تقوم الباحثة الجزائرية برحلة تاريخية نحو بدايات النسوية العربية، وعبر رحلتها هذه تتبع مؤثرات النسوية الغربية في المفهوم السياسي والاجتماعي لتحرر المرأة العربية، كما ترصد كيفية نشوء الوعي بفعل الكتابة لدى الرائدات، والحيثيات التي تم توظيفه لها، من خلال بث الفكر الذي يلازم بين النضال الوطني وتحرر المرأة.

أثر النقد النسوي الغربي في النقد النسوي العربي

ليلى بلخير

يأخذ الحديث عن صدى النقد النسوي الغربي وانعكاساته على الفكر النقدي النسوي العربي منعرجاً حاسماً، في تأكيد انقياد وتبعية الفكر النسوي العربي للأفكار النسوية الغربية في إطار المثاقفة، ومن الصعوبة "أن نجد كتابة نقدية نسوية عربية،لم توظف في متنها بعض المقولات والأفكار النسوية الغربية"(1). فهل النقد النسوي العربي انعكاس لأفكار النسوية الغربية في الفكر والنقد؟ وهل يمكن الحديث عن خصوصيات تنبع من الثقافة والتراث العربي؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه من خلال هذه العناصر.

ولاشك أن أهم عوامل يقظة المرأة العربية يعود أولاً إلى التأثير المتمثل في الحركة النسوية الغربية خلال السبعينيات، شكل مرجعية الحركات النسوية في الوطن العربي، ثانياً نمو الوعي لدى المناضلات بأوضاعهن الاجتماعية والجنسية، إضافة إلى التيار الإصلاحي، لما له من دور في بلورة الوعي النسوي اجتماعياً وثقافياً(2). ويمكن إدراج العامل الأول أي تأثير التيار الغربي كعامل رئيس ومحفز لظهور العوامل الأخرى؛ باعتبار أن وعي المرأة لم يتشكل إلا بعد مقارنة أوضاعها وشخصيتها بشخصية وأوضاع المرأة في الغرب، وإطلاعها على مسار النضال النسوي الغربي، ونتائجه في تحسين موقع المرأة في المجتمع. أما تيار الإصلاح فكان رد فعل لتنامي وازدياد وعي المرأة بذاتها بعيداً عن أصولها وعقيدتها، فجاء درعاً واقياً لشخصية المرأة، يحميها من الانسلاخ عن هويتها بالارتماء في أحضان الثقافة الوافدة.

