يخصنا الشاعر السوري المغترب ، بترجمة لأحد قصائد ديوان "الشاعر المختلف" الإيطالي دينو كامبانا، من ضمن أضمومته المترجمة التي سيصدرها قريبا. الشاعر الذي عانى كثيرا في حياته وظل متنقلا بين مصاف المرضى العقليين، دينو كامبانا الذي وسم بـ«رامبو» إيطاليا نتعرف على عوالمه الشعرية الأقرب الى السوريالية لأنها تأبى عن الاعتراف بموضوعاتها، وتأبى أيضا أن تبوح بأسرارها. نصوص تحفر اختلافها عميقا في «حالات» الصفاء الذهني التي تبدو وكأنها تؤسس لعالم هلامي.

صورٌ تجيءُ من ذاك الاغتراب، من تلك الأعالي

دينو كامبانا

الترجمة عن الإيطالية: أمارجي

 

... نحن الذين في القتالِ الليليِّ الأصمِّ

حطَّمتْ سلاسلَنا الرُّوحُ الأخرى الأجلُّ عظمةً

قد أفَقنا من نومِنا باكين، وكانَ فجرٌ أزرق:

كأنَّا ظلالُ أبطالٍ أبحروا بمراكبهم الشِّراعيَّة:

لا ظلالَ للفجرِ في الصَّمتِ الخالِصِ

للفجرِ

في الفِكرِ الخالِصِ

لا ظلالَ

لا ظلالَ للفجرِ:

باكين: نحنُ الذين أقسمنا عهودَنا للأزرق

...........................

...........................

تلكَ المرأةُ الجالسةُ باهتةً وشابَّةً كما هيَ

فوقَ المنحدر الأقصى، عندَ البيتِ العتيق:

مِن أمامها تمتدُّ الأوديةُ مُبهمةً ومُشوَّشة

تصعدُ نحوَ العُزلاتِ العُلويَّة للأفق:

تلك النبيلةُ الشَّائبة، هي ذي تُصغي إلى غناء الوقواق.

وها هوَ القلبُ البسيطُ العارفُ، بحُكم السِّنين،

بأسرارِ الأنغامِ الأرضيَّة

يتسمَّعُ في سكونٍ: النغماتُ

تأسُرُ، صافيةٌ ومُلتبسة كأنَّها منديلٌ من حَرير.

من بين الأيكاتِ المُعتمة يخرجُ المسيلُ

ويضربُ الدَّير الصَّخريَّ بتدويماتٍ مخدورة

مُلفِّفاً إيَّاه بغلالةٍ أثيريَّة سماويَّة اللون.....

فيما الوقواق يسكبُ بأناةٍ أكبر

نغمتين مُغشَّاتَين بالصَّمت الأزرق

.........................

.........................

الفضاءُ يضحكُ: النَّفيرُ في الوادي

يصُكُّ الجبال: حشدٌ من جُندِ الاستطلاع هناكَ

يتفرَّق: قذائفُهُ متوقِّدة: قلوبُنا تقفزُ:

هو ذا يصرخُ ويعبرُ الجسور.

ومن الأعالي نحوَ البدايات اللانهائيَّةِ المترصِّدة

ها هيَ تنسكبُ قلِقَةً عبرَ المنحدرات،

مرتعشةً وغامضة وسطَ الينابيعِ الفوَّارة،

أصداءُ قلبينا الخفيفَين.......

وقد جازَت آفاقاً افتراضيَّة:

آه! لا أعرفُ أيَّ غناءٍ باخوسيٍّ تُراها تصعدُ

في الفضاء: والجبلُ يدوِّمُ من ورائها:

...........................

وكان مسموعاً غناؤها الأخضر.

..........................

ها إنِّي أمضي، أيَّتها المياه الدُّوَّامة، عبرَ انحناءَةِ

الوادي، في الهَمْسِ الأصمِّ المُذَرَّى:

أتقفَّى جناحاً مُتعبَاً يخفقُ ويطوفُ

عبرَ انحناءةِ الوادي: مستوحشاً

أمضي عبرَ الأودية إلى حيث تُبرقُ في الصَّفاء

الأزرق، وسط الصُّخور الوعرة

ضيعةٌ رماديَّةٌ مُختلِفٌ أبراجُها

تَلوحُ وتختفي في الفِكرِ المتعاقِب،

عالياً فوق الحُلمِ الغافلِ، والمُصفَّى!

