هذا كتاب شهادة، تقدمه (للكلمة) الكاتبة الفلسطينية المرموقة حزامة حبايب، فيتحول التقديم إلى شهادة على الشهادة، وتتراكب في النص الشهادات والأوجاع: وجع الكاتبة بفقدان صديق، وجع الأب إزاء مأساة الإبن وزحف السرطان، ووراء كل تلك الأوجاع يتجلى الوجع الأكبر، الوجع الفلسطيني الواقع في قبضة سرطان أكبر.

غُسَانُ قَلْبِي (كتاب / شهادة)

صلاح حزين

 

«الألم لا يتكرّر، إنه يغور عميقاً»

مالك حداد

 

سيرةُ الابن.. سيرةُ الأب

حزامة حبايب

في الأول من أغسطس (آب) 2009، أخذ الموت صلاح حزين، الناقد والكاتب والصحفي والمترجم والصديق والجميل والشغوف والإنسان، الذي عاش حياة طبعتها هندسة خاصة للمأساة، والأب الذي اختبر الحزن واختزنه، بعد معاناة مضنية كتومة مع مرض السرطان، طواها في نفسه المتأبيّة بشجاعة وثبات، لأكثر من عامين، هزُل خلالها جسمه وشحُب، لكنّه لم يتضاءل، لم يتناقص، لم يكشّ أو ينكمش، وظلّ مديداً، هائلاً، توّاقاً لقطف شموس غدٍ؛ ظلّ حتى ما قبل الساعة الأخيرة من رحيله شبه متيقّن من أن زمنه لن يخذله، وأنه سيكون أكثر ضياءً للجسد والنفس، أخفّ لوعة، أقلّ كمداً وقهراً. ظلّ صلاح ينتظر نهاراً يطرق نافذته معلناً انجلاء عتمة الكابوس، وظلّ يتشوّق إلى صباح يستيقظ فيه على يقظة غسّان ابنه، غُسَانِ قلبه، صفوة أمله، وثمرته اليانعة في الحياة؛ ثمرة قُدّر لها أن تسقط من غصن الأمنيات، في عزّ يفاعتها وفي عزّ توقّعاتها: لا هي ناضجة مشتهاة ولا هي ميتة؛ ثمرة متغضّنة تطوي شيئاً يشبه الحياة، حياة لا قيمة عُظمى لها إلا أنفاس آلية ونظرات زائغة ضائعة وعقل مُغمض وفكر مطفأ – أو لعلّه مضاء في ظلمته الخاصة به – وأفق غير منظور لصحوة مؤجلة في الرّوح، ويقظة بدنية وعقلية مستبعدة، والأيام تتسرّب من أعمار المحزونين.

* * *

في أواخر يونيو (حزيران)، غادرتُ الإمارات – التي أقيم فيها مع عائلتي – إلى عمّان، في زيارة عائلية بدت لي في السنوات الأخيرة ملحّة نفسياً وعاطفياً، ولم تعد تشكّل عبئاً اجتماعياً كبيراً كما كانت من قبل، أو واجباً أحاول التنصّل منه، لأنّ مدن الاغتراب من القسوة بحيث تدفع بنا – في سني العمر التي نخجل فيها من البكاء – أن نُلقي بأنفسنا في حضن أمّهات وآباء وأشقّاء لا يعودون يشبهوننا، والاستنجاد بصداقات نقيّة تظلّ رصيدنا الوحيد غير الخاسر وسط ركام خساراتنا؛ صداقات عالقة أصواتها في سمّاعة الهاتف، تستريح على بخار قهوة منزلية وشاي يُعدّ بأطنان اللترات لعائلة ممتدة وبشر يتوسّمون فينا الرجاء، قد يطرقون الباب علينا في أيّ وقت.  كان صلاح أحد تلك الأصوات وأجملها، وإن لم يعد صوته في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وتحديداً منذ حادثة ابنه غسان المأساوية، يأتيني موفور الرّغبات أو عابقاً ببقايا ضحكة خالصة من غُسان قلبه، ذلك أن غَسّانه كان قد أسلم نفسه للغيبوبة.

كنتُ مع ابنتي سارة حين زرتهُ في بيته، الذي هو بيتنا الآخر، الدافئ في كلّ مواسم العمر. كان ذلك آخر صيف لصلاح. استقبلنا بتلك الابتسامة العريضة، واقفاً بثبات، باسطاً قامته لنا بسخاء، على نحو أعماني عن رؤية هزاله البادي. حضن سارة بحنان، وأُخذ حين اكتشف أنه لم يرها صبية منذ زمن لم يشأ أن يحسبه. كانت هدى، زوجة صلاح وصديقتي، تقبض على دمعات ساكنة، متماسكة، في العيون. منذ حادثة  غسّان، تستقبلنا هدى بالبكاء وتودّعنا به، فنحن الوجوه المتحرّكة التي تذكّرها بوجه غسان الثابت على سرير الغياب، ونحن الذكريات والحكايا والنكات والضحكات والشهقات والأغنيات التي كانت جزءاً من سيرة غسان الحيّة، قطعة غنية من نسيج وعيه، بوصف الوعي حياة.

كان صلاح وهدى قد عادا لتوّهما من مستشفى الحسين للسرطان بعد فحص – يفترض أنه روتيني – لمتابعة تطوّر المرض عنده، بعد انتهاء عدة جلسات مقرّرة للعلاج الكيميائي. شُخِّص صلاح كمصاب بسرطان القولون أول مرة في مايو (أيار) 2007، وخضع لعدة جلسات علاج كيميائي نجحتْ مبدئياً في تطويق الأورام السرطانية وتجريدها من مقدرتها العالية على الفتك، دون تجفيف منابعها على ما يبدو؛ ذلك أن المرض – الذي لم تقترن صفة الخبث به عبثاً – نشط بعد بضعة شهور من الاطمئنان إلى "نظافة" الجسم منه، فزحف حثيثاً إلى الرئة. تعيّن على صلاح ثانية أن يخضع للعلاج الكيميائي الذي يستنزف جسده الآخذ في النحول. في المعاينة الطبية الأخيرة، "نعَق" الطبيب بالخبر الأليم: زحف المرض إلى الرئة الثانية، منتشراً كالسعار!

جلسنا، سارة وأنا، نستمع بذهول إلى صلاح يشرح لنا بتفصيل، لم يسعَ فيه إلى مواربة الوضع أو الالتفاف عليه: أن الطبيب قرّر إيقاف العلاج الكيميائي، وإخضاعه لعلاج آخر، بعدما انتشر المرض الآن في رئتيه كلتيهما. رسم صلاح تصوّراً غرافيكياً لخريطة انتشار المرض في الهواء، بيديه الكريمتين؛ فسّر لنا أن الأمر له علاقة – كما فهم – بأن شبكة الأوعية الدموية اللانهائية في الرئتين تجعل من الصعب السيطرة على المرض، الذي يستشري بصورة سريعة جداً. كان يتكلّم بدقّة علمية مخيفة، وثبات عاطفي غريب، وهي ليست إستراتيجية اعتمدها للهروب من الواقع، والإشاحة عن استحقاقات الموت الوشيكة، بل هي إصرار نفسيّ على مواجهته؛ وهو إصرار "صلاحيّ" وسَمَ صاحبه كما عرفته، وكما عرفه الجميع. بدا صلاح وكأنه يتحدّث عن حالة مرَضية لشخص آخر، ربما يعنيه، لكن ليس كثيراً. بدا مدركاً، مطّلعاً، غير متوهِّم، غير مخفِّف – تمثيلاً على الأقل – للوجعِ القادم، وغير ملطِّف – ادعاءً – للقدر اللعين. في كلّ ذلك، ومع كلّ ذلك، لم يكن مستسلماً أو مسلّما للأمر، مؤكّداً لنا بنبرة صوته التي طلعت حييّة دافقة، غير متعثّرة، وإن شابها حزنٌ وقلقٌ على ابن ملقى على سرير الغياب في غرفة مجاورة، خشية ألا يظلّ الأب عمراً أطول يحمله إلى الحمّام مرة في الأسبوع لتغسيله، يحلق له ذقنه النابتة ويغيّر له – مع هدى – ملابسه على السرير، ويطعمه، ويتحدّث معه كأنه بكامل وعيه، ويضحك إن جاراه الابن في ضحكة غير مفهومة تطلقها شفتاه الصامتتان؛ هذا الابن الذي عاد طفلاً تضاءلت احتمالات أن يكبر ثانية.

حين انتهى صلاح من سرده المثير، كنت ما أزال أحاول استيعاب وقائع المرض، والأهمّ أني كنت أحاول أن أسقطها عليه، باعتباره المعنيّ بها؛ لكن لم يبدُ لي أنه كان يتحدّث عن نفسه، وبكل يقين لم يكن يشير من قريب أو بعيد إلى موته الداني جداً. فتحتُ عينيّ على اتّساع مؤلم. نظرتُ إلى هدى التي كانت تتابع شرحه بانفصال استمدّته من انفصاله. كانت سارة تجلس ملتصقةً بي. شعرتُ بارتجافة هائلة تشمل جسدها اليانع، فيما أخذتني هبّة برد تيبّستْ أطرافي على أثرها. كلّل صمتٌ حذِرٌ فضاء الحجرة الذي تعبِق بالذهول. صوتٌ متنامٍ لبكاء مكبوت كسر الصمت. كانت سارة تبكي بخجل، تستقبل انهمار المطر من عينيها وأنفها بمنديل ورقيّ افترشته فوق نصف وجهها السفليّ، قبل أن تتداعى حصون الخجل لديها لتبكي بكاء حارّاً غزيراً، وتدخل في نشيج سخيّ، اضطررتُ معه أن أسحبها خارج الغرفة كي لا يبدو الأمر وأننا ننعي صلاح، فيما لحقت بها هدى لتشاركها هي الأخرى بكاء تقوقع في مآقيها منسحباً أمام صلابة صلاح وتماسكه. لم أبك أمام صلاح. ولا أعرف كيف انفصلت – في تلك اللحظة – عن التقرير الطبّي واضحِ النّهايات، بل وجدتني أعتذر عن بكاء سارة الذي لم يلتمسْه صلاح، ولم يحرصْ بأيّ شكل من الأشكال على استثارته، هو المتأبّي على الشفقة والدموع. لم أشأ أن أبدو هشّة أمام الرّجل الذي وزّع محبته علينا بكرم القادر المنيع. هزّ رأسه كأنه يشفق عليّ وعلى سارة، يريد أن يأخذها في حضنه كي يطمئنها بأن "عمّو صلاح بخير".

استأذنت إلى الحمام. هناك خبطتُ رأسي في الجدار، وبكيت.

كان ذلك آخر صيف لصلاح. في التاسع من يوليو (تموز) 2009، عانقته العناق الأخير وعدتُ إلى الإمارات. بعد نحو أسبوعين، تدهورت حالته على نحو متسارع، ليدخل في غيبوبة الموت خمسة أيام، كنت في الأثناء أتابع التطور السلبيّ – عن بعد – واثقة، ثقتي بصديقي الصلب، صديقي الأصيل المهيب، الذي رافقني في شقٍّ طويل من الحياة الإبداعية، ووهبني "ابنة النور" لقباً أعتزّ به وأضنّ به على نفسي، واثقة من أنه سيفيق من غيبوبته ضاحكاً من مزحة المرض الثقيلة، التي استسلم لها بطريق الخطأ، هو الذي ظل سامقاً في كلّ محطات المرض. لكنه لم يفق. قرّر أخيراً أن يحزم صبره ويطوي الحياة في حقيبة الغياب ويرحل. كنت في أبو ظبي، حين جاءني اتصال مشحون بالفاجعة، لصديق من أصدقاء اللجوء، يقول لي نائحاً:  ابكي يا حزامة.. ابكي! صلاح راح!

* * *

بين 23 سبتمبر (أيلول) و21 أكتوبر (تشرين الأول) 2007، وعلى مدى خمس حلقات، نشر ملحق "أخبار الأدب" الأسبوعي سيرة بعنوان "غُسَانُ قلبي" بقلم صلاح حزيِّن. إلى جانب ترجماته المميزة، ولعلّ أهمها ترجمته الشهيرة لروايتي: "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، و"إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" لهوراس ماكوي؛ كتب صلاح عديدا من الدراسات والنصوص النقدية والأدبية والفكرية، إلى جانب التحليلات السياسية والاقتصادية، عاكساً ثقافة موسوعية متعددة الاتجاهات والاهتمامات. كما قارب السّرد الشفيف في كتابات عديدة، لعل نصّه عن قرية عين كارم في فلسطين التي ولد فيها في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1946، وغادرها طفلاً لم يتمّ عامه الثاني، تحت عنوان "البلدة التي لم أزرها" (نشر في دورية "الكرمل" العدد 55 – 56، 1998) من بين أبدع ما كتب، معيداً خلق المكان وتشكيل جزيئاته من شظايا الشعور، مركّباً قطع تاريخ ما قبل النكبة في قريته، من وعي مُتخلّق من حكايات البشر، استنطقه من صورة فاهية لحجارة بعيدة، مقدّماً تجربة فريدة من نوعها في الكتابة عن مكان لم يره، في جريان سرديّ متدفق، حارّ، وحميم.

على أن "غسَان قلبي" قد يكون أوّل نصّ سردي "حكائيّ" الطابع، يكتبه صلاح، علماً بأنه كان حكّاء "شفاهياً" من طراز رفيع، طالما خشينا نحن أصدقاءه أن يذهب "حكيه" دون تدوين سرديّ أو نثريّ، فحكيه كان من الغنى والتنوع، بحيث اجتمعتْ فيه القصة متعددة المستويات بالـظرافة الذكية اللّماحة  (Wit) والإثارة والدراما (دون ميلودراما) والثقافة الموسوعية التي تبدأ بكتاب، وتمرّ بقصيدة، وتعرّج على مشهد في فيلم عربي قديم بطولة توفيق الذقن، ففيلم كوبريكيّ التوليفة (نسبة إلى ستانلي كوبريك)، انتهاء بأغنية عراقية بديعة يختم بها سهراتنا الجميلة بصوت جميل تتمايل فيه القمم الشامخة لنخيل العراق الذي أحبّ. كان صلاح أجدر من عرفتُ بكتابة رواية، لكنه اكتفى بأن يعيشها في فصول قد تخدعك بسلاستها اللغوية وانثيالها النثريّ، قبل أن تدخلك في منعطف مأساة إغريقية العناصر.

في "غُسَان قلبي"، يتّخذ صلاح من حادث السيارة الأليم الذي انتهى بغسان غائباً عن الوعي، مدخلاً إلى رسم سيرة ابنه، وهي سيرة غير مكتملة، منعطفاً من خلالها على سيرته، هو الأب، كسيرة مبتورة، استُقطعت من تجربته العريضة، لكنّها ظلت ناقصة الفصول والمحطات، إذ اكتفي – مبدئياً – بسيرة الأب التي تشكّل الإطار العاطفيّ الذي اتكأت عليه سيرة دامعة للابن. كان صلاح معنياً بحكاية غسّان، ابنه الكاتب والصحفي الذي استطاع في عمره القصير مهنيّاً أن يؤسس اسمه في الصحافة الأردنية والعربية بمعزل عن اسم والده، الذي لم يحتجه الابن كمرجعية لجهة منحه المصداقية أو الشرعية، بقدر ما كان الأب نموذجاً يجوز الاقتداء به، وربما يتخطّاه لبناء تجربة تفصله عنه، دون أن يكون الفصل فصماً أو قتلاً معنوياً.

وقع الحادث في الثالث عشر من يوليو (تموز) 2006، بينما كان غَسّان يقود سيارته في منطقة الشونة الجنوبية في غور الأردن، لإيصال المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي إلى المعبر المؤدي إلى فلسطين. كان خليفي يريد الذهاب إلى الناصرة في فلسطين عن طريق جسر الشيخ حسين عبر الشونة الشمالية، فيما اعتقد غسان – خطأ – أنه سيوصله إلى فلسطين عن طريق جسر الملك حسين في الشونة الجنوبية؛ وحين حاول أن يصلح خطأه بالعودة إلى الطريق الصحيح، وقع الخطأ القاتل الأعظم، إذ دخل مسرباً خاطئاً، لتباغته شاحنة صغيرة كانت تسير بسرعة كبيرة، انقلبت على سيارته، فتعرّض لإصابات ونقاط نزف بالغة في الرأس، كان أخطرها ذلك النزيف الذي أصاب المنطقة المعروفة بجذر الدماغ، التي تتحكم بكثير من وظائف الجسم الحيوية، في حين أصيب ميشيل بكسور تعافى منها لاحقاً.

منذ ذلك التاريخ، تغيّرت حياة غسان، وتغيّرت معها حياة صلاح: غاب الأول عن الوعي، فيما غاب الثاني عن البهجة. بعد شهور من حادثة غسان اكتشف صلاح أنه مصاب بسرطان القولون، ليجد نفسه "أسير انتظارين؛ انتظار يقظة غسان، وانتظار موتي."

يموت صلاح قبل أن يستيقظ غسان. وإذا كان صلاح واجه القدر المحتوم بشجاعة واستبسال لا يملك المرء في مقارنة معها إلا أن يخجل من آلامه الشخصية، فإن الحزن هو الذي هزمه في النهاية، لا المرض. لقد تسرطن الحزن في جسده الذي كابد المرارة، وظلّت روحه تنشج بصمت.

* * *

في لقائي الأخير مع صلاح في آخر صيف له، حدّثني عن نيته استكمال سيرة "غُسَان قلبي"، وأنه شرع فعلياً في ذلك جنباً إلى جنب مع سعيه إلى إنجاز مشاريع كتابية أخرى. فهمتُ منه أنه يضع اللمسات النهائية على فصل جديد في سيرة الابن، وأنه عازم على أن يمضي في كشف فصول من سيرته، لكن الأب لم يتسنّ له اكتمال الحكاية، حكايته وحكاية ابنه، فالفقد أخذه كما أخذ غسان.. وعياً.

بعد أسابيع من رحيل صلاح، جلستُ على كومبيوتر غسان، الذي كان صلاح يجلس عليه للكتابة. في ملفّ "غُسان قلبي"، كان هناك نصّان أو جزآن: النصّ الذي نُشر على حلقات في "أخبار الأدب"، والفصل الجديد – حمل في الكتاب عنوان الفصل الأخير – الذي يستطرد فيه صلاح "تسجيل" سيرة غسان ما بعد الحادث في سرير الغياب في منزله، واستعادة صورة الفتى النبيه الذي كانه، وكلّ الاحتمالات اللانهائية بالحياة، كما يليق بالحياة أن تكون، أمامه. يعرف صلاح أن غسان لم يعد موجوداً بجسده، يحاول أن يستنطق هذا الجسد، أن يرى ما وراء العالم الأثيري في عينيه المفتوحتين على لا فكرة واضحة. من هذه الأفكار، ينطلق صلاح إلى استكشاف طبيعة العلاقة العاطفية المعقّدة للأبوة والبنوة، مقرّاً: "لم أكن أدرك ما أدركته لاحقاً عن مدى الحبّ الذي يكنّه الأب لابنه، ولم أكن قادراً على تخيّل مدى حزن الأب أو الأمّ على فقد الابن، والتيقن من أنه يمثّل أقصى درجات الفقد الناجم عن أرقى أشكال الحب وأكثرها نزاهة وعمقاً وتجذّراً في الطبيعة الإنسانية".

لقد توقف صلاح في الفصل الجديد – الأخير عند جملة معلّقة، غير مكتملة، وأتخيله نهض إثر نوبة سعال حادّة اختنق معها تنفسه، في تواتر من نوبات السّعال التي وسمت أيامه الأخيرة في الحياة، إلى أن انهارت رئته تماماً، ولم تعد تعمل إلا بمساعدة جهاز تنفس. كانت آخر كلمات في الفصل الأخير هي: "بقيتْ الصور والمقولات تلك حية وطرية في ذهني، ساعد على بقائها كذلك...." وغاب صلاح بعد هذه الكلمات، التي أنتزعت من نهاية الفصل، وأُبقي على علامة الاستفهام، كي تظلّ احتمالات الكتابة قائمة وماثلة، أو لعلّ غسان يستيقظ يوماً – في اليقظة التي انتظرها صلاح ولم تتحقق في حياته – ويجيب عن تساؤلات الفقد، وبدلاً من أن يكون الأب هو الذي يتأمل الفقد ويستقرئه، قد يعيد الابن قراءة فقد الأب، في سيرة متشابكة تكتسب كلّ واحدة معناها في الأخرى ومنها. ولعل الاختيار، بعد تفكير، أن يوضع هذا الفصل الجديد غير المنشور في بداية النص، جاء لأنّ الموت كانت له الكلمة الأخيرة في النصّ، كما في الحياة. لقد سبق موتُ صلاح يقظةَ غسان، وحين نطوي الصفحة الأخيرة من الكتاب على دمعة حارة، نروم يقظة الابن بشدة.

يوم مات المغني الأوبرالي لوتشيانو بفاروتي في سبتمبر (أيلول) 2007، وضع صلاح قرصاً مدمجاً لبعضٍ من أجمل أغنيات الراحل، أحضره غسان معه من بيروت، مع عشرات الأقراص الموسيقية. كان غسان متيماً ببفاروتي. في الليل، لمح صلاح دمعة تترقرق من طرف عين غسان اليسرى. "هل كان غسان المضنى بنفسه، السادر في عالمه الخاص، حزيناً على رحيل مغنيه الأثير؟!" يتساءل صلاح، الذي يعترف أنه لم يكن يسمح لنفسه بأن يتعلق بأملٍ خادع له علاقة بوعي كامنٍ لدى غسان، لا لأنه لم يكن راغباً في أن يظل وليده نائماً، بقدر ما كان يخشى أن يعِدَ ذاتَه المتهشّمة بيقظة يتشوّق لها بشدة، قد لا تتحقق.

يوم توفّي صلاح، غاصت هدى، الزوجة والأم والصديقة، في حزنٍ سيظلّ يستوطن عالمها، الذي نقص كثيراً، إلى الأبد. لم تجرؤ أن تطلّ على غسان، وانسحبت – مؤقتاً – من واجبها في إطعامه وتغيير ملابسه. لثلاثة أيام، لم تشأ هدى أن تواجه غسان برحيل أبيه، كأنها خشيتْ أن ترى دمعاتٍ في عين الفتى الحزين، لا يكون الأب موجوداً ليسجّلها!

