفقد صلاتها الحميمة"(44). لكن في الحقيقة فإن النص العربي - كما ذكرت سلفًا - لا يستخدم هذا لكنه يحافظ على تسلسل أحداث القصة بالتتابع، وهذا يعني أن هذا الموضوع يعمل بين القصص الفعلية لكنه يمتد إلى النص الإنجليزي عن طريق القطع والدمج بشكل أكبر. ويشير هذا إلى عمليات الفضاء الفارغ السري حيث يلتف هذا الوعي خلال الفضاء الفارغ، لكنه قادر أيضًا على الافتراض بوجود جسم بصري ما، يبرز إلى الداخل ثم يبرز إلى الخارج.

حاولت حتى الآن أن أوضح كيف تطلب حياة محفوظ الكاملة، و"مجموعة" أعماله الكاملة حين ينظر إليها بوصفها تعبيرا إجرائيا على الدوام بطرق جديدة يعبر فيها هذا التعبير عن نفسه. لكني أوضحت أيضًا أن شكل السرد المتشظي والمتناص ككل يتطلب توسعًا في الطريقة التي تُفْهَم بها الزمكانية. يحرص جابر عصفور على الابتعاد عن التقسيم الذي يتخلل تفسير أعمال محفوظ من خلال عدد من "مراحل" التطوير. وبدلاً من ذلك لابد لنا "أن نفهم مجموعة من العلاقات التي تؤدي بنا إلى "وحدة حية" من نظام يتميز بالاضطراب بدلاً من السكون"(45). وبهذه الطريقة "تبرز الوحدة ليس بوصفها مجموع الأجزاء بل بوصفها نتيجة للعلاقات مجتمعة، بين عناصر نص واحد وبين عناصر في كل النصوص"(46). ويبرز "التناص الدينامي" - كما عبر عنه صبري حافظ الذي يفحص أكثر "زمكانية التناص"(47) ككل مؤثر، وأيضًا الزمكانية السردية داخل كل نص. تتآكل التغيرات داخل تغيرات أخرى وتتسبب في ذلك "المرح والصخب"(48) المحوري، والضروري "للقطيعة مع التقـليد الراسخ بفرض توضيح أساس كل منهما"(49). لا تسـتطيع الزمكانية فقط الانسحاب الجمعي دون الانسحاب على حدة أيضًا، وبهذه الطريقة تتكشف طرق جديدة من البحث، طرق جـديدة يمكن من خلالها دمج دينامية أكثر مادية وبصـرية مع الزمكانية وكل أشكال التعبير القصصي.

ترجمه إلى العربية: علاءالدين محمود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Naguib Mahfouz, Naguib Mahfouz at Sidi Gaber: Reflections of a Nobel Laureate, 1994-2001, From Conversations with Mohamed Salmawy, (Cairo: The American University in Cairo Press, 2001), p. 59
(2) هذا المقال مستقىً من رسالة أكبر تعالج زمكانية باختين إلى جانب أعمال أدبية معينة أخرى. ومن خلال ذلك عالجت ما أطلق عليه "زمكانية الطفولة" والعلاقات المتبادلة بين الشكل السردي والنصي من خلال عدد من النصوص المختلفة. كما ناقشت أيضًا "الكتاب" و"النص" في إطار أوسع ومن خلال نظريات باختين الأوسع.
(3) Naguib Mahfouz, Echoes of An Autobiography, (New York: Doubleday, 1997), trans. Denys Johnson-Davies. This particular translation shall be used. The Arabic translation of Echoes of An Autobiography used in this study will be A.sda' al-sirah al-dhatiyah, (al-Qahirah: Dar Mi.sr, 1995).
لاحظ أنني سوف أستعمل الهجاء المختلف اختلافًا طفيفًا من ترجمة دينيس جونسون-ديفيز، "أصداء السيرة الذاتية"، وليست تلك الترجمة التي استخدمتها "الأهرام".
(4) Roger Allen, "Autobiography and Memory: Mahfuz's Asda' al-sira al-dhatiyya" in Robin Ostle et.al., Writing the Self: Autobiographical Writing in Modern Arabic Literature, (London: Saqi Books, 1998), p.215.
(5) Ibid., p.216.
(6) M.M Bakhtin,"Forms of Time and Chronotope in the Novel," in The Dialogical Imagination: Four Essays, Michael Holquist (ed.), trans. Caryl Emerson and Michael Holquist, (Austin: University of Texas, 1981), p. 250.
