موسى حوامدة
رحل الأسبوع الفائت ثلاثة من كبار الأدباء العرب، الطاهر وطار الروائي الجزائري، غازي القصيبي الشاعر والروائي والسياسي السعودي، أما الراحل الثالث، فكان الشاعر الكويتي أحمد السقاف.
واكبنا في الدستور الثقافي تغطية الاحداث الثلاثة، ولم تقصر الصفحات الثقافية في العالم العربي عن متابعة رحيل وطار والقصيبي، لكن التقصير بالتأكيد سيلحق بالسقاف، لأنه كان زاهدا، وبعيدا عن الأضواء.
بدأت علاقتي بالشاعر الكويتي أحمد السقاف منذ الطفولة، فمنذ تعرضت بلدة السموع عام 1966 إلى عدوانين اسرائيليين، أسفر العدوان الكبير منهما في 13/11/1966 عن تدمير بيوت البلدة وطرد أهلها منها، وإلى ارتفاع ولا نقول سقوط عدد من شهداء الجيش العربي يومذاك، وكان من بينهم الشهيد محمد ضيف الله الهباهبة، والطيار موفق السلطي، وعدد من الشهداء، من عدة عائلات أردنية مثل عائلة العوران وعريقات والعثامين والعموش والختاتلة وشموط وصدقة والسويطي والخليفات وغيرهم، عدا عن الجرحى الآخرين، وعدا عن نسف البيوت وترويع الناس، وتأثير تلك المعركة على الرئيس جمال عبدالناصر، والذي دفعه الغضب من العدوان على السموع، إلى سحب القوات الدولية من مضائق تيران، تلك الفرصة التي كانت تنتظرها اسرائيل لشن عدوان ال67.
عشت تلك المعركة بتفاصيلها، والتي ما زالت تحفر في الذاكرة، ولا تريد مغادرتها، فقد شاهدت بأم عيني النار وهي تلتهم الشهداء، وهم ببزاتهم وبساطيرهم العسكرية، وتلك الجيبات العسكرية التي اخترقت القوات الاسرائيلية، ووصلت الى البلدة، شاهدتها تحترق بمن فيها من الجنود، ورأينا الدمار والغبار الذي خلفه العدوان الهمجي.
كنا نشعر بالقهر، صحيح أننا كنا أطفالا، لكن طعم المرارة ظل عالقا حتى اليوم، وما أن كبرنا قليلا، حتى سمعنا باسم احمد السقاف، فقد ترددت قصيدته على مسامعنا، وبدأنا نشعر بنوع من التعزية، ونوع من الفخر، لأن شاعرا عربيا كبيرا، خلد بلدتنا في قصيدة رائعة قال فيها:
كفاك تفجعٌ وكفت دموع فهبي فالممات ولا الخنوع
ولا تبكي السموع وكيف ترضى بغير الثأر بلدتنا السَموع
بل لعلنا وجدنا في ذكر اسم البلدة شعرا، نوعا من التباهي والتفاخر، وظل هذا الاسم العربي عالقا في ذهني، ولم أك أدري ان الحياة ستأخذنا إلى الكتابة والشعر والأدب عموما، وكان أن أصدرت كتابي النثري "حكايات السموع" عن دار الشروق في عمان، عام 2000، فوضعت اهداء للشاعر أحمد السقاف ونقلت قصيدته كاملة، بعد أن كتبت اهداء ايضا الى شهداء الجيش العربي في تلك المعركة، وعلى رأسهم قمر الشهداء محمد ضيف الله الهباهبة.
حينما سمعت نبأ رحيل السقاف حزنت كثيرا، لأنني لم التق به، وكم تمنيت ذلك، سألت عنه مرارا، وكان يقال لي أنه كان يعاني من المرض، ولا أدري إن وصله كتابي أو أبلغه أحد الاصدقاء عنه، لكن حزني كبير على رحيل السقاف لأنه كان واحدا من أكثر المثقفين العروبيين، والذي لم يسع للشهرة كما فعل غيره، وكان صاحب نفس عفيفة وعزيزة، وخدم الثقافة العربية، سواء في سعيه في وظيفته في الكويت، التي كلفته أن يساهم في إحضار مطبعة مجلة العربي، أو عمله أيضا في خدمة الثقافة العربية في أكثر من دولة عربية.
كان السقاف مثقفا عروبيا بكل معنى الكلمة، عمل بصمت وأخلص لمشاعره وانتمائه وحين فهق الكثيرون أفواههم منادين بتفتيت وحدة الامة، وزيادة شروخها آثر رحمه الله الصمت.
ترك الراحل الكثير من الأعمال الأدبية واللغوية، لكنه أيضا ترك في حلقي مرارة جديدة، وندما من نوع خاص، مثل ذلك الندم الذي يشعر به مدين لم يسدد دينه لأحد الراحلين.
لقد كنا مدينين له، وسنبقى، فتلك الصرخة التي اطلقلها السقاف لم تذبل بعد؛
بني قومي فواخجل القوافي وآه ان تمكنت الصدوع
أيظلمنا اليهود ونحن قوم أصولهم كما تبغي الفروع
لقد كان السقاف واضحا في تسمية الأشياء بأسمائها، كما كان يفعل عبدالكريم الكرمي أبو سلمى والجواهري وبدوي الجبل، وعمر ابو ريشة، قبل أن يتراجع الشعراء والكتاب العرب عن تسمية الأشياء باسمائها، وقبل أن تختفي مفردات مثل؛ (اللاجئين، والعدوان، والصهيونية، والثأر، والتحرير)، من قاموس المثقفين العرب في السنوات الأخيرة، ليس هذا فقط بل لقد كرس اسم فلسطين في شعره في أكثر من قصيدة:
يمينا فلسطين لن نركعا أمام اليهود ولن نخضعا
لأن طال ليلك بالغاصبين فقد آن للفجر أن يطلعا
رحم الله، الشاعر والمثقف أحمد السقاف، والذي، ظل قابضا على الجمرين معا، جمر العروبة، وجمر الكبرياء الذي لم يخذله يوما.
Musa.hawamdeh@gmail.com