* * *

كان غسّان هو "الغُسَان"، المعنى الذي أدركه الابن أولاً، ثم أدركه الأب ثانياً؛ أدركه غسّان حين شرح لأبيه أن الغُسان هو صميم القلب وأقصى نقطة فيه، وأدركه صلاح لاحقاً حين سدر غُسانه في الغيبوبة، فغياب غسّان تجلّت فيه كلّ معاني الحبّ والحسرة والحزن، الأبوية، التي تنفذ إلى أقصى نقطة في القلب. في "غُسان قلبي"، يبدو صلاح واعياً تماماً للعبثية القدرية التي اختطفت الحياة، كقيمة ومعنى وتمثّل واعٍ، من ابنه، بحادث سيارة كان يمكن جدّاً تفاديه، أو أألا يكون أصلاً! هذه العبثية هي التي تدفع صلاح إلى أن يرتقي بمأساة ابنه، فيضعه في مصافّ ضحايا الحرب الإسرائيلية الشرسة على لبنان، التي اندلعت في الثاني عشر من يوليو (تموز)، أي قبل يوم من حادثة غسّان.

تبدّت صورة غسان قوية، متشرّبة بالألم، في قلب كلّ مشاهد الجراح والموت والدمار في لبنان، في مقاربة بين الألمين: الألم العام والألم الشخصي. وفي النهاية، وعلى قدر ما يبدو في القول المستخلص من قسوة، كان يمكن جدّاً أن يكون غسان في بيروت وقت القصف، وربما راح ضحيّته؛ على الأقل كان "غيابه" سيكون ذا معنى أرقى من "غيابه" العبثيّ الناجم عن حادث سيارة، دون أن ينتقص ذلك من مقدار الحزن والفجيعة في أيٍّ من الغيابين. هنا، تصبح المقارنة بين أعمار ضحايا الحرب الإسرائيلية الهمجية على لبنان، وعمر غسان، هي المقابل الموضوعيّ للمأساة الشخصية جدّاً، حين تكون خلفيّتها مأساة عامة.

يعرّج صلاح على مشاعر شيفونية وتأمّلات جمّة في سيرة الابن – الأب، ويطرح تساؤلات مضنية في الوجود والهوية، وهي مشاعر وتأمّلات وتساؤلات يُسقطها على نفسه كما ابنه. تبدو الهوية الفلسطينية، كوعي ومفارقة ودلالة ومأساة، حاضرة بشدة، إذ يقتفي صلاح تفتّق وعي غسان بهويته الفلسطينية من "ارتجالات" الطفولة الملتبسة، وحماستها النقيّة إلى نضج الشاب الذي قادته ثقافته إلى خيارات أقل التباساً.

من جديد، وفي تأمّله لمسار الحادث، يهتدي صلاح إلى حكمة، بقدر ما فيها من نصاعة ورؤية جليّة، بقدر ما تنطوي على مفارقة غاية في الألم: "بدت لي رحلة غسان المأسوية تلك، وكأنها محاولة لم تتم للوصل بين وطنه الواقعي في الأردن ووطنه الحقيقي في فلسطين، كأنه كان باصطحاب ميشيل العائد إلى الناصرة يوهم نفسه بأنه هو أيضاً عائد إلى هناك. لم يصل غسان أبداً، لكن ميشيل وصل، وكأن غسان بهذا المعنى كان يقوم بنوع من الرّحلة المستحيلة بين وطنه الواقعيّ ووطنه الحقيقي، لذلك لم يصل؛ أما ميشيل، فهو واصل لا محالة، لأنه كان يقوم برحلة طبيعية من الخارج إلى الوطن الذي لم يغادره، الوطن الذي لا وطن له سواه؛ وطن واحد واقعي وحقيقيّ هو فلسطين، ولا يضير كثيراً أنه يحمل اليوم اسم إسرائيل. الوطنُ باق والأسماء متغيرة."

لعلّ الفصل الرابع الذي يتحدّث فيه صلاح عن تجربته مع البكاء هو الأكثر تحريكاً لكوامن الحزن والأسى في النفس، إذ يسحبنا في بوح عاطفي دافق إلى تاريخه في البكاء "الشحيح"! بكى صلاح أول مرة على حبّ ضاع منه، حبّ تسرّب منه، وهو عاجز عن القيام بأيّ شيء للاحتفاظ به؛ ثم بكى في المرة الثانية وفي كلّ المرات "التاليات" على غسان، الوجه الأخر للحبّ الذي ضاع من صلاح. ومع ذلك، فإن اعتراف صلاح بشحّ بكائه، ثم قسوته على هذا البكاء، إذ يحكم عليه بالبشاعة، لا ينفي عمق حزنه وبلاغته، ذلك أن قلبه الجميل وروحه النقية كانا قادرين على ترجمة الحزن فعلاً إنسانياً كريماً.

هناك مشهد يصوّر فيه صلاح جنازة "بائسة" لصديق له، هو معارض عراقيّ ترك منفاه الأوربي بعد استفحال السرطان في جسده الهزيل، وجاء إلى عمّان ليقضي ما تبقّى له من حياة قريباً من العراق، الذي لم يكن مسموحاً له بدخوله. حين توفي الرجل، لم يكن هناك سوى صلاح ليدفنه، وهي مهمة تولاها بإنسانيته المشهود لها، دون أن يشاء لميت لم تربطه به صداقة متينة أن يذهب في رحلته الأخيرة إلى الثرى وحيداً، فسار في جنازته، يرافقه الصديق الكاتب ياسين النصير، الذي يملأ المشهد ببكاء وافر يشفّ عن مأساة عراقية متكرّرة: رجلان غريبان فيما قد تكون "أفقر" جنازة عرفناها، لكنّها مع ذلك فاضت بالعاطفة والنبل. (وهو مشهد ينتهي القارئ منه مُستنزَفاً عاطفياً، غاضباً وحانقاً على الموت إذ يبدو غير رحيم، وغير جليل).

يعترف صلاح أنه لم يبك، فقد عصاه الدّمع "في واحد من أكثر المواقف إثارةً للحزن واستدراراً للدمع"، مقابل ذرف النصير سيلا من الدموع. لكن صلاح، الذي عرفه أصدقاؤه، من أرقّ المحزونين وأرقاهم، وإن لم يبكِ.

* * *

راح صلاح، وغُسان قلبه لا يزال غائباً؛ وإذا بدت سيرة الابن ناقصة، فلأن سيرة الأب لم تكتمل، والعكس صحيح، بدرجة مؤلمة جداً.

وفي النهاية، فإنّ القول الفصل يكون للحُزن.[i]

 

 

الفصل الأخير: الألم دفعة واحدة

استراح غسان على سريره الطبيّ، في غرفته التي كانت ملاذه الأثير. فيها كان يعمل؛ يكتب مواد لصحيفة الحياة التي عيّن مراسلاً لها في عمّان، فأصبح زميلاً لي في المهنة؛ في الصحيفة نفسها التي أراسلها أنا أيضا، ويكتب لصحف ومجلات أخرى، ويعدّ المواد الخاصة بإذاعة "عمّان نِت" التي كان يعمل فيها مديراً للبرامج، ويتابع عبر شبكة الإنترنت الأخبار العلمية التي برع في تحويلها إلى مواضيع صحفية دأب على تزويد العديد من المجلات والصحف العربية بها.

في أحد الأيام رنّ جرس الهاتف. رفعت السماعة، فأخبرني المتّصل أنه من مجلّة العربي الكويتية. وحين سألته عما يريد قال إنه يريد التحدّث مع غسّان حزيّن. قلت له إنه لا بد أن في الأمر خطأ، فأنا صلاح حزين، والد غسان، ولا بدّ أن الهاتف لي، أنا الذي عملت في مجلة العربي سنوات. لكن المتحدّث أصرّ على أنه يريد التحدث مع غسان، وأنه يريد عنوانه لأنه يريد أن يرسل له تأشيرة إلى الكويت ليشارك في ندوة تنظمها المجلة حول الكتابة العلمية.

في غرفته أيضاًً، بدأ تكوين مكتبته الخاصة المستقلّة عن مكتبتي الضخمة التي كونتها على مدى عقود طويلة، وذلك بتجميع الكتب والروايات ودواوين الشعر التي يشتريها أو يهديها له الكتاب، بمن فيهم أصدقائي من الكتاب والروائيين والشعراء، الذين كانوا يحرصون على معرفة رأيه في أعمالهم، باعتباره قارئاً يمثل جيل الشباب الذي لم تعد لهم به صلة  كبيرة.

قلت له يوما بعد أن فرغ من قراءة رواية الصديق جمال ناجي "ليلة الريش": هل لاحظت أن "عمّو" جمال ذكرك في روايته؟ استفسر بهزّة من رأسه، وابتسامة خفيفة كان يرسمها كلّما بدأ بيني وبينه مثل هذا الحوار، الذي عادة ما كان قصيراً، خاطفاً، ساخراً. ذكّرته بجملة في الرواية يقول فيها الراوي إن بطل الرواية تلقى ضربة أصابت غسان قلبه. أجاب: "بابا! هذه الكلمة ليست غَسّان (بفتح الغين)، بل غُسان (بالضم)، والغُسان هو صميم القلب، وأقصى نقطة فيه."

جاء التصحيح صادماً لي في صورة ما، إذ قاله وكأنّه يلقنني درساً في اللغة التي أعتبر نفسي ضليعاً فيها، في حدود عملي الكتابيّ والصحفي. وأعترف أنني حتى ذلك الوقت، لم أكن سمعت بهذه الكلمة. لم أكابر بالقول إنني أعرف ذلك، أو إنني أختبر معلوماته اللغوية، بل لذتُ بصمت كان واضحاً أنه ليس بليغاً، مع ابتسامة غامضة تحمل معنى الامتنان للدرس اللغويّ الآتي من غسان تحديداً.  لم أكن بعد قد استوعبت أنه لم يعد ذلك الطفل المشاكس، بالرغم من بلوغه سن الشباب، ومن صخامة جسمه. لقد أصبح زميلاً لي في المهنة، وندّاً لي في المعرفة، وأستاذاً في اللغة.  أما شعوري بالفخر لهذا التطوّر في ثقافة غسان، فقد تكوّن على مهل حتى رسخ تماماً في ذهني عن غسان الذي كانت صورته تصبح لديّ أكثر مأسوية، بسبب وضع عينيه، كلما كشف عن جانب جديد في شخصيته الغنيّة، متعددة الأبعاد.

كثيراً ما كنت أحسده على شبابه غير المبالي بالوقت الذي يقضيه في قراءة أعمال أدبية كلاسيكية كبيرة مثل ترجمة سليمان البستاني لملحمة الإلياذة شعراً في مطلع القرن الماضي، وروايات دستويفسكي وتولستوي وزولا وفلوبير وتشارلز ديكنز وهمنغواي وشتاينبك، وهي أعمال تستغرق قراءتها وقتاً لم يعد يملكه من هم في مثل سني. حين تكون شاباً تقرأ بوقتك، وحين تكون كهلاً تقرأ بعمرك. كنت قرأت كثيراً مما قرأ غسان حينما كنت في مثل سنّه، لكنني منذ مدة لم أعد حريصاً على قراءة ما فاتني من تلك الكلاسيكيات العظيمة، فليس لديّ من العمر ما يجعلني أقرأ روايات كان علي قراءتها منذ زمن طويل.

حين وقع الحادث لغسان كان يقرأ رواية ويليام فوكنر "الصخب والعنف" في ترجمة جبرا إبراهيم جبرا الشهيرة. وإلى اليوم ما زالت هناك في الكتاب ورقة مقوّاة تشير إلى الصفحة التي وصل عندها في قراءته. وفي غرفته، كان يتابع أخبار الرياضة، وخاصة كرة القدم. كان يشجّع فريق بايرون ميونيخ الألماني، ومنتخب ألمانيا الذي لا يشجّعه أحد من زملائه أو أصدقائه أو أقاربه، وهو ما جعله دائماً على غير وفاق معهم، هم المستنكرون لمثل هذا الذوق الكرويّ الغريب.  معارك أخرى كان يدخلها مع بعض أصدقائه وزملائه بسبب عشقه لموسيقى زياد الرّحباني وأغانيه التي لم تكن تروق لهم، وكان هو معجباً بها ومتابعاً لها بوصفها أساس المشروع الفني لزياد، الذي حاول من خلاله أن يؤسس لموسيقى جاز شرقية، وأن ينفتح على تجارب موسيقية عالمية، وخصوصا موسيقى أميركا الجنوبية: السالسا والرومبا والسامبا، من خلال أغنيات لفيروز وجوزيف صقر وسامي حوّاط وسلمى المصفي وآخرين. هكذا شرح لي مشروع زياد الرّحباني يوماً.

في غرفته تلك، حيث كان يحتفظ بكثير من الأشرطة والأقراص المدمجة، كان يستمع إلى الموسيقى التي يحبّها؛ أغاني علي الحجّار بكلمات صلاح جاهين، وخصوصا الرّباعيات الأخاذة الساحرة، أو أوبريت الليلة الكبيرة بما فيها من طفولة تفهمها جيداً قلوب الكبار؛ موسيقى زياد وأغانيه بما فيها من تمرّد على الذوق العام وخدش متعمّد لحيائه، وأغاني فيروز التي كان يعشقها، وخصوصا تلك التي لحّنها لها زياد، والتي كان يعتبرها مرحلة خاصة وغنية في مسيرة فيروز الفنية. وكثيراً ما كان يتطرّف مدفوعاً بحماسة الشباب ليقول إن زياد بألحانه التي أهداها لفيروز أنقذ المطربة الكبيرة من النسيان بعد رحيل زوجها، والد زياد، عاصي الرّحباني.

في صيف العام 2003 سافر من عمان إلى بيروت لحضور حفلة فيروز السنوية التي كانت تقدمها كلّ عام في مهرجان بيت الدين. وهناك، شاهد غسان من خارج المسرح المكشوف في المدينة الجبلية، فيروز وهي تغني، وزياد وهو يعزف على البيانو. شاهد الحفلة من بعيد، فهو لم يتمكن من الحصول على تذكرة لحضور الحفلة التي غادر عمان كي يحضرها، لكنه حضرها عن بعد مع عشرات الشبان الذين تجمعوا في نقطة خارج المسرح يشاهدون منها فيروز، بعد فشلهم في الحصول على تذاكر تمكّنهم من مشاهدتها وهم جلوس على مقاعد المسرح، مثل آلاف آخرين.

وقف الشبّان هناك، ووقف معهم غسان في العراء، للاستماع إلى فيروز بدلاً من حضور حفلتها ورؤيتها عيانياً في مشهد بدا في صورة ما عبثياً، فقد غادر عمان إلى بيروت لمشاهدة فيروز، وليس للاستماع إليها، وهو ما كان في إمكانه أن يفعله وهو في عمان. لكنه بعد أن قطع كلّ هذه المسافة وجد نفسه يحضر حفلة فيروز مستمعاً، ومن بعيد، شأنه في ذلك شأن العديد من الشبان، فرسم معهم صورة غير مألوفة لمدى الحب الذي يكنونه للمطربة الكبيرة، وابنها الموسيقي العبقري.

طوال الوقت الذي كان فيه غسان في بيروت في تلك الرحلة الغريبة، لم أتوقّف عن التفكير فيه، فقد كانت ترنّ في أذني من دون توقف، كلمات الطبيب الذي أبلغني أنه مصاب بمرض العشى الليلي، وأنه يتوقع له العمى، طالباً مني إعداده لهذا المصير.

كنت معجباً بالطبع بنزعة غسان لتحدي عدم قدرته على الرؤية في الظلام، وإصراره على السهر ليلاً في مدينة إربد، حيث أكمل دراسته الجامعية، قبل العودة إلى المنزل الذي يسكنه، والذي يقع في شارع فرعيّ قليل الإضاءة، أو إصراره بعد تخرجه وعودته إلى عمان، على الخروج بسيارته ليلاً اعتماداً على الإضاءة المتوفرة، سواء أكانت تلك أنوار السيارات أم أنوار الشوارع والمحلات التجارية. لكنني أصبتُ بمزيج من الإعجاب والرّعب وأنا أستمع إليه بعد عودته من بيروت، وهو يروي لي كيف أصر على حضور حفلة فيروز بأية طريقة طالما أنه أصبح في لبنان؛ فاستأجر سيارة تأخذه من بيروت إلى بيت الدين في رحلة ليلية في جبل لبنان على طريق بعيد ومجهول تماماً بالنسبة له، وكيف حضر الحفلة على طريقته الخاصة قبل أن يعود بعد حلول الفجر إلى الفندق الذي كان يقيم فيه في بيروت.

كانت تلك الرحلة مغامرة يخوضها في منطقة لا يعرف عنها شيئاً. لكنه سيقوم بعد ذلك بكثير من الرّحلات الليلية المشابهة حين يستقر في بيروت ملتحقاً بالدورة التدريبية في صحيفة الحياة بعد ذلك بعام. سيقوم ببعض تلك الرحلات بتكليف من الصحيفة التي كانت تطلب منه أحياناً أن يغطّي أحداثاً ليلية تجري بعيداً عن بيروت. وفي أحيان أخرى كان يبادر إليها هو، وبعض أصدقائه وزملائه، ليعود ويكتب عنها مواد صحفية لافتة، بأسلوبه الخاصّ الرشيق. وحين كان الحدث الذي عليه تغطيته يبث في التلفزيون، كان يرسل لنا رسالة قصيرة بالموبايل يحدّد لنا فيها المحطة التي ستنقل الحدث، ويطلب منا أن نفتح على تلك المحطة تحديداً لكي "نتفرّج عليه"، كما كان يقول.

وسوف يقوم كذلك بمغامرات أخرى من هذا النوع في الأردن، بعد عودته من بيروت، بخروجه ليلاً للسهر مع أصدقائه وزملائه وزميلاته، حتى وقت متأخر، يعود بعدها سليماً معافى. وكان أول ما أفعله أنا، الساهر متابعاً عملي في مكتبي، لدى سماعي صوت سيارته وهي تقف خارج المنزل وأبوابها وهي تغلق، أن أطلق تنهيدة ارتياح طويلة يكفّ بعدها ذهني عن التفكير في ما يمكن أن يحدث لغسان في مشاويره الليلية التي كانت كل واحدة منها رحلة انتظار مرهق بالنسبة لي، أنا الذي كنت أرقب عودته من تلك الرحلات الليلية المخيفة.

وكانت إحدى مفارقات ما وقع له فيما بعد أن الحادث الذي أصابه لم يحدث في ليلة ظلماء اختفى فيه القمر كما يقال، بل وقع في رابعة النهار، وقدرته على الرؤية في تمامها، وعيناه مفتوحتان على اتساعهما، فعينا غسان لم تخذلاه، بل كانت الطريق بعلاماتها المضلّلة وإشاراتها الناقصة، والسرعة غير المحسوبة للشاحنة المقبلة، هي التي قادته إلى مصيره المأساوي. حتى اليوم، ما زلت أفكر في "اللحظة" التي أصيب فيها غسان، وأتخيّل الطريقة التي تصرّف بها، غير موقن من أيّ شيء: هل فوجئ بالشاحنة مقبلة عليه؟ وهل التقت عيناه بعيني سائقها المتعجّل؟ هل حاول أن يتفادى الشاحنة المسرعة ففشل؟ وهل حاول سائق الشاحنة ذلك فلم يستطع؟ هل كان يسير في طريقه الخاطئ غير مدرك لقدره المتربّص به عند المنعطف؟ أم أنه كان لاهياً عن ذلك كله منشغلاً بالحديث مع ميشيل خليفي عن زياد الرحباني وتجربته الموسيقية الآسرة؟

لقد تم الأمر كله في لحظة واحدة من دون شك، فكيف عبر تلك اللحظة إلى قدره؟ قال لي ميشيل خليفي إنهما كانا يتحدثان عن زياد الرحباني حين وقع الحادث، وإنه هو شخصيا كان مشدوداً إلى منظر الجبال المحيطة بالطريق التي بدت تلوح في الأفق، فهي الجبال المطلة على أريحا، وعبرها يفترض أن ملك إسرائيل يوشع بن نون غزا المدينة واستباحها قبل أكثر من ألفين من السنين. هكذا كان يفكر ميشيل في تلك اللحظة. وفي تلك اللحظة تحديداً وقع الحادث. تلك اللحظة هي نفسها، وهي غيرها في الوقت نفسه. لحظة غسان وميشيل، ولحظة غسان ولحظة ميشيل؛ لحظة دخل غسان بعدها في غيبوبة لم يستيقظ منها بعد، وأخرى استيقظ ميشيل بعدها على كسوره الأليمة. اليوم، بعد مضي كل هذه الشهور على الحادث، أنا لا أكف عن التفكير في تلك اللحظة التي واجه فيها غسان قدره، والطريقة التي تصرّف بها فيها، محاولاً أن أبعد عن ذهني احتمال أن يكون شاهد الشاحنة وهي مقبلة عليه، فبذل محاولةً يائسة لتفاديها، لكنّه لم ينجح؛ فهذه بالنسبة لي صورة قاسية لمصير أكثر قسوة.

*   *   *

في غرفته أيضاً، كان غسان يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية: مقطوعات لبيتهوفن وتشايكوفسكي وموتسارت وبرامز، وأغاني من أوبرات لفاغنر وموتسارت وفيردي وبوتشيني، بأصوات مغني أوبرا كبار على رأسهم لوتشيانو بافاروتي، الذي كثيراً ما كان صوته الحاد القوي يصدر من خلف الباب المغلق لغرفته حيث كان يعمل، ويصل إلينا نحن الجالسين في غرفة المعيشة القريبة من غرفته. لم يعد باب الغرفة يغلق عليه منذ استقرّ فيها غائباً عن الوعي، لذا فإن صوت بافاروتي وأصوات جوزيف صقر وسامي حواط وزياد الرحباني وعلي الحجار وصلاح جاهين وفيروز، في "مرحلتها الجديدة"، لم تتوقف عن الصدور من جهاز التسجيل الذي وضعناه بالقرب منه، يؤنسه في غيبوبته.

لم تكن تلك استجابة لكثير من أصدقائنا ومعارفنا، وبعضهم أطباء، ممن أشاروا علينا بأن نضع له الموسيقى التي كان يحبّها "لأنّه في الواقع يسمعها"، كما كانوا يؤكدون، بل لأننا كنا نحبّ، والدته هدى وأنا، أن نرى غسان وهو يعيش في جوّه الطبيعي الذي كان يعمل فيه وهو يستمع إلى الموسيقى قبل الحادث، فهو كان معتاداً على النوم من دون أن يقفل جهاز التسجيل الذي كان يستمرّ في البث طوال الليل، وغسان نائم، تماماً كما هو الآن، مع اختلاف بسيط بقدر ما هو مفارق، هو أنه كثيراً ما كان يترك جهاز التسجيل مفتوحاً وهو نائم ومغمض العينين، أما الآن، فإن موسيقاه المفضلة تصدح وهو مفتوح العينين، ساهمٌ في عالمه الأثيري الرّحيب، لكنه لا يسمعها. كان مثل هذا المشهد يمنحنا، نحن أهله، بعض الراحة، لأنه كثيراً ما كان يبدو لنا استمراراً لما كان عليه قبل أن يدخل عالمه اللانهائي. بالنسبة لنا، نحن عائلته، كان ابننا يبدو وكأنّه يواصل حياته الطبيعية، ولكنه لا يعمل لأنه ما زال نائماً، فوقت العمل لم يأت بعد.