حقيقة إن الفكر النسوي العربي لم يتشكل من نواته الداخلية وثقافته الخالصة بل كان له علاقة وطيدة بالفكر الغربي، وكانت البداية بالحملة الفرنسية على مصر، وفي ذلك نوع من "التأكيد التاريخي أن إشكالية الوعي بضرورة تحرير المرأة العربية، لها علاقة وصل بوضعية مغايرة، حملها معه هذا الوافد الجديد، ألا وهو الغرب الاستعماري؛ إذ أن الرجوع إلى عصر النهضة وتحديد طبيعة العلاقة بين مصر والغرب كافية للبرهنة على ذلك لقد تم اكتشاف المصريين للغرب مع حملة نابليون"(3). أما المرحلة الثانية فهي الانتقال إلى البلد المستعمر لاكتشاف ودراسة أسباب قوته وتقدمه في شكل بعثات علمية تعد من أهم نتائج انفتاح الشرق على الغرب، حيث "وجدت المرأة من هؤلاء المبتعثين من ينصب نفسه مدافعاً عنها ومطالباً بحقوقها وهم في مجملهم دعاة إلى إصلاح المجتمع العربي، وكان تعليم المرأة وقضاياها من أهم القضايا التي شغلوا بها، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي 1801–1873"(4). ألف رفاعة كتابه سنة (1872-1873) وفي هذا الزمان كان شأن النساء عامة الجهل والتخلف والحرمان من كل الحقوق الإنسانية. ويرى الطهطاوي أن تحرير المرأة باعتبارها ضحية التقاليد الاجتماعية السائدة رهين بتغيير العقليات الجامدة بالامتثال إلى القوانين المنصوص عليها في المصادر الأساسية للشريعة الإسلامية، وبما أن أحكام الشريعة في نظره تملك استيعاب كل المتغيرات الطارئة على المجتمع الحديث، فقد حاول تقديم مشروع إصلاحي جديد من أجل مسايرة مستجدات عصره(5)، ويجعل من التعليم و التربية أهم وسائل النهوض بشخصية المرأة، وحرمانها من الثقافة والأدب من صنيع عادات جاهلية بعيدة عن أصول الخلق و الدين "وليس التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن، من إبراز محمود صفاتهن أياً ما كانت في ميدان الرجال، تبعاً للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية، ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة"(6). وتعد دعوة الطهطاوي من الدعوات المبكرة إلى توجيه المرأة نحو العلم والتثقيف، كمرحلة سمتها رشيدة بن مسعود بمرحلة تذكير قضية المرأة، أي مناصرة الرجل لقضايا المرأة و دعوته لنبذ النظرة الدونية التي لحقت بها، من جراء تراكمات ثقافية واجتماعية، ما أنزل الله بها من سلطان، وبالتالي كان الوعي النسوي "مزدوج المصدر وثنائي الأصل، إذ أنه مر عبر وساطتين لكي يصل إلى صاحبة القضية ألا وهي المرأة. لقد التقط رواد النهضة العربية وعيهم بقضية المرأة من خارج مجالهم، أي عن طريق احتكاكهم بالغرب، أن الغرب هنا يعتبر المصدر الأول للوعي العربي بهذه القضية، والوساطة الثانية لهذا الوعي تتمثل في أن رواده هم في غالبتهم من الرجال أمثال رفاعة الطهطاوي، أحمد فارس الشدياق، محمد عبده، قاسم أمين"(7)، وتميزت هذه المرحلة بالمزايدات في مقارنة المرأة الشرقية بالغربية في المظهر والزي والرغبة في تغييرها تغييراً جذرياً، محاذاة بالنموذج الغربي للمرأة، يشوبها نوع من الانبهار بالآخر القوي المتحكم في مقاليد الحضارة الحديثة. كما هو حال السجالات حول الحجاب والسفور، بين كوكبة من الفكرين والكتاب منهم قاسم أمين في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، ونقده من قبل طلعت حرب في كتابيه "فصل الخطاب في المرأة والحجاب"، و"تربية المرأة والحجاب"،و تبعه في ذلك كل من محمد فريد وجدي ورشيد رضا ومحمد عبده.

وتأتي المرحلة الثانية نتيجة للمرحلة الأولى، وهي حسب رأي رشيدة بن مسعود مرحلة تأنيث قضية المرأة، تم فيها تشكل وعي المرأة بضرورة التعبير عن قضاياها، بلغ الانفتاح إلى أقصى مداه، حيث تجاوزت كل المعوقات، وانطلقت لإثبات وجودها في مجالات ظلت حكراً على الرجال، كالإبداع والكتابة والعمل الاجتماعي والسياسي، يعود السبب إلى نجاح نخبة من النساء في تخطي عقبة الجهل، بتحصيل قدر هام من العلم والتثقيف بفضل الوضع الاجتماعي الممتاز، وكان المنطلق في صالون الأميرة نازلي فاضل. وعلى غرار النسوية الغربية كان الفكر النسوي العربي طموحاً للمساواة، والرغبة في الحصول على مكاسب الرجال وموقعهم الاستراتيجي في الأسرة والمجتمع(8).