أوه، لكأنَّ المسيلَ الذي يتجرَّفُ كلَّ شيء

ثمَّ يستريحُ في الأزرق المتعادِل-

لكأنَّه يتجرَّفُ جدرانَكِ أيَّتها الرُّوح

المحطَّمة، يتجرَّفُكِ نحو العَدَم في اندفاقِهِ المُميت،

نحوَ السَّلام المتبلِّر الأخير،

آه لو يمكنني أن أتَّكئ هناكَ على جدرانِك

في سلامٍ كمثلِ هذا،

فيما يتمرأى هذه الذِّكرى صفاءٌ إلهيٌّ

مفقود، آهِ أنتِ أيَّتها الرُّوح

الأبديَّة! آهِ أنتِ!

...........................

...........................

إنَّه القطاف، مجلوبٌ مع الجوقةِ الغامضةِ

للرِّيح، في مسالكِ الأمواجِ الطَّويلةِ والسَّاكنة

أبكمٌ، ومُمجَّدٌ عالياً إذ يَفكُك أمامَ عينيَّ

باطنَ الأضواءِ المُذهَّبة.

أوه أيُّها الأمل! أوه أيُّها الأمل! ألفُ وألفُ

ثمرةٍ تتلألأ هذا الصَّيف! والجوقةُ إيَّاها

أثيريَّةٌ، وفي هَمسِها المُبهَم شَدوٌ

يومضُ بألفِ وألفِ شرارة!.....

 

ها هوَ الليل: وها أنا صاحٍ

أضواءٌ وأضواء: وأنا بعيدٌ ووحيد:

قد هدأ القِطاف، ونحوَ المُطلَق

(النَّفسُ كذلك هدأت) تمضي قصائدُ خرساء

في الليل:  آه في الليل: أُصغي: لا شيءَ

غير ظلٍّ يعود، وشيءٍ قد ارتَحَل.....

 

 

 

* وُلِدَ دينو كامبانا في مارَّادي، آخرِ البلديَّات في مقاطعة فيرِنتسِه، في العشرين من آب/ أغسطس عام 1885م. كان مصاباً بنوعٍ من العنف الاعتلاليِّ الذي قادَه إلى مصافِّ المرضى العقليين، وقد ولَّدَ في محيطه ثورةً ضدَّه، ضدَّ جنونه وخروجه عن الاعتياديِّ والمألوف. يُلتقَطُ منَ الوصف المشهديِّ في شِعر كامبانا، والذي يُحاذي السِّحر، حبٌّ خاصٌّ من قِبل الشاعر تجاه فنِّ مايكل أنجلو وليوناردو حيث يمكن للتكعيبيَّة والميتافيزيقيَّة أن تتذاوبا في بعضهما. يضعُ أونغرِتِّي أسفارَ كامبانا موضعَ الجدال والتَّشكيك، لكنَّه مخطئٌ في ذلك، فثمَّة أدلَّةٌ دامغة على رحلته إلى فرنسا، وإلى أمريكا الجنوبيَّة، وعلى إقامته في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية، في ربيع- صيف عام 1908م، وعلى دخوله السِّجن لثلاثة أشهر في بروكسل، وعلى نفيِه إلى تورناي بسبب غرابة أطواره. من كلِّ هذا الاغتراب، بقيت لنا قطراتٌ رائعة التناغم في "أناشيد أورفيَّة"، العمل الوحيد الذي تمَّ إنجازه للنشر من قِبل كامبانا نفسه. في آخر حياته أودع كامبانا في مشفى الأمراض العقلية في سيينا، حيث توفِّي عام 1932م، لتُختَمَ بذلك مأساةُ من يعتبره الكثيرون رامبو إيطاليا وآخِرَ شعرائها الكِبار.

 

** أمارجي، شاعر سوري

  • وُلدَ بمدينة اللاذقية الواقعة على المتوسِّط سنة 1980
  • درس اللغة الإيطاليَّة في جامعة بيرودجا في إيطاليا
  • حازَ شهادتَي ماجستير من جامعتَي كاتانيا، وبيرودجا في إيطاليا حولَ التَّواصل الثَّقافي وتدويل النُّظم بين دول البحر الأبيض المتوسِّط
  • الجائزة الأولى في الشِّعر خلال مهرجان آذار الثَّامن عشر للأدباء الشَّباب 2001
  • صدرَ له ديوان بعنوان "ن" عن دارَي مواقف في لبنان وبدايات في سوريا 2008
  • صدر ديوانه الثَّاني بعنوان "بيرودجا: النَّصُّ- الجسَد" عن دار مواقف في لبنان 2009
  • صدرت ترجمته لكتاب "أفكار" للشاعر الإيطالي جاكومو ليوباردي عن هيئة أبو ظبي للتراث والثقافة، مشروع كلمة للترجمة 2009
  • تصدر قريباً ترجمته لديوان "أناشيد أورفيَّة" للشاعر الإيطالي دينو كامبانا.
  • له عدَّة مقالات وقصائد منشورة في الدَّوريَّات الثقَّافية