حين جاء خبر موت بافاروتي في أيلول (سبتمبر) 2007، أخرجتُ قرصاً مدمجاً كان غسان قد أحضره مع عشرات غيره من بيروت بعد انتهاء دورته التدريبية وعودته إلى عمان. كان القرص يحمل مجموعة من أجمل أغنيات بافاروتي المقتطعة من أوبرات مختلفة. شغلت له القرص طوال اليوم. في الليل، وبينما كنا نقوم بعملنا اليومي في خدمته، والدته وأنا، لمحتُ دمعة تترقرق من طرف عينه اليسرى. هل كان غسان المضني بنفسه، السادر في عالمه الخاص حزيناً على رحيل مغنيه الأثير؟!

كثيرا ما كان الحب الذي يتمتع به غسان من جانب أصدقائه وأصدقائنا، يجعلهم يؤكدون أنه يحسّ بكل ما يدور حوله، يسمع كل ما نقوله له وعنه، وأن كلّ ما في الأمر أنه لا يستطيع التعبير عما في نفسه، ولا يتمكن من مشاركتنا أحاديثنا التي تجري على مقربة منه. وكنت على الدوام على درجة من الفظاظة أنفي معها أيّ أمر من هذا القبيل، مؤكداً أن ما حدث مجرد صدفة، وأن نزول الدمع لا يعني الإدراك. لم أكن أسمح ببزوغ أي بارقة أمل خادعة. كنتُ بذلك أبدو قاسياً، وكأنني أتعمّد أن أضع حدّاً لأي أمل قد يكون في الأفق ليقظة غسان، وكان ذلك يحزنني كثيراً، ويجعلني أبدو وكأنني غير راغب في رؤية ابني يستيقظ من جديد، ويستأنف حياته معنا مثلما كان على الدوام؛ بتعليقاته السريعة الموجزة الساخرة وابتسامته "الغامضة مثل ابتسامة الموناليزا" كما كتب مرة يقول، وبقدرته اللانهائية على العمل، لكنني لم أكن أملك خياراً آخر.

وأعترف بأن الأمر كثيراً ما كان يبدو لي خادعاً إلى درجة تزلزل يقيني بما أقول تحت وطأة أمل ظل دائماً هناك في جانب من قلبي؛ فبدافع من حبي لغسان، وبشوقي لرؤيته مستيقظاً من جديد، كنت أطلب منه بلهجة أبوية آمرة أن يخبرني بما يريد أن يقول. وكثيراً ما حدث أن كانت عيناي تلتقيان عينيه المفتوحتين مثلما كان يحدث قبل نومته الطويلة، فتعتريني رعدة لظنّي أنه استيقظ حقاً، لكنني أعود عن تفكيري ذاك، فهو لم يشفع نظراته تلك بابتسامة يبدأ بها واحدة من حواراتنا البرقية الموجزة غالباً، الساخرة دوماً، بل يواصل تحديقه بي بعينين خاليتين من أي تعبير عن حزن أو فرح أو حبّ أو عتب أو شكوى أو امتنان.

في أحد الأيام، وكنت في المستشفى أجري واحدة من العمليات العديدة التي تقُرّرت لي بعد اكتشاف مرضي، جاءت لي زوجتي هدى وابني قصيّ بخبر عن غسان. لقد ابتسم غسان وهو يستمع إلى حديث ساخر من والدته التي كانت على الدوام موضع تعليقات ساخرة، لكنها محببة من جانبه. ولكي يثبتا ما جاءا به، أحضرا صورة له وهو يبتسم أُخذت عبر جهاز الموبايل. الابتسامة نفسها، ابتسامة غسان المميزة التي تبدأ بانفراجة تستمر في الاتساع من زاوية فمه اليمنى. لم أدر عندها إن كان عليّ أن أفرح للنبأ الجديد، أم أستمر في حالة النفي الصارم التي عُرفت عني، والتي جعلت أصدقائي أكثر حذراً في الحديث عن تفاؤل لم يكونوا هم أيضا متأكّدين منه.

واستمرت ابتسامة غسان ترتسم على وجهه كلما استمع إلى تعليق ساخر مني بعد أن غادرتُ المستشفى وشاهدتها بنفسي، وأضيفت ابتسامة غسان إلى مجموعة التطورات البطيئة العديدة التي لا تعني الكثير في ميزان اليقظة المنتظرة. وواصلت أنا تكراري لموقفي الفظ لكل من حاول أن يبني أملاً على هذا التطور الجديد، مؤكداً أنّ المصابين بهذا المرض يمكنهم الابتسام وذرف الدمع ومتابعة هدف يتحرّك أمام أعينهم من دون أن يعني ذلك أنهم دخلوا مرحلة الإدراك التي تُنبئ بقرب يقظتهم. هكذا يقول الطبّ؛ فهل يكون غسان، الاستثنائيّ في كثير من أموره، استثنائياً هنا أيضا؟

الوجه مرآة الحياة، وغسان حيّ، لكن ما ينقصه هو الإدراك والتفاعل مع من حوله وما حوله. ولكن هل وجه غسان مرآة لنوع الحياة التي يعيشها بتعابيره التي تتغيّر بتغيّر حالته المزاجية التي لم يفقدها، أم أننا نحن الذين نضفي على تعابير وجهه المعاني التي نريدها ونرغب فيها، وننطقه بما نودّ ونحب ونأمل؟ كان أحياناً يبدو هادئاً مرتاحاً مسترخياً وكأنه يحدّق في لوحة لوجهه الطفل الضاحك البريء المقبل على الحياة، كان أحد فناني شارع "أربات" في موسكو قد رسمها له عام 1990 حين كان في التاسعة، عُلِّقت في الجهة اليمنى من جدار غرفته، فيصحو على مشاهدتها وينام عليها؛ وأحياناً يبدو وكأنه يتأهب لإطلاق إحدى تعليقاته الساخرة التي اعتاد إطلاقها بهدوء، قبل أن تنفجر فيمن حوله من عنف السخرية الكامنة فيها؛ ويبدو في أحيان أخرى ممتعِضاً يعبر عن حالته تلك بزمّ الجانب الأيسر من شفته العليا؛ أو ساهماً يحدق في الفراغ الذي يعيشه؛ أو منزعجاً، متألّماً يحاول النهوض برفع رأسه عن المخدّة، ودقّ رجله على سطح الفرشة الطبيّة التي يتوزّع الهواء على أجزائها فتنتفخ من جهة ثم أخرى للمساعدة في مكافحة التقرحات التي يمكن أن تصيبه لو أنه استمر في النوم على فرشة عادية؛ أو نائماً بوداعة ترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة يمنحها لغزالته، كما كانت والدتي تقول حين كان أحد أخوتي الأطفال يبدو على مثل هذه الحالة وهو نائم: "إنه يبتسم لغزالته". وأحياناً أخرى كان يبدو مرهقاً بأثقال الجبارات التي كان يغطي بها يده اليسرى ورجله اليسرى أخصائي العلاج الطبيعي الذي لم ينقطع عن القدوم إلى المنزل لإعطائه بعض التدريبات والتمرينات التي من شأنها إعانة جسده على المحافظة على لياقة سيحتاجها حين يستيقظ.

لكن الوجه لا ينطق فقط، أنت أيضا يمكنك أن تنطقه. وكثيراً ما كنا نحن ننطق وجه غسان بما يعتمل في نفوسنا. نحزن لأننا نعتقد أنه هو الآخر حزين ساهم بعينيه الخاليتين من أي تعبير، المحدقتين في الفراغ الكبير، أو نتألّم لأننا نرى أنه متألم من الوضع الذي يرقد عليه فنبادر إلى تغيير وضعه من دون أن يطلب منا ذلك، أو نفرح لأنه رسم واحدة من ابتساماته التي تكررت بعد سماعه تعليقاً ساخراً منا، أو تذكيراً له من جانبنا بواحدة من تعليقاته الطريفة العديدة التي تحولت إلى روايات تروى عنه، أو نمتعض لأننا نراه ممتعضاً من شيء لا ندركه نحن، ولا يبوح به هو.

إنطاق وجه غسان بما لم ينطق به بالضرورة إحدى لحظات الوهم التي اكتشفتُ أن منها في حياتنا أكثر بكثير مما نعتقد، فالوهم جزء من حياتنا؛ نستعين به في التخفيف من أحزاننا حين يثقل علينا الحزن فلا نعود قادرين على التخفف من حقائقه الأليمة، أو في إدخال شيء من الفرح إلى قلوبنا التي لم يعد فيها ما يفرح القلوب من فرط قساوة الواقع، أو نستخدمه مقدمة للغفران عن أخطاء من نحبّ، مع معرفتنا التامة بأنّها أخطاء لا تغتفر، أو لزيادة الحقد على خصم نكرهه أو عدوّ نمقته، مع أنه قد لا يستحق كل هذا الكره والمقت. وبالوهم نبرر هفواتنا ونزواتنا وحماقاتنا الكبيرة والصغيرة، وبالوهم نقلب هزائمنا انتصارات، وإخفاقاتنا نجاحات، ونحوّل نقاط ضعفنا إلى نقاط قوة. فلماذا لا نستعين، والدته هدى وشقيقه قصي وأنا، بما لدينا من فوائض الأوهام لجعل غسان يعيش حياة نحن رسمنا له خطوطها واستلهمناها من واقع تعابير وجهه الخالي من التعبير؟

وإذا كانت تلك كلها أوهاما، فإن هناك حقيقة واحدة هي أن غسان حيّ؛ تلك هي الحقيقة الأكيدة التي لا مراء فيها؛ إنه حيّ بتنفسه الذي ينتظم حين ينام، وبتنهداته التي يطلقها بين حين وآخر، وبمسارعته إلى إزاحة أيّ يد توضع على رأسه أو وجهه أو أيّ جزء آخر من جسمه، وتجاوبه مع دعواتنا له لكي يتناول وجبته من طريق الفم، والتي يقبل خلالها على ما كان يحبّ من وجبات، ويمتنع أحياناً عن فتح فمه حين نقدّم له ما لا يحب؛ حيّ بحركات يديه ورجليه ورأسه؛ حيّ بتجاوبه المتخيّل مع أحاديثنا، وخصوصا الساخرة منها، التي تدفعه إلى الابتسام، من دون أن يكون مدركا لفحوى ما يقال؛ حيّ بهيئته التي لم يعد يبدو معها أنه مريض، بعد أن خلع ملابس المستشفى واستلقى على السرير مرتدياً ملابس مختلفة كنا نحرص على أن تكون مناسبة لحالته التي أصبحت هي حالتنا، فلم نعد نعرف أين تبدأ هذه وتنتهي تلك؛ حيّ وبصحة جيّدة تشير إليها الفحوصات الدورية التي نجريها له، فتأتي النتائج محيرة في مدى طبيعيتها. حيّ يستقبل أصدقاءه الذين لم ينقطعوا عن زيارته، وكثيراً ما كانوا يلتفون حول سريره ويمسكون بيديه المتفلتتين، أو برأسه الذي كان حريصاً على تحريكه بعيداً عن أيديهم، ويبدأون في تجاذب الأحاديث معه ومع بعضهم، وكلّها تقريباً عن حوادث وقعت له معهم، أو حوارات جرت بينهم وبينه، أو طرائف شهدوها معاً، أو تعليقات ساخرة قالها في مواقف معينة يذكّرونه بها.

*     *    *

كانت هذه الحالة الغريبة هي الأكثر إيلاماً لنا، فنحن لا نستطيع، ولا نحب بالتأكيد، أن نشير إلى غسان وكأنه رحل عن عالمنا، رغم أنه لم يعد فيه إلا بجسده، فهو في النهاية حيّ، لكنّها حياة غريبة وخاصة واستثنائية. لقد فقدنا غسان، لكنه ما يزال معنا، خسرناه لكنه ما يزال بين أيدينا، رحل عنا لكنه ما يزال موجوداً بيننا. وقد تحول هذا إلى هاجس لنا نحن الذين لم نكن نعرف كيف نشير إليه، بوصفه حياً أم ميتاً، مقيماً أم راحلاً، مريضاً أم سليماً، وفي صحة لا تتوفر لكثيرين غيره من الأحياء. ومع ذلك فإن الأمثلة التي كنت أستحضرها مقارنة بحالة غسان هي تلك الخاصة بالفقد التام، بالرحيل النهائي، بالخسارة الأبدية التي انبثقت بقوة هائلة من آخر تجاويف الذاكرة واستوت في المقدمة منها. انتبهتُ إلى أن ذاكرتي ما زالت تحفظ تلك القصة التي قرأتها وأنا ما أزال في الصفوف الابتدائية لمصطفى لطفي المنفلوطي؛ قصة لا أذكر عنوانها ولا أحداثها، ولكنني أذكر تماماً أنها عن امرأة تفقد ابنها فتدخل في مونولوغ داخلي تتحدّث فيه عن أشياء عديدة نسيتها كلها، ولكن بقيت جملة تقول فيها "محظوظة هي الأمّ التي تموت قبل ابنها". وفي دروس القراءة الابتدائية انبثقتْ إلى مقدمة ذاكرتي قصة عن أب نمساوي وابنه وقعا في قبضة أعداء لهما أرادوا الحصول من الأب على معلومات عن قومه الداخلين في صراع مع هؤلاء الأعداء، وهدّد الأب بعذاب أليم إن لم يجبهم إلى طلبهم. وأمام هذا الوعيد القاسي تقدّم الوالد بطلب غريب من أعدائه؛ أن يقتلوا ابنه حتى لا يكون شاهداً عليه. يقتل الابن، وعندها يتقدم الأب بقوّة وتحدّ عظيمين، ويقول لأعدائه: كان أكبر ما خشيته هو أن تخضعوا ابني لعذاب لا أستطيع تحمّله، فأضطر إلى الاعتراف لكم بما أعرف. الآن، وقد مات ابني فإنني لم أعد أخشى شيئاً.

لم أكن حين قرأت هاتين القصتين سوى طفل صغير لم يصل العاشرة من عمره، فما الذي أبقاهما عالقتين في ذهني من دون كلّ ما قرأت من قصص وروايات ونصوص من داخل المنهاج الدراسي وخارجه؟  لم أكن أعرف شيئاً عن العلاقة المعقدة للأبوّة والبنوّة، ولم أكن أدرك ما أدركته لاحقاً عن مدى الحب الذي يكنه الأب لابنه، ولم أكن قادراً على تخيل مدى حزن الأب أو الأم على فقد الابن، والتيقن من أنه يمثل أقصى درجات الفقد الناجم عن أرقى أشكال الحبّ وأكثرها نزاهة وعمقاً وتجذّراً في الطبيعة الإنسانية.

بعد ذلك بأعوام قليلة، قرأت ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، ومن بين أحداثها العديدة التي تتضمنها أجزاء الرواية الثلاثة، بقي المشهد الأكثر حضوراً في ذهني هو مشهد مقتل فهمي، الابن الثاني للسيد أحمد عبد الجواد، في مظاهرة سلمية، بعد أن كان نجا من الموت في كلّ المظاهرات التي شارك فيها، والتي كانت تخلف وراءها قتلى من بين المتظاهرين. وعلى الرغم من صغر سني حين قرأت الرواية الكبيرة، فقد فهمتُ مقتل فهمي في الرواية على أنه مثال صارخ على الجانب الغادر من الحياة، والوجه القاسي للقدر، والجانب المرعب والخفيّ من الزّمن، مثلما كان مثالاً على دهاء الروائيّ الكبير وإدراكه العميق أن مثل هذه الاحتمالات المأسوية إنما تكمن في المشهد الخلفيّ للحياة، مهما بدت هانئة ووادعة، وقد تتحوّل في لحظة لا منطق لها من احتمال مرعب إلى حقيقة تغطي بظلالها السوداء، الحياة الرتيبة لوالدة فهمي وأخوته وأخواته، والحياة المزدوجة لوالده العابث والطغياني في الوقت نفسه.

بغياب فهمي، بقي لدى أحمد عبد الجواد  ابناه ياسين وكمال، وابنتاه خديجة وعائشة: أربعة أبناء يمنحون البيت دفئاً لا يُعوّض عن فقد فهمي، ففي حياتنا هذه لا أحد يعوض عن أحد آخر، لكنه يقلل من حجم الفقد. هكذا فهمت معنى موت فهمي في لحظة ما، وهو فهم عزّزه قول لوالد زوجة صديقي محمود الريماوي في بداية زواجنا، هو وأنا، الذي تم في عام واحد. في بداية أيام زواجنا قالت إلهام، زوجة محمود الريماوي لزوجتي هدى، إن والدها كان يحضّها على إنجاب كثير من الأولاد والبنات، فلا أحد يعرف ما يمكن أن يأتي به القدر. لم يكن ذاك إحساساً فلسفياً بغدر القدر، بقدر ما كان استحضاراً لحقيقة واجهها هو حين فقد ابنه الشاب هشام أثناء مظاهرات عنيفة اندلعت في العام 1963. لم يكن هشام مشاركاً في المظاهرات، بل كان جالساً أمام منزله في القدس حين أصابته رصاصة طائشة أفقدته حياته. لم يعوّض الأب المكلوم شيء عن فقد ابنه الشاب، لكن وجود ابنين وابنتين له، تماماً مثل أحمد عبد الجواد، خفّف من حزنه على فقد الابن الراحل، ومن هنا كانت أمنيته لو أنه كان أنجب عدداً أكبر من الأبناء، فربما كان حزنه على فقد ابنه أقلّ من ذاك الذي داهمه ولم يبرح صدره حتى رحيله بعد ابنه بكثير؛ أمنية نقلها في صورة وصية لابنته التي أنجبت ستة من الأولاد والبنات.

في رواية صنع الله إبراهيم "بيروت بيروت"، التي تروي أحداث اجتياح تلّ الزعتر في لبنان، وهو ما تمّ في الشهر الذي تزوجتُ فيه، ثمة مشهد بقي محفوراً في ذاكرتي، جنباً إلى جنب مع المشاهد الأخرى: تقف أمٌّ فلسطينية أسر أبناءَها مقاتلو حزب الكتائب الذين اقتحموا المخيم، أمام أحد مقاتلي الحزب ترجوه أن يبقي لها ولداً واحداً من أولادها الذين وضعهم مقاتلو الكتائب في شاحنة تمهيداً لأخذهم بعيداً لإعدامهم. لم تطلب المرأة واحداً بعينه من أبنائها، بل أيّ واحد منهم. هل يعني ذلك أن المرأة استغنت عن أولادها جميعاً مستعيضة عنهم بواحد فقط؛ أم أنها أرادت أن تمنح الولد الباقي كلّ الحب الذي كانت تكنّه لأخوته الذاهبين إلى حتفهم، فترى في وجوده وجوداً لهم هم أيضا؛ أم كانت تريد أن تبث في حياة ابنها الذي سيبقي عليه القتلة حياة أخوته القتلى فتبقيهم أحياء بالنسبة لها على الأقل، في  محاولة احتيال على القدر الذي أراد أن يأخذ منها كلّ شيء، فقررت أن تبقي على كلّ شيء من خلال بقاء ابن واحد لها؟

هل هي واحدة من حالات المقايضة الرهيبة مع القدر؛ مقايضة يضطر إليها كثير من الناس حين يجدون أنفسهم في لحظات تختصر لهم الموت والحياة، البقاء والفناء، النجاة والهلاك، تماماً مثلما يرجو المحكوم بالإعدام جلاده أن يميته بسرعة، حتى لا يعاني آلام الموت المبرّحة؟ في رواية الأمل لأندريه مالرو، يقف عدد من أنصار الجمهورية الذين وقعوا أسرى في أيدي مقاتلي حزب الكتائب الإسباني أمام حفرة كبيرة ستملؤها أجسادهم بعد أن يطلق عليها الكتائبيون النار. يرسم مارلو لوحة، شبيهة بلوحات غويا، مركّزاً على الطريقة التي يواجه بها كلّ من هؤلاء الأسرى موته القريب؛ ومن بين هؤلاء يركز مالرو على أسير كان يمتثل لأوامر الجلاد الذي سيقتله بعد لحظات، وكأنه يساعده على تنفيذ مهمته المرعبة. في اللحظات الفارقة بين الموت والحياة تنتهي خصوصية أيّ شيء أو أيّ شخص، ولا يبقى سوى احتمال الموت المساوي لاحتمال الحياة، فنتصرف ونحن أحياء تصرّف الموتى، أو نجعل من الحياة نقيضاً لموت آخرين، وحياة لهم وهم موتى.

لم أتوقف كثيراً عند تلك الوصية التي لم توجّه إلي، بل سمعتها عرَضاً فثبتت في ذهني رغم أن زوجتي التي نقلتها لي عن صديقتها، زوجة صديقي، نسيتها على مرّ السنين. ربما كان ذلك لأنني ابن عائلة كبيرة العدد، فأنا الأخ السابع في الترتيب بين أخوتي العشرة وأختيّ الاثنتين. وعلى الرغم من أن علاقاتنا، أخوتي وأنا، كانت وما تزال على أفضل ما يرام، وعلى الرغم من أن أخوتي هم بعض أفضل أصدقائي، فإنني قرّرتُ حين تزوجتُ أن أنجب أقلّ القليل من الأولاد: ولدين وابنة واحدة، أو ابنتين وولد واحد، لكنني لم أنجب سوى ولدين، وكان ذلك مناسباً تماماً لي، أنا الذي نويت أن أضمن لهما تربية جيدة، ودراسة جامعية يختارانها، وهو ما حدث قبل أن يحدث ما حدث.

كيف ثبتت في ذهني ولماذا؟ لا أدري؛ تماما مثلما لم أدر لم ثبتت جملة المرأة المحزونة في قصة المنفلوطي، وصورة الوالد الذي قتل الأعداء ابنه فلم يعد لديه ما يخسره، ومثلما ثبتت لديّ صورة مقتل فهمي في ثلاثية نجيب محفوظ.