ومما لاشك فيه أن البعد السياسي للفكر النسوي العربي، قد ساهم في توسيع فرص الاتصال بالفكر النسوي العالمي ومن ثم محاولة تمثله والاقتداء به(9)، وفي هذا المجال نسجل اسم هدى الشعراوي التي تعد نموذجاً للانفتاح على المرأة الغربية، ساعدها في ذلك إتقانها اللغة الفرنسية وتنوع ثقافتها، وكذا رغبتها في بناء شخصية المرأة العربية على طراز النموذج العالمي المتمثل في المرأة الغربية، وهي "ترفض بشدة تلك النظرة الضيقة، وتعلن أن مشاركة المرأة المصرية للمؤتمرات الدولية، يفتح مجالاً هاماً لفكرها على العالم كما أنها فرصة جيدة لأن تعرف نساء العالم بنموذج من المرأة المصرية، وتستطيع أن تطلعهن على مشاكلها، سواء مع الاستعمار أو مع الرجل، لعلها تحصل على تأييدهن لنضالها أو تحييدهن على أقل تقدير تجاه تلك القضايا"(10). وقد خاضت غمار السياسة ومعتركها، إلى جانب الأنشطة الاجتماعية الداعية لترقية المرأة علمياً وأدبياً بتعبئة أسماء نسويه كثيرة، وأثبتت حضورها في المؤتمرات الدولية لدرجة تقلدها منصب نائبة رئيسة الإتحاد النسائي الدولي سنة 1935 وبقيت فيه حتى وافتها المنية سنة 1948م(11).

يمكن القول أن أفكار النقد الغربي، قد تسللت من هذه المسارات وتأثرت بها المبدعات والكاتبات، وحاولن نشرها في أعمالهن "فالحضور النسائي في مجال الحياة والكتابة، بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح يتحقق بشكل أقوى بعد ثورة 1919. كانت المرأة إذا في القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين قضية، شغلت كثيراً من الكتابات، وكانت قضية تعليمها وتحريرها من الجهل هي أهم قضية أثارت الكثير من البحوث"(12)؛ والربط بين حركة تحرير المرأة كمفهوم سياسي اجتماعي، وبين نضوج وعي الكتابة لدى المرأة المبدعة في ظل هذه المتغيرات الجديدة المحفزة على إثبات قدرتها على خوض غمار الإبداع والتفوق فيه، إن تحصلت على الفرصة ذاتها التي كانت من نصيب الرجل ردحاً من الزمن، فرصة التثقيف والتعلم، وحرية التعبير. كما أن صدور المجلات النسائية قد ازداد منذ عام 1892، وهي السنة التي صدرت فيها أول مجلة نسائية في الشرق بعنوان "الفتاة" من إنشاء هند نوفل، لبنانية استقرت في مصر، من عائلة مثقفة ساعدتها في إدارة وإخراج المجلة، ثم توالت بعد ذلك عناوين مختلفة تخدم هدفاً واحداً هو إحياء ثقافة خاصة بالمرأة، نابعة من فكر المرأة وقلمها، وكان للصحافة فضل كبير في انتشار الأدب النسوي في الأدب العربي المعاصر، وأبرز العناوين كانت كما يلاحظ في مصر والشام مثل مجلة "الفردوس" سنة 1896 لصاحبتها لويزا حبالين الشاميّة، ومجلة "أنيس الجليس" لصاحبتها ألكسندرا أفرينوه(13)، إذ قامت "بترجمة الكثير من التقاليد والعادات الأوربية عن اللغات الأجنبية، وطالبت المرأة المصرية باكتسابها والتعامل بها، كما بينت لها الطرق السليمة لتربية الطفل منذ ولادته وحتى ذهابه إلى المدرسة، وقد كانت صاحبة مجلة أنيس الجليس المتحدثة الرسمية للحركة النسائية في وقت صدور مجلتها"(14). ومن أبرز العناوين "فتاة الشرق" لصاحبتها لبيبة هاشم، وقد اهتمت بتربية الفتاة كما طالبت بالعناية باللغة العربية لغة وأدباً، ورفعت شعار(العمل على إيجاد المرأة الفاضلة قبل إيجاد المرأة المتعلمة). وفي عام 1907 صدرت المجلة الشهرية "الريحانة" لصاحبتها ومحررتها جميلة حافظ، وهي أول مجلة نسوية مصرية خالصة، وتؤيد التوجه الإسلامي(15)، كحل لكل مشاكل المرأة، ثم مجلة "الجنس اللطيف" 1908-1921.