لاحظ أنني سوف أستخدم بوجه عام كتاب "الخيال الحواري" باعتباره المرجع الأساسي خلال هذه الدراسة للإشارة إلى مجموعة المقالات العامة في هذا الكتاب.
(7) Ibid., p.251.
(8) أستخدم هذا في إشارة عامة إلى الطرق التي يضطر فيها "الشكل" الزمكاني إلى أن يصبح "مسحوبًا" بصورة أكثر مادية كما هو الحال وبصور شتى، وليس على هيئة ملخص للأنماط التي تتضمن في الأعمال الكاملة لباختين.
(9) M.M Bakhtin, The Dialogical Imagination, op. cit., p. 279.
(10) Naguib Mahfouz, Palace Walk, (New York: Doubleday, 1991), trans. William Maynard Hutchins and Olive E. Kenny. ومن الآن فصاعدًا سوف أستعين بهذه الترجمة على وجه التحديد لرواية "بين القصرين".
(11) Naguib Mahfouz, Palace Walk, p. 365.
(12) Najuib Mahfouz, Echoes of An Autobiography, p. 7.
(13) Ferial J. Ghazoul, Nocturnal Poetics: The Arabian Nights in Comparative Perspective (Cairo: American University in Cairo Press, 1996)., p.82.
(14) Ibid.,
(15) Najuib Mahfouz, Echoes of An Autobiography, p. 64.
(16) Ibid., p. 76.
(17) Ibid., p.21.
(18) Ibid., p.55.
(19) أرى هذا باعتباره تقسيمًا أكثر عمومية يقصد به "تغيران" كبيران في الفكرة داخل "الأصداء".
(20) Roger Allen, op.cit., p. 208.
(21) Najuib Mahfouz, Echoes of an Autobiography p.77.
(22) أفترض أن عمر محفوظ هنا حوالي 86 عامًا منذ نشر "أصداء السيرة الذاتية" في عام 1997، وكان ميلاده في عام 1911.
(23) Roger Allen, op.cit., p.210.
(24) Echoes of An Autobiography, op.cit., p. 103.
(25) Ibid., p.118.
(26) لابد من الإشارة هنا إلى أن هناك 243 قصة في "الأصداء"، والتي تتبعتها من القصة الأولى "دعاء" إلى الأخيرة "إفراج". وسوف أستخدم هذا التسلسل العددي بالنسبة للأقسام الأقصر التي سأشير إليها في بقية المقال.
(27) Ibid., p.79.
(28) Ibid.,
(29) Ibid., p.81.
(30) Gaston Bachelard, The Poetics of Space, trans. Maria Jolas, (Boston: Beacon Press, 1994) p. 203.
(31) Ibid., p.106.
(32) Ibid., p.107.
(33) Ann Tomiche, "Writing the Body: The Rhetoric of Mutilation in Marguerite Duras' L'amante anglaise" in Juliet Flower MacCannell and Laura Zakarin (ed.), Thinking Bodies, (Stanford, California: Stanford University Press, 1994), op. cit., p. 127.
(34) Najuib Mahfouz, Echoes of An Autobiography, op.cit., p. 69.
(35) Ibid.,
(36) See Gerard Genette, Narrative Discourse, trans. J.E Lewin, (New York: Cornell, 1998).
يرى جينيت أن هناك أربع حركات سردية هي: الحذف، والوقف، والمشهد، والملخص. وجاء شرح ذلك شرحًا مفصلاً في سياق كتابة السيرة الذاتية العربية على يد Tetze Rooke, In My Childhood: A Study of Arabic Autobiography, (Stockholm: Stockholm University Press, 1997). . ولقد استعنت بصورة أساسية بدراسة Rooke، وتناقش الصفحات من 153 إلى 169 تحديدًا هذه القضية.
(37) Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia, trans. Brian Massumi, (London: Continuum, 2003), p.150.
(38) Ibid., p.153.
(39) Ibid.,
(40) Ibid., p.158.
(41) Ibid., p.159.
(42) Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus, op.cit., p.159.
(43) Najuib Mahfouz, Echoes of an Autobiography, op. cit., p. 98.
(44) Gaston Bachelard, op. cit., p.213.
(45) Gaber Asfour, "From Naguib Mahfouz's Critics" in Michael Beard and Adnan Haydar (ed.), Naguib Mahfouz: From Regional fame to Global Recognition, (Syracuse: Syracuse UP, 1993), p.155
(46) Ibid.,
(47) Sabry Hafez, The Genesis of Arabic Narrative Discourse: A Study in the Sociology of Modern Arabic Literature, (London: Saqi Books, 1993), p.23.
(48) Ibid.,
(49) Ibid.,