هل كان ذاك تدريباً على الرعب الذي بقي كامناً لي في ثنايا الزّمن سنوات طوالا حتى ضرب القدر ضربته؟ أم كان توقعاً لنبوءات سوداء كانت كامنة هناك في ثنايا عقلي وتجاويف ذاكرتي تنتظر الفرصة السانحة لتفاجئني بكلّ هذا الألم دفعة واحدة؟

 

 

الفصل الأول: ألم عامّ.. ألم خاصّ

لا أذكر الوقت بالضبط، لكنّ الساعة كانت تجاوزت السادسة والنصف بقليل، من مساء يوم الثالث عشر من تموز (يوليو) 2006، حين تلقيت مكالمة هاتفية من إحدى زميلات ابني غسان في محطة "عمّان نِت" الإذاعية التي يعمل فيها. كان الصوت متقطعاً ومرتبكاً:

ـعمّو، غسان... أصيب في حادث سيارة!

لم أفقد أعصابي، وبقيت متماسكاً إلى حدّ ما، أواصل الاستفسار عن الحادث. أين؟ كيف؟ ماذا حدث لغسان؟ أين هو الآن؟ وكأنني كنتُ متأهباً لسماع مثل هذا الخبر منذ زمن طويل، كانت أسئلتي ذات طابع عمليّ. أريد أن أعرف ماذا عليّ أن أفعل. لكنّ داخلي لم يكن صافياً. كان هناك هاتف داخلي يقتحم هدوئي المنضبط ظاهرياً، وينبئني بأنّ ذاك لم يكن واحداً من تلك الحوادث العادية التي تحدث كلّ يوم في بلد نسبة حوادث السيارات فيه بين الأعلى في العالم، عدا عن أنها حوادث قاتلة.

كان الهاتف الداخلي صدى للهاتف الحقيقي الذي جاءني بالنبأ. لم أكن من محبّي الهاتف يوماً، ليس انطلاقاً من أنه جهاز ينقل الأخبار المشؤومة، فهو ينقل الأخبار المفرحة والبهيجة أيضاً، بل لأنني لم أشعر يوماً بحاجة ماسّة إليه. وأذكر أنني لم أجر في حياتي مكالمة هاتفية واحدة قبل دخولي الجامعة، وأنه لم يكن لي في جامعة دمشق، حيث درستُ الأدب الإنجليزي، سوى صديق واحد يملك هاتفاً، وأنني حين انتقلت للعمل في الكويت، البلد المعروف بتوافر خدماته بيسر، ربما كنت آخر من امتلك هاتفاً من أصدقائي.

لم تكن علاقتي بالهاتف عموماً علاقة وثيقة. فبعكس من كنت أسميهم محترفي المكالمات الهاتفية الذين لا يكاد الهاتف يفارق آذانهم، كان الهاتف بالنسبة لي جهازاً عملياً لا يجوز استخدامه في كل وقت وحين؛ للشأن المهمّ وغير المهم، للحديث الجديّ والثرثرة الفارغة، للنقاش الجاد وللنميمة. وحين انتشر جهاز الهاتف النقال كنت من أواخر من استخدمه من أصدقائي وزملائي، رغم حاجتي إليه بحكم عملي صحفياً. ومع ذلك، لم أستخدم الهاتف بإفراط، ولا أزال حتى اليوم، أستخدمه في أضيق الحدود؛ لترتيب المواعيد وتثبيتها، لتحديد أماكنها وتنسيق طرق الوصول إليها، للاستفسار عن أمر ما أو لتلقّي خبر مهم، قد يكون مفرحا وباعثاً على السعادة، وقد يكون خطيراً أو مفجعاً. في إطار هذه الحدود غير الصارمة التي حكمت علاقتي بالهاتف جاءني خبر غسان.

كان يقود سيارته الخاصة، ومعه ميشيل خليفي، المخرج السينمائي الفلسطيني، في منطقة بعيدة عن عمان، هي منطقة الشّونة الجنوبية في غور الأردن. أصيبت السيارة إصابة بالغة. عرفت فيما بعد أنها دمرت تماماً. نقل الاثنان إلى المستشفى الحكومي هناك، لكن ضيق إمكانات المستشفى المتواضعة لم تكن كافية للتعامل مع حادث كبير مثل ذاك، فنقلا، بناء على طلب صديق لميشيل كان قد عرف بالحادث قبلي، إلى مستشفى كبير في عمان.

عليّ التوجه إلى المستشفى.

قلتُ لزوجتي هدى، التي كانت تستمع إلى الحوار وهي تحاول التماسك، مستعينةً بالجدار الذي استندتْ إليه، موجّهة نظرات ذاهلة إلى كلّ شيء حولَها. انبساط الجدار ونعومته جعلتا حركة يديها اللتين وضعتهما خلفَ ظهرها عبثية، فقد بدت وكأنّها تتحسس برفق نعومة الجدار وتهدهده حيناً، وبدت حيناً آخر وكأنّها تحاول مسح النقطة التي ترتكز عليها من الجدار لمزيد من التأكد من نظافته التي تحرص عليها كل يوم، أو أنها تحاول أن تجد على سطح الجدار الأملس شيئا بارزاً تمسك به حتى لا تسقط على الأرض.

حاولت أنا غير المطمئن أصلاً أن أطمئنها. لا أدري كم نجحت، لكنّ الأمر لم يشغلني كثيراً، فقد تركتها وهي تواصل حركتها العبثية التي بدأت تزداد اضطراباً، كما بدأت هي تزداد شحوباً، غير أنها لم تذرف دمعة واحدة. كانت في حالة صدمة، والدموع هي آخر ما يجدي في حالة الصدمة. بدا الأمر أكبر من ذرف أية كمية من الدمع.

توجهت مع صديقي الدكتور خالد زايد إلى المستشفى لمتابعة حالة غسان. وقفنا في مدخل قسم الطواريء لإتمام إجراءات الإدخال التي لم تكن اكتملت بعد، فهي رُتِّبت على الهاتف. في المستشفى يتحوّل الشخص إلى حالة. تتنحى خطورة الموقف جانباً، وتترك الأحزان لأصحابها والقلق لمن يعتمل في نفسه القلق، والخوف يأكل روح الخائفين، وتتسيّد الإجراءات الروتينية.

لم تطل تلك الإجراءات كثيراً بفضل علاقات الدكتور خالد زايد. أُُنزل المصابان من سيارة الإسعاف التي اصطفّت غير بعيد من الكاونتر الذي كان فيه الموظف المناوب يسجّل على دفتر ضخم بيانات المريض كاملة. كان غسان وميشيل لا يزالان في سيارة الإسعاف التي وقفت غير بعيد مني. لكنني لم أبذل أدنى محاولة للاقتراب منها لمشاهدة غسان. كانت لديّ خشية غامضة من أن أرى ما لا يسرّني، مما أشارت إليه المعلومات المبهمة التي عرفتها حتى ذلك الوقت. ربما كانت تلك طبيعتي المتحفظة، في أقصى حالات تطرفها.

أنزل المسعِفون ميشيل خليفي أولاً. بدا وكأنّه يحاول البقاء يقظاً أمام موجة من الألم الذي بدا على وجهه المألوف بالنسبة لي. كنتُ التقيته في الكويت في العام 1983 حين كان يشارك في مهرجان للسينما الفلسطينية هناك. حييته فقال بوهن من دون أن يهتمّ بمعرفة هوية من يحدّثه: "المهم غسان". ثم جاءت نقالة تحمل غسان، بجسده العملاق الذي بدا نصفه العلوي عارياً وقوياً مثلما كان دائماً، يغطّي الشاش رأسه وإحدى عينيه.

"لا خوف إذن، لا خوف! صحة غسان الجيّدة وقوة جسده وشبابه وحيويته سوف تساعده على تخطي المحنة،" قلت لنفسي في محاولة حرصت على أن تكون استنتاجاً واقعياً أكثر منها أمنية. قبّلته من وجنته التي لم يغطّها الشاش، وتابعت الإجراءات التي تحوّلت من إجراءات إدخال المريض المستشفى إلى إجراءات التصوير بالأشعة وفحوصات أخرى كان يجب أن تجرى لغسان. وتحول غسان الصحفي والكاتب والمذيع، إلى المريض غسان.

في قاعة المستشفى تناثرت مقاعد احتلّها عددٌ من الأهالي والأقارب لمرضى مكلومين بأحبائهم، وكان هناك من وقف لعدم وجود ما يكفي من المقاعد. كان بين هؤلاء عدد من زملاء غسان وأصدقائه، وعدد من أصدقاء ميشيل خليفي، وبعضهم مشترك مع أصدقاء غسان. كان ميشيل خليفي في زيارة عمل إلى الأردن لإعطاء بعض الدروس في الإخراج السينمائي للشباب، وبعض هؤلاء الشباب كانوا من أصدقاء غسان. وكان هناك عدد من أصدقائي الذين سمعوا بالخبر فقدموا ليكونوا على مقربة مني.

*   *   *

في إحدى غرف الانتظار، احتلّ بعض الحضور المقاعد القليلة المصطفّة بعناية مقابل جهاز تلفزيون ارتفع في الزاوية، وتجمّع آخرون وقوفاً يشاهدون صوراً يبثّها التلفزيون لجرحى وقتلى بين أنقاض منازلهم، ولمصابين رقدوا في أسرتهم التي احتوت جراحهم النازفة، فبدا المشهد غرائبياً في صورة ما؛ بدا جهاز التلفزيون في المستشفى وكأنه يبث مشهداً داخلياً لنزلائه المصابين في حوادث يومية تسيل فيها الدماء وتكسر العظام وتفتح الجراح ويتحوّل بعضهم أشلاء على الطرقات.

كانت المحطّات الفضائية تنقل صور ضحايا قصف همجي على لبنان، بدأ قبل ذلك بيوم واحد. وكان الزوّار، ومنهم نحن القادمين من أجل متابعة حالات أبنائنا وأحبائنا الذين سقطوا ضحايا المرض أو حوادث الطرق أو حوادث من أنواع أخرى لا تتوقف الحياة عن ابتكارها ولا يتوقف القدر عن ترتيبها، نتابع في الوقت نفسه صور القتل والخراب والتدمير المنهجي الذي لم تتوقّف إسرائيل يوماً عن التفنن في ترتيبه وتدبيره وارتكابه.

في الثاني عشر من تموز 2006، قام رجال حزب الله بعملية عبر الحدود اللبنانية مع إسرائيل، خطفوا خلالها اثنين من الجنود الأسرائيليين، وقتلوا آخرين. بدت إسرائيل وكأنها جاهزة للرد، فبدأت بعد ساعات قليلة من العملية قصف جنوب لبنان والضاحية الجنوبية من بيروت بآلتها العسكرية المدمّرة، قصفاً تتقنه وتبرع فيه، وربما تتلذذ بتنفيذه. وكان المدنيون الذين نشاهد صورهم على شاشات التلفزيون في ردهة المستشفى هم الضحايا المباشرون لذلك القصف الرهيب. هكذا قررت إسرائيل فنفّذت. أما غسان فكان القدر يرتّب له أمراً آخر.

كان غسان يصطحب ميشيل خليفي في طريق بعيدة من عمان، التي نادراً ما غادرها في سيارته، فقد كان حذراً من أن يتورّط في سلوك طرق لا يعرفها. كان غسان يجري حواراً مع ميشيل خليفي في طريق الأخير إلى الناصرة التي أراد المغادرة إليها في إجازة نهاية الأسبوع، وكان الاثنان اتفقا على أن يقوم غسان بإيصال ميشيل في سيارته إلى المعبر. اعتقد غسان أنه سوف يوصل ميشيل إلى الناصرة من طريق جسر الملك حسين على نهر الأردن القريب من البحر الميت الذي لا يبعد عن عمان أكثر من 40 كيلومتراًكأكأكث، وهو طريق يعرفه غسان جيداً. وكان ميشيل يعتقد أن غسان سيوصله إلى مدينته من طريق جسر الشيخ حسين الذي يبعد عن جسر الملك حسين نحو 60 كيلومتراً إلى الشمال. أوصل غسان ميشيل إلى جسر الملك حسين، فأدرك الأخير أن في الأمر خطأ ما. ونبّه غسان إلى أن طريقه إلى الناصرة يمرّ عبر جسر الشيخ حسين التي يمكن الوصول إليها عبر الشونة الشمالية، وهي طريق لم يكن غسان قد سلكها من قبل. كانت الطريق جديدة عليه. سأل المارة القليلين الذين تناثروا في الحرّ اللاهب في تلك المنطقة التي تعدّ الأكثر انخفاضاً عن سطح البحر في العالم عن طريق الشونة الشمالية، فدلوه، واستعان للوصول إليها بإشارات المرور الموجودة هناك فخذلته.

قال له أحدهم إن عليه أن يسير في الشارع الذي كان فيه إلى أن يصل مفترقاً للطرق، وبعد ذلك يتجه يساراً حيث طريق الشونة الشمالية. سار الاثنان مسافة قصيرة فشاهدا إشارة مرور تحمل سهمين؛ أحدهما يشير إلى اليمين حيث مدينة السّلط، والثاني يشير إلى اليسار حيث الشونة الشمالية التي يقع فيها جسر الشيخ حسين الذي سيعبر منه ميشيل في اتجاه الناصرة. اتجه غسان إلى اليسار من دون أن يدرك أن الانعطاف إلى اليسار يتطلب منه أن يمرّ عبر متاهة من المداخل والمخارج المؤدية إلى الشارع الموصل إلى الشونة الشمالية وإليه؛ كانت هناك أربعة مسارب بدت وكأنّها وضعت لتبلبل السائق بدلاً من أن تدلّه على المسرب المطلوب، فقد تركت خالية من أية إشارات تدل على المسرب الذي يجب أن يسلكه السائق القادم أو المغادر، وذاك المحظور سلوكه. لم تكن هناك أية إشارات على أرض الشارع، كما لم تكن هناك شواخص مرورية توضح للسائق أين يجب أن يتجه في متاهة المسارب تلك. وكان متوقعاً أن يسلك السائق طريقاً خاطئاً من بين طرق هذه المتاهة. [بعد ذلك زرت مفترق الطرق الذي وقع فيه الحادث أكثر من مرة، وفي كلّ مرة كان هناك سائقون يسلكون المسرب الخاطيء الذي سلكه غسان، وهو ما كان يجعلهم عرضة لحوادث مروّعة تمنع وقوعها صدفة استثنائية لم تتوفر لغسان].

لم يكن غسان قد سار كثيراً في المسرب الخاطيء حتى صدمته شاحنة صغيرة يقودها بسرعة كبيرة شاب في مثل سنه. دُمِّرت السيارة. وأصيب غسان الذي انقلبت عليه الشاحنة من جهة الرأس إصابة بليغة. تضرّرت القشرة الدماغية، لكن صندوق الجمجمة بقي سليماً فلم ينكسر. وأصيب الدماغ بأكثر من نزيف، كان أكثرها خطورة ذاك الذي أصاب المنطقة المعروفة بجذر الدماغ، وهي منطقة تتحكم بكثير من الوظائف الحيوية للجسم. وأصيب ميشيل بكسور في عنقه وفي ساقه.

*   *   *

نقلت عربات ذات عجلات المريضين إلى غرف التصوير بالأشعة، ثمّ أعادتهما إلى حجرتيهما في قسم العناية المركزة حيث استقرا، فيما كان جهاز التلفزيون يبثّ صور الجرحى والمصابين اللبنانيين، مفسحاً المجال بين الحين والآخر لبعض المعلّقين السياسيين للإدلاء بآرائهم حول ما يجري. كانت ضحايا القصف الإسرائيلي في بعض الأحيان عائلات بأكملها، وكان بعض من الجرحى الذين لفّت أجزاء مختلفة من أجسادهم بالضمادات، قد نجوا بأعاجيب يتقنها القدر، الذي كثيراً ما بدا وكأنه يتحدّى براعة إسرائيل في قدرتها على القتل: طفلة مدمّاة رقدت في ركن من السرير الذي اتسع عليها كثيراً؛ عجوز احتلت حيزاً من السرير أكبر قليلاً بجروح أقلّ قليلاً؛ شابّ في عمر غسان منعته الضمادات التي أحاطت بيديه من رسم علامة النصر بأصبعيه مثلما فعل زملاء له لاذوا جميعا بغرفة علاج عشوائية لم يكترث أحد بما إذا كانت غرفة في مستشفى أم قاعة تحوّلت إلى مستشفى مرتجل أم قبواً في أحد المنازل احتمى أهله به من القصف واستخدم لعلاج بعض المصابين في الوقت نفسه. جرحى ومصابون في كلّ مكان؛ داخل المستشفى في عمان، وهناك في لبنان. في ممرّات المستشفى وردهاته، وفي التلفزيون الذي لم يتوقّف عن بث صور اصطبغت بلون الدم وأظهرت حجم الدمار الذي ألحقه القصف الإسرائيلي بلبنان. هنا وهناك سقط شبّان وكهول وأطفال وعجائز، آباء وأمهات، إخوة وأخوات وأجداد وجدات.

كانت قسوة المَشاهد التي يبثّها جهاز التلفزيون أكبر من ألا تثير لديّ الألم والحزن والشفقة والغضب، لكن كانت هناك في قلب كلّ من المشاهد القاسية التي شاهدتها في تلك الليلة التي لا تُنسى، صورة غسان بجسده العملاق الأبيض المغطّى بشعر الشباب الناعم الجميل، وقد غطت الضمادات رأسه ورجله اليسرى التي كسرت في الحادث. ومع كلّ صورة لشاب يبثّها التلفزيون تزداد رسوخاً لديّ صورة غسان المصاب الممدّد على سريره في غرفة التصوير بالأشعة، أو في غرفة العناية المركزة التي نقل إليها فيما بعد. ألم عامٌّ وألمٌ خاصّ يتنازعانني في الوقت نفسه؛ ألم لما يجري في لبنان من ذبح وتقتيل يغذّيه اهتمام قديم من جانبي بالشأن العام، وألم لما جرى لغسان بجسده الجريح، وحالته التي لم تتضح مدى خطورتها بعد. الألم العام أخفّ وطأة من الألم الخاص. لكن ألماً تعيشه لا يخفف وقعَه ألمٌ تشاهده على شاشة التلفزيون، حتى لو كان حقيقياً وليس مشهداً في فيلم أو مسلسل تلفزيوني. إنها في النهاية صورة تأتي وتؤثر فيك، وقد تبكيك، لكنّها تمضي إلى غيرها. أما ألمك الخاص فإنه يتغذّى على نفسه فيكبر ويستقرّ ويثقل على نفسك فينوء بك وتنوء به. الألم العام هناك، بعيد عنك ومنك. وهو يأخذ صورته الحقيقية والمجازية من كونه ألماً عاماً يشترك فيه كثيرون لا يعدّون ولا يحصون، وكأنه يوزّع على الجميع بالتساوي أو بغير عدالة، فيقل نصيبك من الحزن. الألم الخاصّ شخصي جداً ومحدّد تماماً ومركّز بقسوة، ومجسّد في شخص واحد وحيد ومحدّد. الألم العامّ مشترك، والألم الخاص شخصيّ لا يشاركك فيه أحد؛ فتعدّد المحزونين لا يعني توزّع الحزن عليهم. الألم العام عادة ما يكون ممزوجاً بالغضب ولوم النفس والمرارة والحنق. الألم الخاص ألم مقطّر، ألم مصفّى لا تشوبه شائبة ولا يمتزج به شيء ولا يمتزج هو بشيء. الألم العام يخيم عليك وعلى الآخرين ويشيع جوّاً عاماً من الكآبة والحزن الذي سرعان ما يدخل إلى جوفك وأحشائك. الألم الخاص ينبع منك، من نقطة محدّدة في قلبك، ويخرج إلى لا مكان، في صورة زفرة أو دمعة أو نوبة بكاء أو حالة ذهول، يخرج فلا يتلقاه شيء أو أحد، فيتبدد في اللامكان.

ألمي الخاص يرقد هنا في المستشفى مجسّداً في غسان الجريح في حادث سيارة عبثي مثل كل حوادث السيارات. إشارات مرور غير واضحة أو غير موجودة، أو موجودة ولكنها مضللة، وسرعة متناهية في شارع منفتح على الأفق وسائق شاب متهوّر تتسبب في إصابة غسان. وألمي العام يمتدّ إلى هناك، إلى لبنان، حيث يسقط جرحى من دون عدد يومياً بفعل قصف إسرائيلي ليس عبثياً على الإطلاق؛ قصف منهجي مركز بقصد القتل والتدمير وإلحاق أكبر قدر من الأذى والألم بالناس. هل هناك فرق؟ كان غسان يخطّط لزيارة بيروت التي أحبّها بعد أن قضى فيها بضعة أشهر متدرّباً على فنون العمل الصحفي في صحيفة الحياة. هناك كوّن شبكة من الصداقات الوثيقة والعديدة. وبعد أن أنهى دورته التدريبية وعيّن مراسلاً للحياة في عمان، زار بيروت أكثر من مرة. وهو كان يخطط لزيارتها قبل أن يقع الحادث. هل كان الأمر سيختلف كثيراً لو أن غسان غادر إلى بيروت وقت الحرب، وأصيب هناك، وأصبح واحداً من آلاف الجرحى من ضحايا القصف الإسرائيلي؟ سينتقل غسان من سريره الحقيقيّ الذي يحتله في غرفة العناية المركزة داخل المستشفى إلى سرير بين أسرّة عديدة يرقد عليها جرحى تغطّي أجسادهم الضمادات والدماء، يبثّ صورَها جهاز تلفزيون معلّق في زاوية في ردهة المستشفى. هل كان غسان عند ذلك سيتحوّل إلى جزء من الحزن العام الذي يلفّ لبنان والعالم العربي؟ هل كان الأمر سيختلف كثيراً؟ هل يكون حزني على غسان عند ذلك أقل؟ وألمي أخف؟ وأكون أنا أكثر قدرة على الاحتمال؟

على مدى الأيام الاثنين والثلاثين التالية التي استمرّ فيها القصف الإسرائيلي للبنان، بقي غسان في رقدته، واستمرّ سقوط الضحايا في لبنان؛ قتلى وجرحى ومصابون ومشردون فقدوا منازلهم. كانت الصحف تنشر أسماء الضحايا وأعمارهم، وكان بينهم كثير من الشباب ممن هم في عمر غسان المولود في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 1981: يبثّ التلفزيون صورة لجريح مولود في العام 1980. إنه أكبر من غسان بعام واحد! جريح آخر مولود في العام 1990.. صغير بعد على الإصابة، مع إدراكي الكامل أن الإصابات والموت لا ترتبط بعمر معيّن. مصاب آخر مولود في العام 1979. أكبر من غسان بعامين، إنه مولود في العام نفسه الذي ولد فيه قصيّ، شقيق غسان الأكبر، وابننا البكر. شهيد من مواليد 1981، من عمر غسان. جريح من مواليد 1982، أصغر من غسان بعام، أكبر من غسان بعامين، أصغر منه بعام، عامين، ثلاثة، أربعة، أكبر بأعوام.