من هنا تظهر أهمية الصحافة النسوية في إمداد شخصية المرأة بالحركة والحرية، ولأن معظم المجلات متسمة بالفكر التحرري، كانت الجسر الناقل لأفكار النسوية الغربية "ومع أن هذه المجلات قد خصصت مساحة لتجارب المرأة الغربية، وبصورة خاصة لإنجازاتها فقد أكدت على ضرورة التعلم من الحركات النسائية في الغرب دون التخلي عن الأوجه الإيجابية للثقافة العربية"(16). هذه هي الازدواجية في مصادر النقد النسوي العربي، مزيج من الثقافة الوافدة والثقافة الأصيلة "تكشف عن تداخلين هامين وصحيين، وهما الكاتبة مع المناضلة التحررية، والداعية إلى تحرر المرأة مع الوطنية المناضلة من أجل تحرر الوطن"(17)، أي الصلة المقترنة بين وعي الكتابة لدى المرأة، وتسخيرها لخدمة الأفكار الناهضة والتحررية، والخروج من رقعة الاستعباد وكل أشكال الاستعباد، من طموح للمساواة المطلقة، وجنوح للمشاركة السياسية، والرغبة في التحرر. كان ذلك رافداً مهما لتغذية الأدب والنقد والإبداع النسوي، وتوظيفه لخدمة قضية المرأة في مختلف التوجهات السياسية، وتسخير رسالة الأدب والفن لترقية المرأة ونهضتها الفكرية والأدبية والاجتماعية، متأثرة بالنقد النسوي الغربي، تتجلى مظاهر التأثر في إتباع مقولاته، وترديد أهدافه.

 

قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة الشيخ العربي التبسي –تبسة - الجزائر

 

الهوامش

(1) – حسين مناصرة: المرأة وعلاقتها بالآخر في الرواية النسوية الفلسطينية، مطبعة سيكو، بيروت ط1/2002، ص251.

(2) – يحي الشيخ: مقدمة كتاب رفاعة رافع الطهطاوي: تحرير المرأة المسلمة، كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين، تنقيح وتقديم وتعليق يحيى الشيخ، دار البراق بيروت، لبنان ص9–10.

(3) - رشيدة بن مسعود: المرأة والكتابة سؤال الخصوصية بلاغة الاختلاف، إفريقيا الشرق، المغرب ط2/2002، ص22.

(4) - أمل تميمي: السيرة النسائية في الأدب العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، بيروت ط1/2005، ص30.

(5) - المرجع نفسه ص27.

(6) - رفاعة رافع الطهطاوي: تحرير المرأة المسلمة، كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين، تنقيح وتقديم وتعليق يحي الشيخ، دار البراق، بيروت، ص38.

(7) - رشيدة بن مسعود: مرجع سابق، ص25.

(8) - حفصة أحمد حسن: أصول تربية المرأة المسلمة المعاصرة مؤسسة الرسالة، دمشق ط1/2001، ص456.

(9) - حنيفة الخطيب: تاريخ تطور الحركة النسائية في لبنان وارتباطها بالعالم العربي (1700–1985)، دار الحداثة، بيروت، ط1/1984، ص39.

(10) - أمال كامل البيومي السبكي: الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919–1952، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص126.

(11) - المرجع نفسه، ص130.

(12) - أمل تميمي: مرجع سابق، ص32.

(13) - حنيفة الخطيب: مرجع سابق ص95.

(14) - الجنس اللطيف: مجلة نسوية اجتماعية شهرية لصاحبتها ومحررتها ملك سعد، دراسة تحليلية وتحقيق عبير حسن، العربي للنشر والتوزيع، ط1/2001، ص34-35.

(15) – المرجع نفسه، ص37–38.

(16) – بثينة شعبان: 100 عام من الرواية النسائية العربية 1899-1999، دار الآداب، بيروت، ط1/1999، ص39.

(17) – المرجع نفسه، ص40.