لم تكن تلك لعبة من جانبي أخفف من خلالها من حزني على غسان فقط، كانت ارتقاء بغسان من موقعه جريحاً ومصاباً في مستشفى مثل عشرات غيره، إلى موقع أسمى باعتباره معياراً لكلّ أشكال الحزن والألم التي يمكن أن تلم بالناس، ومقياساً لعبثية سقوط الشباب ضحايا لحوادث الطرق القاتلة والقصف الهمجيّ والموت الكامن في صاروخ تطلقه طائرة إسرائيلية، أو في صلية رشاش من جنديّ، أو في قنبلة ضخمة تحوّل البنايات الشاهقة إلى مزق إسمنتية مهلهلة.

 

 

الفصل الثاني: وطن واقعيّ.. وطن مجازيّ

مضت الأيام الأولى التي تلت الحادث بطيئة، ثقيلة، كليلة. نُقل غسان إلى غرفته في قسم العناية المركزة، حيث لا أجهزة تلفزيون؛ أسرّة ومرضى وتجهيزات طبية وممرّضون وأطباء قليلا ما يأتون لزيارة مرضاهم. الدخول لرؤية غسان يحتاج إذناً من الحرّاس الواقفين على الأبواب بأوامر مشدّدة بألا يدخلوا أحداً لزيارة مريضه إلا في أوقات محدّدة، وإن سمح لهم فإن عليهم أن يدخلوا فرادى. لكنهم نادراً ما كانوا ينجحون في ذلك أمام سطوة العادات والأعراف ونزعة الزوار إلى تحدي السلطة التي يمثلها الحارس الذي كثيراً ما كان يمارسها بطريقة فظة تشير إلى ما يمكن أن يكون عليه هذا الشخص، لو كانت له سلطة أكبر وأخطر. كان غسان هناك على سريره عاري الصدر يتنفس من خلال جهاز ثُبِّت فوق أنفه وفمه وقد مدّ ذراعيه الضخمتين على طولهما فيما استراح رأسه المغطّى بالضمادات مع ميل قليل ناحية اليسار. مضت فترة وأنا خائف قليلا ًمن أن يكون الميل ناجماً عن الإصابة، فتتحول إلى عاهة دائمة.

بعد أيام، أُزيلت عن عين غسان اليسرى العصابة التي كانت تغطيها، لكن عينيه بقيتا مغمضتين. بعد ذلك بأيام قليلة أزيلت الضمادات عن رأسه فبدا جبينه وضاءً مثلما كان دائماً، ساعد على ذلك شعره الذي فقد كثيراً منه في مقدمة رأسه نتيجة عامل وراثي اشتركتُ أنا وزوجتي في نقله إليه؛ شعر ناعم جميل سرعان ما يبدأ في السقوط مسلّماً الشاب إلى صلع حتميّ. بدا غسان وكأنه يغطّ في نوم عميق يحتاجه ليستأنف بعد يقظته حياة عملية مليئة كان اعتادها خلال حياته المهنية القصيرة. مع عدم وجود تلفزيون في قسم العناية المركزة أو في القاعة المخصصة للزوار، انقطع سيل الصور المبثوثة من لبنان، وتحوّلت تعليقات المحللين والمعلقين السياسيين إلى أقوال يتناقلها الزائرون في القاعة المخصصة لهم، ومعها تحوّلت محادثات الزائرين في ذلك من قسم العناية المركزة، إلى نقاشات سياسية موازية اختلطت بحوارات عن أحوال أحبائهم الراقدين على الأسرة في الداخل.

كان ميشيل خليفي يرقد على سرير في غرفة أخرى من قسم العناية المركزة. كان يعاني من كسور في رقبته وفي رجله. إصابته صعبة لكنّها ليست خطرة، فقد كان واعياً على أيّ حال، والوعي تحول لدي إلي أساس أقيس به حالة المريض من حيث بساطتها أو خطورتها. أصبح مقياساً للصحة في مرحلة ما، ثمّ معياراً للحياة نفسها في مرحلة لاحقة، بعد أن بدأت تلوح في الأفق احتمالات أن يبقى غسان على قيد الحياة، لكن فاقداً للوعي. فكرة مرعبة كنتُ أطردها بعيداً كلما خطرت ببالي، لكنها كانت ما تلبث أن تعود بإلحاح أكبر في كلّ مرة. كنت أخشى سؤال الأطباء عنها، لكنّهم، هم المتحفظون بطبيعة مهنتهم، لم يكونوا ليجيبوا عن سؤالي الذي لم أجرؤ على طرحه عليهم. كنت أزور ميشيل في غرفته، التي كانت في الطريق إلى غرفة غسان، كلما دخلتُ قسم العناية المركّزة. حاولت تذكيره بلقائنا في الكويت الذي أتذكره أنا بذاكرتي القوية التي ورثتها عن والدتي كما يبدو. أتذكر اللقاء جيداً بتفاصيله كافة، وبكثير من الحوارات التي جرت فيه رغم مرور ثلاثة وعشرين عاماً عليه، لكن ميشيل لم يتذكّره، ولم يكن ذلك مهماً، فقد تعارفنا من جديد؛ تعرفت على أفراد من عائلته كانوا قد أتوا من الناصرة ليزوروه، وبينهم أخوه الأكبر جورج خليفي المخرج السينمائي المبدع والمثقف، وتعرّف هو على أخوتي الكثيرين الذين وقفوا بجانبي. كنا مثالين لعائلتين فلسطينيتين تعيش إحداهما في الوطن والثانية في الشتات، تعيدان التعرّف على ما هو مشترك وعلى ما اختلف بينهما بعد نحو ستين عاماً على نكبتنا الواحدة. كان كلّ منا يكتشف جديداًَ في الآخر؛ اكتشفتُ أنا صلابة وجودهم على أرضهم حتى لو كان هذا الوجود بين أعداء ومغتصبين، في مقابل سيولة وجودنا بين أشقاء وإخوة وأقارب لنا على أرض ليست لنا حتى لو اشتريناها بحر مالنا وامتلكناها بموجب وثائق رسمية. إنهم لا يغادرون وطنهم إلا ليعودوا إليه، أما نحن فلنا أكثر من عودة؛ عودة إلى الوطن الواقعيّ حيث نعيش ونعمل، وعودة إلى منفى جديد قد يغادر إليه أحدنا للعمل أو للزيارة، وعودة أخرى منه، لكن لا عودة حقيقية إلى وطننا الحقيقي. عام النكبة عام حاسم بالنسبة لهم مثلما هو فاصل بالنسبة لنا. لكننا حين نتحدث عنه نتحدّث عن أمرين مختلفين؛ هم يتحدثون عن "طارئ" جديد حدث على أرضهم التي بقوا فيها بقيام دولة حملت اسم إسرائيل، ونحن نتحدّث عن أراض أخرى وبلاد أخرى نزلنا عليها طارئين بعد أن طردنا من أرضنا. هم خسروا اسم فلسطين وبقيت لهم أرضهم التي دفعوا الشهداء ثمناً لبقائها لهم، ونحن خسرنا الأرض وبقي لنا اسم فلسطين الذي دفعنا الشهداء ثمناً لبقائه لنا. هم يتشبّثون بوطنهم الذي لم يغادروه ونحن نتشبّث باسم وطننا الذي غادرناه، وكأن فقد الاسم بالنسبة لنا فقد آخر للوطن.

بعيداً عن سؤال التاريخ هذا، كان هناك سؤال مضمرٌ يحوم على الدوام على أجواء لقاءاتنا: هل كان قدراً على فلسطينيين مثلنا ألمت بهم نكبة عامة ذات عام بعيد أن يتعرّفوا على بعضهم عبر نكبة خاصة أصابتهم أخيراً؟

ما زالت مأساة فلسطين قادرة على أن تنجب مزيدا من المآسي الصغيرة العديدة.

لم تستمرّ إقامة ميشيل في المستشفى طويلا، ليس لأنه شفي سريعاً، بل لأنه استفاد من جنسيته البلجيكية التي يتمتّع بها، ومن تأمين صحيّ عالميّ كان يحمله، في مغادرة الأردن إلى بلجيكا لمواصلة العلاج بين زوجته وابنته هناك. مفارقة أخرى، لكنّها ليست أخيرة، في الوضع الفلسطيني المعقد: فلسطيني بقي في وطنه يوم المأساة الكبرى، يغادر وطنه إلى منفاه الأوروبي للعلاج من مأساته الصغرى، وأبقى أنا قريباً من مأساتي الخاصة في منفاي العربي الذي تحوّل إلى وطني الواقعيّ الذي لا يبعد كثيراً عن وطني الحقيقي. بقيت إلى جانب غسان الذي لقيه قدره وهو في الطريق إلى فلسطين، وهو يقل ميشيل إلى هناك. وفي صورة ما، بدت لي رحلة غسان المأسوية تلك وكأنها محاولة لم تتم للوصل بين وطنه الواقعي في الأردن ووطنه الحقيقي في فلسطين، كأنه كان باصطحابه ميشيل العائد إلى الناصرة يوهم نفسه بأنه هو أيضاً عائد إلى هناك.

لم يصل غسان أبداً، لكن ميشيل وصل، وكأن غسان بهذا المعنى كان يقوم بنوع من الرحلة المستحيلة بين وطنه الواقعي ووطنه الحقيقي، ولذلك لم يصل؛ أما ميشيل فهو واصل لا محالة، لأنه كان يقوم برحلة طبيعية من الخارج إلى الوطن الذي لم يغادره، الوطن الذي لا وطن له سواه؛ وطن واحد واقعيّ وحقيقيّ هو فلسطين، ولا يضير كثيراً أنه يحمل اليوم اسم إسرائيل. الوطن باقٍ والأسماء متغيّرة. هذه الحقيقة كانت تبدو كامنة في خلفية تفكيرنا جميعاً، نحن وهم، أهلي وأهله، زوّاري وزوّاره. كان زوّار ميشيل وأقاربه القادمون لزيارته من الناصرة أو من غيرها من المدن الفلسطينية يشيرون إلى عودتهم إلى وطنهم بأنها عودة إلى "البلاد"، ليس فقط تجنباً للإشارة إلى وطننا المشترك باسم إسرائيل، مع ما يحمله هذا الاسم من تداعيات مؤلمة لنا جميعاً، بل لأنها في النهاية "البلاد" بلادنا. هكذا هي بالنسبة لهم هم المتمتعون بحق العودة إليها، وهي كذلك بالنسبة لنا نحن المحرومين من مثل هذه العودة. إنها "البلاد" وحسب، البلاد التي لا بلاد سواها، حتى لو لم يذكر اسمها.

في لحظة ما كاد وصول غسان المجازي إلى فلسطين، الذي سعى إليه وهو يقوم بتوصيل ميشيل إلى مشارف الجسر الذي يأخذه إلى الناصرة، يتحوّل إلى حقيقة واقعة. حدث ذلك حين سنحت لغسان فرصة لتغطية الانتخابات الفلسطينية التي جرت في مطلع العام 2006. أراد غسان الذهاب لتغطية تلك الانتخابات التي فازت بها حركة حماس، لكن معضلة واجهته وجعلته يدرك أن الوصول إلى فلسطين، حتى ذلك الجزء منها الذي تقوم عليه السلطة الوطنية الفلسطينية، لم يكن بالسهولة التي يتصوّرها؛ فهو ليس مجرّد عبور لجسر الملك حسين من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية، لقد اكتشف أنه كان عليه أن يدخل بجواز سفر مختوم من السفارة الإسرائيلية، وهو ما جعله يرفض العرض، ويقرّر عدم الذهاب إلى فلسطين التي كان يتوق شوقاً إلى زيارتها. "زيارة؟ نعم! ختم جواز السفر بخاتم إسرائيلي؟ لا!" هكذا أجاب ببساطة واختصار شديدين تميّزان حواراته ونقاشاته.

بعد ذلك بعامين جاءت زيارته المجازية التي لم تتم مع ميشيل خليفي.

*    *    *

في مرحلة مبكرة من طفولته، بدأ غسان يعي هويته الفلسطينية. كان وعياً طفوليّاًّ، سرعان ما أصبح تعصّباً حوّل شخصية غسان ذات الطبيعة الخاصة إلى حالة من الطرافة والسذاجة والعبثية، وذلك قبل أن تتحول لديه إلى قضية جدية تشغل حيزاً كبيراً من تفكيره بعد أن نضج وبلغ سن الشباب. حين كان يشاهد مباراة لكرة القدم بين أي فريقين يلعبان، كان يشجّع الفريق الفلسطيني الذي لم يكن له وجود في الملعب، وحين كنّا نذهب إلى شاطيء البحر في الكويت كان يصرّ على أن بحر فلسطين أجمل، ثم يسألنا إن كان الأمر غير ذلك بنبرة تهديد يجهد في أن يجعلها مضمرة، مع إصرار خفيّ على ضرورة تلقّي الإجابة بنعم. كنا نذعن لما في الطلب من طفولة فائرة تنبئ عن شخصية غير عادية، هي تلك التي نتوقع أن يكونها غسان. كانت إجابتنا التي كنا نتمنى نحن أيضاً أن تكون حقيقة أكيدة، هي أن بحر فلسطين، الذي لم نره أنا أو زوجتي، أجمل ألف مرة، فنرضيه ونرضي أنفسنا. وفي أحد الأيام دخلنا مطعماً يقدّم المشاوي، طلبنا "كباباً حلبياً" باعتباره أشهى أنواع الكباب، ناهيك عن كونه أشهرها، على الأقل في ذلك الجزء من وطننا العربي الكبير، فأصرّ على أن يطلب لنفسه "كبابا فلسطينيا" لم يكن له وجود، ولم يسمع به أحد، بما في ذلك النادل الخبير بأنواع الطعام جميعا!

لكنّ هذا العبث الطفوليّ وضعني ذات يوم في موقف حرج. كنتُ عائداً من الكويت إلى عمّان، ومعي عائلتي الصغيرة المكونة مني ومن زوجتي هدى وابنينا الصغيرين آنذاك قصي وغسان، لقضاء إجازة بين أهلي الذين يعيشون هناك منذ النكبة. في مطار عمان وقفنا في طوابير لختم جوازات سفرنا. وحين لاحظ غسان أننا نقف في طابور خاصّ بالمواطنين الأردنيين، صرخ بي بأعلى صوته الطفليّ، موبّخاً لي على جهلي، ومذكّراً إياي أننا نقف في الطابور الخطأ، وأن علينا أن نقف في طابور الفلسطينيين! احتضنته وحاولت أن أشرح له أننا فلسطينيون، لكننا في الوقت نفسه أردنيون، فنحن الفلسطينيين الذين لجأنا إلى الأردن عام 1948 نحمل الجنسية الأردنية التي بفضلها نستطيع التحرّك والسفر والإقامة في البلدان الأخرى، بما فيها الكويت التي كنا آنذاك نقيم فيها. لم يبد عليه أنه استوعب كثيراً مما قلته، لكنّه شعر بأن هناك شيئاً ما لا يفهمه، وربما لا قدرة له على فهمه، فخلد إلى الصمت، في واحدة من المرّات القليلة التي فعل فيها ذلك.

بعد سنوات قليلة من إقامتنا في عمان، فوجئتُ يوماً بسيارة تقل رجال أمن بملابس مدنية تتوقف أمام منزلنا، وبالرجال الذين لم يخرجوا من السيارة يسألونني عن العلم المرفوع على زاوية من زوايا سطح بيتنا. قلت لهم إنني لا أدري، لأنني لم أكن رأيته من قبل، وكذلك بسبب التشابه الكبير بين العلمين الأردني والفلسطيني. طلبوا مني إنزاله عن سطح البيت ففعلت، وفوجئت بأنه كان علم فلسطين. ابتسمتُ لهم بشيء من الحرج تعبيراً عن أنني لم أكن أعرف. كانوا مؤدّبين. فأخذوا العلم وساريته التي لم تكن سوى فرع شجرة صغير وقديم ومضوا. وكان ذاك آخر المواقف "الفلسطينية" المحرجة التي يوقعني بها غسان، فقد نضج بعد ذلك، وقرأ وتثقف، وأصبحت فلسطين لديه قضية على درجة عالية من التعقيد. عرف ذلك من اهتمامنا اليومي بها، والكتب العديدة في مكتبتي عنها، وكذلك من النقاشات التي كانت تدور في منزلنا مع أهلي وأشقائي، ومع ضيوفنا الذين كانوا في الغالب خليطاً من المثقفين والسياسيين الفلسطينيين والأردنيين والعرب. ومع وعيه الفلسطيني تفتح وعيه العربي والعالمي الذي عبر عنه في قراءاته العديدة المنوعة بين أدب وفكر وتاريخ وموسيقى، وبعد ذلك في كتاباته التي بدأ في نشرها وهو بعد على مقاعد الدراسة الجامعية، ثم وهو يتدرّب في بيروت في صحيفة الحياة.

بينما كان هناك في بيروت، تمكّن غسان من نسج علاقات وثيقة مع صحفيين وكتاب وأدباء ومثقفين وسياسيين تغصّ بهم العاصمة اللبنانية، وبفضل هذه العلاقات تمكن من حضور احتفالات لتبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل بعد التوصل إلى اتفاقات في هذا الشأن بين الطرفين عام 2004، وبفضلها أيضاً تمكن من المشاركة في تشييع جثماني شهيدين من الحزب الشيوعي اللبناني كانت رفاتهما التي استعادها الحزب جزءاً من صفقة التبادل تلك. كان دفنهما في الجزء الجنوبي من لبنان، وهو جزء لم يكن يسيراً على من هو غير لبناني أن يدخله، لكن غسان تمكن من ذلك بفضل علاقاته الواسعة هناك. اليوم هناك حرب تشنّها إسرائيل على لبنان اندلعت بعد قيام حزب الله بخطف جنود إسرائيليين ليبادلهم بأسرى لبنانيين وعرب في سجون إسرائيل، لكن إسرائيل شنّت حرباً مدمرة على لبنان حتى لا يتمّ تبادلٌ للأسرى، مثل الذي شهد غسان الاحتفال به، وحزب الله يخوض حرباً ضدّ القوات الإسرائيلية الغازية، ومع كلّ يوم، تدرك إسرائيل أن خيار الحرب الذي لجأت إليه لم يكن أفضل حالاً من خيار تبادل الأسرى الذي تم ذات يوم قبل عامين، فقد كانت خسائرها المادية والبشرية أكثر إذلالاً من خسائرها المعنوية التي كانت ستكدّر طبقتها السياسية التي اعتبرت تبادل الأسرى مع حزب الله أمراً مذلاً. أما غسان الذي كان شاهداً على إذلال إسرائيل قبل عامين، فإنه يرقد الآن في مستشفى دخله نتيجة حادث سيارة عبثيّ، غائباً عن وعيه الذي به رأى فرحة الحرية على وجوه الأسرى المحرّرين، ودموع الفرحين برؤيتهم ثانية بعد طول غياب، وبه شارك في تشييع رفات الشهداء الذين قضوا على أرض لبنان التي لم تكن تحررت آنذاك، دون أن ينالوا شرف الدفن فيها.

اليوم لن يتمكّن غسان من مشاهدة إسرائيل وهي تُذلّ مرة ثانية، ولن يتمكّن من السؤال عن أصدقائه في بيروت، التي ألحق بها الإسرائيليون دماراً مروّعاً، انتقاماً للخسائر التي كان جيشهم يتكبدها في الجنوب، ولن يستطيع متابعة مجريات الحرب الدائرة على الأرض التي أحبّها ونسج علاقات وثيقة مع ناسها الذين لم يتوقفوا عن الاتصال بي حين علموا بنبأ الحادث الذي أصيب فيه.

 

 

الفصل الثالث: ماذا يقول الدعاء؟

في غرفة العناية المركزة، لم تعد صورة غسان تتماهي مع صور الجرحى والمصابين في الحرب على لبنان. أصبح له وضعٌ خاصّ تماماً، ومسار آخر مختلفٌ، هو مسار تطوّر حالته الصحية الخاصة به، تماماً مثل الحالات العديدة المحيطة به في قسم العناية المركزة في المستشفى الذي أُدخل إليه في تلك الليلة. أصبحت صورته تتماهى مع صورهم هم؛ جيرانه! فهم في النهاية نوعٌ خاصّ من الجيران الذين لا يرتبطون ببعضهم فقط من حيث المكان الذي وضعوا فيه مثلما هو حال كل الجيران في العالم، بل ومن حيث حرج الحالة الصحية لكلّ منهم، ومن حيث وجودهم معاً على صراط يفصل بين الموت والحياة، ومن حيث شيوع الموت من حولهم، ليس بوصفه فكرة، بل بوصفه حقيقة يشاهدونها يومياً مع وفاة أيّ نزيل في أية لحظة من لحظات الليل أو النهار، من دون أي اعتبار لعمر المتوفى أو خطورة الحالة التي أُدخل القسم بسببها. في صورة ما، بدا لي قسم العناية المركزة ذاك معملاً للموت أكثر منه معبراً للحياة التي كانت كثيراً ما توهب من دون حساب، تماماً مثلما كان الموت يقع من دون حساب أيضاً. وبين الموت والحياة كان غسان يرقد وحيداً سادراً في عالم خاص به، فلا هو هنا ولا هناك.

كانت هناك حالات تبدو أسوأ من حالة غسان بكثير؛ عراقيّ تهشمت مقدّمة رأسه في حادث تفجير سيارة مفخخة، فصنع له الأطباء مقدّمة رأس بلاستيكية، كان أهله حريصين على إخفائها بقبعة يلبسها دوماً وهم يقودونه على مقعده المتحرك، فقد كان مقعداً أيضاً. قبل ذلك بقي شهوراً في غيبوبة، ثم بدأ في التعافي. سعوديان، أب وابنه، فقدا الوعي في حادث سيارة منذ شهور، قبل أن يستردّا جزءاً من الوعي، لكن حالتي جسميهما لم تكن تمكّنهما من الجلوس، كما أن وعيهما المستعاد لم يكن كافياً للتواصل مع الآخرين. كانت هناك حالات وهن جسدي لمسنين أحضروا إلى المستشفى في محاولة أخيرة لإبقائهم على قيد الحياة فنجوا، وحالات لآخرين أكثر شباباً دخلوا للعلاج من أمراض بسيطة فخرجوا ميتين. مرضى يدخلون ويخرجون إلى منازلهم وآخرون يدخلون ليخرجوا إلى مثاويهم الأخيرة. بعضهم يدخل ليبقى أياماً وشهوراً، وبعضٌ آخر يدخل ليخرج بعد ساعات، سليماً معافى، وآخرون يدخلون ليخرجوا جثثاً هامدة بين عويل أهلهم الذين كانوا لتوّهم يشاركوننا الحديث عن أحبتنا الراقدين في الداخل جيراناً من ذلك النوع الخاص، أو يتجاذبون معنا أطراف الحديث عما يجري في جنوب لبنان أو العراق، أو يقاسموننا الجلوس في قاعة الزوار الواسعة المخصصة لأهالي المرضى في قسم العناية المركزة في المستشفى.

*     *    *

في صباح اليوم التالي لوضع غسان في غرفة العناية المركزة، استغربنا من وجود رجل أمن يجلس بين الزوار الذين ملأوا القاعة المخصصة لهم. وتحوّل استغرابنا إلى دهشة حين تقدم رجل الأمن إلى شقيقي لإبلاغه أنّه هنا لحراسة غسان، وأنه مكلف بهذه المهمّة من جانب مركز الشرطة الذي يتبع له المستشفى. علمنا أنه عرف أن غسان كان المخطئ في حادث السيارة بحسب الرسم الأوّلي (الكروكي) للحادث، كما تصوّره خبير السير الذي عاين مكان الحادث وآثاره على إسفلت الشارع، وهو قرّر ذلك في تقريره الذي قدّمه إلى المركز، فما كان من رئيس المركز إلا أن اتصل بمركز الشرطة الأقرب إلى المستشفى، وطلب منه تكليف رجل أمن بالتوجه إلى المستشفى للتأكد من عدم هرب غسان الذي أصبح مطلوباً. كان الشاب الذي صدمت شاحنته سيارة غسان قدّم بلاغاً إلى مركز شرطة منطقة الشونة الجنوبية، حيث وقع الحادث، يتّهم فيه غسان بالتسبّب في الحادث الذي فقد فيه غسان وعيه ودمّرت سيارته تماماً في حين لم يصب الشاب إلا بخدوش بسيطة. هكذا أصبح غسان المصاب الغائب عن الوعي مطلوباً، كما أصبح من واجب الشرطة حمايته من أيّ اعتداء ثأري محتمل عليه من جانب الطرف الثاني الذي يفترض أنه وقع ضحية الحادث الذي تسبب فيه غسان.

كان رجل الأمن مهذّباً، فحاول أن يفهمنا أنه هنا لتنفيذ الأوامر التي كلّف بها، وأنه يقوم بمهمته تلك بوصفه أخاً وصديقاً وليس حارساً. شكرناه، وأفهمناه أن من العبث القيام بالمهمة التي كلّف بها، لأن غسان في حالة غيبوبة، لا يستطيع معها الحركة، ناهيك عن الهرب. هنا توقف الجدل، فالأوامر بالنسبة له هي الأوامر، ولابدّ له من تنفيذها. انتهت نوبة الحراسة بالنسبة لرجل الأمن المهذب وجاء آخر، وانتهت مهمة الثاني ثم جاء غيره وغيره وغيره، كل يوم كان يأتي رجل أمن جديد بشخصية جديدة للقيام بالمهمة العبثية القاضية بالتأكد من أن غسان، الجاني، بلغة القانون، لن يهرب. وحين تحدثتُ مع مدير مركز الشرطة أبلغني الأخير أن هذا هو الإجراء القانونيّ المتبع، وأن السبيل الوحيد لوقف عملية الحراسة هو أن يقوم الشاب الذي قدم الشكوى ضدّ غسان بسحب شكواه. وهنا دخلنا في مفاوضات لا تقلّ عبثية، لإقناع الشاب ووالده بأن يسحبا الشكوى المقدّمة ضدّ غسان، الراقد في غيبوبته، بينما يمارس "المجني عليه" حياة طبيعية تماماً.

استجاب الشاب ووالده بعد اتصالات مضنية معهما من جانبي، وسحبا الشكوى المقدمة ضدّ غسان حتى تتوقف عملية الحراسة العبثية التي تتفاوت من حيث الجدية والصرامة، وكذلك من حيث التساهل والمرونة من رجل أمن إلى آخر. وما زلت أذكر رجل الأمن الأخير الذي جاء ليحرس غسان: كان شاباً مبالغاً في جديته، متشدّداً في تطبيق الأوامر الصادرة إليه. وكان أول مافعله هو أنه دخل للجلوس إلى جانب غسان في غرفة العناية المركزة التي كان يرقد فيها. لم يستجب إلى نصائح الممرّضين والأطباء بأن يغادر الغرفة لأن بقاءه قد يكون عرضة لالتقاط بعض الفيروسات أو الجراثيم من غسان نفسه الذي كان قد أصيب بأحد هذه الفيروسات. كان علينا إذا ما دخلنا غرفة غسان للزيارة أن نرتدي أقنعة واقية حتى لا نتعرض للعدوى، لكنه لم يكترث. وزاد من تشدده في تنفيذ أوامر الحراسة حين بدأ في منع زوار غسان من دخول غرفته والاقتراب منه، وحين سألته عن حقه في القيام بذلك أخبرني أنّ غسان تحت الحراسة، وأن أيّ شخص يقترب منه يقع في دائرة الشبهات. وقال لي وهو يتأفف من أن غسان مستغرق في النوم إلى هذه الدرجة، إنه متساهل في تنفيذ الأوامر، فغسان بوصفه مطلوباً يفترض أن يكون مقيّد اليدين. أثناء هذه المحادثة الغريبة تلقى الرجل اتصالاً من رئيسه في المركز الأمني يأمره بإنهاء حراسته التي تعني بالنسبة له إنهاء سلطته، فأذعن ومضى من دون وداع.

في قاعة الزوار كان بعض أقارب المرضى يحضر ومعه صحف يومية يتابع من خلالها ما فاته من أخبار يبثّها التلفزيون عن الحرب، ويشاهد ما فاته من صور المجازر التي كانت إسرائيل تقوم بها يومياً في لبنان، حيث اشتد القتال. كان هؤلاء يقتلون وقتاً ينتظرون فيه شفاء أحبتهم في الداخل بقراءة أخبار عن قتلى يسقطون في مجازر ترتكبها إسرائيل في لبنان، أو في مشاهدة صور قتلى وجرحى سقطوا في حرب الجنون الطائفية التي كانت بدأت في العراق. أحيانا كانت عائلات بأكملها تأتي لتحتل قسما من القاعة مزوّدة بمائها وطعامها، وتتجمع في ركن خاص بدا وكأنه حجز لها منذ الصباح الباكر، وتبقى هناك حتى انتهاء موعد الزيارة، وكأن أفرادها في دوام رسميّ يحضرون في ساعة محددة، وحين يأتي وقت مغادرتهم يبدأون في تجهيز أنفسهم ولملمة أغراضهم التي أتوا بها من زجاجات ماء وأوعية طعام ليغادروا في ساعة محددة قلما كانوا يخلفونها. عائلات أخرى كان أفرادها يتناوبون على الزيارة بين "دوام" صباحيّ يحضره قسم منهم ومسائيّ يحضره قسم آخر، في توزيع عادل للزيارة، بدا الجميع راضياً به.

في أحد الأيام حضرنا، زوجتي وأنا، إلى القاعة، ففوجئنا بها "شبه محتلة" من جانب أفراد عشيرة أُدخل أحد أبنائها قسم العناية المركزة في حادث سيارة متوسط. أحضر أقارب المصاب العديدون دلال القهوة الخاصة بهم وعلب السجائر التي كانت ممنوعة، ورتبوا المقاعد بحيث تتسع لعددهم الكبير، تاركين قسماً صغيراً لمن تبقى من الزوار. وراح أحدهم يتحدّث عن تفاصيل الحادث الذي وقع ابنهم ضحية له، وعن مشاجرات حدثت بين كبارهم وبعض الأطباء في مستشفيات أخرى رفض المسؤولون فيها قبول المريض إلا بضمانات لم تكن متوفرة لديهم. كان الحديث يدور عبر تراتبية اجتماعية عشائرية واضحة يصمت فيها الصغير إن همّ الكبير في الكلام، ويتحدث الكبير للجميع بصوت واضح ومرتفع، تلعب فيه إشارت الأيدي والنظرات المركّزة على عدد دون آخر من المستمعين، من دون إيلاء أي اهتمام لمن هم خارج دائرة العشيرة، دوراً يجعل الحديث أشبه بعرض مسرحي حي. عدد من النساء المحجبات أحضرن كتيبات مختلفة الأحجام والألوان تتضمن أدعية تشفي العلل وتردّ العافية للسقيم وتبرئ المريض وصاحب الداء، يستعِنّ بها لتصبير أنفسهن على ما ابتلين به من مرض الأحبة، آباء وأمهات وأبناء وبنات. كانت زوجتي تعود إلى المنزل يومياً بعدد كبير من كتب الأدعية تلك التي قدمتها لها السيدات لتقرأها لعلّ غسان يستيقظ فجأة ويمضي إلى المنزل معنا، فالله على كل شيء قدير. إحدى السيّدات قدّمت لزوجتي يوماً كتاباً للأدعية وفتحت على صفحة محددة وأوصتها بأن تقرأ الدعاء المدوّن فيها، مؤكدة لها أن الدعاء "مجرّب". بعد ساعة تقريباً خرجت المرأة تبكي مصطحبة جثمان أبيها الذي فارق الحياة في الداخل.

وصلتُ مرّة إلى القاعة فوجدت زوجتي تجلس إلى جانب سيدة سافرة عرفت من اسمها حين قدمتها لي زوجتي أنها مسيحية. بدأت السيدة في مواساتي بكلمات المجاملة المعهودة قبل أن تسألني عن درجة إيماني، وهو سؤال استغربته من سيدة تعرف أنني أنتمي إلى دين مختلف. ثم  فوجئتُ بها تقول لي إن أخاها، وهو قسّ، دخل إلى حيث يرقد غسان ليراه ويمسح على وجهه بيده مؤكّدة لي أن يده مباركة ومجربة، ولم تنس الإشارة إلى أن اختلاف الأديان لا يعني شيئاً في هذه الحالة "فالمهمّ هو الإيمان بالله" كما أكدت. لم أعترض بطبيعة الحال، وحين خرج القسّ حيّاني بحرارة، وطمأنني إلى أن قدرة الله أكبر من كل شيء، وأن شفاء غسان ليس عليه بعسير. بعض الرجال من الزوار اعتكفوا في أركان خاصة بهم يقرأون القرآن تقرّباً من الله لعله يشفي أحبتهم. أحد هؤلاء كان زوجاً لامرأة ترقد على سرير قريب من سرير غسان، فقدت الوعي لمدة ثمانية عشر يوماً قبل أن تفيق وتعود إلى حالتها الطبيعية. كانت المرأة قد فقدت وعيها نتيجة لحادث سيارة أيضاً. في صباح أحد الأيام، وكنت قد وصلتُ لتوّي إلى المستشفى، أتاني الزوج المتحفّظ الذي اعتاد أن يعتكف في زاويته ويواظب على قراءة القرآن ووجهه إلى زاوية الجدار، وأخبرني بفرح طفولي لم أجده متناسباً مع لحيته الكثة وسيمائه الجدية المنهكة، أنّ زوجته أفاقت من غيبوبتها أخيراً، متوقعاً لغسان صحوة مماثلة، وكأنما هذا التشابه بين رقدة غسان ورقدة المرأة غائبين عن الوعي نتيجة حادثي سيارة، وقرب سريريهما من بعضهما، وحّد بين مصيريهما، فإن استيقظت هي استيقظ غسان. لكنّ غسان استمر في غيبوبته. وكان قد مضى على الحادث أكثر من أسبوع: زمن قليل بمقياس ما، وطويل ومخيف بمقاييس أخرى عديدة.

*     *     *

ظهرت نتائج الصور الطبقية، ومن بعدها صور الرنين المغناطيسيّ، التي أُخذت لرأس غسان؛ أكثر من نزيف في الدماغ من أثر الحادث موزعة على مناطق عدة، لكن أكبرها وأخطرها كان ذاك الذي يغطي منطقة جذر الدماغ الحسّاسة. كان علينا الانتظار أياماً قبل أن تمتصّ خلايا الدماغ آثار النزيف، وبعدها يُعرف حجم الإصابة، وتُعرف الإعاقات التي قد يكون خلّفها الحادث، والناجمة عن تلف الخلايا في المنطقة التي أصيب بها من الدماغ. الخوف مركّز على تلك المنطقة التي تتحكم في احتياجات الجسم الحيوية ووظائفه الأساسية؛ التنفس، السمع، الإبصار وبقية الحواس، الذاكرة، الوعي؛ والأعصاب الإثني عشرة، التي تتحكم في النهاية بشكل الوجه، وتحدّد تعبيراته وحركته. كانت حالة غسان الظاهرية تبدو أفضل كثيراً من حالات آخرين من النزلاء: وجه مكتمل لشاب وسيم نائم، وجسد عفيّ عملاق، لا تبدو عليه من آثار الحادث سوى بعض الخدوش، بعد أن جبر كسر في فخذه الأيسر. كان ذلك مبعثاً للطمأنينة أنه في وقت قريب سوف يستيقظ ويتماثل للشفاء ويخرج ليواصل عمله الإعلامي بين زملائه الذين لم ينقطعوا عن زيارته. لكن غسان استمر في غيبوبته. بدأ خطر الموت يبتعد عن غسان، مع بدء الأطباء في إزالة ما بقي من الضمادات على رأسه، ثم إزالة الأجهزة التي كانت مثبتة على وجهه وجسده. بعد إزالة الضمادات عن رأسه وعينيه أُزيل جهاز التنفس أولاً، فاستمرّ غسان في تنفس طبيعي يحسده عليه الأصحاء، وأُزيلت الجبيرة التي كانت على ساقه المكسورة، وبدا غسان معافى، لكنّه ظلّ نائماً مغمض العينين. زال خطر الموت عن غسان، لكنّ ذلك لم يسلّمنا إلى فرحة بالحياة التي لم تكن مظاهر سلامتها البادية قد اتضحت لنا بعد. غسان سيعيش، لكن أيّ حياة تلك التي سيعيشها؟ لم يكن أحد يعرف.

في إحدى زياراتنا التي كانت تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي ليلاً، أبلغني أحد الحراس أن غسان فتح إحدى عينيه. كنا بعد إقامة غسان الطويلة في القسم أقمنا علاقات جيدة مع الحرّاس الذين لم يتوقفوا عن إبداء التعاطف مع غسان. بل حصلنا على ما يمكن اعتباره امتياز الدخول في أي وقت ومع أي عدد من الأشخاص جاء لزيارة غسان. لم يبد على وجهي أي نوع من الفرح للنبأ السعيد، فقد كانت طبيعتي الحذرة المتشككة وميلي إلى عدم تفسير أي تطور صغير على حالة غسان إيجابياً أقوى من أن تسلمني إلى فرحة قد لا تطول أو تفاؤل في غير محله. لكنني داخلياً شعرتُ بفرحة غامرة، فلعلها تكون بداية يقظة غسان التي ننتظرها على مدى ساعات كل يوم. ولفت انتباهي الفارق الكبير بين نسبة التطور الذي طرأ على غسان، وهي نسبة بالغة الضآلة على أي حال فهو لم يزد على أن فتح عينيه، وبين الفرحة الغامرة التي داخلتني في تلك اللحظة، لكنّني جهدتُ في إخفائها حتى لا تبدو الفرحة جلية في ملامحي التي كنت أحرص دوماً على أن تكون حيادية. "لا فرحة سوى بيقظة غسان التامة."

بعد نحو ثلاثة أسابيع على الحادث، ليس من شيء واضح أو مؤكد في حالة غسان. الطبيب المشرف على حالة غسان، الذي كان قليلاً ما يتواجد في المستشفى، لم يكن يقدم لنا إجابات واضحة، فلا شيء لديه ليخبرنا به سلباً أو إيجاباً، طالما بقيت آثار النزيف في منطقة جذر الدماغ، كما قال. كان غسان قد بدأ في فتح عينيه وتحريك رأسه وبعض أطرافه، لكنه بقي غائباً عن الوعي غير مدرك لما حوله ولا يتفاعل مع محيطه ولا يستجيب لنداءاتنا التي كانت تراوح بين التوسلات العاطفية والمناشدات بضرورة الاستيقاظ الذي آن أوانه، والذي لم يعد هناك ما يعيقه، مناشدات يداخلها بعض التهديد المازح بأن نتركه ونغادر المستشفى إن لم يستيقظ، ووعود بامتيازات كثيرة نحققها له إن استجاب لتوسلاتنا وأفاق؛ وعود تبدأ بإعداد أشهى الأطعمة التي كان يطلبها من والدته، ولا تنتهي برحلة إلى لبنان الذي يحبّه، أو إلى بلدان أخرى يواظب أصدقاؤه وصديقاته فيها على الاتصال للاطمئنان عليه منها. لكن غسان بقي هناك في عالمه الخاص يصمّ أذنيه عن مناشداتنا ويهمل نداءاتنا ولا يلقي بالاً لتوسلاتنا.

قرّر الطبيب أخيراً أن يصوّر الدماغ صورة حان أوانها بالرنين المغناطيسي، وهو التصوير الأكثر تطوراً في عالم الأشعة. في مساء اليوم نفسه ذهبتُ إلى طبيب من أصدقائي يعمل في المستشفى لأعرف منه، بوصفه صديقاً، وبطريقة غير رسمية، نتيجة الصورة. قال إن الصورة أظهرت أن أنسجة الدماغ امتصّت جميع بقع الدم التي سببها الحادث، بما في ذلك البقع التي كانت تغطي جذر الدماغ، وهذا يعني بديهياً أن غسان يفترض أن يستيقظ، لكنه لم يفعل! سألته عما يمكن أن تعنيه هذه الحالة، فاسترسل في حديث غامض لا يقول شيئاً، وهو ما أفزعني، فهو صديقي قبل أن يكون طبيباً، وعليه أن يخبرني بالحقيقة مهما كانت قاسية، هكذا اتفقنا. وبعد محاولات جاهدة منّي لمعرفة الحقيقة، ومحاولات مضنية منه للتهرب من الإجابة على أسئلتي الملحة، فهمت أن غسان قد لا يفيق من غيبوبته إلا بمعجزة، وأن هناك احتمالاً بأن يبقى هكذا مفتّح العينين لكنه غائب عن الوعي طوال حياته. صدمتني الفكرة إلى درجة لم أستطع معها مواصلة الحديث. حاولتُ أن أطلق العنان لعاطفتي لتعبر عن نفسها في بكاء مهما كان نوعه، مرّاً أو حزيناً، عاصفاً أو هادئاً، لكنني لم أستطع. لقد طغت على تفكيري وثبتت أمامي صورة غسان نائماً فوق سريره مفتح العينين لكنه فاقد لأية قدرة على الحركة أو الحديث أو العمل على جهاز الكومبيوتر، وهو العمل الأثير لديه؛ مستيقظاً لكنه لا يستطيع سماع ما حوله ولا الاستجابة له ولا التفاعل معه؛ وربما محرّكاً يديه وأطرافه، لكن من دون هدف أو تحديد لاتجاه. إنها صورة مغايرة تماماً لصورة غسان بحيويته التي لا توحي بها متانة جسده وحركته المتأنية المحسوبة، ومخالفة لما يتمتع به من انتباه يبدو في كثير من الأحيان تحفّزاً وجاهزية للاستجابة السريعة التي يتقنها تماماً.

 

 

الفصل الرابع: أسوأ وقت.. أسوأ مكان

في مكتبي الذي أنفرد به في قبو المنزل لإنجاز عملي الكتابي، ومن دون أيّ استعداد أو توقع، وجدت نفسي منخرطاً في نوبة بكاء لم أحاول كبحها أو التخفيف من حدتها، بل وجدت نفسي بعكس ذلك أحرّر عواطفي من أيّ قيد لزيادة حدة النوبة الباكية، لكنني بدلاً من أن ألاقي انثيالاً في العواطف والدموع، وجدت نفسي أشهق شهيقاً عالياً، وأرفع صوتي بالنشيج، وسط دموع لم تتوقف عن السيلان على خدّي، كما لم أحاول أنا إيقافها، فوصلت أطراف فمي. لا أذكر كم بقيت على هذه الحالة، لكنني بعد وقت بدأتُ ألاحظ أن بكائي قبيح. فهو ليس مسترسلاً في إيقاعات منتظمة، ولا يبدو نبيلاً ولا وقوراً، ليس بكاء صامتاً لا تسمع خلاله سوى هسيس حزين لقلب منفطر، وليس دموعاً تسح على الخدّين بغزارة تشي بمبلغ الحزن الكامن خلف تلك الدموع السخية، وليس نوبة سريعة من حزن تنهمر فيها الدموع مرّة واحدة، ثم تتوقف، ويعود الباكي بعدها إلى التماسك، وليس نوبات متقطعة من الدموع المنهمرة التي تعاود الباكي بين الحين والحين.

كنتُ أعتقد أن بكائي سيكون شبيهاً بأحد هذه الأنواع من البكاء التي رأيتُ كثيراً من الرجال من أصدقائي وغيرهم يبكونها، لكنّ بكائي كان غير ذلك تماماً. كان مزيجاً من الدموع والشهقات غير المكتملة، الشبيهة بشهقات المفجوعين بعدد لا يحصى من الضحايا في وقت واحد، بكاء وجدته غريباً عني وبعيداً عن شخصيتي. لكنه في النهاية بكاء ناجم عن حزن حقيقي، حزن لا يقلّ عن حزن أولئك الباكين من ذوي الدموع الغزيرة أو الشحيحة، المنتظمة الإيقاع أو المتفجرة دمعاً ودماً. الحزن هو الحزن، والبكاء مجرد أسلوب للتعبير عنه، وإن كنت قد فوجئتُ بقبح بكائي في هذه الساعة، فإنني بقيتُ واثقاً من صدق حزني ونبله. لم تكن تلك أول مرة أبكي فيها، على قلة تلك المرات، فأنا أنتمي إلى عائلة لا تتميز بالتعبير الانفعالي السريع عن عواطفها، فلا تترجم حزنها دموعاً تنزل مدراراً على الخدين مثل آخرين، بل تحاول ضبطها وعقلنتها وتحويل العواطف، بما في ذلك الحزن، إلى شعور طبيعي يمكن التعبير عنه بالكلمات والسلوك المنطقي والحزن المنضبط. لم يكن البكاء سهلاً عليّ، فلم يكن من طبعي أن أذرف الدموع بسرعة وسخاء، مثل كثير من أصدقائي الذين كنتُ أحسدهم على تلك المقدرة التي أفتقدها بوصفها تعبيراً حرّا وتلقائياً عن مشاعر الحزن التي قد تكون أكثر المشاعر نبلاً وإنسانية. وما زلت أذكر تلك الجنازة البائسة لصديق عراقيّ كنت عرفته في الكويت مع أصدقاء آخرين، عصاني خلالها الدمع فلم أبكِ في واحد من أكثر المواقف إثارة للحزن واستدراراً للدمع.

لم يكن عبد المحسن البراك المعروف لي باسم "أبو براك" صديقاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، لكنه كان صديقاً لأصدقائي العراقيين العديدين الذين تعرفت عليهم في الكويت. بعد استقراري في عمان بأعوام، فوجئتُ بهاتف من شخص يدعى "أبو براك" يخبرني فيه أنه في عمان، ويعطيني العنوان طالباً مني زيارته، فذهبتُ وأنا أتساءل إن كان أبو براك الذي سأراه بعد قليل هو نفسه أبو براك القديم، صديق أصدقائي. وجدته هو، أبو براك، راقداً على سرير، وقد انخفض وزنه في صورة لافتة. عرفتُ بعد ذلك أنه مصاب بالسرطان، وأنه اختار أن يأتي إلى عمان من منفاه الأوروبي حتى يكون قريباً من العراق الذي لم يكن مسموحاً له بدخوله حتى ليموت فيه، فقد كان معارضاً للنظام العراقي السابق. عرفتُ أيضا أنني أكاد أكون الشخص الوحيد الذي يعرفه في عمان، ومن هنا كان اتصاله بي تحديداً. واظبتُ على زيارته لمساعدته في تدبير شؤونه، وعرّفته على عدد من أصدقائي العراقيين الذين تعرفتُ عليهم في عمّان هذه المرة. ثم أتى يوم كنت، وكان هو، ندرك أنه قادم لا محالة في وقت قريب. مات أبو براك، وكان علي أنا الصديق الذي لم يكن يعرف غيره في عمان أن أرتّب لدفنه. كانت تلك عملية مضنية، فقد كانت عملية إخراج جثمانه من المستشفى للدفن أشبه بعملية تخليص سلعة من مركز الجمارك، مع ما في التشبيه من فجاجة لا تصل بالتأكيد إلى فجاجة الواقعة نفسها، فقد كان علي توقيع عدد كبير من الأوراق، بعضها لازم بالتأكيد، وبعضها لا لزوم له.

اتفقتُ مع شخص يعمل في المستشفى حيث يتولى أمور تجهيز الموتى ودفنهم على نقل الجثمان إلى مقبرة سحاب القريبة من عمان لدفنه هناك. واصطحبت معي الصديق العراقي ياسين النصير، الذي كنت عرّفته بأبي براك في وقت مضى. كنا نحن الأربعة هم كلّ المشيعين في تلك الجنازة، سائق الشاحنة التي نقلت الجثمان، والشخص الذي أعدّ الجثمان للدفن، وياسين النصير وأنا. بدا المشهد الذي تضافر فيه منظر القبور المتقشفة المنتظمة التي اصطفت منضدة في العراء، والتابوت الذي سجّي فيه جثمان أبو براك الضئيل، والنظرات الزائغة للرّجلين اللذين لم يشاهدا من قبل مثل هذه الجنازة الفقيرة، مثيراً للحيرة والتأمل والألم، وبالتالي البكاء. بكى ياسين النصير بحرقة على مجمل المشهد الحزين، وبدا جزء من بكائه وكأنه على مصير كان ممكناً أن يكون مصير أي عراقي آخر وجد نفسه رهين المنفى، مثله هو. سحّت الدموع الغزيرة من عيني صديقي، وحاولتُ أن أسلّم نفسي المتألمة على المشهد الحزين إلى بكاء تبرّره مرارة المشهد، لكنّ الدمع كان دائماً يتوقف قبل أن يغادر مقلتي عيني المثقلتين بالحزن على المشهد بأكمله. وانتهت الجنازة البائسة من دون أن أذرف دمعة واحدة على صديق لم يكن صديقاً قريباً مني، لكن جنازته الخالية من أية إشارة على جلال الموت كان من شأنها أن تستدرّ أكثر الدموع عصياناً. لكنني لم أبك.

أذكرُ أن المرة الأولى التي بكيتُ فيها كانت خلال عناق مع امرأة أحببتها ذات يوم، لكنه كان حباً مستحيلاً محكوماً بالفشل الأكيد. وكان العناق محاولة أخيرة وعبثية للتمسك به وبها، مع معرفة تامة أنّ تلك المحاولة نوع من الإمساك بالمستحيل. كانت هي تبكي بمرارة، وكنتُ متماسكاً على طريقتي الخاصة. زاد بكاؤها حرقة، فبدا وكأن بكاءها المرّ استفزاز لدمعي الذي يرفض أن يسيل. وبطريقة فجة حاولتُ فيها أن أبعد عن نفسي لوماً لم تنطق به على عدم بكائي في تلك اللحظة التي لا تصلح لغير البكاء، وجدت نفسي أصرخ بها قائلا: إذن فأنت تريدينني أن أبكي؟ حسن! سأبكي! سأبكي!

وبدأتُ أبكي بكاء مراً أذكر أنه لم يكن بكاء حزن، بل ربما كان بكاء على حالي التعس ورثاء لها، بكاء على الوضع الذي وجدتُ نفسي فيه مجرّداً من أيّ حول أو قوة حيالَ حبّ عبثي لا مستقبل له. لم أنتبه حينذاك إلى بكائي إن كان نبيلاً أم لم يكن. كلّ ما انتبهتُ إليه هو أنني أبكي لأول مرة في حياتي، ربما تأكيداً لقيمة الحبّ الذي يضيع مني لحظة بلحظة، وأنا عاجز عن فعل أي شيء للاحتفاظ به، حتى وأنا في حالة عناق مع المرأة التي أحبّها.

المرة الثانية التي بكيتُ فيها كانت من أجل غسان. كنت قد اكتشفتُ يوماً أن غسان يعاني من صعوبة في الرؤية في المناطق المعتمة وفي الليل. ذهبتُ به إلى موسكو من الكويت، حيث كنت أقيم، وأجريت له فحوصات قال لي في نهايتها الطبيب المشرف على حالته إن غسان مصاب بمرض يعرف باسم Retinitis Pegmentoza أي مرض الخلايا الصبغية الشبكية. أكد لي أن هناك علاجاً لهذه الحالة في الاتحاد السوفييتي آنذاك. وكان عليّ أن أسافر إلى موسكو كل صيف لمعالجة غسان. وقد واظبت على ذلك حتى العام 1990، حين اجتاحت القوات العراقية الكويت، فاضطررنا للمغادرة إلى عمان. في عمان كان عليّ متابعة حالة غسان، فأخذته إلى طبيب مختصّ بأمراض العيون. بعد فحصه أمره الطبيب بالخروج لينفرد بي قائلاً لي إن غسان مصاب بما يعرف بالعربية باسم العشى الليلي، وأضاف أن نهاية هذا المرض هو العمى التامّ، وأشار عليّ أن أبدأ منذ الآن بإعداد غسان لمثل هذا المصير.

اصطحبتُ غسان الذي لم يكن آنذاك قد بلغ العاشرة من عمره، وأنا أحمل في صدري أثقالاً من الألم، ولا تراودني سوى فكرة واحدة هي أخذه إلى موسكو مجدّداً حيث قيل لي إن له علاجاً هناك. وخلال الشهر أو الشهرين اللذين فصلا بين زيارتنا، غسان وأنا، للطبيب، وبين مغادرتي إلى موسكو في صيف العام 1991 لاستئناف علاج غسان، كنت أخرج في سيارتي إلى شوارع بعيدة وشبه خالية وأذرعها وأنا أبكي مصير ابني المنتظر. كنت أطلق العنان إلى آخره لنفسي الباكية، وربما كنت أبالغ في البكاء بصوت مرتفع. بقيتُ على هذه الحال أياماً عدة، كنت خلالها أبكي مصير غسان التعس كما رسمه الطبيب الجلف، لكنني لم أنتبه إلى بكائي آنذاك، إن كان قبيحاً مثلما هو الآن. اعتقدتُ يوماً أن كل بكاء هو بالضرورة قبيح، لكنني لم أكترث لتأويل بكائي، فقد كان فيه من تطهير النفس المثقلة بالحزن على مصير لغسان لم أكن متأكداً من حتميته، أكثر مما فيه من حزن مصفى، مثلما هو الأمر الآن، وأنا أذرف الدمع وأرفع الصوت عالياً على مصير أكثر إيلاما وإثارة للحزن واستثارة للدموع.

بعد ذلك بكيتُ غسان كثيراً، بكيت كما لم أبك في حياتي، من دون كوابح، ومن دون محاولات لوقف الدمع النازل على الخدين، بكاء كثيراً ما كان يختلط فيه صوت النشيج بكلمات شاكية باكية معاتبة، كانت تخرج من فمي في الوقت نفسه.

*     *     *

لم تطل نوبة بكائي. غادرتُ المكتب إلى صالة المنزل حيث كانت هدى تتأهب للذهاب إلى المستشفى في "دوامها الرسمي" لتبقى قرب غسان. لم نتبادل كلمة واحدة. كانت الاستعدادات اليومية التي نقوم بها لزيارة غسان معروفة ومكرورة وتتمّ في صورة شبه آلية، فلم يبق لدينا، هدى التي لم تكن قد عرفت بأمر الصورة، وأنا الذي أعرف ما لا تعرف، إلا الحديث بلغة الصمت. وغادرنا إلى المستشفى. في واحدة من الصدف النادرة التقينا، هدى وأنا وشقيقي طه، ونحن ندخل إلى غرفة غسان، بالطبيب خارجاً من عنده. بادر إلى دعوتنا إلى غرفة الأطباء، وهناك بدأ الحديث. أخبرنا بما كنت عرفته سابقاً من أن الصور أظهرت أن بقع الدم زالت من الدماغ، وأن الأنسجة امتصت آثار النزيف كلّها، بما في ذلك تلك التي كانت تغطي جذر الدماغ. "هذا يعني،" قال الطبيب، "أن غسان دخل في حالة غيبوبة تُعرف طبياً بأنها حالة "خضارية" دائمة، ومن يدخل هذه الحالة يسمى في العادة "خضاراً بشريا."

ـهل ستستمر هذه الحالة مدى الحياة؟

سألته فأجاب: قد يستمر، وقد يستيقظ، وهذا كله رهن بالزمن، ورهن بآليات الخلايا الدماغية المسؤولة عن الوعي؛ فخلايا الدماغ، بخلاف خلايا الجسم الأخرى، لا تتجدّد. قد تكون هناك خلايا حية لكنها مصابة، وحين ينتهي مفعول الإصابة تعود الخلايا إلى العمل فيستيقظ. لكن هذه كلها مجرد احتمالات.

ـ ونسبة احتمالات يقظته؟

ـ النصف.

ـ وهل هناك موعد محدّد إن فات فإنه سيبقى على حالته؟

ـ في السنة الأولى تكون الاحتمالات أكبر. بعد ثلاث سنوات يصبح الأمل أضعف.

ومضى الطبيب مغادراً بعد أن قدم إجاباته المقتضبة الحادّة المحددة، ونصحنا بأن نخرج غسان من المستشفى إلى المنزل، حيث لا فائدة من بقائه، فالمستشفى لن يقدّم له شيئا: "من الآن فصاعداً، غسان في حاجة إلى رعاية، وليس إلى علاج."

طوال الوقت الذي استغرقته محادثتي مع الطبيب بقي أخي طه صامتاً وظلت هدى تستمع وهي ذاهلة تماماً. الذاهل لا يبكي، ففعل الذهول أكبر من البكاء. يبكي المرء حين يتحرّر من حالة الذهول، التي تأخذه إلى عوالم غير أرضية، فيصطدم بأرض الواقع. كانت جالسةً وكنت واقفاً. وحين زال ذهولها أجهشت في بكاء لم تعرف معه ماذا تقول، فهي ليست من النوع الذي تتحوّل العواطف لديه إلى شكاوى من الحياة وغدرها ومن الزمان ونوائبه، أو إلى إعلان نائح عن حجم الفجيعة أو الحزن أو الألم الذي اجتاحها. وفوجئت بها تقول لي وهي تقف وتحتضنني:

ـولكنك لا تبكي! لماذا لا تبكي؟ إبك! إبك! إبك!

أجبتها بهدوء لم أعرف كيف أتاني:

ـ أنا أعتبر أن حادث غسان كان قاتلاًَ، وأنه نجا منه بنسبة النصف، وعلينا الآن أن نساعده على الشفاء التام بنسبة مئة في المئة.

بدا لي الحوار غريباً، وكأنه يدور بين اثنين غيرنا، هدى وأنا. واستمرت هدى في بكائها المرّ، وواصلت أنا صمتي الحزين. البكاء والصمت، على ما بينهما من اختلاف، تعبيران مختلفان عن حالة واحدة هي الحزن. تستغرب زوجتي أنني لم أبك! لقد نلتُ قسطي من البكاء. لقد بكيت، وأنا الآن في حالة ذهول هي أقوى من كلّ حزن. لكنّ الحزن هناك. تزول الصدمة ويزول الذهول ويزول شعور الفجيعة ويبقى الحزن. ومن المؤكد أن حزني، أنا الصامت الذاهل، ليس أقلّ من حزن زوجتي المفجوعة بابنها الشاب.

خرجنا من ردهات المستشفى ويدا هدى تحيطان بعنقي، فبدونا مثل عاشقين كهلين اكتشفا حبهما فجأة بعد ثلاثين عاماً، ولم يعد مهماً بالنسبة لهما بعد ذلك أنهما اختارا أسوأ توقيت، وأسوأ مكان لإعلانه.

 

 

الفصل الخامس: واقع رهين آخر

خلال حياتي التي ناهزت الستين عاماً، لم تحز الحياة على طمأنينتي، فبرغم أنها لم تفجعني كثيراً كما فعلت بآخرين من أصدقائي وزملائي وأقاربي، فإنني كنت أتوقع أن يأتيني منها ما يهزّ استقراري ويعكّر هدوئي ويبدّد تماسكي البادي في سلوكي اليومي وعلى وجهي، وعلى التركيبة العملاقة لجسدي. ها هي الحياة تثبت لي أنها حقاً لم تكن أهلا للطمأنينة. وها هي تضرب ضربتها فتصيبني في غُسان قلبي. كان طبيعياً عند ذلك أن يمرّ أمامي شريط صور يمثل حياة غسان القصيرة منذ مولده فتى جميلاً صبوح الوجه، تماماً مثل كلّ الأطفال حديثي الولادة في أعين والديهم؛ تمكّنه المبكر من الكلام، الذي كثيراً ما كانت تسبق فيه أحرفٌ أحرفاً أخرى، كانت تجعل حديثه مسلياً لنا، فكنا نضحك في حين كان هو جاداً تماماً في حديثه: "يالله نقرص" كان التعبير الذي يستخدمه حين يكون راغباً في القفز والنط بلا ضوابط، فيدعوني إلى أن "نرقص"؛ إصراره بعد أن كبر قليلاً على الإمساك بالقلم والورق وتسويد الصفحات بخطوط عشوائية ملتوية، في محاولة لتقليدي أنا الذي كنت أجلس على مكتبي الخاص في المنزل لأكتب أو أترجم مادة مطلوبة مني؛ ذهابه إلى المدرسة وعقد صداقات كانت كلها مع زملاء "قصار القامة"، وهو ما كان موضع تندّر من جانبه، هو الذي لم يكن طول قامته ومتانة بنيانه قد ظهرا بعد؛ تبلور مزاجه الخاص الذي كان يجعله في حالة نزاع دائم مع زملائه وأصدقائه خصوصا حين كان يلعب الكرة، فلا يستطيع أن يجاريهم بسبب قدميه المسطحتين (فلات فوت)، فكان يهددهم بأنه لن يواصل اللعب، وهو يعرف جيداً أن ذلك لن يوقفهم عن مواصلة اللعب من دونه؛ سفرنا السنوي في الصيف إلى موسكو لمعالجة عينيه؛ بداية تعلّقه بالكتابة، ونحن لا نزال في الكويت، وكان بعد في الثامنة من عمره، واستكماله في عمان حيث كان استقرارنا بعد رحيلنا من الكويت إثر اجتياحها عام 1990 من جانب القوات العراقية؛ بداية دخوله سنّ الرجولة وظهور ميوله إلى الاهتمام بمظهره الخارجي واختياره ملابسه.

ما زلتُ أذكر كيف استرعى انتباهي تغير ما في مظهر غسان قبل أن ألاحظ شعره المسرح بعناية لم أعهدها فيه. بدا وسيماً وفتياً ضاحكاً في تلك السن المبكرة، فلم يكن يومها يتجاوز الثالثة عشرة؛ انتباهي إلى موهبته الكتابية الأكيدة وإلى سرعة بديهته وحسّ الفكاهة العالي لديه، وهو حسّ تنامى أثناء دراسته الجامعية التي أتمّها في مدينة إربد الشمالية، حيث عاش حياة اغتراب وفّرت له نوعاً من الاستقلال النسبي عنا نحن والديه وشقيقه قصيّ الذي كان قد أكمل دراسته الجامعية في عمّان؛ عمله في الصحافة وهو بعد على مقاعد الدراسة الجامعية، وتخرّجه، ثم عمله صحفياً ومذيعاً حقق قسطاً جيداً من النجاح؛ تدرّبه على العمل الصحفي في صحيفة الحياة في بيروت، وعودته ليكون مراسلاً ثقافياً لها في عمان، وأنا كنت المراسل الاقتصادي لها. أصبح غسان زميلي، لكنني بعد الحادث المأسوي لم أر فيه سوى ابني.

*     *     *

لم أكن مرتاحاً تماماً لقراره شراء سيارة خاصة به. لكنّ ظروف عمله صحفياً ومذيعاً كانت تحتم عليه ذلك، فلم أجد بداً من الموافقة. أذكر تماماً مرافقتي له إلى الشركة التي استلم منها سيارته الجديدة، وسيري أنا في سيارتي أمامه في طريقنا إلى المنزل، لمنحه بعض الثقة أثناء قيادة السيارة في شوارع عمان المتوحّشة. تأكدتُ عندها أنه كان سائقاً ماهراً. لا شكّ في ذلك، ولكن شيئاً ظل يعتمل في صدري كلما تأخر غسان في الوصول إلى المنزل، خاصة في الليل الذي كان يقضي جزءاً منه في سهرات مع زملائه وأصدقائه الصحفيين والمذيعين في محطة "عمان نت"، التي احتضنت موهبته حتى قبل أن يتخرج من الجامعة.

شاهدته مرة وهو يقود سيارته. كنا اتفقنا، هو وأنا، على أن نذهب إلى صحيفة الغد التي تزاملنا فيها أيضاً، فقد كنا نعمل فيها معاً، أنا في قسم الترجمة ثم الاقتصاد وهو في القسم الثقافي. ارتدى غسان بذلته البنية المفضلة. حمل حقيبته، ودخل السيارة. ربط حزام الأمان، شغّل السيارة ومضى بها، وأنا قدتُ سيارتي خلفه. بدا واثقاً تماماً وهو يقود السيارة في الشوارع الخلفية المؤدية إلى الصحيفة بجسده الممتلئ، ورأسه الذي لم يكن يتحرّك إلا بحساب، من دون أية محاولة من جانبه لأن يتتبع حركات السيارات الأخرى في الشارع الذي يسير فيه أو خارجه. كان مسيطراً تماماً على السيارة التي كان يقودها بسرعة محسوبة أمامي، لم تكن لدى غسان نزعات الاستعراض في القيادة السريعة والوقفات الفجائية والتجاوزات الخطرة التي تميز قيادة الشبان في مثل سنه لسياراتهم. حين سأل رجال الشرطة، الذين حققوا في حادث السير، ميشيل خليفي عن السرعة التي كان غسان يقود بها سيارته عندما فاجأهما الحادث، قال إنها كانت في حدود خمسين كيلومتراً في الساعة، وليس أكثر. كان غسان سائقاً حذراً، خصوصا وأنه كان يقود سيارته في منطقة لا يعرفها جيداً، لكنه وصل مفترق الطرق القاتل الذي ضلله فسبب الحادث.

وأنا أستعرض شريط حياة غسان، بدت لي الطريق التي كان يسلكها معادلاً لمسيرة حياته، فالحياة في النهاية طريق نسلكه بسرعة أو ببطء، بتهوّر أو بحكمة، نضل فيه أو نصل إلى هدفنا؛ طريق لا نعرف مساربه وتعرّجاته، لكننا نعرف تماماً إلى أين يوصل في النهاية؛ طريق فيه حفر ومطبات وعوائق وإشارات مرور، وفيه مفترقات طرق قد يجتازها السائق بسرعة كبيرة من دون أية مبالاة بمن يأتي من الطرف الآخر من المفترق، مثل ذلك الشاب الذي صدمت شاحنته سيارة غسان، وقد يجتازها بحذر فينجو، وقد يجتازها من مسرب خاطئ كما فعل غسان. قد ينجو الأرعن ويقع الحذر، يصل من دخل مسرباً خاطئاً، ولا يصل من اجتاز المفترق بحسب الأصول والقوانين. قد يكون المرور سهلاً ومن دون عوائق، وقد يكون صعباً، وقد يكون قاتلاً. تجاوز غسان مفترق الطرق، لكنه لم يصل هدفه الحقيقي أو المجازيّ، لم يصل الجسر الموصل إلى الناصرة، كما لم يصل الهدف النهائيّ الذي يوصل إليه طريق الحياة، وخرج غسان من الحادث في حالة استثنائية، غائباً عن وعي لم يفقده يوماً، وها هو في قسم العناية المركزة في المستشفى الكبير، نائما من دون أن يغلق عينيه، مستيقظاً من دون أن يعي ما حوله.

كان من حولنا في البداية يحاولون طمأنتنا باستحضار أمثلة عن مرضى غابوا عن الوعي وكانت حالتهم أسوأ كثيرا من حالة غسان، لكن حالهم تحسن، وهم الآن يمارسون أعمالهم على خير ما يرام. واستحضر آخرون أمثلة غاب فيها أصحابها عن الوعي أياما عديدة، لكنهم ما لبثوا أن استيقظوا. وبعد مرور وقت طويل على غسان في رقدته بدأوا في استحضار أمثلة عن مرضى غابوا عن الوعي أسابيع أو أشهراً قبل أن يفيقوا ويستأنفوا حياتهم الطبيعية. قال لي ممرّض كان يشرف على غسان إنه منذ أعوام قليلة كان يرقد على السرير نفسه الذي يرقد عليه غسان، وفي الغرفة نفسها، شابّ سعودي غاب عن الوعي ثمانية أشهر، قبل أن يستيقظ ويعود إلى حالته الطبيعية، ويسافر إلى أهله في السعودية، حيث هو الآن. وحين طالت غيبوبة غسان أكثر مما ينبغي، بدأ بعض الأصدقاء في استحضار أمثلة عن أشخاص دخلوا في غيبوبة استمرت أعواماً ثم استفاقوا. لم يكن هؤلاء يدركون أنهم بأمثلتهم التي قصدوا بها تثبيت الأمل بقرب يقظة غسان إنما بدوا وكأنهم يؤجلون هذه اليقظة من أيام إلى أسابيع فشهور فأعوام.

*     *     *

تقول المصادر الطبية التي قرأتُ كثيراً منها بعد الحادث، في محاولة لمعرفة الحالة التي آل إليها غسان، إن "الحالة الخضارية الدائمة" هي حالة فقد عميق للوعي يكون فيها المصاب حياً، لكنه غير مدرك لحالته، وللوضع الذي هو فيه. قد تكون هذه حالة متوقعة الحدوث، كأن تكون نتيجة لمضاعفات مرض معين، مثل الأزمة القلبية، وقد تأتي فجأة في حالة ناتجة عن توقف وصول الدم إلى قسم حيوي من الدماغ، هو الذي يتحكّم في الإدراك، أو نتيجة حادث يتعرّض فيه الرأس لصدمة قوية، كما في حادث سيارة شبيه بما وقع لغسان. هذه الحالة التي كثيراً ما تتبع حالة الغيبوبة الأولى التي تلي الحادث، والتي تستمر في حدّها الأقصى أربعة أسابيع، تفقد المصاب القدرة على التمييز، وعلى إدراك الوضع الذي هو فيه، لكنّه يحتفظ بالقدرة على تأدية الوظائف غير الإدراكية، مثل التنفس وفتح العينين، وعلى دورة للنوم واليقظة والاستجابة لمحرّض خارجي أو للألم. وقد يبقى المريض قادراً على وظائف أخرى مثل مضغ الطعام وتحريك الأطراف ومتابعة هدف أمام العينين، وربما الابتسام وذرف الدموع. وفي حالة غسان الذي لم تلحق بجسده أو رأسه أو وجهه آثار أو تشوّهات تذكر، فإنه يبدو للناظر في كامل صحته، إنه ينام ويستيقظ ويمضغ الطعام ويشرب ويستجيب للمحرّض الخارجي بمجرد اللمس، ولكنه غير مدرك لنفسه أو لوضعه.

السبب المباشر في الوصول إلى "الحالة الخضارية الدائمة" يعود إلى فقد الدماغ لما يعرف بوظائفه العليا، من ضمنها الوعي وإدراك الذات، لكنّه يستطيع القيام بوظائفه غير الإرادية مثل التنفس والبلع والهضم والمحافظة على النبض وضغط الدم في مستويات مناسبة. والمسؤول عن الوظائف العليا للدماغ هي القشرة الدماغية، في حين أن المسؤول عن الوظائف غير الإرادية هو جذر الدماغ. وكثيراً ما تتداخل أعراض المصابين بالحالة الخضارية الدائمة بحالات أخرى شبيهة بها، مثل الموت الدماغي، وهي حالة موت كامل للدماغ، وتوقف تام له عن أداء وظائفه، وعادة ما يكون المريض في هذه الحالة غير قادر على التنفس من دون جهاز للتنفس الاصطناعي، وهذه هي أدنى درجات الغيبوبة. كما تتداخل الحالة مع حالة أخرى هي حالة الغيبوبة المؤقتة التي يكون فيها المريض مغمض العينين، والتي قد تؤدّي إلى الدخول في الحالة الخضارية الدائمة. وتتداخل أيضا مع حالة "الحد الأدنى من الوعي"، وهي حالة متقدمة على الحالة الخضارية الدائمة من حيث أن المريض يملك الحدّ الأدنى من الإدراك للوضع الذي هو فيه، لكنه لا يستطيع الاستجابة، فهو غالبا ما يكون في حالة شلل تام.

عُرفت هذه الحالة لأول مرة عام 1940، وكان أول من وصف أعراضها إرنست كريتشمر الذي أعطى المرض اسمه ليصبح مرض كريتشمر، لكن جرّاحي الأعصاب الأسكتلندي برايان جانيت والأميركي فريد بلوم أضافا تحديدات أكبر لأعراض المرض في العام 1972 ، ةومنحاه اسمه الجديد الذي ما زال يُعرف به حتى اليوم، رغم بعض التحفظات عليه، فهناك من يعترض على وصف الحالة الخضارية بالدائمة، ففي ذلك ما يعني عدم إمكان الشفاء والعودة إلى الحياة الطبيعية أو شبه الطبيعية ثانية، وهذا غير صحيح، فقد عرفت حالات استيقظ فيها مرضى بهذه الحالة بعد سنوات قد تزيد على العشرين. وبموجب دراسة إحصائية قامت بها قوة المهمات للجمعيات المتعددة المختصة بالحالة الخضارية الدائمة في الولايات المتحدة، لوحظ أنه بعد عام من الإصابة بالحالة بالنسبة للبالغين، توفي ما نسبته 33 في المئة من المصابين، وبقي 15 في المئة على حالهم، واستيقظ 52 في المئة منهم. ومن بين من استيقظوا كان هناك ما نسبته 54 في المئة ممن أصيبوا بإعاقات بالغة، ونحو 33 في المئة بإعاقات متوسطة، و13 في المئة كان شفاؤهم جيداً. أما الأطفال، فقد شفي ما نسبته 62 في المئة منهم بعد عام، كان من بينهم ما نسبته 18 في المئة ممن حققوا شفاء جيداً، فالشفاء ممكن، لكن من غير الممكن التنبؤ بموعده. في الحالة الخضارية الدائمة لا يمكن القيام بأيّ عمل جراحيّ خارجيّ للمساعدة على الشفاء منه، فالشفاء يعتمد على سنّ المريض وحالته الصحية وتطوّرات حالته المرضية.

الطبيعة الغامضة لهذا المرض أثارت اختلافات بين المختصين وغير المختصين به؛ اختلافات شملت اسمه والتوصيف الدقيق له، كما شملت الحالة التي يعانيها المريض، وهل يمكن اعتباره واعياً أم غائباً عن الوعي، خاصة وأن الوعي مفهوم فلسفي مثلما هو مفهوم عضوي، وهل يعيش المصاب في فراغ أم أن له عالمه الخاص الذي يسبح متأملاً فيه، وهو عالم بالنسبة لكثير من العلماء والمختصين أغنى وأثرى بكثير من عالمنا نحن. لكنّ أكثر القضايا إثارة كانت تلك المتعلقة باحتمالات يقظة المريض، التي اعتبرت في السبعينات من القرن الماضي معدومة، وعليها شرع البرلمان البريطاني بأحقية إزالة أنبوب التغذية عن المصابين بهذه الحالة، وذلك قبل العودة عن القرار بعد سنوات.

وفي العام 2005 تحولت قضية الأميركية تيري شيافو إلى قضية رأي عام عاصف، حين استجيب لدعوة زوجها بإزالة أنبوب التغذية والماء من جسدها، وتركها تموت، في حين كان أهلها يعارضون ذلك. كنت آنذاك رئيساً لقسم الترجمة في صحيفة الغد الأردنية. وقد تابعت القضية وترجمت مقالات عنها في الصحيفة بصفتها قضية إنسانية. كان غسان آنذاك زميلاً لي، وربما قرأ المقالات المترجمة، لكن لم يكن يدور في خلده أو خلدي أنه سوف يسقط بعد عام ضحية الحالة نفسها.

 

 

الفصل السادس: انتظار حضور... انتظار غياب

بقي غسان في غرفة العناية المركزة نحو شهرين، نُقل بعدها إلى غرفة في المستشفى، وواظبنا نحن على زياراتنا اليومية له، والعناية به طوال اليوم. وكان شقيقه الأكبر قصي يقضي الليل نائماً في غرفته لمتابعة حالته، خصوصا وأنه بدأ يتعرض للإصابة بفيروسات وجراثيم تكثر في المستشفيات، وهو ما أصابه بالتهابات كانت ترفع درجة حرارته وضغط دمه في صورة مقلقة تستمرّ أياما. في غرفته في المستشفى، اكتشفنا أن هناك خلعاً في كتفه لم يعالج من جانب الطبيب المختص بالعظام، والذي سبق أن عالج كسر رجله الذي أصيب به في الحادث. أجرى الطبيب العملية المتأخرة، لكنه لم يحضر بعد ذلك حتى لمتابعة حالة مريضه. واضطررنا للاستعانة بطبيب آخر في الاختصاص نفسه لمتابعة الحالة. حين تقصينا الأمر عرفنا أن الطبيب لم يتابع حالة مريضه لأنه سمع أن الغطاء التأميني الذي سيقوم بدفع نفقات العلاج في المستشفى باهظ التكاليف، قد رفع عن غسان، فتبخّرت رسالة الطبيب الإنسانية، وتحول غسان إلى حالة تجارية تخضع للربح والخسارة، وآثر الطبيب ألا يخسر فتوقف عن المجيء لمتابعة العملية التي أجراها لغسان، والتي اكتشف الطبيب الجديد أنها لم تكن ناجحة تماماً.

نصحنا الأطباء من أصدقائنا بنقل غسان من المستشفى، حيث لم يعد يتلقى أيّ علاج، إلى المنزل، فهو في حاجة فقط إلى الرعاية، وهو أمر يمكننا أن نقدّمه في صورة أفضل مما يقدمها المستشفى. كما أن وجوده في المستشفى يجعله عرضة للتقرحات ولجراثيم المستشفى وفايروساته القوية التي قد تودي بحياته، فمثل هذه الفيروسات والجراثيم والتقرّحات هي العدو الأول لمن هم في حالة مثل حالته. حان موعد المغادرة بعد نحو ثلاثة أشهر من الدوام اليومي الذي قضيناه إلى جانب غسان في قاعة الزوار الخاصة بغرفة العناية المركزة، أو في غرفته التي انتقل إليها بعد ذلك، لم نخلف موعدنا معه يوماً. كانت هدى أكثر مواظبة على الزيارة مني، فقد كان عليّ العمل في الحد الأدنى لتدبير أمور عيشنا. ومع زوجتي ومعي كان هناك على الدوام عدد من الأخوة والأقارب والأصدقاء الذين لم ينقطعوا عن زيارة غسان للوقوف إلى جانبنا ومواساتنا بما أصابه والتخفيف من حزننا على مصيره الذي لم نتوقعه في أكثر كوابيسنا تشاؤماً.

ومع اقتراب الرحيل، بدأت تعود حية إلى أذهاننا صور عديدة لمواقف إنسانية وقفها معنا كثير من أصدقائنا وأقاربنا، ومواقف لممرضين وممرضات لم نكن نعرفهم من قبل، أبدوا تعاطفاً استثنائياً مع الشاب المحدّق في سديمه، ولأطباء كثيراً ما كانوا يتخلون عن التعامل مع غسان بوصفه حالة مرضية عليهم أن يعالجوها فقط، فكثيراً ما كان منهم من يبدي تعاطفاً كبيراً معه ومعنا، تشي به كلماتهم المواسية الصادقة، ونصائحهم بما يمكن أن نفعله نحن لغسان بعد أن استقر على هذه الحالة التي وقف الطب فيها عاجزاً عن فعل أيّ شيء. بعضهم حوّل تعاطفه هذا إلى موقف عملي بخصم جزء من تكاليف علاج غسان المستحقّ له. لكن كانت هناك صور غير إنسانية لأطباء آخرين رفضوا إلا أن يتعاملوا مع غسان بوصفه حالة تستلزم علاجاً يدرّ في النهاية ربحاً. أما الطبيب الذي أجرى له العملية في ساقه وفي كتفه من دون أن يكمل متابعة حالة مريضه، فلم نره بعد ذلك، ولم نسمع له صوتاً، بعد أن توقّف عن الرد على الهاتف الذي كنا نطالبه من خلاله بالقدوم لمعاينة نتيحه العملية التي أجراها. لكنه كان "كريماً" بمنحنا خصماً على فاتورته التي لا يستحقّها بالتأكيد، والتي كانت كبيرة مثل فواتير الأطباء الآخرين جميعاً. فبحسب نظام العلاج في المستشفيات الخاصة، يتحول المريض إلى حالة يتابعها أكثر من طبيب: فهناك الطبيب المسؤول عن الحالة مباشرة، وهو في حالة غسان جرّاح أعصاب، والطبيب المسؤول عن الحالة العامة للمريض، الذي يقرّر مدى بقاء المريض تحت جهاز التنفس، ومتى يُزال هذا الجهاز والأجهزة الأخرى، مثل أنبوب التغذية المتّصل بالمعدة، وأنبوب التنفس المثبت في حنجرته، وطبيب لمعالجة القروح وحالات ارتفاع الحرارة والضغط والنبض وما إلى ذلك، وهناك أطباء آخرون مسؤولون عن أية أعراض أخرى تلحق بالمريض، مثل الكسور التي قد تكون أصابته أثناء الحادث، أو المضاعفات التي تليها، أو إجراء عمليات مثل وصل المعدة بأنبوب التغذية أو الفم بجهاز التنفس. بعض هؤلاء الأطباء يتقاضى أجره يومياً عن الحالة، حتى لو لم يعاينها بنفسه، فقد يتصل الطبيب بممرض في الجناح الذي يرقد فيه المريض للوقوف على حالته الصحية، وقد لا يتصل لأيام، وفي ضوء ذلك الاتصال، إن تمّ، يحدّد الدواء الذي يجب أن يتناوله، وحجم الجرعة التي يجب أن يأخذها، وقد يقرّر بقاءه على حاله، ويحسب الطبيب ما له من "مستحقات" يومية حتى لو لم يزر مريضه، بل وحتى لو كان في رحلة خاصة خارج البلاد، فعدّاد المستحقات اليومية لا يتوقف.

في أحد الأيام، التقينا بالطبيب المشرف على حالة غسان على بعد أمتار من غرفته. حيّانا ومضى، ولم يكلف نفسه الدخول إلى غرفة غسان لمشاهدته، ولو من باب الفضول أو المجاملة، لكن عداد المستحقات لم يتوقف.

*    *    *

حان وقت إخراج غسان من المستشفى ونقله إلى المنزل. في ذلك اليوم، توقفتُ عند عدد من المفارقات التي تبرع الحياة في ترتيبها. توقفت في البداية عند التاريخ الذي أصيب فيه غسان في حادث السيارة وهو يوم 13 يوليو (تموز). لم أؤمن يوماً بالتشاؤم أو التفاؤل بالأرقام، لكن اليوم الثالث عشر من ذلك الشهر كان مشؤوماً حقاً، ففيه بدأت إسرائيل عدوانها على جنوب لبنان، وفيه أصيب غسان في حادث مرور عبثي! بعد مرور أسابيع على غسان، وهو في حالته تلك، بدأت أسمع من الأطباء عن خشيتهم من أن يكون غسان قد دخل "الحالة الخضارية الدائمة". لم يكن الطبيب المشرف على حالته قد أبلغني بذلك بعد، لكن إشارات قوية كانت تمضي في ذلك الاتجاه. كنتُ قرأت شيئاً عن الحالة المذكورة من دون كبير اكتراث في الغوص عميقاً في تفاصيل الحالة. وكنت عرفت أن ابناً لعزرا وايزمن، رئيس أركان إسرائيل السابق، ورئيس الدولة فيها فيما بعد، أصيب في حرب أكتوبر عام 1973 على الجبهة المصرية، وأنه دخل في غيبوبة تطوّرت فيما بعد إلى حالة خضارية دائمة. كان ذلك في أثناء معركة اندلعت في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، أي قبل ذلك بثلاث وثلاثين سنة بالتمام والكمال. لكن هذه لم تكن سوى نصف المفارقة، أما النصف الآخر فيتعلق بمن سمعت منه لأول مرة عن ابن عزرا وايزمن وعن الحالة الخضارية الدائمة. كان ذلك في الكويت في العام 1983، ولم يكن من سمعت الرواية منه غير ميشيل خليفي!

ودار الزمان دورته، ودخل غسان في الحالة الخضارية الدائمة نتيجة لحادث سيارة كان يقودها، ولم يكن الراكب الوحيد إلى جانبه سوى ميشيل خليفي نفسه! في اليوم المحدّد لنقل غسان من المستشفى إلى المنزل، جاءت سيارة إسعاف، ربما كانت هي نفسها التي نقلته إلى المستشفى، وربما لم تكن، لكنها وقفت في المكان نفسه الذي وقفت فيه سيارة الإسعاف التي أحضرته من مكان الحادث البعيد إلى المستشفى قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر. لم تكن هدى معي، فقد أشفقتُ عليها من رؤية ذلك المشهد الذي ترى فيه ابنها الشاب الذي خرج ذات يوم ليعود مثلما دأب يومياً، وهو يعود الآن على نقالة ليستقرّ فوق سريره الطبي الذي أحضرناه إلى غرفته الخاصة به، والتي تضم مكتبه ومكتبتين للكتب والموسيقى وجهاز الكومبيوتر الذي يعمل عليه وخزانة ملابسه. غابت عن المنزل حتى لا ترى المشهد. وحين عادت كانت عيناها محمرّتين بفعل بكاء حار حتى قبل أن تشاهد ابنها ممدّداً على سريره في غرفته وبين أشيائه الأثيرة.

كان هناك ممرّض إلى جانب سائق سيارة الإسعاف. وكان في صحبتي ابني الأكبر قصيّ وصديقي الطبيب خالد زايد الذي رافقني في رحلة استقبال غسان لدى وقوع الحادث، ثم لم يفارقنا إلا لماماً. أُنزل غسان عن سريره في غرفة المستشفى إلى المرآب، حيث كانت سيارة الإسعاف تنتظر. شارك الجميع في إدخال غسان إلى سيارة الإسعاف التي مضت بطيئة إلى المنزل في يوم جمعة كان المرور فيه خفيفاً، ذارعةً الشوارع التي كان غسان يعرفها جيداً، لكنه لم يعرفها الآن رغم أن عينيه كانتا مفتوحتين، كما كان دأبه على الدوام. وقفت سيارة الإسعاف أمام المنزل. أُنزل غسان منها ونقل إلى غرفته التي استقرّ فيها وسط صمت لم تقطعه سوى كلمات إجرائية: "من هنا"، "على مهلك"، "نعم"، "شكراً لكما". ومضى الممرض والسائق في سيارة الإسعاف، وبقي غسان على سريره في غرفته وبين كتبه وأشرطته وأقراصه المدمجة. كان ذلك اليوم هو السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2006، ومثل أكتوبر عام 1973 وافق ذلك الشهر رمضان. لكن هذه لم تكن المفارقة الوحيدة، ففي السادس من أكتوبر 1981، أي قبل خمسة وعشرين عاماً بالتمام، جاء المخاض زوجتي التي كانت حاملاً بغسان، فأرسلتها إلى المستشفى لتنجب غسان بعد يومين. بعد يومين من استقراره على سريره الطبي في المنزل، بلغ غسان عامه الخامس والعشرين. وكانت تلك هي المرة الأولى التي لا نحتفل فيها بعيد ميلاده.

 

في الخامس من شهر مايو (أيار) أُدخلت أنا المستشفى، وفي السادس منه، أي بعد سبعة أشهر بالتمام من خروج غسان من المستشفى، أبلغني الأطباء أنني مصاب بسرطان القولون. وهكذا وجدت نفسي أسير انتظارين؛ انتظار يقظة غسان، وانتظار موتي.

 

 

عصيّ الدمع

اكتشفتُ أنّ ما كانَ بينَنا أكثرُ ممّا كنتُ أرى، رغمَ وضوحِ ما كانَ بينّنا وما كنتُ أراه. هل كانَ عليهِ أن يغيبَ حتّى أدركَ حجمَ اعتمادي عليه، ولو من خلالِ معرفتي أنّه يمكنُ الوصولُ إليه؟ هل كانّ عليه أن يغيبَ حتى أدركَ حجمَ ما كانَ يخصّني منه، حتى بعد أن فرّقتْ هزيمتُنا العامّةُ شملاً شبهَ يوميّ، جمعَنا طويلاً في الغربةِ المستديمة؟

بيني وبينَ نفسي، أزعمُ أنني كنتُ أفهمُ حزنَهُ حينَ يفيض، ولأنّني أعرفُ، كما يعرفُ المقرّبون، كم من أسبابٍ للحزنِ تراكمتْ فوقَ قلبِه، منذ ولدتْ ذاتَ زمنٍ غادر، حتى نمَتْ لها فروعٌ أكثرُ غدْرا.

وأنا أقرأ ما كتبَه عن ولدِهِ غسّان، أدركتُ أنَّ بلاغةَ الحزنِ لديهِ منحتْهُ قدرةً على تقمّصِ أيّ قلبٍ يغورُ فيهِ الحزنُ عميقا. أعرفُ أنّه، بالغياب، شقّ القلبَ نصفاً بعيداً عن نصف، قبلَ أن أعيَ أنه سيفعل؟

تتداخلُ المشاعر وأنا أقرأُ حزنَهُ الذي يُعيدُ صياغةَ الحزن: صلاح حُزَيِّن ينبري أمامي، طويلاً صلباً كما عرفتُه، عصيَّ الدمعِ كما كان، مجسِّدا ما يجبُ أن يكونَ عليهِ الصّبر، متعالِياً فوقَ حزنٍ لا يعرِفُه إلا من عرفَه، محارباً في كلّ جبهة، دونَ يأسٍ أو خوف، لا يقبلُ أن  يَهزِمهُ إلا ما لا يُهزم.

ذاتَ لحظةٍ مع الوحدة، أتسلّلُ خارجَ حدودِ الصّبر، تماهياً معه أيضا: ذلكَ الذي كانَ أباً وغاب، الذي لم يبكِ إلا في لحظةِ توحّدٍ مع ذاتِه، أمامَ المحنةِ التي تهدُّ الجبال، كيفَ يمرُّ دون انهمارِ الحزنِ دمعاً يكادُ يلخّصُ الفجيعةَ في لحظة: فقط، بسببِ ما تركَهُ لنا من صبرٍ، نحتملُ أن نكونَ هنا، وأن يكونَ غائبا.

 

 وليد أبو بكر

 



* حزامة حبايب، كاتبة فلسطينية معروفة، متزوّجة من شقيق المؤلف.

* * يتمّ النشر بإذن من ناشر الكتاب: مركز رام الله الثقافي، رام الله، فلسطين